سهيل الغنوشي لا شك أن تركة قرن من الوهن الذي مهد للاستعمار والاستبداد ثقيلة جدا، وأن المفاجأة كانت كبيرة، وأن السيولة -وليس التخبط والتناحر- من طبيعة الفترات الانتقالية.
ولكن مع استعادة الشعوب لإرادة التغيير (الشعب يريد) والأمل والثقة بالنفس، ومع استعدادها لدفع استحقاقاته، زالت العقبة من أمام العمل الإصلاحي الذين كان متعذرا وسقطت الأعذار ومبررات العجز، فانكشفت المعضلة الحقيقية التي كانت ولا تزال بالأساس أزمة قيادة: فقر أو فراغ قيادي وهوس التنظيمات بالسلطة بأي وسيلة وثمن.
فالشعوب كانت ولا تزال تفتقر إلى قيادة وطنية ومشروع وطني للنهوض يوحد أطياف الشعب ويستنفرها بصورة مستديمة، ويحقق المطلوب بأقل التكاليف من دون المس بالحرية والتعددية والتنوع، وهو ما توفر في التجربة التركية وشكل مفتاح نجاحها.
ذلك ما أكدته الثورة من خلال الطريقة الشعبية التي تمت بها، مستغنية عن أي قيادة ومتجاوزة للنخب والأحزاب التي عادت لتؤكد طبيعة الأزمة من خلال ارتباكها وأدائها الباهت وصراعها على السلطة بعيدا عن أهداف الثورة وهموم الشعب وتطلعاته، وهو ذات الصراع المزمن الذي كان وراء الجمود والمأزق اللذين استحكما قبل الثورة (مع بعض التغيير في الأدوار والمواقع)، والذي كثيرا ما أوقع الأحزاب في التناقض وتذبذب المواقف وازدواجية الخطاب. » الشعوب بحاجة إلى قيادات وطنية شعبية متجردة ومتحررة خادمة للناس وقريبة منهم حريصة عليهم وتشعر بآلامهم وحاجاتهم، دون أن تكون مفروضة على الناس بقوة التنظيم والدعاية » وهو صراع محكوم بالمكاسب الحزبية العاجلة ولو تعارضت مع المصلحة الوطنية أو مع استحقاقات المستقبل. وبدل أن تتنافس الأحزاب في خدمة الناس والنهوض بهم وإصلاح أوضاعهم، جعلتهم جسر عبور ووقودا لصراعاتها على السلطة، كل بطريقته.
الفقر القيادي لا يعني نقصا في المبدعين والخبراء في شتى المجالات، ولكن نقصا في الشخصيات والهيئات التي تمتلك أهدافا وإستراتيجيات محددة محكومة بالمصالح الوطنية وموازين القوة ومبنية على تقدير دقيق للموقف والإمكانات والكلفة والجدوى والسيناريوهات، مع الإبقاء على كل الخيارات مفتوحة. ومن دون ذلك يتحول العمل السياسي إلى عبث وتهريج وصراع انتهازي أجوف على السلطة من أجل السلطة.
فالشعوب بحاجة إلى قيادات وطنية شعبية متجردة ومتحررة خادمة للناس وقريبة منهم، حريصة عليهم وتشعر بآلامهم وحاجاتهم، تثبت جدارتها في المجتمع بمؤهلاتها وأطروحاتها وإنجازاتها في النهوض بالوطن والمواطن، دون أن تكون مفروضة على الناس بقوة التنظيم والدعاية، وهي قيادات لا يمكن إلا أن تكون مستقلة أو نتاج تشكيلات وطنية مفتوحة وشفافة وديمقراطية، تقدم المصلحة الوطنية وتكون فيها الكلمة العليا للكفاءة والعطاء للوطن والشعب والقضية، وهنا تكمن المعضلة.
فجل التنظيمات لا تتوفر فيها هذه الشروط ومن ثم لا تفرز سوى كوادر حزبية لا تستطيع أن تعيش خارج التنظيم ولا تفكر إلا في التمكين له ولا تقدر على شيء من دونه. فهي تنظيمات قامت لتحكم وتتحكم وليس لتقود وتخدم، وبالتالي فهي بحاجة إلى تجميع أكبر عدد من الأعضاء والعاملين والأنصار والناخبين، وليس إلى صناعة قيادات شعبية ووطنية متميزة. بل إن كثيرا من التنظيمات من يعيق -بشكل أو بآخر- تحوّل كوادره إلى قادة مجتمع.
