19 juin 2002

محمد مواعدة … اللعوب!!!

يعتبر محمد مواعدة من خلال مسيرته السياسية الرجل السياسي الانتهازي اللعوب الذي ليس له مبدأ و لا يستقر على حال، مثله في المجال السياسي كمثل سكير عربيد متسلط على مقود سيارة يتيه بها من أقصى اليمين إلى أقصى الشمال و من أقصى الشمال إلى أقصى اليمين. و قد أضرت مسيرته هذه بالحياة السياسية بالبلاد من جانب المعارضة على الأقل ضررا فادحا. و أفقدت هذه الأخيرة مصداقيتها و زادت في تنفير الشعب منها.

و إذا تجاوزنا بداية حياته السياسية في الحزب الحاكم و الذي انسلخ عنه بسبب عدم بلوغه أطماعه و عجزه على الوصول إلى مواقع مرموقة في أجهزته و في أجهزة الحكم عن طريقه، انسلخ عنه و التحق بحركة الديمقراطيين الاشتراكيين التي أسسها السيد أحمد المستيري. و لما أدرك هذا الأخير، بحسه السياسي المرهف، بعد انقلاب 11ـ7 أنه لم يعد هناك مجالا لحياة سياسية سليمة و لو في حدها الأدنى في البلاد، ترك حركته و اعتزل السياسية. و قد اغتنم مواعدة هذا الفراغ الحاصل في موقع قيادة الحركة و تولى قيادتها في أجواء داخلية خاصة بها لا نعلم عنها كثيرا. و منذ توليه القيادة دخل مواعدة في « الهز و السبط ». فألزم الحركة موالاة الحاكم المستبد و تأييده في حربه الاستئصالية الآثمة التي شنها ضد حركة النهضة التي ذهب ضحيتها مئات الأرواح البريئة و عذب و سجن نتيجتها عشرات الآلاف من الأبرياء و جوع و عزل و حوصر ما يقرب من المليون شخص من أقارب الضحايا و متعاطفيهم. و أصدر باسم حركة الديمقراطيين الاشتراكيين عديد البيانات المؤيدة لسياسة الجنرال الحاكم. كل ذلك بنية الحصول من طرف هذا الأخير على بعض الفتات من المصالح و المواقع . إلا أنه لم يحصل على شيء و في المقابل تسبب في شق صفوف حركته حيث انشق عنها السيد مصطفى بن جعفر و جمع من رفاقه بسبب عدم موافقتهم للسياسية الموالية للسلطة التي فرضها مواعدة على الحركة.

و لما أراد مواعدة الضغط على الجنرال بن على، من أجل إرغامه على أن يمكنه مما يريد، و ذلك بتصعيد نقده للحزب الحاكم و لجهاز الحكم، ما كان من حليفه الجنرال إلا أن أودعه السجن ملفقا ضده بعض التهم الخطيرة التي وصلت إلى حد الاتهام بالخيانة العظمى و العمالة إلى الليبيين. فانشقت حركته مرة ثانية، فذهب « بو لحية » بقسط وافرا منها، بمساعدة كبيرة من الجنرال، و بقي مواليا للسلطة الحاكمة خادما لمصالحها. من جهة أخرى، قضى مواعدة مدة في السجن، و نهضت المعارضة و مؤسسات المجتمع المدني إلى الدفاع عنه و المطالبة بإطلاق سراحه. و نظمت حملات تحسيسية بذلك في الخارج نتج عنها تشديد الضغوط الخارجية على الجنرال بغاية إطلاق سراحه، وهو ما حصل في الأخير. و بعد خروجه من السجن تبنى مواعدة خطابا ناقدا نقدا لاذعا للسلطة. و قام بتجاوز الخطوط الحمراء المعتبرة كذلك من قبل السلطة. فكرر الزيارات للشيخ راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة، و كذلك الحوار تلو الحوار مع قناة المستقلة، لما كان صاحبها في حملة ضغط مؤقت ضد الجنرال للحصول على ما يريد من مصالح مادية أيضا. و انتهى مواعدة بإمضاء بيان استراتيجي مع حركة النهضة يدعو إلى رفض التجديد للجنرال في ولاية رابعة و إلى إقرار الحريات و التعددية السياسية الحقيقية، و يدعو أيضا بقية فصائل المعارضة إلى الالتحاق للإمضاء على هذا البيان. و عند دخوله إلى البلاد من جولته في العديد من العواصم الأوروبية على رأسها لندن وقع اعتقاله من أجل خرقه للقوانين الواهية التي سنها نظام الجنرال غير الشرعي و من أجل إتمام قضاء فترة العقاب التي أسقطت عنه لما حظي بالسراح الشرطي. و قد حصلت بالمناسبة حملات إعلامية خارجية واسعة للمطالبة بإطلاق سراحه. و قبل خروجه من السجن هذه المرة راجت شائعات ملحة حول حصول مفاوضات بينه و بين الإدارة. و ذهبت هذه الشائعات إلى حد القول بأن الجنرال قد يقبل من أجل تمرير ترشحه لفترة رئاسية رابعة باختيار مواعدة كوزير أول، تماما على منوال المغرب لما اختار الحسن الثاني الراحل عبد الرحمان اليوسفي من المعارضة على رأس الحكومة. إلا أننا نرى أن ذلك سوف لن يقع أبدا بسبب تناقضه التام مع عقلية الجنرال المتحجرة و الرافضة للتفريط في أي جزئية من السلطة لغيره. و بالتالي فإن مواعدة يمكنه الانتظار و لو أن انتظاره على ما يبدو سيطول كثيرا.

