حذر المفكر والفيلسوف ابو يعرب المرزوقي من خطر تحول الثورة التونسية إلى حرب أهلية مبينا في لقاء علمي احتضنته مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات أول أمس بالعاصمة شروط إنجاح الثورة والخروج من دائرة الانقسامات والنزاعات السياسية الحادة التي تهدد مستقبل البلاد. ولفت إلى أن المخلوع بن علي وظف الفاسدين من جميع التيارات بما في ذلك اليسار و الإسلاميين والقوميين لتحقيق غاياته وأنه لم يكن يتعامل فقط مع الدساترة. ولفت الدكتور المرزوقي إلى أن التجربة التاريخية تقول إن كل ثورة تبدأ سلمية ثم تتحول إلى حرب أهلية كما حصل مع الثورة الإسلامية الأولى والثورة الأمريكية والفرنسية والثورة البولشيفية . وأن الثورات التي تشهدها البلاد العربية ليست في منأى عن هذا الخطر والدليل هو ما حصل قبل أيام في مصر والذي يعيد إلى الذاكرة هاجس الفتنة الكبرى والحرب التاريخية بين السنة والشيعة . وأيضا ما يحصل في سوريا بين الأقلية العلوية والأغبية السنية .ليعود ويتساءل عن كيفية التخلص مما يبدو وكأنه قضاء وقدر تاريخي؟. ويجيب بأن الخطوة الأولى تكمن في معرفة الصف الذي سيكون مع الثورة المضادة والصف الذي سيكون مع الثورة وأن يجلس وسيط من كلا الطرفين للاتفاق على تسوية تخرج البلاد من هذه التجاذبات عبر إنشاء حكومة وحدة وطنية. وأكد أن بن علي استخدم الفاسدين من كل التيارات دون استثناء لتحقيق غاياته وليس فقط الفاسدين في حزبه الحاكم . إذن : المطلوب اليوم هو أخذ الصالحين من كل الأحزاب بما في ذلك الدساترة حتى ننقذ البلاد من مصير محتوم. واعتبر أن كل ما حصل بعد القصبة 2 كان خطأ. إذ لا يمكن لثورة أن تنجح و هيئة حمايتها من غير الثوار وأغلبهم ينتمون إلى خط الثورة المضادة أوعلى الأقل لم يشاركوا في الثورة. إذ لا يمكن أن يحرص على أهداف الثورة من ليسوا ثوارا لأنهم سينزلقون إلى أمور تجر البلاد الى حرب أهلية . ويستحيل أن يستمر البلد بدون حكم مستقر والحكم يقتضي أغلبية صحيحة .وأكد أن الانتخابات ستزور حتما وبين الأسباب الحتمية التي ستقود إلى ذلك وهي قانون الانتخاب نفسه الذي لا يؤمن وصول الأغلبية المعبرة عن إرادة الشعب و أيضا رفض الرقابة الدولية على شفافية الانتخابات وأيضا اللجان الانتخابية القائمة على سير الانتخابات والتي لا يمكن الوثوق بها . وأخيرا لأن هيئة حماية الثورة نفسها أعضاؤها خونة لثورة تونس.ونصح الشباب التونسي بالصبر في حال تزوير الانتخابات التي لن تأتي بنتائج ترضي طموحاته الثورية. وأوضح أن الحركة الإسلامية اليوم ليس من مصلحتها أن تحكم تونس لأن أوروبا ستطلب منها التعامل مع اسرائيل مثلما كان يفعل بن علي. واذا رفضت بالطبع فإن ذلك سيجر البلاد إلى ما لا تحمد عقباه بسبب تبعية اقتصاد تونس وارتباطه بالاقتصاد الأوروبي بالكامل. فأوروبا هي أخطر عدو لتونس وهي أشد خطرا من أمريكا وإسرائيل. هي تحتلنا اقتصاديا فثمانين بالمائة من اقتصادنا مرتبط باقتصادها ولديها رغبة في إعادة إحياء أمجاد إمبراطوريتها الرومانية. وتنظر بعين الريبة للثورات التي تحصل اليوم مخافة أن توصل للحكم من لا يسهر على تأمين مصالحها. روعة قاسم (المصدر: جريدة “الصباح الاسبوعي” الصادرة يوم 15 أوت 2011)
بقلم أنيس منصوري
تتالت في الفترة السابقة تصريحات مسؤولين أمنيين تزعم فضح حقيقة ما حدث يوم 14 جانفي. تنازعت هذه التصريحات جميعها دور البطولة فأصحابها كلهم قد أُظهروا في صورة من غُضب عليهم لأنهم تسببوا في فرار المخلوع و القبض على من تبقى من عائلته. كلهم غيورون على الوطن و عاشقون للشعب و لا يريدون له إلا الخير و الحرية و الديمقراطية. اكتشف فيهم الشعب حقدا على بن علي ما كان له أثر قبل هذا التاريخ، هم من مكّنوه من جميع الصلاحيات و من جردوا الشعب من أبسط مقومات المواطنة، هم من كانوا اليد الباطشة التي أذلت الشّعب طوال عقود، هم المتورطون في كل ما عصف بالحرية و بمفهوم الإنسان في هذا الوطن، أصبحوا فجأة وطنيين غيورين شجعانا مقدامين يخاطرون بحياتهم و يثورون في وجه الطغيان. لم يكن أحد يتخيل أن فيهم من يمكن له أن يثور. دجّنهم النظام و جردهم من ذواتهم فغدوا لا فرق بينهم و بين آلات التعذيب التي يستخدمونها. بالأمس القريب لفظتهم المدينة و طردتهم العشيرة. أياديهم ملطخة بدماء الشهداء و بصرخات النسوة و دموع الأطفال. بالأمس القريب لم يكن من شك في أنهم أعداء الثورة و حماة النظام أما اليوم فيريد بعضهم أن نقتنع أنهم أكثر ثورية من كل من ثار. الضبّاط “الأحرار”
دون سابق إعلام و بعد طول غيبة يطل علينا بطل مغوار بادر إلى إيقاف الطرابلسية لحظات قبل فرارهم من المطار. صوّر الأمر و كأنه مبادرة فردية تحركها القناعة و الغيرة على الشعب و الرغبة في العدالة. خطابه بدا متماسكا إلا أنه جانب الحقيقة و لم يُقنع، لم يطفئ ظمأ الملايين لمعرفة حقيقة ما حدث في ذلك اليوم، و لم يرو البطل من الرواية إلا ما كُتب له أن يقول. قبل أن تنظر الجماهير في فحوى كلامه تساءلت لماذا الآن؟ قرابة السبعة أشهر مرّت و لم ينبس ببنت شفة و الآن تُنظم له الندوات و تتناقل تصريحاته وكالات الأنباء و التليفزيونات؟ الصّمت مفهوم و مبرر: حقيقة ما جرى لا يجب للشعب أن يعلم به، ذاك ما بات الجميع على قناعة منه. أمّا الكلام فقد يكون أخطر، أهو الحقيقة أم تماد في المغالطة متسترة في ثوب المصارحة (؟).
اللعبة لم تنطل و لقبه المتابعون بـسمير “حربوشة”، تصريحاته و إن كشفت بعض الجوانب التي قد تشغل هواة المسلسلات المكسيكية جعلته محل استهزاء الجميع و عادت بالوبال على الأيادي الخفية التي احترفت تحريك الدمى و التي، رغم فشلها في الجولة الأولى، واصلت في هروبها إلى الأمام.
فمن دون سابق إعلام يُعاد إدماج أحد من كانوا من المغضوب عليهم. هو كذلك لعب دور البطولة و لكن في قصر قرطاج. هو مهندس الانتقال الديمقراطي وفق ما يقولون، خلت له الساحة لجبن من كان فيها فتحمل مسؤولياته التاريخية و استغل الفراغ لإنقاذ البلاد من الفراغ و أغلق طريق العودة أمام المخلوع. طيلة شهور ظل مستتر الهوية و لم يعلم بوجوده أحد و فجأة ظهر في قلب الأحداث بعد مرور أشهر سبعة على الأحداث. قيل أنه قد تم إيقافه و أنه قد تم وضعه تحت الإقامة الجبرية الخ الخ الخ قبل أن يسجّل حضورا محتشما على أمواج إذاعة تطاوين ليعلم الجمع ممن ضمّت ثورتنا أنه صاحب القسط الأوفر فيها : ذاك القسط الذي جمع في قصر قرطاج الوزير الأول و رئيس مجلس المستشارين و رئيس البرلمان ليتم إعلان 14 جانفي. خلافا لما كان يعتقده الجميع، لا الجيش و لا رشيد عمار و لا كمال مرجان و لا الشيطان البنفسجي مسؤولون و مدبرون لما حدث، إنها عبقرية رجل من رجال الأمن ممن لا يتورعون عن المخاطرة بحياتهم في سبيل الثورة. هذا الرجل إضافة إلى بطولاته الأمنية و الميدانية فقيه في القانون و يحكم الدراية بفصول الدستور.
