«كل بلاد وأرطالها»… مثل تونسي مرادف لمثيله الفرنسي «حقيقة قبل جبال البيريني، خطأ ما وراءها» أو للقاعدة الأولى الـ»طاوية» (ديانة وضعية صينية نشأت 12 قرنا قبل الإسلام) : «الحقيقة التي تريد التعبير عنها ليست الحقيقة المطلقة»… كل هذه النسبية التي لا نكتشف حاجتنا لها وخيراتها علينا إلا حينما نكون قد أخطأنا في حق أنفسنا أو حق الآخرين أو الاثنين معا، لم نكن، نحن الأطفال الذين كنا، لنؤمن بها في طفولتنا القروية بالشمال الغربي التونسي… كل ما كنا نشاهده ونتذوقه ونعايشه ونشعر به إن التماسا أو نفورا، حبا أو كراهية، واقعا أو خيالا في الحدود الذهنية والمادية التي كونت فضاء معاشنا القروي، كل ذلك كان المطلق بعينه ولا شيء غيره ومن خرج عنه فهو لم يكن منا… كنا صرة العالم والعالم تحتضنه قريتنا أو حتى حومتنا وكل ما هو خارج تلك الحدود، غريب عنا، لا سيما حينما تكون جدتك قد لقنتك أن بالوجه علامات خاصة كاقتران الحواجب… مما يجعلك فريسة «للسحار المغربي اللي يذبحك ويطلع بيك اللويز». فكنت حينما أرى من استخلص فيه علامات الانتماء لبلاد المغرب وأنا طفل من أهل إفريقية الذي لم يعرف من الأجناس إلا الإنس والجن في الخرافات وكتب التخريف، اهرب، أختفي، أذوب، تبتلعني الأزقة حتى لا يسحرني فيذبحني… يستغنى هو بالذهب واستغني أنا عن الحياة وأهلي وقريتي… هو شعور وجدته لدى طه حسين في الجزء الأول من «الأيام» في حديثه عن القنال والغرباء وحدود الكفر وكأنه يتكلم عما عشت في قرية من قرى الشمال الغربي… وكما كتب طه حسين أيضا:»لكن ذاكرة الأطفال غريبة، أو قل إن ذاكرة الإنسان غريبة حين تحاول استعراض حوادث الطفولة، فهي تتمثل بعض هذه الحوادث واضحا جليا كأن لن يمض بينها وبينه من الوقت شيء، ثم يمحى منها يعضها الآخر كأن لم يكن بينها وبينه عهد». فذاكرة الطفولة قد تكون ملجأ الكائن الراشد حينما تقع القطيعة بينه والواقع المحيط أو هي العين التي منها يرتوي بمفرده وفي سره حتى يقنع نفسه أن عهده كان أفضل عهد مما يرى ويعيش. ذلك أن الواقع لم يعد ينتظر منه شيئا يذكر لأنه أصبح بفعل الطبيعة البشرية على حافة الانتقال إلى العدم أو هو لم يعد يشعر بسلطة الواقع عليه لأنه جرب المطلق في أوجهه المتعددة، فلم يجد بصيص الراحة إلا مع النسبية ومع تدفق عين الذاكرة بما تختزله وتغربله، فيفعل فيه توازن اللحظة أو خلله وعشق اللغة والوقوع على الكلمة المناسبة في شكلها ومحتواها فعلهما لتخرج الأحداث كما لو أنها وقعت فعلا وإن هي وقعت بالفعل. وذاكرة الطفولة هي أفضل شاهد لنفسها ولا منازع لها في شرعيتها… الأبوة الافتراضية بعض الثوابت هي من باب المطلق الثقافي/الاجتماعي كالنسب والاسم وما إلى ذلك… غير أن قريتنا، وقد يكون ذلك من الرواسب البربرية، تتلاعب بالنسب وبالأسماء… من ذلك أني دخلت مرة على الوالد، رحمه الله، وقد كان في الفضاء الخلفي للحانوت مع أصدقاء له من قرى مجاورة في خلوة بين الكبار وما تتطلبه خلوتهم في قرية كل شيء فيها معلوم من الجميع ولا شيء يفصح عنه إلا بين جدران الأحواش. دخلت عليه في العتمة ولي طلب ما من «الدار» أو من «هي» كما كان يسمي الوالدة، ولي من العمر حينها ما يسمح لي بعدم قبول الأجوبة كما تعطى…ما أن دخلت الفضاء الخاص إلا وأحد الجالسين سأل الوالد: «هذا ولدك؟»