و بعد خروجه من السجن في هذه المرة لم يبد مواعدة خطابا حادا ضد السلطة مثلما فعله في المرة الأولى، مكتفيا في معظم الأحيان بالصمت أو بمواقف فاترة للغاية، وهو ما يؤكد تلك الشائعات القائلة بحصول اتصال بينه و بين السلطة قبل خروجه من السجن.

و بعد مهزلة الاستفتاء على تنقيح الدستور في 26 ماي 2002 طالعتنا الأخبار بحصول صلح مفاجئ بين أجنحة حركة الديمقراطيين الاشتراكيين الثلاثة المنازعة على تمثيل الحركة و كأنه لم يقع شيء من قبل أبدا. و أكد مواعدة بأسلوب الرجل السياسي التعيس، أسلوب « كاد المريب أن يقول خذوني »، أنه ليس للسلطة دور البتة في هذا الصلح، كما أكد تفاؤله و ثقته في المرحلة اللاحقة للاستفتاء على تنقيح الدستور على مجريات الأمور السياسية في البلاد وهو ما يفيد ضمنيا أنه قد تلقى وعودا و تطمينات من قبل الجنرال، متناقضا مع ما كان يدعو إليه من مقاطعة الاستفتاء، و متناقضا أيضا مع ما كان يطرحه من خطاب نقدي لاذع للجنرال المستبد و كأنه اكتشف فيه شخصا جيدا متميزا و حاكما محنكا و مقتدرا لم يعرفه من قبل، عائدا بذلك إلى خطاب التطبيل و الدربكة إلى ما يسميه « سيادة الرئيس زين العابدين بن علي » الذي عرف به في نهاية الثمانينات و مطلع التسعينات من القرن المنصرم !!!

و يتساءل المرء كيف يمكن أن يصل إلى هذا الحد من التلاعب الصبياني هذا الشيخ الهرم مواعدة؟؟ إلى هذا الحد يتنصل من آخر ذرة من الحياء و المعقول؟؟ إلى هذا الحد يسيء مواعدة للمعارضة في تونس و يقضي على القليل المتبقي من مصداقيتها لدى الشعب؟؟ إنه بهذا التصرف الانتهازي المفضوح لم يسئ لنفسه و لحركته فحسب و إنما أساء لكل المعارضة الوطنية التي أيدته و وقفت إلى جانبه و دافعت عنه عند محنته الأولى و الثانية. و نحن نسأل مواعدة قبل أن يقف هذا الموقف المخزي هل استشار السيد راشد الغنوشي رئيس حركة النهضة الذي أمضى معه بيانا استراتيجيا يدعو إلى مقاطعة الجنرال؟ هل استشار رؤساء الأحزاب الثلاثة التي أمضت معها حركته اتفاقية وفاق ديمقراطي يقضي بعودة كل طرف من الأطراف الأربعة إلى البقية قبل القيام بأي عمل سياسي هام يمس ببقية الأطراف الممضية على اتفاقية الوفاق؟ و نحن نسأل مواعدة أيضا هل قبض على الأقل ثمن انتهازيته و تلاعبه أم حصل فقط على وعد بالقبض؟