أطل السيك سالم و مجّد الإعلام الرسمي تواضعه و عزوفه عن الأضواء معللا بذلك غيبته و ظهوره المفاجئ. هو استباق لما يمكن لأي كان أن يفكّر فيه و يتساءل عنه: لماذا الآن؟ أين كان؟ و هل تبرر روايته شهورا سبعة من الصمت؟
مرة أخرى يجانب النبل مرماه. لم يحتف به الشعب احتفاء البطل الذي أرادوا له أن يكون. قد يكون بالفعل هو من أقدم برجال بن علي الثلاثة في أمسية الرابع عشر من جانفي، قد يكون هو من صوّب نحوهم أجهزة التسجيل التلفزي للقيام بإعلان 14 جانفي، إلا أن الرواية لم تنطل و عزفت الجماهير عن سماعها.
تعددت الروايات في زخمة من الأحداث و الأسماء و المواقف و حاول الكثير البحث في تناقضاتها و إبراز أكاذيبها. هناك وعي جمعي أن هذه المصارحات ألعوبة جديدة تحاول الإمعان في تغييب الحقيقة و السبب في ذلك سببان: الأول فيهما هو أن من يحكم تونس و من يدير اللعبة السياسية فيها، أيا كانت هويته أو هويتهم، لا يحظى البتة بثقة الجماهير و لا يمكن أن تطمئن لأية حقيقة يصرّح بها. و الثاني هو أن هؤلاء الأبطال هم نفس “الأبطال” التي تفانت في بناء صرح بن علي البوليسي و التي قامت بتقتيل أبناء الشعب تقتيلا سبق فرار المخلوع و تزامن مع خلعه و تواصل من بعده.
هذه الروايات تجعل من الثورة ثورة ضبّاط. و هؤلاء الضبّاط الذين أوكلت لهم مهمة القمع و التعذيب و البطش و التنكيل كان جلهم زمن الوقائع يمارس مهمته على الشعب حماية للنظام في حين كان بعضهم، وفق نفس هذه الروايات الرسمية طبعا، قد قرر بمفرده الالتحاق بصفوف الشعب و إتمام الثورة بإلقاء القبض على الطرابلسية و تقرير الشغور الرئاسي دستوريا.
لا يخفى على أحد أن البعض القليل ممن يسميهم بول نيزان بكلاب الحراسة الذين رفضوا حراسة النظام و التحقوا بصفوف الشعب إيمانا منهم بثورته و بانتمائهم له مازالوا يقبعون في غياهب السجون في انتظار مثولهم أمام المحاكم العسكرية (سمير الفرياني مثلا).
الجميع ينظر إلى هذه الروايات على أنها محاولة يائسة لتطويق الغضب و ملأ نفاذ الصبر خاصة و أن الجماهير التي ظلّت مقصية من معرفة الحقيقة ماانفك غضبها يتضاعف مما آلت إليه الثورة مما يبشر بعودة جدية للغضب الساطع.
الثّورة و الانقلاب
هل فعلا صارت ثورة؟ تساؤل مشروع يطرحه و يتطارحه العديد سرّا و جهرا. لن أتطرق في هذا الجانب إلى إنجازات النسق الثوري و إخفاقاته، فالثورة صراع مستمر يتحدد بموازين القوى و ما عودة التجمعيين إلى الساحة السياسية و إطلاق سراح المجرمين و هروب بعضهم و تمكن بعضهم الآخر من الإفلات من القانون إلا جزء من هذا الصراع و لكن المقصود بهذا السؤال هو ما يقدمه بعضهم من قرائن و روايات تبعث على الاعتقاد أن ما حدث لا يعدو أن يكون انقلابا. فالثورة حركة شعبية اجتماعية تهدف من خلال الإطاحة بالحكم إلى الإطاحة بالنظام السياسي أولا ثم بالنُظم الاقتصادية و الاجتماعية و الثقافية الموروثة عن النظام القديم. أمّا الانقلاب فليس إلا تغييرا مبتورا عن الحراك الاجتماعي يُهدف به إلى تغيير الواجهة بتغيير الأشخاص مع المحافظة على نفس النظام.
الانقلاب هو تحرك في أعلى هرم السلطة لرجال من العسكر أو من الأمن، قد يكون عنيفا و قد يكون من دون دماء و ربما يكون مرفوقا بشهادات لطاقم من الأطباء (مثال 7 نوفمبر) فيسمى “ثورة هادئة” أو بابتسامات مضيفات الطيران فيسمى “ثورة ياسمين”. و الانقلاب إن كان فاشلا سُمّي خيانة عظمى و إن كان ناجحا فهو “تغيير” و من ثمة يبحث لنفسه عن مشروعية معتبرا أن ذلك ما فرضه هو “حبّ الوطن ونداء الواجب“. أما إذا كان الانقلاب متزامنا مع ثورة شعبية فهو “ثورة مباركة” يُرجع له الفضل في “إنقاذ البلاد من حمام دم” و هو أخطر أنواع الانقلاب.
فالانقلاب هو تتويج لصراع على السلطة بين جماعات من داخل السلطة نفسها و هو ما لم يحدث في تونس فكل الجماعات السياسية و الأمنية التابعة للسلطة كانت في صف بن علي ضد الشعب فالشرطة و الحرس و فرق النظام العام و فرق وحدات التدخل و فرق مقاومة الإرهاب و غيرها استماتت في الدفاع عن المخلوع و لم يحدث أن صار انشقاق أو تمرد داخلها لا لكوادرها الوسطى و لا لكوادرها العليا و حتى الجيش الذي وقف يتفرج و حُمِد على سلبيته لم يكن من مشمولاته التدخل إلا في حراسة المؤسسات العمومية خاصة منها البنوك. و كذلك كان الأمر بالنسبة إلى الجماعات السياسية من حكومة و برلمان و أحزاب كرتونية و بيروقراطية نقابية تناست الآن أنها تشبثت بسلطة بن علي إلى آخر لحظة و ظلت تدعمه إلى آخر لحظة، إلى حين فوجئت برحيله.
و في تونس لم يجرأ احد يوما على الانقلاب على سلطة بن علي. جميعهم، إن لم يكن من أشرس المدافعين عنه، كان من الخانعين المتربصين بفرصة يغتنمنها، إذ لم يَثبُت في التاريخ أن في فلك السلطة و في كواليسها و من عصاباتها من لم يكن له القدر الكافي من الجبن لممارسة سياسة النعامة خوفا من سيده. فدوائر السلطة لم يكن لها من الشجاعة ما يكفي للانقلاب على سلطة المخلوع و لكن كان لها القدر الكافي من المكر للانقلاب على ثورة الشعب.
الروايات الرسمية لما حدث يوم 14 جانفي رغم كثرة المساحيق فيها و رغم العناية المركزة التي خضعت لها قبل إفشائها لم تَرق حتى إلى مستوى الانقلاب ولم تُقنع حتى أولئك الذين يسهل إقناعهم. بل بالعكس روايات الطرهوني و سيك سالم و ما تسرب من اعترافات السرياطي و غيرهم عمقت لدى الشعب الإحساس بالمغالطة و بأن هذه الدوائر لا يمكن لها أن تقول الحقيقة. هذا يضاف طبعا إلى إصرار من يحكم البلاد على ألا تكون المحاكمات علنية و على أن يختص بها القضاء العسكري.
لذاك كانت رواياتهم أيا كانت نبرتها تتحدث عن بطولات وهمية هم براءٌ منها لم يستأنس لها الشعب و لم تمتعه و إنما عمقت فيه القناعة بأن ما حدث كان انقلابا على الثورة.
الانقلاب على الثورة
ما حدث في تونس هو هبة شعبية عفوية أدركت بمطالبتها بإصلاحات اجتماعية أنه لامناص لها من المطالبة برحيل المخلوع فتحركت في هذا الاتجاه و برحيل المخلوع تيقنت الجماهير أن رحيله لا يعني الكثير إن ظل نظامه. لم تلب الجماهير نداء فوقيا و لم تستجب لبرنامج ما قبلي بل أخذت بزمام الأمور بنفسها و صنعت المستحيل الذي ما عاد يحلم به أحد، ذلك جوهر الثورة التونسية.
المخلوع كان الحاميَ الأول لنظامه و بثورة الشعب أضحى الخطر الأكبر الذي يتهدد النظام ذاته الذي كان يحميه. بمعنى أن بن علي حين رحل مكّن النظام من فرصة البقاء و إن كان تشبث بحكمه فإنه نظامه الموروث عن بورقيبة كان يمكن له هو الآخر أن يزول. ما حدث بعد 14 جانفي في جميع مراحل مسلسل الثورة المضادة يقيم الدليل على هذا و يبرهن أن محاولات بتر الثورة بدأت ساعة حاول القائمون على سدة الحكم بمعية زبانيتهم و بتوجيه من أولي الأمر منهم بمحاولة إقناع الشعب أن الثورة قد حققت أهدافها برحيل بن علي وأن من يرى غير ذلك يُنتقص من وطنيته.