… ودون أن ينظر إلي أو يخيل إلى اليوم أنه لم يرني، أجاب والدي:»إذا صدقت أمو»… ذاك الجواب صفعني في ذاتي الداخلية إذ كنت أتوقع الـ»نعم» البسيطة العادية الوفاقية، فجاءت صيغة من الشك لا محل له في شأن هو من شؤون المطلق الطبيعي… هو والدي وابن عم زوجته، والدتي، وأنا ابنه. وقد أكد تلك الحيرة الفجائية تساؤل سابق في أمر مألوف بين أهل قريتنا أن الأبناء لا يسمون أمهاتهم إلا بأسمائهن ويطلقون الأمومة على جداتهم… فكنت أستمع إلى جدتي تطلب والدتي، رحمهما الله :»يا فلانة، جيبي كاس ما لخوك»… وقبلت الأمر مع أني أعرف جليا أني لست أخاها، بل ولدها البكر… هذه الأمومة المحولة وهذه الأبوة الافتراضية ما كانتا تعيق الآخرين وإن أعاقتهم، فإني لم أتفطن إلى رواسبها ولكنهما جعلا مني، بعد الحصول على الوعي اللازم بالأنا في أسفاري بين الأمصار والثقافات المتضاربة والمتناقضة أحيانا ولكنها مكملة لبعضها البعض في جميع الأحيان، إنسانا يؤمن بالنسبية… الحقيقي أم المستعار؟ أمر آخر كان يتناقض مع المطلق المفترض طبيعيا يتعلق بالاسم واللقب… لم أعرف اسمي ولقبي الحقيقيين المدونين في سجل الحالة المدنية بقرية تاجروين في عهد الحماية الفرنسية إلا حينما نودي علي في اليوم الأول للسنة الدراسية في عام 52 من القرن الماضي ونبهني إليهما جدي، على ما أتذكر، لأني خلت أن من نودي عليه ليس أنا، بل طفل آخر… كان علي التأقلم مع «خميس الخياطي» الذي أستعمله منذ ذاك اليوم فيما يزال الاسم الذي أنادى به في القرية وفي العائلة حتى اليوم هو «فلان ولد الفلاني» ولا أكشف عنه لأني أستعمله كاسم مستعار لبعض المقالات منذ الأعداد الأولى من مجلة «اليوم السابع» حينما لا يروق لي الموضوع وأرفض الكتابة فيه… وقد وصل الأمر لحد أن زوجتي حينما تتكلم عن «خميس»، يتطلب ذلك برهة من الزمن حتى يعي الجميع أنها تعني «فلان» زوجها… وكل فرد من أفراد العائلة حتى بعد الاستقلال وعملية تسجيل الألقاب والتنسيق بين أفراد العائلة، يحمل اسمين. أما السبب، بحسب التفسير الذي قدم إلي فيما بعد، هو أن لأطفال يموتون صغارا. وحتى لا تفقد العائلة أطفالها الذكور الذين تستعين بهم على هم الدنيا خلافا عن البنات اللواتي يمثلن ثقلا على العائلة، تعطيهم اسمين. اسم يستعمل واسم مخفي… وحينما يأتي الموت ليأخذ زيدا، فإنه يترك عمرا… وهما اسمان لطفل واحد… هذا التلاعب مع الموت للحيلولة دون الاصطفاء الطبيعي سببه نمط معيشي لا يقبل للضعيف والهزيل والحنون مكانا… وقد ذكر بعض من معارفي أنه استعمل بعد الفترة الشيعية بتونس حيث كانت قريتنا مركز انتشار للشيعة… وبالتالي، حينما بدأت مقاومة التيار الشيعي والعمل على استئصاله من إفريقية، انتشر نوع من الكتمان وانتصبت ثنائية الأسماء… ومهما تكون موضوعية الشرح في أمرين هما معطى طبيعي، فإن هذه الثنائية الاسمية وهذه الأبوة الافتراضية (كما «الخال بالمزاح» المتواجد بأفريقيا جنوب الصحراء) أصبحتا ظاهرتين ثقافيتين في قريتنا قامتا على النسبية الثقافية التي وإن هي باب مفتوح إمام إعمال العقل والدفاع عن الحرية (الفردية)، فهي كذلك شباك موصد أمام الطبيعة والانتماء الأولي الذي به يكون الإنسان كائنا حيا في قرية من قري الشمال الغربي التونسي… وللحديث تتمة. خميس الخياطي إعلامي تونسي