لقد أضر مواعدة ضررا بليغا بمفهوم الديمقراطية التي تنتسب إليها حركته، و قضى بموقفه المخزي الجديد على إمكانية تصديق أي كان من الشعب بجدية التوجه الديمقراطي، الذي نسب نفسه إليه كذبا و مزايدة، و لا لأي طرف من المعارضة يدعي ذلك و ينسبه لنفسه. لقد تبين أن مواعدة ليس مهتما بمسألة الحريات و لا الديمقراطية في البلاد بقدر اهتمامه بمصالحه الشخصية الخسيسة أو على الأقصى بمصالح حركته. و هذا ما يبين بكل تأكيد أنه لو يصل مواعدة بشكل أم بآخر إلى الحكم سوف لن يتصرف بأفضل ما يتصرف به حاليا الجنرال المتعجرف. لقد بين مواعدة بهذا الموقف المخزي بأن أدعياء الديمقراطية هم في الغالب ليس لهم من الديمقراطية إلا الكلام الخاوي، أما على مستوى الأفعال فإنه ليس هناك ما يميزهم عن الجنرال المتوحش إلا أنه في الحكم ماسك بكل إمكانيات البلاد و هم ليسوا فيه و ليست لهم القدرة على فرض إرادتهم على الشعب مثلما يفعل الجنرال.

بناء على كل ما تقدم، و في الوقت الذي تبرز فيه طاقات شبابية نضالية صادقة، تعيد الأمل للشعب في النصر القريب، تستهدف من طرف الجنرال للاعتقال و التعذيب مثل السيد زهير يحياوي مؤسس موقع « تونيزين » و رفاقه، فإن فضاء الحوار من أجل الحريات و الديمقراطية في تونس يستنكر موقف مواعدة المخزي، و يدعو كل الأحرار المقتنعين بكل صدق بقيم الحرية و العدالة و الديمقراطية و دولة القانون و المؤسسات في حركة الديمقراطيين الاشتراكيين أن يغادروا هذه الحركة الموبوءة و يؤسسوا حركة سياسية سليمة جديدة، كما يدعو فضاء الحوار أيضا كل فصائل المعارضة الوطنية الحاسمة في السلطة القائمة أن يقاطعوا مواعدة و حركته كما قاطعوا من قبل « بو لحية » و حركته الانفصالية العميلة و الموالية للجنرال. و قد أحسن السيد خميس الشماري لما أعلن انسحابه من الحركة متبرئا من ممارسات مواعدة المخزية.

و بالمناسبة أيضا فإن فضاء الحوار من أجل الحريات و الديمقراطية في تونس يذكر بعض من كانوا قد وقفوا لمدة طويلة إلى جانب الجنرال المتعجرف و ولغوا معه في دماء أبناء الشعب أنهم أتعس حال ديمقراطيا من مواعدة و أنهم ليسوا دعاة صادقين للديمقراطية بقدر ما هم أدعياء عليها، و أنه لا ينفعهم كثيرا تنصيب أنفسهم قساوسة أوصياء على الديمقراطية و الحريات و حقوق الإنسان، يوزعون صكوك الانتماء إليها على من يشاءون و يحرمون منها من يشاءون, لهؤلاء نقول : إنكم لستم بأفضل حال من الجنرال المتوحش و من مواعدة الانتهازي، و قد سبقت منكم الخيانة و العمالة و الإجرام و الذاكرة الجماعية ليست بالقصيرة و سوف لن تنسى لكم ذلك، و أن الشعب التونسي لم يفوض إليكم و لا لغيركم أن تتكلموا باسمه و لا أن تكونوا أولياء عليه. أما الإسلاميون فإن كانوا مسئولين أمام أحد فهم مسئولون أمام الشعب و ليس أمام أحد غيره، و ليست لهم أدنى رغبة في الجواب على أسئلة فاقد الشرعية و المنصب نفسه دكتاتورية وليا على الشعب متكلما باسمه عنوة و عدوانا و المتورط في ما حصل في البلاد من إجرام بشع، و أنهم متمسكون أيضا بضرورة معاقبة المجرمين و المعتدين مهما كان نوعهم و مهما كانت مكانتهم. كما أن الإسلاميين يذكرون كل الأدعياء على الحريات و الديمقراطية أنهم ليسوا في حاجة لمن يعطيهم دروسا في الحريات و الديمقراطية، و يذكرون كل هؤلاء أن عهد المغالطات و الكذب و البهتان قد اندرس و ولى و أن البلاد قبل أن تكون لأي كان فهي لأهلها الشرعيين.