القصور القيادي والهوس بالسلطة أثمرا الأسباب المباشرة لتعثر الثورة وارتباكها والمتمثل في القراءة المبتسرة لما حدث في تونس ومصر، واختزال الثورة في إسقاط النظام الذي أصبح الغاية القصوى والمعيار الوحيد للنجاح، والأخطاء الفادحة في تحديد الأهداف والأولويات وفي تقدير الموقف والتعاطي مع عوامل وأطراف محلية وإقليمية ودولية مؤثرة (مما بدد الزخم الثوري في معارك جانبية وحال دون استثمار اللحظة الفارقة التي صنعتها الشعوب).
ساد الاعتقاد بأن النظام سقط وحان قطاف ثمار التغيير، وأن الديمقراطية أنجزت ولم تعد بحاجة إلا إلى دستور وانتخابات لإزاحة بقايا النظام وتسلم السلطة منهم، وفسر هروب بن علي وتنحي مبارك بعد بضعة أسابيع من الاحتجاجات بأن إسقاط النظام عملية سهلة وسريعة فأفرطت الشعوب في الثقة والتفاؤل واندفعت بقوة.
أهمل عامل المفاجأة الذي كان حاسما في تونس ومصر ثم سقط بعد ذلك، وبسقوطه لم يبق مجال للاستسهال والاستنساخ. وأهمل الاختلاف الكبير في الظروف الجيوسياسية لكل بلد وطبيعة نظامه، مما يؤثر على قدرة النظام على « الصمود » وكلفة الثورة وحظوظ انتصارها. تدفقت الشعوب نحو الشارع تنادي بإسقاط النظام، وشاع هروب القذافي بعد يومين من المظاهرات كما شاع قرب سقوط طرابلس بعد أيام من المواجهة، واعتمدت بعض الأحزاب والقيادات السياسية لغة التبكيت والإقصاء فزادت من تماسك وشراسة فصائل الثورة المضادة الذين لا يزالون يمسكون بمفاصل الدولة.
أما تجاه الأطراف الإقليمية والدولية فقد تراوحت المواقف بين الإنكار والمكابرة والاستقواء والتفسير التآمري والاستخفاف من خلال خطاب أفقدته الضبابية والمبالغة والازدواجية الكثير من المصداقية، يقابل ذلك مواقف ساذجة تجاه تلك الأطراف وتفسيرات سطحية وأحادية لتحركاتها وإقبالها.
افتقرت شريحة ثورية للخبرة وانشغلت أخرى بمكاسبها وصراعاتها وبالانتخابات واستحقاقاتها وتخدر الشعب بنشوة الانتصار وبالحرية، بينما استفاق الفريق الآخر من الصدمة وتماسك ورتب أوراقه فحد من خسائره واستعاد توازنه وزمام المبادرة، وتداعت القوى المحلية والإقليمية والدولية المتضررة من التغيير للتصدي لأي تسونامي ديمقراطي في المنطقة العربية ولأي تساقط سريع لحجر الدومينو، من دون ترتيبات مسبقة. » موقف الجيش في تونس ومصر حال دون إجهاض الانتفاضة، ولكنه حال أيضا دون إسقاط النظام, فكان الذي حدث خليطا بين انتفاضة شعبية وانقلاب عسكري » القراءة الشاملة والمعمقة لما حدث في تونس ومصر وللواقع كانت لتدفع الشعوب والأنظمة باتجاهات أخرى. فالنظام لم يسقط في أي بلد ولن يسقط بالاحتجاجات والاعتصامات وحدها، ولا بالانتخابات التي هي آلية للتداول على السلطة في نظام ديمقراطي قائم وليس لإسقاط نظام وتعويضه بآخر.
موقف الجيش في تونس ومصر حال دون إجهاض الانتفاضة، ولكنه حال أيضا دون إسقاط النظام. فكان الذي حدث خليطا بين انتفاضة شعبية وانقلاب عسكري، ولذلك وجدت البلاد نفسها في مرحلة بين مرحلتين: بين الحكم المطلق وسلطة الشعب، وبالتالي فإن الشباب والشعب بحاجة إلى التحلي بالصبر وخفض سقف التوقعات دون فتور أو خفض لسقف الطموحات، ومع الحفاظ على اليقظة والتعبئة والضغط.