لو لم يرحل بن علي في ذلك اليوم لتدفقت الجماهير على قرطاج و لكان ذلك واحد من حمامات الدم التي تحدث عنها الغنوشي. رحيل بن علي كان إذن، بالنسبة إلى النظام، أخف الضررين. مما يعني أن رحيله لم يكن حلا اضطراريا بل كان حلا توافقيا. فبن علي لم يكن مقاتلا (بالمفهوم النيتشوي) و إنما كان جبانا مخادعا (شخصية راسكولنكوف عند ديستوفيسكي) أي أنه لم تكن له الشجاعة اللازمة لمواجهة مصيره و تحمل مسؤولياته و فضّل ماء الحياة بذِلة.
فالقائمون على النظام داخل تونس و خارجها قد قاموا بأول محاولة لإجهاض الثورة حين مكّنوا بن علي من الهرب. تتعدد الروايات حول حقيقة ما حدث يوم 14 جانفي، و ما خفي منها كان الأهم إذ ما صُرّح به منها ليس إلا ضربا من ضروب التسكين يلعب فيه الأمن و الجيش دور البطولة. لولاهما لكانت الثورة حمام دم و لولاهما لما رحل بن علي فهما من مكنا الشعب من إتمام ثورته، هكذا يريدوننا أن نفهم الأحداث.
بطولات رجال الأمن في إيقاف الطرابلسية و في إعلان 14 جانفي و بطولات الجيش في “رفض” إطلاق النار و في إيقاف حُماة بن علي و حرسه صورتها الروايات الرسمية المدروسة و كأنها تمرد لهذه القوات، أي “انقلاب” على سلطة بن علي لم يكن الغرض منه الاستئثار بالسلطة لنفسه أو لجهازه و إنما تمكين الشعب من أن تكون انتفاضته ثورة يعود بعدها فرحا مسرورا ما إن يصل المخلوع جدّة.
إنه فعلا انقلاب و لكنه ليس انقلابا على سلطة بن علي بل انقلاب على الثورة. إنه انقلاب يهدف إلى إنقاذ النظام و الحيلولة دون معرفة الحقيقة، حقيقة لعبة 14 جانفي. اللعبة الكبرى هل فعلا لم يكن بن علي ينوي الرحيل إلى جدّة؟ تلك الرواية الأصلية التي يبدو أنها لم تسترع اهتمام الأغلبية. سلّم بها الجميع و الحال أنها عصية على التصديق. هي أقرب إلى السيناريو الدرامي منها إلى الأحداث الواقعية فهي محاولة لإيجاد ترابط منطقي و سببي لأحداث مركّبة. كيف يمكن لمن كان رئيسا لبلد يشهد يومه الأطول في تاريخه أن يذهب في نزهة؟
المعلومات القليلة التي تكرمت بها السّلط عن حيثيات هذا الموضوع كانت محل نظر و تمحيص كبيرين. بحث فيها العديد عن الهنات و التناقضات مما مكن من العثور على مواطن ضعف كبيرة فيها و المهم ليس عرض جملة هذه القرائن الآن بل فهم دلالاتها.
إن التصريحات المدروسة و المجمّلة للطرهوني و سيك سالم تتنزل في إطار خضوع السلطات إلى مطالب الشعب لمعرفة الحقيقة فهي لم تقدم حقيقة الوقائع بل رواية ظنت أنها متماسكة للتنصل من المساءلة. في هذه الرواية صُوّرت قوات الأمن على أنها قوات التحقت بالثورة الشعبية و أتممت الجزء الأعسر منها بمنع الطرابلسية من المغادرة و بمنع بن علي من الرجوع و بتسليم السلطة إلى من يحق له نيابته حفاظا على جمهورية النظام و دستوريته. فالصراع في هذه الرواية لم يكن بين فرق الأمن فيما بينها أو بين فرق الأمن من جانب و الجيش من جانب آخر و إنما بين أجهزة أمنية و عسكرية نزيهة وقفت بالمرصاد لزبانية المخلوع و عائلته تخليصا للشعب من الدكتاتورية. بل إن هذه القوات لم تنقلب على المخلوع و هو بأرض الوطن فقد ظلت وفية له حتى آخر لحظة و لم تسجل انقلابها إلا و المخلوع في طائرته و بعد أن أغلق المجال الجوي التونسي.
ألم يتبادر إلى أذهان من وضعوا هذه الرواية أنها تتحدى الواقع بالخيال؟
الأغرب من ذلك أن هذه الحبكة (السعيدة) لم تكن وليدة عقل مدبر بل كانت وليدة بطولات فردية. و هؤلاء الأبطال فجأة قرروا التمرد و الأخذ بزمام الأمور من دون أن يكون لهم عقل مدبر و عائل يسند و قائد يأمر؟؟؟ هكذا، فجأة تصنع البيادق التارخ !
كيف يمكن لمن كان رئيسا لبلد يشهد يومه الأطول في تاريخه أن يذهب في نزهة؟ هذه هي الكذبة الكبرى التي إنبنت عليها جميع روايات 14 جانفي. أيمكن التصديق أن المخلوع حين سافر كان فعلا ينوي الرجوع؟ أيمكن التصديق أن مخلوع و جميع أفراد عائلته قد قرروا السفر صدفة للاعتمار؟ ألم تكن هناك محادثات قبل ذلك تمكنه من النفاذ بجلده و الهروب من المحاسبة في مقابل تخليه عن الحكم؟
لا وجود لمعلومات عن كواليس ما حدث قبل سفره و عن الصفقات و الإتفاقات التي تم إبرامها و القلة القليلة من الأخبار التي راجت تتحدث عن وسطاء لأطراف خارجية (أمريكية تحديدا) أمّنت لبن علي تخليه عن الحكم. فلا وجود إذن لتحرك عفوي لقوات من الأمن و لا لانقلاب على بن علي و لا حتى لعملية تغرير به. فما يروج من أخبار ليس إلا حبكة درامية للعبة الكبرى التي يرفض منفذيها مصارحة الشعب بها. فالبيادق ليسوا فقط من قاموا بالتنفيذ، فكذلك من أمرهم بالتنفيذ كانوا بدورهم بيادقا لهذه الأطراف الخارجية. الشعب أجبر بن علي عن التخلي عن الحكم و الدوائر الأجنبية التي كان بن علي يرعى مصالحها في تونس لم تعد تستأمنه على شؤونها فتخلت عنه من أجل أن يبقى النظام العميل الذي كانت و لازالت ترعاه.
إن محاولة الإقناع بالتحرك العفوي و الفردي لبعض قوات الأمن ليس إلا استغفالا للجماهير. لم تقو الأطراف المتسترة على تحمل مسؤولياتها في الأحداث و فضلت الجنوح إلى الظلام و تحريك الدمى خفية و هي بتبنيها لهذه المواقف لا تنقلب على بن علي بل تنقلب على سلطة الشعب وثورته.
إن الشعب هو من يصنع التاريخ و ليست البيادق. منذ عقود قال اللغماني “ما أكذب هذا التاريخ يبقى منه الوجه الزائف و الوجه الآخر للتفسيخ” و لن يُمحى الوجه الزائف لحقيقة ما حدث يوم 14 جانفي إلا إذا كتب الشعب تاريخه بنفسه.