و يدعو فضاء الحوار في الأخير كل القوى الحية في المجتمع و كل الهمم الصادقة بمختلف توجهاتها إلى مقاطعة السلطة القائمة غير الشرعية و مقاطعة كل من يقف إلى جانبها، و توحيد الصفوف و مضاعفة النضال و البذل و التضحية، على منوال زهير اليحياوي و كل الأسود الرابضين وراء القضبان، من أجل ولادة فجر جديدة يطلع علينا جميعا بتونس حرة عزيزة تنعم بالحريات و العدالة و الكرامة و الديمقراطية و دولة القانون و المؤسسات.

عن فضاء الحوار من أجل الحريات و الديمقراطية في تونس

صالح كركر

19 ـ 06 ـ 2002

Abdellatif Ben Salem: Présentation : Pour comprendre la Tunisie d’aujourd’hui

REALITES TUNISIENNES: L’ETAT de MANQUE

Politique

8 Juan Goytsolo, Retour de Tunis

: فهمي هويدي

. اذ ليس ذلك من الاستقامة او المروءة في شيء. واذا ما قلت ان الفرق كبير وانه لا وجه للمقارنة بين الحالتين. فسوف اوافقك على طول الخط، لكن ارجو الا تختلف معي في امرين: اولهما ان المظلومية تشكل قاسماً مشتركاً بينهما، والثاني اننا لا نستطيع ان نحرر الوطن قبل ان نحرر المواطن، ولا نستطيع ان نكسب اي معركة بجيش منكسر او متهور.

ادري ان الوجع الفلسطيني يهيمن على مداركنا على نحو ينسينا اوجاعاً كثيرة نعاني منها، وتلك حقيقة سياسية وعلمية مبررة، بمقتضاها يحجب الوجع الاكبر ما دونه، ويتقدم الاهم على الاقل اهمية.
لكننا من خبرة السنين ادركنا ان ثمة صلة بين تلك الاوجاع، واننا خسرنا الكبير بسبب الفصل فيما بينهما، خصوصاً حين طال بنا العهد، وتبين لنا ان تأجيل النظر في همومنا الخاصة بحجة التفرغ لمواجهة الهم الاكبر اضر بنا كثيرا ولم ينفع، فقد تضاعفت اوجاعنا الخاصة، ولم نتخلص من الوجع الاكبر، كما اننا لاحظنا انه في بعض الحالات كانت حجة التفرغ للهم والوجع الاكبر مجرد ذريعة للهروب من مسؤولية معالجة الاوجاع الاصغر، وانتبهنا ـ في وقت متأخر ربما ـ الى ان معالجة تلك الاوجاع الاصغر من الاهمية بمكان، وانه كان لها ان تتأجل، لأن من شأن ذلك العلاج ـ اذا تم ـ ان يعزز عافية الجسم وتقوية حصاناته الاخرى، ومن ثم يمكنه من الصمود في مواجهة الاوجاع الاكبر ورفع كفاءة التصدي لها.
الامر في هذه الحالة لا مجال فيه للحيرة، كما في سؤال البيضة والدجاجة، وايهما اسبق من الاخرى، اذ نحن بصدد معادلة مختلفة تماماً، في بساطة السؤال حول ما اذا كنا نضع الحصان امام العربة او العكس، حيث لا يستطيع عاقل ان ينتصر لفكرة وضع العربة امام الحصان. مع ذلك فيبدو ان العالم العربي توافق ضمنا على تأييد ذلك الوضع المقلوب، وظل على تلك الحال طيلة العقود الخمسة الاخيرة، الامر الذي اوصلنا الى ما وصلنا اليه، ومكن شارون ومن لف لفه من مجرمي الحرب الاسرائيليين من ان يعربدوا في فلسطين كما يشاءون، وشجع الادارة الامريكية على ان تشهر على الملأ تأييدها للعربدة ووقوفها بكل جرأة الى جانب القاتل فوق جثة القتيل!
ان شئت فقل ان عبثية الوضع العربي انتجت وضعاً اكثر عبثية اسرائيلياً وامريكياً، الامر الذي اصبح يفرض علينا ان نعيد النظر في المصدر الاساسي للخلل، بحيث لا نرضى بديلا عن ضرورة وضع العربة امام الحصان.