(المصدر: جريدة « الصباح » (يومية – تونس) الصادرة يوم 11 جوان 2010)
قراصنة الأرض وقراصنة الغذاء
سلوى الشرفي في مشهد طريف و مليء بالمعاني من مسرحية «شاهد ما شافشي حاجة» يعتدي عادل إمام بالضرب على شرطي و يدعي بأن الضحية، أي الشرطي، ضربه بخده على كف يده. و لم أجد أبلغ من هذا المشهد للتعبير عما حصل للركاب المسالمين على أسطول الحرية من طرف إسرائيل التي اغتالتهم بتهمة أنهم ضربوها بخدهم على كفها، أي في لغتها، بحجة الدفاع عن النفس. و الكل يعلم أن تهمتهم الوحيدة هي الدفاع عن حقوق إنسانية أساسية من صحة و تغذية. و كالعادة لم يصدمنا الغرب بمعارضة اللغة الإسرائيلية التي تسير على رأسها بدل من رجليها. و هل يجوز للمرء أن يخذل الناطق بلسانه؟ فقد عودنا الغرب بصفة عامة و أمريكا بصفة خاصة على استعمال المصطلحات القانونية في غير محلها كلما تعلق الأمر بشعوب العالم الثالث، و كأن المدونة القانونية الأممية بنصها الواضح لا تنطبق على غير الناطقين باللغات اللاتينية والأنقلوسكسونية و المؤلفة قلوبهم من أصحاب اللسان العبري. و الغرب محق في ذلك حسب منطقه الخاص، فحين دخل العرب وغيرهم من غير الناطقين باللغات الرسمية الأممية إلى المحفل الدولي، كان الغرب قد أوشك على الانتهاء من وضع المفاهيم الأساسية المكونة لخطاب الترسانة القانونية الأممية و هي وليدة حاجته لتنظيم العلاقات بين البلدان الغربية بعد الفوضى التي أحدثتها الحرب الثانية، وهي حرب أوروبية بالأساس دارت بين أسياد أقوياء و أحرار يعتبرون العالم ملكا للأقوى، شأنهم في ذلك شأن أثينا في أوج عظمتها التي لم يحرجها إقصاء النساء و العبيد و الغرباء من الديمقراطية. و قد تصرفت البلدان الاستعمارية دون حرج على هذا الأساس ولم يخطر ببالها أن القانون لا يكون دوليا إلا إذا استفاد منه العالم أجمع بمن فيه سكان مستعمراتهم. و حين انفكت رقبة المستعبدين و أصبحوا يواجهون الغرب بلغته، كان الوقت قد فات على إمكانية التراجع فيما اتضح أنه سلاح ذا حدين. فكان لا بد من جعل الخطاب الحقوقي يسير على رأسه. ترك الغرب إذن حبر المدونة القانونية الدولية يسيح على الورق حتى انعدمت ملامحها الأصلية، و صار يدون قوانينه الخاصة في وسائل الإعلام الدعائية بالخلط المتعمد بين المقاومة و الإرهاب، و الجريمة و الدفاع عن النفس، والضحية والجلاد بصفة عامة. و بدون هذه الصور الإعلامية التي تنفذ باحترام قدسي أكثر من القوانين الحقيقية، لم يكن من الممكن حصول الاعتداء الثلاثي على مصر سنة 1956. إذ كيف يمكن رفض حق دولة مستقلة في تأميم قطعة من أراضيها لو لم تكن الدول القوية قد رسمت صورة لعبد الناصر مماثلة لصورة هتلر ؟ و لا كان لإسرائيل أصلا أن تكون بحجة الحق في العودة إلى الأرض الموعودة المنصوص عليها في الكتاب المقدس، التي لا تأخذ معظم الدول المصادقة على قرار التقسيم بأحكامه في حياة الدنيا، بل فيها حتى من لا يؤمن بهذه الأحكام أصلا مثل النظام الشيوعي للاتحاد السوفياتي آنذاك و هو نظام ملحد رسميا. و قريبا جدا لننظر كيف تعاملت الدول الغربية مع مفهوم القرصنة بالنسبة لإسرائيل و الصومال. فمن حيث التكييف القانون اتفق المختصون في القانون الدولي على اعتبار ما أقدمت عليه إسرائيل جريمة قرصنة لا لبس فيها تخضع لقانون البحار، غير أن أمريكا ارتابت في التكييف القانوني فطلبت من إسرائيل القيام بتحقيق، ضاربة باتفاقية دولية واضحة عرض الحائط، و بمبدأ من مبادئ فلسفة القانون لا ريب فيه، حين وهبت لإسرائيل الحق في أن تكون في نفس الوقت حكما و طرفا. و في الصومال يدعي القراصنة و بعض الملاحظين المختصين في أوضاع البلد بأن عمليات القرصنة هي دفاع عن النفس بسبب قيام أساطيل دول صناعية غنية بعمليات صيد غير قانوني، أي بنهب منظم لغذاء مجعول لسد حاجة أكثر من 4 مليون صومالي يتضورون جوعا. و يؤكد المدافعون على هذا الطرح بأن القراصنة هم بمثابة حرس سواحل متطوعين في بلد تغيب فيه سلطة الدولة، فهم يدافعون عن مياههم من الأجانب الذين يرمون فيها نفاياتهم السامة وينهبون ثرواتهم. و هو كلام فيه شيء من المصداقية يتطلب القيام بتحقيق في أسباب هذا السلوك لمعالجته بطريقة عادلة، غير أن الغرب رأى أن جريمة القرصنة في السواحل الصومالية واضحة و موصوفة و لا يمكن تبريرها بحجة الدفاع عن النفس. فاقترحت فرنسا القيام بعمليات جوية لمقاومة ما وصفه ساركوزي بصناعة الجريمة. و تحركت الأمم المتحدة لإقرار حماية مسلحة للسفن و تطوع الحلف الأطلسي للقيام بالمهمة. لا يستحق هذا التعامل مع مفهوم القرصنة كبير عناء لنثبت مرة أخرى بأن الغرب يتعامل بقانونين يسيران في متوازيين بحيث لا يمكن لهما أن يلتقيا أبدا. و هو ما يسمح لإسرائيل التي قرصنت بلدا بأسره، و لقراصنة غذاء الصوماليين الادعاء بأن المسروقين ضربوهم على كفهم بخدهم . سلوى الشرفي أستاذة الإعلام بالجامعة التونسية
(المصدر: جريدة « الصباح » (يومية – تونس) الصادرة يوم 11 جوان 2010)
بسم الله الرحمن الرحيم
عيّنة من مراجعات حركة النهضة
إنّ أكثر أفعال النقد صفاقة وتبلّدا هي تلك التي تقعد عن طلب المعلومة وتتكاسل عن أبسط شروط البحث والتحرّي، ثم تنشب في جسم ما ، تتجرّع.. تمزّق وتثخن دون أن تعرف ماهيّة الذي تحت يديها.. أين؟ كيف..؟ من..؟ متى..؟ لما..؟. نشبت فقط لأنّه يستهويها النقد الرافض أو الحارق المبني على شبه معلومة، أو بعض معلومات واهية مفصولة عن سياقها لأغراض مبيّتة، لهذا جاء تقريب هذه المادّة التي ليست إلا عيّنة من مواد أخرى تبحث عن همّة جادّة تحترم شروط البحث وتبني عليه بتجرد. نقول تقريب المادّة لأنّها متوفرة منذ سنين لكن انصراف الناس عن التقصّي وغياب الورع الفكري في التناول النزيه للمحور أفرز نقدا من جنس التهجّم والتجنّي، فارتأينا حمل هذه النصوص إلى عقر شاشة حاسوب الطالب سواء كان مناصرا أو متعاطفا أو مجافيا. أبرز ما يميّز هذه المادة التي تحتوي على عيّنة من المراجعات والمواقف والتقيّيمات التي قامت بها حركة النهضة هو أسلوب النقد الذاتي الفصيح والغير متلعثم، ثم التوقيت الحرج الذي رأت فيه النور، إنّه من الصعب على أيّ حركة أو حزب