ولا مبرر للإحباط وخيبة الأمل، فهم كسبوا جولة مهمة في معركة طويلة كانت في اتجاه واحد فجعلوها متكافئة، واستكمال الثورة وتحقيق أهدافها يقتضي نفسا طويلا وخوض معارك مختلفة في ميادين مختلفة وبوسائل مختلفة، ومن خلال خلق حقائق على الأرض (سياسة الأمر الواقع)، بالتوازي مع الضغط لتطهير النظام وتسريع وتيرة الإصلاحات.
فالثورة لم تكن ضد النظام بل كانت ثورة على الأوضاع المتردية، والغاية ليست إسقاط النظام وإنما الإصلاح الجذري الذي يشمل النظام والأوضاع والأفراد، وما حدث لا يمثل سوى الخطوة الأولى وربما الأسهل في عملية تغيير طويلة ومعقدة وشاقة ومحفوفة بمخاطر الانتكاس والانحراف.
لا توجد سوابق ولا مؤشرات على انتخابات في دولة غير ديمقراطية تم بموجبها تسليم الحكم أو إزاحة نظام يمسك بمفاصل الدولة. وأي محاولات أتت بنتائج عكسية بل كارثية. ويوشك التاريخ أن يعيد نفسه، والجنون يعرف بأنه تكرار الفعل نفسه وتوقع نتائج مختلفة.
النظام تسقطه حرب كثيرا ما تحتاج إلى دعم خارجي أو نوع آخر من الثورات كالثورة الإيرانية التي لا تتوفر شروطها في الحالة العربية. أما الديمقراطية فما زالت بعيدة المنال ودونها خرط القتاد. فلا مبرر للتنافس المحموم بين الأحزاب والهوس بالانتخابات.
ولن تتحقق الديمقراطية بمجرد تشكيل أحزاب وصياغة دستور وإجراء انتخابات، فجل البلاد العربية لم يتحقق فيها استقلال حقيقي ولم تبن فيها دولة مؤسسات، بل قامت فيها سلطة قمع وامتيازات وتصريف أعمال لا تملك قرارها ولا تختلف كثيرا عن سلطة رام الله.
فالصراع على الحكم والجدل حول كيفية إدارة الدولة (وتوزيع الثروة) سابق لأوانه، لأنه لا توجد دولة مستقلة حتى يتنافس الأحزاب على إدارتها، ولا تنمية حقيقية حتى يختلف في توزيع ثمارها، ولا ديمقراطية مستقرة وناضجة تتحمل منافسة حزبية شرسة.
فالدولة والاقتصاد والمجتمع والإنسان بحاجة إلى إعادة صياغة وبناء، وإلى التخلص من الكثير من الرواسب قبل التنافس الحزبي الذي ينبغي أن يؤجل إلى ما بعد الفترة الانتقالية التي هي مرحلة بناء الدولة وإرساء الديمقراطية وتستدعي التدافع المقيد بالتوافق على المصالح الوطنية العليا من دون هيمنة أو إقصاء.
ويجب أن يقاوم الشعب المناكفة الحزبية وهوس الأحزاب بالسلطة، وألا يرضى بعد الثورة والتضحيات بغير تغليب المصلحة الوطنية، وحصر النقاش والتنافس حول الأطروحات والبرامج العملية للنهوض بالوطن وخدمة الصالح العام، فذلك خلاف يسهل احتواؤه وإدارته، ولا يحول دون التعاون والاحترام المتبادل والتواصل والتفاوض على عكس الخلافات التي تستدعي الحمية وتشحن الأجواء وتدفع إلى القطيعة والصدام. فحتى في الديمقراطيات العريقة والمستقرة، كثيرا ما تضر التجاذبات الحزبية بالبلاد وتنفر المواطنين من الشأن العام. ولذلك عادة ما تتوافق الأحزاب على القضايا الجوهرية، فما بالك في بلاد تبنى فيها الديمقراطية بل تبنى فيها الدولة نفسها.
أما الأنظمة فعليها أن تدرك أن إرادة الشعب لا تقهر، خاصة بعدما كسر الشعب حاجز الخوف وتمكن من وسائل تجاوز بها القبضة الأمنية والتعتيم الإعلامي لتنسيق الجهود والتعريف بقضيته بالصوت والصورة، مما أضعف موقف النظام وعدل ميزان القوة المختل، وبالتالي لم يعد بالإمكان فرض الإرادة من جانب واحد، خاصة أن الأوضاع غير قابلة للاستمرار والأنظمة تخلفت كثيرا عن زمانها وعن شعوبها، فتعاظمت الفجوة واتسع الخرق على الراقع، ولم يبق من خيار سوى إصلاحات جذرية أو رحيل مهما تأخر ومهما كلف.