التذكير بتلك البديهيات مهم للدخول في موضوعنا. ذلك انني كنت قد انتويت ان ألفت النظر هذا الاسبوع الى ما تفعله الحكومة الاسرائيلية لتغيير خرائط الواقع، من خلال مشروعها لاقامة سور بطول يتجاوز مائة كم وبارتفاع يصل الى ثمانية امتار في بعض المواضع، لكي يفصل بين الاسرائيليين والفلسطينيين في الضفة الغربية، اضافة الى الحملة التي تقودها حكومة شارون لتنشيط الهجرة واستدعاء مليون يهودي آخر من الخارج، وتمثلت احدث حلقاتها في تهجير جاليات بأكملها مع حاخاماتها ـ وليس مجرد افراد ـ من امريكا اللاتينية وزرعها وسط فلسطين .48 هذا في الوقت الذي يناقش فيه آخرون مسألة «الترانسفير»، وكيفية التخلص من العرب الذين تتكاثر اعدادهم بشكل مقلق داخل اسرائيل، وهي عناوين كبيرة لا تلقى ما تستحقه من اهتمام من جانبنا، في الوقت الذي ننشغل فيه بالكلام عن «الاصلاحات» المفترضة في الساحة الفلسطينية، وعمليات اعادة الاستيلاء على المدن والقرى او اقتحامها في الصباح ثم الخروج منها في المساء بعد «تمشيطها» والقاء القبض على الناشطين فيها. كما اننا نتجادل حول حكاية «الدولة الفلسطينية» التي اصبحت تدغدغ مشاعرنا، في حين تتحرك اسرائيل بسرعة لتفريغها من اي مضمون له قيمة.
بينما كنت اراجع القصاصات والمعلومات التي توفرت لي حول هذه الموضوعات، وجدت الى جوارها قصاصات وشهادات اخرى تتعلق بخرائط الواقع العربي. كنت قد جنبتها لشأن آخر. وفي لحظة خطر لي ان اقابل بين الحالتين العربية والاسرائيلية. بوجه اخص بين ما يفعلونه لتعزيز مواقعهم وتحقيق احلامهم الوحشية، وبين ما نفعله نحن في بناء قدراتنا وتقوية دفاعاتنا وحصاناتنا، ونبهتني تلك المقارنة الى اننا نولي اهتماماً بنقد ممارساتهم يتجاوز بكثير اهتمامنا بعافية مجتمعاتنا، في حين ان تلك العافية هي في نهاية المطاف ذلك «الحصان» الذي نراهن عليه، بعد الاحباطات التي اصابتنا والاحزان التي تلبستنا من جراء المراهنة على الاحصنة الاخرى، والحصان الامريكي آخرها!
في اي صراع، وفي معركة التقدم بوجه عام، فإنك لن تحصد الا بقدر ما زرعت، والزرع المطلوب هنا لابد وان يكون على امتداد مختلف جهات النماء وركائز العافية. ذلك ان القوة في زماننا لم تعد مقصورة على القدرة او حتى الكفاءة العسكرية وحدها، لكن قوة المجتمعات اصبحت هي المحك والفيصل، بل هي العنصر الفاضل في الانتصار والانكسار. ووحدها المجتمعات الهشة ومتصدعة البنيان هي التي تكسرها الهزائم وتقصم ظهورها، اما الصمود والتصدي فهو حظ تلك المجتمعات التي تتمتع بمقومات العافية وتمسك باسبابها.