منصف المرزوقي الزَبَد تيارات عمق المحيط المدرستان سلْ من حولك عن تعريف السياسة وستُفاجأ بتباين الأجوبة. إنها نفس الظاهرة بخصوص مصطلحات مثل الصحة والوطن والدين.. كلها كلمات نتصورها من البديهيات، وحين نخوض في تدقيق معانيها، نجدها تعني أشياء مختلفة لكل واحد. لنترك لأساتذة العلوم السياسية مهمة الاتفاق -إن همُ اتفقوا- على تعريف، لكن الأمر لن يكون إلا مقارعة تصورات بأخرى. المشكلة أيضا أن المنظرين لم يجربوا يوما السياسة الفعلية، وبالتالي هم كالمختصين في سيكولوجيا الحب يصفون الظاهرة من الخارج وبكثير من التدقيق، لكنهم لم يجربوا يوما لهب الأحاسيس والمشاعر. في المقابل تجد سياسيين لهم تجربة مباشرة، لكن لا وقت لديهم ولا قدرة على التنظير. النتيجة بقاء المفهوم في منطقة ضبابية، لأن من يتكلمون لا يعرفون كثيرا، ومن يعرفون لا يتكلمون إلا نادرا. هذا النص محاولة سياسي للتنظير، علما بأن صاحبه على أشد الوعي أنه لا يفعل سوى إضافة تصوّر إلى تصورات، وكل أمله أن يغذي تصورُه هذا فكرَ القارئ ليبلور هو نفسُه مفهومه للسياسة. لننطلق من المظاهر إلى ما وراءها، فنغوص في طبقات مصطلح أعقد مما نعتقد. ” الغريب وجود من يقبل بعمل يجلب -مقابل متعة عابرة ونادرة- كمّا لامتناهيا من صداع مزمن ونقد متواصل ومتحامل، وصراع شرس قد يتوّج بالسجن والنفي أو حتى القتل ” الزَبَد أستيقِظُ كل صباح مستعيذا بالله من المشاكل التي لن يبخل بها عليّ هذا اليوم ككل الأيام. نادرا ما أنتظر طويلا، حيث يبدأ الهاتف بالرنين وأبدأ أخط على كناشي قائمة لا أدري هل يجب أن أضحك منها أو أبكي: خصومات لا تنتهي داخل الحزب ومع الأحزاب الأخرى، والقاعدة سوء التفاهم والظن والمؤامرات والتحالفات التي لا تثبُت والخيانات. كل هذا والصراخ متصاعد من كل حدب وصوب حول من الذي يدافع عن مبادئ ومن الذي يدافع عن مصالح، وكلهم في الواقع يدافعون عن مصالح مبادئهم ومبادئ مصالحهم. كل هذا لا شيء بالنسبة لما يعانيه الحكّام.. المساكين، أشفق عليهم ولو كانوا خصوما! الغريب وجود من يقبل بعمل يجلب -مقابل متعة عابرة ونادرة- كمّا لامتناهيا من صداع مزمن ونقد متواصل ومتحامل وصراع شرس قد يتوّج بالسجن والنفي أو حتى القتل. والآن ما طبيعة المشاكل التي يُبتلى بها المعارضون والحكام على حدٍّ سواء؟ – هل هي التي تمسّ الشأن العام؟ خطأ، فالخط الفاصل بين الشأن الخاص والعام نظري بحت. كم من مستقلّ-مستقيل ظن نفسه بمنأى عن السياسة فلاحقته بلعنتها في أدق تفاصيل حياته؟ وكم من دكتاتور خلط بين وطن ومزرعته الخاصة وبين نفسه والوطن؟ – هل هي المشاكل الكبرى؟ نعم، فالسياسة ميدان الحرب والسلام والاقتصاد.. إلخ. لكن المشاكل التي تعرفها الثكنات والمستشفيات والشركات وحتى العائلات لا تختلف في جوهرها عن المشاكل التي تعصف بمصائر الشعوب والدول. – ما الخاصية الأساسية إذن؟ إنها طبيعتها السرطانية، فالمشاكل تتوالد دون توقف. هكذا يفيق السياسي كل صباح لقائمة مصائب تفاجئه بظهورها غير المتوقع ولا يؤدي حلها إلى اختفائها وإنما إلى تبلورها في شكل جديد. السؤال هو: ما وراء كلّ هذا الصراع اللامتناهي؟ تيارات عمق المحيط محرّك مشاكل العلوم نقص المعطيات، ومن ثم ظهور البحث العلمي. مشاكل الاقتصاد في انعدام التوازن بين العرض والطلب، ومن ثم قضايا الإنتاج والتضخم والعمل النقابي والأحزاب التي تنادي بالعدالة الاجتماعية. ما الذي يحرك المشاكل السياسية؟ تأمل بعضها، سواء أكانت على مستوى الأمم والدول والأحزاب ومؤسسات المجتمع المدني، أو على مستوى الشركات والعائلات والسجون والثكنات، وستكتشف دوما أن محركها صراع محموم حول ثالوث أزلي. سبق أن اقترحتُ تعريفا للثورة يقضي بأنها هي اللحظة التاريخية التي تتوّج تراكمات طويلة من أحداث، يشهد فيها المجتمع تحولا مفاجئا وغالب الوقت عنيفا، يعيد توزيع السلطة والثروة والاعتبار داخله. يحيلنا هذا التعريف إلى فترة ما سبق الثورة وما يعقبها، وهي دوما مرحلة تتسم بتوزيعٍ ما للثالوث وفق توازن هشّ بين الأشخاص والمجموعات، وهي تتصارع داخل حدود عنف مسيطَر عليه نسبيا (تفضحه نسبة جرائم الحق العام وما يسمى الجرائم السياسية). يتواصل ذلك إلى أن تصبح التناقضات غير قابلة للفض، فتحصل الحرب أو الثورة التي تعيد خلط الأوراق وتوزيعها من جديد، خالقة توازنا جديدا يدوم ما يدوم إلى أن تحصل الثورة مجددا، وهكذا إلى يوم يُبعثون. نذكّر أن السلطة -سواء مورست على مرؤوس واحد أو على الملايين- هي القدرة على فرض الإرادة بالقوة أو بالإقناع، لتحقيق مصالح الماسك بأدوات الإرغام أو الإقناع. أما الثروة فهي حالة التمتع بموارد نادرة ودون تقتير على الذات والأقارب، في وضع يعرف فيه الآخرون كل أشكال الحرمان. بخصوص الاعتبار هو حالة التمتع بالاحترام والتكريم من قبل عدد من الناس نتيجة المسك بالسلطة والثروة أو نتيجة الصراع ضدهما من موقف أخلاقي كالذي يتخذه الناسك والنبي والثوري. بديهي أنه يمكن للمرء أن يفوز بالاعتبار دون أدنى سلطة أو ثروة (غاندي).. أو بالسلطة والثروة دون أدنى اعتبار (الأغبياء الخطرون الذين يحكموننا).. أو أن يكون صاحب سلطة واعتبار دون ثروة (عمر بن الخطاب). الأدهى والأمرّ ألا يملك أدنى سلطة أو اعتبار أو ثروة (أغلبية البشر)، وفي هذه الحالة يبقى الشيء الوحيد المضمون هو الشقاء والموت باكرا، في حين أن سهولة العيش وكثيرا من المتعة متوفرة لمن أسعفه الحظّ بالثالوث كاملا أو على الأقل بجزء منه. لا غرابة في شراسة التنافس بين الأشخاص والمجموعات للفوز بأثمن ما توفره الحياة. ” السعي وراء الثالوث (السلطة والثروة والاعتبار) أو جزء منه، ليس قدر السياسي وحده، وإنما هو هدف لكل إنسان، والفرق في مستوى البذل فقط ” لننتبه أن السعي وراء هذا الثالوث أو جزء منه ليس قدر السياسي وحده ، وإنما هو هدف لكل إنسان، والفرق في مستوى البذل فقط. إن ناضلتَ من أجل السلطة والاعتبار والثروة داخل مؤسسة أو مستشفى بعقلية الطموح الشخصي وأساليب الإغراء والتآمر, اعتبرْ الأمر من قبيل الشأن الخاص، لكنك في الواقع تمارس السياسة وإن كانت على المستوى الضيق. إن سعيتَ لنفس الأهداف وبنفس العقلية والأساليب على مستوى المدينة والدولة والشعب، صُنِّفت سياسيا وأنت لم تغير إلا مستوى الفعل السياسي الذي يمارس داخل أصغر التجمعات البشرية. نقطة نظام: يقول قانون واسع التداول إنه لكل قاعدة استثناء. والاستثناء في هذا الصدد أن هناك بشرا لا يسعون للسلطة والثروة والاعتبار، وإنما يضحون بهم من أجل… من أجل ماذا؟ ذلك ما سيتضح في ما يلي. يصبح السؤال الآن لماذا الصراع الأزلي الذي يستسلم له أغلبية البشر؟ إنه نتيجة حتمية لحالة موضوعية تفرض سلطتها المطلقة على الأشخاص والمجتمعات كما تفرض الجاذبية سلطتها على الأجسام المادية، وأسَمّيها الوضع المحدّد وله ثلاثة مستويات: الألواح الحاملة: الموارد المادية دائما أقلّ من المطلوب في أي مجتمع، مهما بلغ ذلك المجتمع من رقيّ، سواء بحكم قلتها الطبيعية أو ضعف التقنية أو قصور آليات التوزيع أو ظلمها، مما يجعل الكعكة أصغر من أن تغطي حاجيات كل الجائعين. أما بخصوص السلطة فلا يوجد إلا منصب واحد للملك وقلة من المناصب لحاشيته، بالقياس إلى عدد الطامعين للأدوار الأولى، مما ينتج توزيعا ظالما للاعتبار حيث تحتكره القلة المتمتعة آنذاك بالسلطة والجاه. هكذا يبرز السلّم الاجتماعي ليخلق صراعا شرسا يضع مَن هم في الأعلى وهمّهم الحفاظ على مركزهم، في مواجهة متسلقين ينطلقون من الحضيض ويمشون على أجساد بعضهم البعض للوصول إلى أولى الدرجات. ازدواجية الطبيعة البشرية: لو كان للبشر حسّ فطري بالعدل لوجدوا وسيلة سلمية لتوزيع هذه الندرة بكيفية تضمن لكل إنسان حقه منها، لكن المتنبي أعلم الناس بطبيعتهم هو القائل: والظلم من شيم النفوس فإن تجد ** ذا عفة فلعلّة لا يَظلم المشكل أن هذه قراءة النصف الفارغ من الكأس، حيث يمكن معارضة البيت الشهير بقراءة النصف الملآن كالتالي: والعدل من شيم النفوس فإن تجد ** ذا زلة فلعلّة لا يعدل انتبه إلى أننا لسنا هنا أمام نوعين من البشر: الطيبون الذين يملكون “جينة” العدل، والشريرون الذين يملكون “جينة” الظلم.. كلنا نتوفّر على “الجينتين”.. كلنا نعتمد الظلم والعدل في حياتنا، وفي آخر المطاف ليست الأخلاق واللاأخلاق سوى إستراتيجيتين متوازيتين لتحقيق نفس الأهداف. ” الخبر المفرح أنه لا دوام لنظام فاسد ظالم عنيف، حيث يبدأ العدّ لنهايته لحظة انتصابه. والمحزن أن العدّ يبدأ لحظة انتصاب أعدل نظام، والظلم الكامن في شيم النفوس يتربص به ” كل الفرق بين الأفراد أن هناك من يفضّل في مرحلة ما الركون إلى إستراتيجية بدل أخرى، وذلك دون القدرة على التخلص من نقيضها داخله. هذا ما يفسر أن هناك دوما قديسا نائما بعين واحدة داخل أكبر إبليس، وإبليسا نائما بعين واحدة داخل أكبر قدّيس. ثمة خبران داخل هذه الرؤية: المفرِح منهما أنه لا دوام لنظام فاسد ظالم عنيف، حيث يبدأ العدّ لنهايته لحظة انتصابه. والمحزن أن العدّ يبدأ لحظة انتصاب أعدل نظام، والظلم الكامن في شيم النفوس يتربص به. أولويات المجتمعات: السعي للثروة والسلطة والاعتبار إذن هدف الأفراد، لكن ما أهداف المجموعة البشرية التي يعيشون داخلها يا ترى؟ المعروف أن خصائص الكل ليست حاصل خصائص الأجزاء التي تكونه، فللمجتمع زمن وخصائص وأهداف غير زمن وخصائص وأهداف الأشخاص. لنتمعن في أهداف المجتمعات وسنكتشف أنها لا تخرج عن ثلاثة. إن حب النصر ومكافأة المنتصر ليسا ناجمين فقط عن فتحهما باب إعادة توزيع الأوراق وإعطاء فرصة جديدة للمحرومين، وإنما أيضا وخصوصا لأن النصر ينهي سفك الدماء ويوقف تواصل دفع فاتورة الشقاء. فأولى أولويات المجتمعات حفظ أنفسها من العنف الداخلي والخارجي، حيث لا أخطر منه على الهدف الأول ألا وهو البقاء. مثل هذا البقاء لا يكون إلا بتحقيق هدفين آخرين يبدوان متناقضين: الاستقرار والتطوّر. لا بدّ من الأول لأنه يمكّن المجتمع من تجميع أجزائه والمحافظة على مقوماته المميزة، لكن قدرا كبيرا من المحافظة يؤدي إلى الجمود وسط عالم متحرّك فيه تحديات جديدة تفرضها الطبيعة والجماعات البشرية المنافسة، ومن ثمّ أهمية الهدف الثاني أي التطور، لتحسين الموجود دون تهديم الأسس والمسّ بالثوابت. كل هذا حتى لا يتحنّط المجتمع بأكثر مما يجب من المحافظة ولا يتفرقع بأكثر بالخطير من التغيير. المشكلة ضرورة تصريف الحاجيتين المتناقضتين، وهو أمر لا يعرف صعوباته إلا من جرّب السياسة. كم من ملك مسكين أفرط في الضغط على الفرامل فوجد نفسه أمام شعب ثائر ومقصلة تنتظر رأسه، وكم من فيلسوف ثائر اقتضت مصلحة التطور أن يُضحَّى به لأن التضحية عند البشر طقس لا بدّ منه لتنطلق عملية التغيير؟ لتأدية دور المحافظة، تخلق المجتمعات المؤمنين المتعصبين والكهنة والأباطرة وأحزاب اليمين المتطرف والبوليس السياسي. لتأدية دور التطوير، تُبلوِر المجتمعات الكفار والثوار وأحزاب اليسار والعلوم التجريبية والفنانين الخارجين على المألوف.. إلخ. للوصول إلى أهدافها، تطلق المجتمعات التنافس بين حاملي لواء التوجّهين، والكل يتصور أنه يعمل لحسابه الخاص وهو يعمل في الواقع لصالح قوى تتجاوزه. المدرستان ثمة إذن الأهداف الخفية للمجتمعات -هذه الكائنات الحية الذكية والخبيثة- في السلْم والاستقرار والتطوّر، وثمة أهداف الأشخاص في السلطة والثروة والاعتبار. نحن هنا أمام وضعية شبيهة بعلاقة الحب والنسل. يجري الأفراد وراء تشويق قصص الغرام ولذة الجنس، لكن همّ سنة الله أو الطبيعة تَواصُل الحياة وليس ما يجنيه الأفراد من نشوة عابرة. معنى هذا أن الثالوث هو أيضا طعم ومكافأة لدفع الأفراد لخدمة أهداف مجتمعاتهم. المشكل هو الانزلاق عندما تنفصل المصلحة الخاصة عن المصلحة العامة أو تريد تفويضها. ” عندما تنفصل المصلحة الخاصة عن المصلحة العامة أو تريد تفويضها, يعطينا في ميدان السياسة الدكتاتوريات التي توزع السلطة والاعتبار والثروة بكيفية تفاقم العنف وتهدد الاستقرار ” في ميدان الحياة الجنسية يعطينا هذا الانزلاق الاغتصاب والبغاء والاعتداء على الأطفال. في ميدان السياسة يعطينا الدكتاتوريات التي توزع السلطة والاعتبار والثروة بكيفية تفاقم العنف وتهدد الاستقرار وتشلّ كل تطوّر، لأنها تستعمل المصلحة العامة كغطاء لخدمة المصلحة الخاصة. إنه الوضع الذي تعرفه سوريا اليوم وهي تواجه فظاعة جيش احتلال داخلي همه الأوحد حفظ حق عصابات إجرامية في سلطة زاغت عن وظيفتها الأصلية. إنها مدرسة كبار اللصوص الذين ندفنهم هذه الأيام -ورمزهم بن علي- وفي مواجهتها مدرسة كبار النفوس -ورمزهم منديلا- التي تسعى لتوزيع الثالوث بأقل قدر ممكن من الظلم، لكي يستقر المجتمع ويتطوّر بأقل قدر ممكن من العنف. ثمة إذن المدرسة التي تجد حلولا للمشاكل، والمدرسة التي توجِد مشاكل للحلول. هذا ما يعطينا التصور التالي وقد تبلور في ذهن كاتب هذه السطور بصعوبة بالغة، طوال سنين وحتى عقود من التجربة والتفكير: السياسة فنّ خدمة المصالح الخاصة باستعمال كل الوسائل الأخلاقية واللا أخلاقية للحصول على أقصى قدر ممكن من السلطة والثروة والاعتبار، وذلك بغض النظر عن تبعاتها وتكلفتها على المجتمع، مثلما هي فنّ خدمة المصالح العامة من طرف أفراد يضحون -وبغض النظر عن تبعاتها وتكلفتها عليهم- بكل حظوظهم في جزء من السلطة والثروة والاعتبار، حتى يحقق مجتمعهم ما يسعى إليه من أمان واستقرار وتطوّر. ليس هذا النص فصل المقال في موضوع لا يستنفد، وإنما اجتهاد قابل للتغيير ما دامت الحياة تواصل إعطاء دروسها القاسية. وعلى كل حال كما قال الإمام الشافعي “هذا أحسن ما قدرنا عليه، فمن جاءنا بأحسن منه فهو أولى بالصواب”. (المصدر: موقع الجزيرة.نت (الدوحة – قطر) بتاريخ 15 أوت 2011)
<