أو هيكل يتعرّض إلى عمليّة اجتثاث مركّزة تحشد لها كل مقدرات الدولة أن ينتبه فيفرد حيّزا للمراجعة والتقيّيم . رغم أنّها الأكثر استهدافا، إلا أنّ حركة النهضة سبقت مجموع الطيف السياسي التونسي إلى النقد الذاتي والمراجعات وهي تقريبا تحتكر هذه الخاصيّة منذ نشأتها ولم نسمع بحركة مراجعة جديّة صدرت عن غيرها، أضف إلى ذلك أنّ الحركة ابتكرت أساليبا مستحدثة في حماية جسمها حين احترمت العقل التونسي وقدّمت له نفسها على أنّها حالة اجتهاد يعتريها الخطأ والصواب ودلّته على مكامن ضعفها، ليصوّبها.. بهذا تمارس حماية نفسها بصدقها مع شعبها، وقد انخرطت النهضة مبكرا في تدريب ذهنيّةالمواطن التونسي على الواقعيّة متصدّية بذلك إلى الفكر المدمّر الذي يفرّخ نسب 99% ،ويخدّر البلاد بالخيال، ويشحنها بالنظري على حساب الواقعي والعملي حتى إذا اصطدم الناس بعالم الحقائق غرقوا في طوفان الإحباط. هذه المادّة ليست سبقا فكريّا أو فتحا سياسيّا، إنّما قيمتها تكمن في ولادتها وإطلاقها لتصبح معلومة عامّة، ثم إعادة التذكير بها اليوم لتُقدّم هكذا دون مساحيق – بخطئها وصوابها-، لأنّه يستحيل على جهة تموّه على شعبها أن يكون قلبها عليه وجهدها لصالحه. والنهضة ذكّرت بالأمس.. وتذكّر اليوم، وستذكّر في الغد بأنّها ليست المصباح السحري، وليست البساط الطائر كما أنّها ليست جنّة الله في الأرض، إنّها حالة إصلاح اعتصرها شعب تونس من حضارته الزاخرة الثريّة.
مقتطفات من كتاب…
حركــة النهضــــة في الذكرى 15 لتأسيسها دروس الماضي واشكالات الحاضر وتطلعات المستقبل
بــــسم الله الرحمان الرحيم {أأَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ }سورة إبراهيم آية رقم 24 تقديم: 1. تمرّ بلادنا~ تونس~ بمرحلة خطيرة من تاريخها المعاصر، تتّسم بشمول الأزمة لجميع جوانب الحياة الوطنية وتدهور الأوضاع على كلّ صعيد جرّاء انسداد الآفاق السياسيّة واتّساع دائرة الإضطهاد والكبت والهيمنة المطبقة للدولة على المجتمع وتحويلها المسرح السياسي الى فضاء مغلق تنعدم فيه كلّ ضروب المشاركة وأوجه الحراك الحرّ. 2. ولقد أتت هذه الردّة السياسية الخانقة على جلّ ما حقّقه الشعب التونسي من مكاسب طيلة تاريخ كفاحه الطويل وبالخصوص على الصعيدين السياسي والنقابي ممّا عرفته البلاد طيلة السبعينات والثمانينات من هامش لحريّة الرأي والتعبير والحركيّة الثقافية والفكرية بفضل النضال المتميّز للمنظمة الشغيلة والإتحاد العام التونسي للشغل والجامعة ومختلف التيارات الفكرية والسياسية والرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان. 3. إنّ هذا التدهور الشامل يؤكّد لكلّ مراقب لأوضاع تونس في الداخل والخارج، عمق الهوّة السحيقة التي باتت تفصل بين الخطاب السياسي الرسمي ومختلف شعاراته ووعوده، وبين معطيات الواقع الشاخصة التي تتداولها تقارير منطمّات حقوق الإنسان المحليّة والدولية وعرائض الإحتجاج لشريحة معتبرة من النخبة التونسية برغم ما سلّط عليها من قهر وقمع وتضييق. 