حتى اذا نحينا جانبا موضوع الصراع مع اسرائيل، وركزنا اهتمامنا على فكرة البقاء ومجرد الانتماء الى التاريخ، فان لذلك ايضا شروطه وحد العافية المطلوب له. ومن أسف ان واقعنا العربي يفتقد الى بعض تلك الشروط، الامر الذي يصيب المرء بخليط من الحزن والحيرة. الحزن لمجرد غياب الشروط، والحيرة ازاء الكيفية التي يتعين التعامل بها مع ذلك الموقف. فالصمت محمول بشبهة القبول والتواطؤ الضمني على استمرار الاوضاع كما هي، والكلام قد يساء الظن به، رغم انه يصب في وعاء «النصرة» ولا يرنو لأقل من تصويب الخطى والاخذ بأسباب العافية. اعني انه في النهاية «مع» ولا يمكن ان يصنف بأي حال في مربع «الضد».
ان شئت فقل انه خيار بين شرين، اولهما التواطؤ وثانيهما سوء الظن. ولان الاخير هو اهون الشرين، وهو البديل الوحيد اذا ما اختار المرء ألا يلتزم الصمت، فان القبول به يغدو مغامرة مفروضة.
بين يدي نموذجان للمظالم التي لا يجوز السكوت عليها في العالم العربي، ويتعين على كل صاحب ضمير ان يسجل انكاره لها، وتضامنه مع ضحاياها. النموذج الأول مشرقي من سوريا، والثاني مغربي من تونس. والى سوريا وضع مستجد تمنى الجميع ان يفتح صفحة جديدة تتجاوز مرارات الماضي وتداوي جراحاته. وتلبي اشواق الذين يتمنون الخير لذلك البلد العزيز على كل عربي. وفي تونس عهد مقبل على رئاسة جديدة بعد التعديل الدستوري، يتمنى المرء لو انها مسحت احزان السنوات الكبيسة التي خلت وجددت آمال الناس في المستقبل.
واذا تشهد سوريا انفتاحا اقتصاديا حذرا يتعين الترحيب به، فان المرء لا يستطيع ان يكتم احزانه إزاء ما يجري في محاكمات لبعض المثقفين والسياسيين والمهنيين، الذين كانوا في مقدمة المتفائلين بعهد الرئيس بشار الاسد والمتحمسين لاصلاحاته التي وعد بها في «خطاب القسم». هؤلاء المثقفون يحاكمون الآن بتهم عدة يعلم الجميع انها مفتعلة ولا اصل لها، وان غاية ما ينسب اليهم انهم من المعارضين السياسيين، الذين صدرت عنهم اقوال رافضة لبعض السياسات والممارسات. بعضهم كانوا نوابا في البرلمان فرفعت عنهم الحصانة وحوكموا وادينوا، وبعضهم كانوا من اساتذة الجامعة ففصلوا من وظائفهم وبعضهم كانوا محامين فخذلتهم نقابتهم وتخلت عنهم، وقدموا الى محكمة امن الدولة. وجميعهم من النشطاء الذين دافعوا عن حرية المجتمع المدني وحق الناس في التعبير. ولم يكونوا خصوما للنظام يوما ما. ولكنهم ارادوا ان يكونوا عونا له في السعي لبناء حاضر ومستقبل افضل.
احدهم ـ الاستاذ رياض ترك زعيم الحزب الشيوعي الذي قضى 17 عاما في السجن ـ ابدى رأيا في اتصال هاتفي مع قناة «الجزيرة» القطرية فحوكم بسببه، وآخرون كانوا من المحامين الذين ترافعوا عن بعض المتهمين، فاتهموا بدورهم واودعوا وراء القضبان. ومنهم من كان رئيسا لجمعية حقوق الانسان، فتحول في غمضة عين واصبح من سجناء الرأي.
هؤلاء المثقفون العشرة الذين يقفون وراء القضبان الان، يجسدون الحلم الذي راود كثيرين ممن لم يفقدوا الامل في ان يستعيد المجتمع السوري حيويته وعافيته، وقد تملكوا شجاعة دفعتهم الى الجهر بآرائهم والدفاع عن ذلك الحلم، وبدلا من الحفاوة بهم والالتفاف من حولهم، فانهم وضعوا في ذلك الموقف الذي لا يحسدون عليه، والذي لا يتمناه احد لمثقف او مواطن ايا كانت توجهاته او منطلقاته السياسية.
يحسب للملك محمد السادس، ملك المغرب، انه بعد توليه السلطة عمل على اغلاق الملفات العالقة وتصفية آثار الممارسات السلبية التي ورثها. وكان ملف المفقودين في مقدمة ما كان عالقا. فقد سويت اوضاع هؤلاء وصرفت التعويضات اللازمة لأهاليهم، فيما اغلقت السجون ذات السمعة السيئة، التي عانى المعارضون السياسيون اهوالها. ورغم ان خطى من ذلك القبيل اتخذت بصورة نسبية في سوريا، حيث افرج في العام الماضي عن عدة مئات من المسجونين السياسيين الذين أمضى بعضهم اكثر من عشرين عاما وراء القضبان، الا ان الملف لم يغلق بعد، كما ان منظمات حقوق الانسان تتحدث عن 15 ألف مفقود لا يعرف مصيرهم حتى الان.