علي محمد يس لئن كان منطق العقل المجرد، يستطيع، بلا عناء، أن يسوق المبررات الموضوعية، سياسيا و أخلاقيا وفكريا، لزلازل الثورات العربية ما بين تونس وسوريا، مرورا بليبيا ومصر واليمن، وإيماء إلى دولٍ أُخرى يتماثلُ الاحتقان فيها إلى إنجاب انتفاضاتٍ شعبية مماثلة، فإنهُ – من جانب آخر – يبدُو من العسير جداً تجاهُلُ العامل الخارجي في هذه الانتفاضات والثورات الشعبية، خصوصاً أن جميع هذه الثورات، لا تكادُ تخرُجُ عن إطار نبوءاتٍ غربية، أميركية تحديداً، بشَّرَت بها في سياق مخطط متكامل، لم تجد مؤسساتُ الإدارة الأميركية المسيطرُ عليها من قبل “المحافظين الجدد”، حرجاً في الإفصاح عنهُ تحت مُسمَّى “الفوضى البناءة”. • ومصطلح (الفوضى البناءة Constructive Chaos) أو (الفوضى الخلاَّقة Creative Anarchy) مصطلحان ظهرا في مطالع هذا القرن – تحديداً في أعقاب أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول 2001م- ليُعبِّرا عن توجُّه في السياسة الأميركية، احتشد لهُ من التنظير والبحث ما أهَّلَهُ ليتخذ موقعاً في مصاف النظريات السياسية المكتملة والمتكاملة، وانطلقت الإدارة الأميركية في إنفاذه دون مواربة أو حرج. ” بما أن مخطط “الفوضى الخلاقة” هو من صنف المخططات ذات الطابع الاستخباري، فإنهُ ليبدُو غريباً –بل وغير مسبوق– جراءة الإدارة الأميركية في الإفصاح عنهُ ” وبما أن مخطط “الفوضى الخلاقة” هو من صنف المخططات ذات الطابع الاستخباري، التي لا يصلُحُ إسنادُها إلا إلى عناصر المخابرات، فإنهُ ليبدُو غريباً –بل غير مسبوق– جراءة الإدارة الأميركية في الإفصاح عنهُ وإعلانِهِ سياسة مشرعنة ومعتمدة رسميا من قبل صانع القرار الأميركي، بإزاءِ ما جرت عليه العادة من إحاطة العمليات ذات الطابع الاستخباري، عالميا، بسُترٍ كثيفةٍ من السرِّيَّة المُظلمة. ولا بد أنَّ هذا الإعلان لم يأتِ اعتباطا، إذ كان بمقدور الإدارة الأميركية أن تعمل على إنفاذ سياستها في نشر الفوضى في الشرق الأوسط، بذات السرِّيَّة التي تُنجَزُ بها عملياتها الاستخبارية المألوفة، ولكن يبدُو أنَّ هذا الإعلان يتخذ دوراً جوهرياً في نجاعة ونجاح مخططات الفوضى (البناءة من وجهة النظر الأميركية). وهذا الافتراضُ من جانبنا أملاهُ افتراضٌ آخر هُو استحالةُ أن يكُون مُنظِّرو ومفكِّرو وخبراء السياسة الأميركان بالغباء الذي يجعلهُم يُفصحُون عن مخطط ذي طابع استخباري دون مبرر أكيد لذلك الإفصاح، ولعلَّ بعض النظرِ في طبيعة العمليات التي تنتمي إلى تعريف “الفوضى الخلاقة”، يكشِفُ بعض مزايا ذلك الإفصاح. • وواضحٌ أنَّ إحدى أهم مزايا هذا المصطلح الشيطاني، هي كونُهُ يحملُ في دلالات اسمه نفسها زُبدة تفاصيله، فإشاعة الفوضَى في مجتمعٍ ما هي عملٌ يُمكنُ أن يتخذ أشكالاً عديدة، ودينامياتٍ مختلفة، ويُسفِرُ أيضاً عن نتائج مختلفة من حيث الحجم ومن حيث المترتبات والمآلات. فالفوضى الأميركية الخلاقة يُمكنُ أن تتجلَّى في عملياتِ اغتيالٍ محدودة بشخصياتٍ مؤثرةٍ، منهمكةٍ في ارتباطاتٍ وعلاقاتٍ وعداواتٍ وخصوماتٍ ذات طابع طائفي أو مذهبي، لتكونَ بمنزلة المفتاح لفتنةٍ, قد تطولُ وتتشعب ويُنسي بعضُها بعضاً، وتنسخُ نتائجُها مقدماتها، ولا يعدمُ المراقِبُ شواهد هذا الصنف من صنوف الفوضى الأميركية الخلاقة في المنطقة العربية خلال سنوات العقد الأخير. ولكن المفهوم “المعياري” للفوضى الخلاقة هُو ما عبَّرت عنهُ كونداليزا رايس، في ثنايا حديثٍ لها لصحيفة واشنطن بوست، في أبريل/نيسان 2006م، حول تعريف المصطلح وأهميته، قالت “إن الفوضى التي تفرزها عملية التحول الديمقراطي -في الشرق الأوسط- في البداية هي من نوع “الفوضى الخلاّقة” التي ربما تنتج في النهاية وضعا أفضل مما تعيشه المنطقة حاليا!!. ” من الطبيعي ألاَّ تتم قراءة التحولات الثورية في المنطقة العربية بمعزلٍ عن مخطط الفوضى البناءة الأميركي، ولكن يجب أيضا ألاَّ تُسفر هذه القراءة عن اتهامٍ أو تجريمٍ للانتفاضات الشعبية العربية ” • من الطبيعي جدا، والمنطقي جدا، والحالُ هذه، ألاَّ تتم قراءة التحولات الثورية في المنطقة العربية بمعزلٍ عن مخطط الفوضى البناءة الأميركي ، ولكن –في الوقت نفسه– يجب ألاَّ تُسفر هذه القراءة عن اتهامٍ أو تجريمٍ للانتفاضات الشعبية العربية، التي هي في الواقع مبرَّرةٌ ومشروعة، بل ومطلوبة، بمعطيات واقع هذه الشعوب المنتفضة، كما يجب ألاَّ تحملنا هذه القراءة على تبرئة الأنظمة التي انطلقت في وجهها هذه الانتفاضات، ذلك لأن تجريم الانتفاضات أو تبرئة الأنظمة هما في حد ذاتيهما موقفٌ يُندرجُ ضمن أهداف الفوضى الخلاقة، ولعلَّ هذا هُو بعضُ تجليات “الحكمة” في إعلان سياسة الفوضى الخلاقة. ولئن كان الإعلام العربي قد أكَّدَ –نقلاً عن الإعلام الأميركي أو عن بعض رموز الإدارة الأميركية– أن الإدارة الأميركية قد “فوجئت” بالثورات في مصر وتونس واليمن، على الأقل، وهو اعترافٌ أميركي من شأنه أن يُفرح الشعوب المعنية ويومئ إلى عظمة ثوراتها، ومن شأنه –أيضاً– أن يغري إعلامنا العربي بتتبع المفاجأة –مفاجأة ثوراتنا العربية العظيمة للأميركان أنفسهم– ويوسعها تحليلاً ودرساً وتثميناً، فلعلها تكونُ الكذبةُ الوحيدة في سياق الفوضى الأميركية البناءة بالشرق الأوسط. وهي كذبةٌ يسنِدُها بعض المنطق العجول، ذلك المنطق الذي يُقرِّرُ –بدءاً– ألا مصلحة أميركية في إشعال ثورات في مصر وتونس واليمن، حيث الأنظمة الحليفة، تقليدياً للأميركان، وأن الدور الذي كان مرتقباً من أميركا، إن كان لها بالفعل سابق علم بهذه الثورات وبمآلاتها، هو العملُ بكل ما تملك على إبقاء الأنظمة وعلى رموزها الثلاثة، مبارك وبن علي وعلي عبد الله صالح، وإفشال الانتفاضات الشعبية. وبما أنها لم تفعل ذلك –على الأقل بالنسبة لمبارك وبن علي– فذلك يؤكدُ أنها ضحيةٌ للمفاجأة، وأنها –الإدارة الأميركية أعني– عاجزة أمام قوة الثورات العربية .. هذا المنطق يتجاهلُ تماماً تقليداً أميركياً عريقاً في اتخاذ ومعاملة الحُلفاء، فحُلفاء أميركا جميعهم –ما عدا إسرائيل– هُم أشخاصٌ وليسوا دُولاً إلا من باب المجاملة، وهُم –كأشخاص لديهم دائماً “تاريخ انتهاء صلاحية، بالنسبة لأميركا، وتاريخُ انتهاء الصلاحية هذا لا دخل للعواطف فيه.. ثمة دائما مرحلةٌ تنتهي ومرحلة تبدأ، مشروعٌ ينتهي ومشروعٌ يبدأ، حليفٌ ينتهي دورُهُ ليبدأ العمل حليفٌ جديد. والعادةُ الأميركية القديمة في اتخاذ الحلفاء بالمنطقة العربية ظلَّت تُقيمُ ميزاناً دقيقاً بين مَدى صلاحيَّة زعيمٍ عربيٍّ حليفٍ لأميركا في رعاية مصالحها، وبين مَدى القبول الذي يحظى به داخل بلده ومنطقته، ولقد ثبت للإدارة الأميركية أن شرط “القبول” هذا قد بدأ يتزعزع بالنسبة إلى كل من مبارك وبن علي، الأمر الذي يحِدُّ كثيراً من نفوذهما المطلق في تقديم المصلحة الأميركية أو الإسرائيلية على مصالح بلديهما، كما يبدُو أن عملية “استزراع” البديل لكل من بن علي ومبارك قد اكتملت حسب القراءة الأميركية للساحة الثورية في كل من تونس ومصر .. هل يعني هذا أن نتعاملَ مع مفرزات الفوضى الخلاقة الأميركية في المنطقة العربية باعتبارها “قَدَراً” لا مفرَّ منه؟ ” لئن كان مخطط “الفوضَى الخلاقة” مخططاً مُعلناً، لأهدافٍ يراها أربابُهُ، فإن مواجهة الفوضَى الخلاَّقة –ولذات الأسباب– تستوجِبُ مُخطَّطاً “سرِّيَّاً” من تصميم النخبة العربية ” • ها هُنا يتجلَّى الامتحانُ الحقيقي للنُّخب العربية، ولئن كان مخطط “الفوضَى الخلاقة” مخططاً مُعلناً، لأهدافٍ يراها أربابُهُ، فإن مواجهة الفوضَى الخلاَّقة –ولذات الأسباب– تستوجِبُ مُخطَّطاً “سرِّيَّاً” من تصميم النخبة العربية، (ولعلَّ مثل هذا الحُلم، بمُخطَّطٍ بنَّاءٍ تجتمعُ حولَهُ نُخبةٌ عربية، في ظلِّ واقعنا الذي نعيش، يبدُو حُلماً مُمعِناً في اللاواقعية، ولكن لا مناص من تحققه، كشرطٍ وحيدٍ للنجاة من فخاخ الفوضى الأميركية الخلاقة). والامتحان الذي أعنيه هُو أن تُدرك النخب العربية تماما أنَّ الإدارة الأميركية –عبر عناصر مخابراتها بمختلف تخصصاتها ومسمياتها، وعبر عُملائها ووكلائها في المنطقة العربية– ماضيةٌ في استغلال كل التناقُضات العربية، سواءً التناقُضات بين الأنظمة وبين الشعوب، أو التناقُضات بين الطوائف المختلفة، أو التناقضات بين المذاهب، سياسيةً كانت أو أيديولوجية أو دينية، أو التناقُضات والتفاوُتات الاقتصادية بين الأغلبية الفقيرة والأقلية المرفهة، كل هذه وغيرها من التناقُضات تظلُّ وقوداً مثالياً للفوضى الأميركية الخلاقة، التي تؤمِّنُ المصلحة الأميركية الإستراتيجية المتمثلة في بقاء شعوب المنطقة مفككةً متناحرةً عاجزة، ومُحتاجةً دوماً إلى “الوصاية” الأميركية. لن تستطيع النخب العربية أن تُقنع الإدارة الأميركية (بالمنطق) برفع يدها عن المنطقة، وقطعاً لن تستطيع ذلك بالقوة، فلم يبق إلا خيارٌ وحيدٌ، هُو خيار “التعايُش” مع مخططات الفوضى الخلاقة ولكن بعد تحييدها إن لم يكن “توظيفها”!!.. • إن انتباه النخبة المصرية، مثلاً، إلى حقيقة أن ساحة ثورتهم ليست ملعباً حصرياً للمصريين وحدهم، وأن التدخل الأميركي –إن لم يكُن سابقاً للثورة نفسها– لن يدع أمر المستقبل في أيدي المصريين وحدهم، ولن يألوَ جهداً في فعل أي شيءٍ لضمان أن النظام القادم في مصر إن لم يكن امتداداً للسابق فلا أقل من أن يكونَ حليفاً أكثر إخلاصاً للإرادة الأميركية من السابق. ” إدراك النخبة المصرية حقيقة أن ساحة ثورتهم ليست ملعباً حصرياً لهم, هو أحد أهم مطلوبات المرحلة، وهُو الأمرُ الأكثر إلحاحاً في أية أجندة وطنية حقيقية ” إن إدراك النخبة المصرية هذه الحقيقة هو أحد أهم مطلوبات المرحلة، وهُو الأمرُ الأكثر إلحاحاً في أية أجندة وطنية حقيقية، والأكثر حاجةً إلى البحث والمواجهة بترسانةٍ متكاملة من الأسلحة الدبلوماسية و”الإبداعية” اللازمة لمباراةٍ متطاولة في حرب العقول .. ذلك أمرٌ تفصيلُهُ يطول، ولكن خُلاصته أن يُدرك الجميع، في مصر وفي ليبيا وفي اليمن وسوريا، أن وقوع ثوراتهم الوطنية النظيفة في براثن الفوضى الأميركية (الخلاَّقة) هُو مخططٌ أكبرُ عُمراً من هذه الثورات، وأن للأميركيين أصابعهُم ليس فقط في التخطيط لما بعد الثورات، ولكن حتى في نسيج بعض الثورات، كاليمن وسوريا. حيث لا تخفى الأصابع التي تعملُ على قيادة ثورة الشعبين إلى غاياتٍ محددة، يكُونُ مآلها أدنى إلى الحروب الأهلية التي يصعُبُ التكهُّنُ بمآلاتها، والفوضَى في حدِّ ذاتها يُمكنُ أن تكُونَ إنجازاً أميركياً (خلاَّقاً).. والاستقرارُ في المنطقة –بخلافِ ما تُؤكد الإدارةُ الأميركية دائماً– ليس في مصلحة أميركا. (المصدر: موقع الجزيرة.نت (الدوحة – قطر) بتاريخ 13 أوت 2011)
<
نبيل السهلي
أثر الثورة المعرفية في الثورات الشعبية انتصار الثورات وآفاق الثورة المعرفية معوقات اتساع المجتمعات الافتراضية ما شهدته الساحة العربية في الآونة الأخيرة يستدعي جملة من التساؤلات الملحة التي تفرض نفسها على كل معني يتتبع هذه الأحداث والتحولات؛ ولعل أول ما يتبادر إلى الذهن في هذا المجال هو التساؤل عن حجم وتأثير كل من العاملين المعرفي والإنساني في إنجاز الثورة الاجتماعية الديمقراطية في العالم العربي. المسألة لا تتعلق هنا بالأرقام والنسب فحسب؛ فنحن بإزاء حالة عربية لم تسعفنا حتى الآن إلا بنموذجين ناجحين فقط هما تونس ومصر. ومع أن ثمة مؤشرات تشير إلى ما وراء تونس ومصر, بيد أنه يمكن -عبر استقراء النموذجين- التوصل إلى خلاصة أولية تؤكد أهمية الدور الذي لعبته التقنيات المعرفية في إنجاز كل من النموذجين، ووصولهما إلى عتبة النجاح وإمكانية نجاح الثورات في دول عربية أخرى. أثر الثورة المعرفية في الثورات الشعبية مع اتساع دائرة الثورات الشعبية العربية تفاقمت الهوة بين شريحة الشباب العربي والأنظمة الدكتاتورية العربية؛ وليصبح التحدي عنوان المشهد السياسي العربي. وتبعاً لذلك برز سؤال هام يتلخص في مدى أهمية الثورة المعرفية ووسائلها الحديثة لدفع الثورات الشعبية باتجاه تحقيق أهدافها العليا؛ وفي هذا السياق يمكن القول إن شبكة التواصل الاجتماعي من فيسبوك وغيره كانت من العوامل المساعدة الهامة في إنجاز ثورتيْ تونس ومصر واستمرار الثورات في دول عربية أخرى؛ خاصة أن نسبة الشباب العربي الذين يستخدمون الإنترنت بشكل عام هي في ازدياد ملحوظ. ” عوامل عديدة تضافرت أدت إلى انطلاقة واستمرار الثورات العربية, منها ما هو إنساني وما هو متعلق بالاستفادة من الثورة المعرفية ووسائلها المختلفة ” وقد تعززت تلك العوامل بسبب دور الهواتف النقّالة التي تسمح بالتقاط صور قمع أجهزة الأمن العربية للمتظاهرين، ومن ثم نقلها إلى وسائل الإعلام، وفي المقدمة منها الفضائيات التي منعت في تغطية فعاليات الثورات بشكل مباشر. لكن ثمة آراء أخرى تشير إلى أن الثورة المعرفية واستخدام وسائط التواصل الاجتماعي: فيسبوك وتويتر ويوتيوب ساهمت إلى حدِ ما في انطلاقة الثورات الشعبية العربية واستمرارها. بيد أن السبب الرئيس لانطلاقة الثورات العربية في أكثر من دولة عربية يكمن في تحسس المواطن العربي لظلم امتد لعقود عديدة؛ وخروجه ليعلن رفضه لسياسات النظم السياسية العربية التي كان من أهم نتائجها انعدام العدالة الاجتماعية والفقر المدقع واتساع ظاهرة البطالة ونهب المال العام؛ فضلاً عن هجرة العقول العربية والكفاءات إلى الولايات المتحدة وأوروبا. ويمكن القول إن عوامل عديدة تضافرت أدت إلى انطلاقة واستمرار الثورات العربية؛ منها ما هو إنساني وما هو متعلق بالاستفادة من الثورة المعرفية ووسائلها المختلفة لخدمة التحول الديمقراطي في العالم العربي كهدف أسمى. انتصار الثورات وآفاق الثورة المعرفية اتسمت الثورات الشعبية العربية بطابعها الجماهيري، وذلك على الرغم من تميز الدور الريادي والطليعي الذي يلعبه الشباب في هذه الثورات، إلى