وبدل المكابرة والاستنفار الأمني والبطش، كان عليها أن تستبق الأحداث وتبدأ من حيث انتهى النظام في تونس ومصر، فمبادرة النظام بإصلاح جدي هي السبيل الوحيد للحفاظ على وجوده.
كل ذلك لا يعني أن الشعوب أخطأت في الانتفاض على أنظمتها، ولكن بعد سقوط عنصر المفاجأة أصبح الأمر يتطلب درجة أعلى من التنظيم والتخطيط وطريقة مبتكرة ومختلفة عن الوصفة العفوية التي نجحت في تونس ومصر أساسا بسبب عنصر المفاجأة وبسبب خصوصيات أخرى قد لا تتوفر في غيرهما من البلدان، وبالتالي فهي غير قابلة للاستنساخ. » تعثر التجربة في كل من تونس ومصر أثبت أن البلاد العربية غير مهيأة لتغيير سريع, كما ثبت أن الحل الأمني لم يعد يجدي مع شعوب كسرت حاجز الخوف واستعادت إرادتها وثفتها بنفسها » كما أثبت تعثر التجربة في كل من تونس ومصر أن البلاد العربية غير مهيأة لتغيير سريع. كما ثبت أن الحل الأمني لم يعد يجدي مع شعوب كسرت حاجز الخوف واستعادت إرادتها وثفتها بنفسها ومصرة على الحرية والعدالة والكرامة بأي ثمن (الموت ولا المذلة). لم يبق إذن للشعب والنخب والنظام في كل بلد إلا أن يبتكروا وصفة وآلية للتغيير تتناسب مع أوضاع البلد، دون مكابرة ودون دفع نحو الانسداد أو المجهول. فالتغيير قادم لا محالة لأن الشعوب أدركت أنه ضروري وممكن، وهو في مصلحة الجميع حتى المستفيدين من الوضع الراهن إذا أرادوا أن يتجنبوا مصير بن علي ومبارك والقذافي وصالح وزمرتهم.
مطلوب أن يتحمل كل طرف بل كل فرد مسؤوليته ويقوم بدوره.. مطلوب من الشعب اليقظة والضغط المستمر على النخب الحاكمة والمعارضة حتى تتحمل مسؤوليتها في رسم خريطة طريق تحقق التغيير المنشود بأقل التكاليف، وتجنب البلاد الشلل والفوضى والتدخلات الخارجية. مطلوب أن يوجه هذا الضغط الإيجابي بحيث يقوي موقف وحجة الوطنيين والمعتدلين وأنصار الإصلاح في السلطة والمعارضة لتهميش العناصر الانتهازية والعدمية، وليس العكس.
لا شك أن الثورة كانت بديعة وأنجزت الكثير وأوجدت ديناميكية جديدة وكسرت أصل الداء: كسرت حاجز الخوف وكسرت معه الحكم المطلق والجمود المستحكم، وعدلت ميزان القوة المختل بين السلطة والشعب، وأحيت في الشعوب شعور المواطنة والروح الوطنية والأمل، وأبرزت قيادات شابة واعدة، وفتحت الباب على مصراعيه للإصلاح ولتحول ديمقراطي طويل وعسير يجمع بين البناء والإصلاح والمحاسبة، وتلك عملية دقيقة لن تخلو من منغصات ومطبات.
لم يعد الإصلاح المنشود بحاجة إلى اقتلاع للنظام قد يستدعي تدخلا خارجيا أو يصحبه انهيار كلي، ولكن بحاجة إلى تواصل الضغط عليه لتطهيره وترويضه وإصلاحه على الطريقة التركية، وبالتوازي العمل على تثبيت المكاسب وتحصين « المساحات المحررة » وتقوية مناعة المجتمع بإصلاح الأفراد والأوضاع وتفعيل المواطن والمجتمع المدني والتخطيط للمستقبل.
فقد قامت في تركيا ثورة هادئة وحققت أهدافها في ظروف مشابهة: ديمقراطية معطوبة، بل دكتاتورية مقنعة ودولة يمسك بمفاصلها العسكر والخصوم، واقتصاد منهار وفساد متفش وثورة مضادة متغلغلة. وقد نجحت القيادة بحكمتها وواقعيتها وتجردها وكفاءتها وتقديمها للمصلحة الوطنية في تحقيق التغيير الشامل المنشود، مع الحرص على تخفيض الكلفة على الشعب. وقد أفسح الربيع العربي المجال لاستلهام هذا النموذج لو توفرت له القيادة المطلوبة.