المشهد ليس مختلفا كثيرا في تونس الا في بعض التفاصيل، فقد صدر في الشهر الماضي تقريران عن الحريات في سنة 2001، احدهما عن حقوق الانسان والثاني عن الحريات العامة. في التقرير الاول شكت رابطة حقوق الانسان في تونس من ان العام المنصرم كان «سنة انتهاك حقوق النشطاء»، واكدت ان التجاوزات التي طاولتهم بلغت رقما قياسيا مقارنة بالسنوات الماضية، وانتقدت الصعوبات الادارية الجمة التي يتعرض لها مؤسسو الجمعيات المستقبلة، وخاصة رفض السلطات الترخيص لمرصد حرية الصحافة والنشر ورابطة الكتاب الاحرار، ولجان مقاومة التطبيع ومركز تونس لاستقلال القضاء والمحاماة، الذي يرأسه الاستاذ مختار اليحياوي الذي عزل من منصبه لاعتراضه على تدخل السلطة التنفيذية في احكام القضاء.
انتقدت الرابطة «حال الاختناق التي يعيشها المجتمع المدني بسبب احتكار (السلطات) وسائل الاعلام»، وحملت دور «الوكالة التونسية للاتصال الخارجي» في «احتكار الاعلان (…) وتوزيعه بحسب الولاء للسلطة»، وافادت ان ثلاث دوريات لم يحصل اصحابها على امتياز اصدارها وهي «المقاصد» و«مغاربيات» و«كلمة» على رغم استيفائهم الشروط القانونية، مثلما قال التقرير، اشارت الرابطة ايضا الى مصادرة اعداد صحيفة «الموقف» التي يصدرها «الحزب الديموقراطي التقدمي» (معارضة) واضطرار حركات غير مرخص لها او اشخاص لاصدار صحف من دون الحصول على امتياز. وانتقدت مصادرة اعداد كبيرة من الصحف العربية والاجنبية ومنعها من التداول في الاكشاك بما فيها عدد من جريدة «لوموند» الفرنسية تتضمن مقابلة مع وزير الاتصال (الاعلام) وحقوق الانسان (قبل عزله)، كذلك انتقدت «مصادرة اكثر من عشرين كتابا خلال العام الماضي».
وكشفت الرابطة ان شبكة الانترنت تخضع لرقابة «الوكالة التونسية للانترنت» (قطاع عام) والتي تشرف عليها وزارة الاتصالات. واضافت ان الرقيب «يقطع الاتصال ويقفل طرق الارتباط (على المستخدم) ويحاصر بريده الالكتروني اضافة الى منع الوصول الى المواقع المحظورة».
تطرقت الرابطة الى ظاهرة احتجاز جوازات سفر معارضين سياسيين ونشطاء حقوق انسان وقدرت اعداد المحرومين من الجوازات بـ «بضع مئات غالبيتهم من السجناء السابقين وافراد اسرهم»، كذلك انتقدت غياب ضمانات «استقلال القضاء وانحسار مجال تدخله»، وخصصت الرابطة بابا رئيسيا من تقريرها للاوضاع في السجون، وأحصت تسع وفيات اما بسبب «المعاملة القاسية» او بسبب «الاهمال الصحي»، وأشارت الى شن المعتقلين سلسلة من الاضرابات عن الطعام لطلب تحسين اوضاعهم، واعتبر التقرير ان «التعذيب والمعاملة القاسية والمهينة ما زالت ظواهر شائعة داخل السجون التونسية».