جانب استخدام التكنولوجيا والفضاء الافتراضي ووسائل الاتصال الحديثة كآلية للتنظيم والتواصل لحشد الطاقات البشرية في ميادين التحرير والتغيير؛ وقد توضح ذلك أثناء ثورتيْ تونس ومصر والثورات الصاعدة في أكثر من دولة عربية. وكان لعملية التواصل الاجتماعي -عبر الشبكة العنكبوتية، وبشكل خاص بين الشباب العربي- بالغ الأثر في تنظيم صفوف الثوار وشعاراتهم المطلبية المختلفة من أجل تحقيق الأهداف العليا للثورة؛ وبهذا المعنى لا خوف على مستقبل الثورات الناجزة، ولا على الثورات المستمرة في العديد من الدول العربية للوصول في نهاية المطاف إلى عتبة التحول الديمقراطي. وقد أشار تقرير أصدرته كلية دبي للإدارة الحكومية مؤخراً إلى أن مواقع التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر ستواصل لعب دور هام في الحراك الاجتماعي في الدول العربية، وخاصة لدى شريحة الشباب. وأكد التقرير -المعد حول الإعلام الاجتماعي في العالم العربي- أن هناك تناميا ملحوظا في العدد الإجمالي لمستخدمي موقع فيسبوك في الدول العربية بنسبة 78%, حيث ارتفع العدد من 11.9 مليون مستخدم في يناير/كانون الثاني من العام المنصرم 2010 إلى 21.3 مليون في ديسمبر/كانون الأول من العام ذاته. ” بسبب التحولات السياسية المتسارعة في الدول العربية، باتت عملية استخدام أدوات المعرفة وتقنيات الحاسوب خطوات هامة لترسيخ فكرة التواصل الاجتماعي عبر الشبكة العنكبوتية ” وأفاد التقرير بأن فئة الشباب تمثل نحو 75 % من مستخدمي فيسبوك في البلدان العربية؛ هذا مع العلم بأن عدد سكان الدول العربية قد تجاوز الـ360 مليون نسمة في بداية العام الحالي 2011. ولفت التقرير إلى أن هناك اتجاها كبيرا لتغيير نمط التواصل الاجتماعي في المستقبل، وخاصة بعد انتصار ثورتيْ تونس ومصر. واللافت أنه -بسبب التحولات السياسية المتسارعة في الدول العربية- باتت عملية استخدام أدوات المعرفة وتقنيات الحاسوب خطوات هامة لترسيخ فكرة التواصل الاجتماعي عبر الشبكة العنكبوتية لجهة خدمة التوجهات الشعبية في الدول العربية. والثابت أيضاً أنه بعد انتصار الثورات الشعبية العربية يمكن تعزيز أنظمة ديمقراطية من شأنها أن يكون الإنسان العربي هدفها الأول والأخير؛ وستسعى إلى رفع مستويات التعليم والاستثمار في مجالات البحث العلمي والثورة المعرفية؛ وهذا من شأنه أن يرتقي بالمؤشرات المعرفية العربية خلال العقد القادم. معوقات اتساع المجتمعات الافتراضية طرحت التحولات السياسية في الدول العربية أسئلة عديدة حول معوقات الثورة المعرفية في الدول العربية، وبالتالي إمكانية اتساع ظاهرة المجتمعات الافتراضية. فعلى الرغم من ارتفاع مجموع المستفيدين من الخدمات الاجتماعية، وتحسن المؤشرات الاجتماعية في عدد كبير من الدول العربية، مثل: معدلات القراءة بين البالغين والشباب، إضافة إلى معدلات الالتحاق بمراحل التعليم المختلفة، ومتوسط العمر المتوقع وتراجع معدلات الوفيات؛ وكذلك التحسن الملحوظ في مستويات التعليم والصحة حسب التقارير الاقتصادية الصادرة عن صندوق النقد العربي خلال السنوات القليلة الماضية، فإن الثابت أن ثمة أزمات حقيقية ما زالت ماثلة للعيان؛ تهدد إلى حد كبير الإنجازات المشار إليها؛ وكذلك تعتبر في نفس الوقت من المعوقات الأساسية للثورة المعرفية في العالم العربي. ومن تلك الأزمات انتشار وتوسع ظاهرة الفقر؛ والفقر المدقع، والبطالة؛ والأمية. وفي هذا السياق يمكن القول إن ظاهرة الأمية الآخذة في التفاقم بسبب معوقات التعليم والارتفاع الكبير في مجموع السكان -حيث يتعدى معدل النمو السكاني في غالبية الدول العربية 3% سنوياً- تعتبر من المشكلات المستعصية في الدول العربية، وقد سعت غالبية الدول إلى الحد من اتساع تلك الظاهرة، لكن ببطء شديد. وتشير تقارير التنمية البشرية الصادرة عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، وكذلك التقارير الاقتصادية العربية الصادرة عن الجامعة العربية وصندوق النقد العربي، إلى أن نصف مجموع الإناث العربيات البالغات، ونحو ربع الإناث الشابات هن من الأميات. كما تشير إلى أن معدل الأمية بين البالغين في الدول العربية بقي في حدود 36% خلال عاميْ 2009 و2010. وفي مقابل ذلك سجل مؤشر الأمية بين الشباب العربي بشكل عام نحو 19% من إجمالي مجموع الفئة المذكورة التي تصل نسبتها إلى نحو 20% من إجمالي سكان الدول العربية خلال عام 2011. وتتفاوت المعدلات بين دولة عربية وأخرى، وقد سجل المعدل الأدنى في دول مجلس التعاون الخليجي. كما تشير المعطيات إلى ارتفاع معدلات الأمية لدى الإناث مقارنة مع الذكور في غالبية الدول العربية. وتوجد أكبر فجوة للنوع الاجتماعي في كل من المغرب وموريتانيا واليمن؛ حيث يوجد خمس إناث بالغات ملمات بالقراءة والكتابة مقابل عشرة ذكور بالغين ملمين بها. وعموماً يوجد معظم الأميين في الأرياف العربية التي تستحوذ على القسم الأكبر من مجموع السكان في الوطن العربي؛ وفي هذا السياق لابد من الإشارة إلى أن نسبة سكان الأرياف تصل إلى نحو 60% من سكان غالبية الدول العربية. وعلى سبيل المثال لا الحصر تبلغ نسبة الأميين من الشباب في الريف ضعفيْ ما هي عليه في المدن في كل من الجزائر والمغرب ومصر وتونس. ” بعد انتصار الثورات الشعبية العربية وإقامة نظم تعبر عن مصالح الجماهير العربية، تمكن تهيئة الظروف للحد من معوقات الثورة المعرفية، وتعميم فكرة المجتمعات المعرفية في العالم العربي ” كل ذلك ينعكس سلباً على مستوى الأداء الاقتصادي بالمعنى العام وبمعناه المعرفي أيضاً. ومن الأزمات التي تعاني منها المجتمعات العربية عدم الاستفادة بالشكل المطلوب من تكنولوجيا المعلومات والاتصالات؛ وتعزى الفجوات الكبيرة في هذا المجال بين الدول العربية وبعض الأقاليم في العالم إلى عدة أسباب؛ من أهمها الكلفة العالية لهذه التكنولوجيا مقارنة بمتوسط الدخل المنخفض في بعض الدول العربية، ناهيك عن ارتفاع معدلات الأمية وضعف الإلمام باللغات الأجنبية والمهارات المطلوبة لاستخدام هذه التكنولوجيا حتى بين المتعلمين. وبطبيعة الحال تتوافر بعض أدوات هذه التكنولوجيا في مناطق وجود مستخدميها، أي في المناطق التي يقطنها الميسورون والمتعلمون، ويقل وجودها في الأرياف والأحياء الفقيرة، الأمر الذي يزيد من الفجوة المعرفية وانعدام المساواة وتكافؤ الفرص بين فئات وشرائح المجتمعات العربية. وتبقى الإشارة إلى أنه بعد انتصار الثورات الشعبية العربية وإقامة نظم تعبر عن مصالح الجماهير العربية، تمكن تهيئة الظروف للحد من معوقات الثورة المعرفية وتعميم فكرة المجتمعات المعرفية في العالم العربي؛ ومن ثم تخصيص مزيد من الموارد المالية العربية للارتقاء بالاقتصاد المعرفي لخدمة الإنسان العربي الذي انطلقت الثورات الشعبية العربية من أجله. (المصدر: موقع الجزيرة.نت (الدوحة – قطر) بتاريخ 13 أوت 2011)
<