اما التقرير السنوي الذي اصدرته جمعية الصحفيين التونسية، فقد احدث دويا وضجة في الاوساط السياسية، ادت الى عزل وزير الاتصال (الاعلام) وحقوق الانسان السيد صلاح الدين معاوي، لانه لم يستطع الحيلولة دون اعلان ذلك التقرير.
انتقد التقرير الفجوة بين الخطاب السياسي الرسمي وحقيقة الممارسة المهنية التي بقيت دون المستوى الذي دعا اليه رئيس الدولة، واكثر ترديا مما يصبو اليه الصحفيون، وحمل على الرقابة التي قال ان الصحفيين يخضعون لها، واشار الى وجود «خطوط حمراء تتغير في اليوم الواحد اكثر من مرة». وانتقد «تردد المؤسسات الاعلامية في تغطية الاحداث الساخنة، وانتظار ما (تبثه) وكالة الانباء الرسمية»، وكشف انه «يمنع الخوض في المواضيع التي تمس الوزارات خصوصا وزارات السيادة»، وحذر من ظهور «رقيب جديد بدأ نفوذه يتوسع يوما بعد آخر هو الاعلان الذي صارت له الكلمة الفصل في تحديد ما ينشر وما لا ينشر في صحفنا».
ادان التقرير تعرض صحافيين للاعتقال دون تحديد اعدادهم او الفترات التي امضوها في الحبس، لكنه اشار الى اعتقال الصحافية سهام بن سدرين الصيف الماضي في مطار تونس في اعقاب مشاركتها في برنامج تليفزيوني في لندن واحالتها الى القضاء، وحجب جواز الصحافي توفيق بن بريك العام ألفين اضافة الى حادثة اطلاق النار على الصحافي رياض بن فضل في اعقاب نشره مقالا في صحيفة «لوموند» من دون القاء القبض على الجناة حتى اليوم.
اشار التقرير الى ان الصحف المحلية «تتعرض لضغوط ترمي الى منعها من نشر مقالات او بيانات لمنظمات غير حكومية او احزاب معارضة خصوصا عندما تكون البيانات نقدية تجاه السلطات»، كما انتقد اوضاع الاعلام السمعي والمرئي وقال ان حاله «اسوأ بكثير من حال الاعلام المكتوب»، وحذر من كون «نصف الشعب التونسي يهجر بلده في كل ليلة بحثا عن المعرفة والترفيه».
من المفارقات اللافتة للنظر في هذا السياق انه في اعقاب صدور التقرير، قال صحفيون قريبون من حزب التجمع الدستوري الحاكم انهم بدأوا حملة لجمع التوقيعات على طلب لسحب الثقة من الرئيس الحالي لجمعية الصحفيين محمد بن صالح، وتعيين شخص آخر «اكثر وطنية مكانة».

اصلاح مثل هذه الاوضاع المختلة في الواقع العربي هو التعبير الوحيد عن فكرة وضع الحصان امام العربة، الذي من شأنه ان يقوم العوج قبل أي تفكير في الانطلاق نحو اي هدف، سواء تمثل ذلك في تحرير الارض او النهوض بالمجتمع، وانجاز تلك الخطوة مهم للغاية، ان لم يكن لبلوغ الاهداف المرجوة، فعلى الاقل لاعادة الامل الى شعوبنا المحبطة، التي اصبح المستقبل بالنسبة لها بمثابة لوحة قاتمة وافق مسدود، ومن نماذج ذلك الاحباط ما كتبه احد الادباء السعوديين، الاستاذ عدنان كامل صلاح، في صحيفة الشرق الاوسط