4. وأمام خطورة المأزق، فإنّ المصلحة الوطنية العامّة تقتضي من جميع الأطراف ـ سلطة ومعارضة ونخبة ـ وقفة تأمّل جريئة ومسؤولة من أجل التفكير في مصلحة البلاد ومستقبلها، ومراجعة المسار، وإجراء نقد ذاتي، موضوعي ونزيه، من أجل تخليص البلاد من المأساة وطرد كابوس التدهور والإنحدار وإعادة بناء القيم الإيجابية والأفكار المستنيرة والمؤسسات المدنية الديمقراطية الفعالة. 5. أمّا حركة النهضة، فقد أنجزت، من جانبها، ورغم الحصار المفروض عليها واحتدام المحنة، تقويما لتجربتها السياسيةومشروعها التغييري في مختلف أبعاده، وقفت فيه على أخطائها وأخطاء غيرها، كما أنجزت تحليلا سياسيا لمكوّنات واقعها الموضوعي، وأسسّت على ذلك رؤيتها المستقبليّة لمعالجة الأزمة. الفصل الأول استخلاصات تقويميّة 6. وقوفا عند مختلف المراحلالتي مرّت بها، وتقويما لبلائها، انتهت حركة النهضة بعد حوار معمّق وصريحالى جملة من الخلاصات، رصدت فيها مواطن الخطإ والصواب في مسيرتها، وهيتعاهد الله عزّ وجلّ ثمّ شعبها الأبيّ الممتحن، أن تثبت على ما تبيّن لها،بعد التمحيص، أنّه صواب، وأن لا تتردّد في التخلّي عمّا ثبت خطؤه، إنابةالى الله العلي القدير، وصدقا مع الناس. وإذ لا يسع بيانا موجزا أن يتضمّن تفاصيل الحوارات ووجهات النظر المختلفةفي المسائل التي تمّت معالجتها، فإنّنا نكتفيالآن بنشر بعض الخلاصاتالمجملة: الثقافة والسياسة: 7. لقد تأسّست حركتنا بعدخمسة عشرة سنة من استقلال البلاد، بعدما تمكّنت النخبة التغريبيّة الحاكمةمن تحطيم معظم البنى التحتية للمجتمع والدولة، مثل: إلغاء الأوقاف والمحاكمالشرعية والتعليم الزيتوني وتفكيك العلاقات الأسرية والعشائريّة، وتبلورمعالم دولة سلطوية تلغي دور المجتمع وثقافته الأصلية ومؤسساته المدنيّةمماّ أحدث بالتدرّج اختلال توازن بين الدولة/ الحزب/ الفرد من جهةوالمجتمع من جهة أخرى. لقد تساند الوجه التغريبي بالوجه الإستبدادي للدولةالناشئة بعد الإستقلال لكي ليعيد للحياة التونسيّة موضوع الهويّة والحريّةوالعدالة الإجتماعيّة بقوّة وعنفوان عبّرت عنه حركات اجتماعيّة وسياسيّةوثقافيّة مختلفة من بينها الصحوة الإسلاميّة التي أحييت مفهوم التوحيدأساسًا واطارا لشؤون العبادة والحياة، للشأن الفردي وللشأن الإجتماعي علىالســـــواء مصداقـا لقوله تعالى: { قل ان صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي للهرب العالمين، لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين} سورة الأنهامالآية. 164~165 .
لقد جاءت الحركة الإسلاميّة امتدادا لجهود الإصلاح والتجديد الفكري علىصعيد البلاد والعالم الإسلامي ولنضال الحركة الوطنيّة والنقابيّة من أجلالتحرّر السياسي والثقافي والإقتصادي . وما لبثت جهودها المباركة أن ساهمت بحيوّيّة في تجديد قيم الإسلامالخالدة والإنتقال بها من موقع الهامشيّة الى قلب الصراع الثقافيوالإجتماعي والسياسي، وأطّرت قطاعا واسعا من الشباب ضمن وجهة معتدلة في فقهالإسلام، فاستنقذته من الضياع الأخلاقي والثقافي ودفعته الى الحضورالإجابي والفاعل في مؤسسّات المجتمع المدني.
8. ولكن لم تكن لتقبل النخبةالنافذة آنذاك بجلّ شرائحها أن تقتحم الحركة الإسلاميّة الناشئة ساحاتالعمل السياسي والإجتماعي لما مثّله ذلك الإقتحام من مفاجأة وتهديد للأساسالتغريبي والإستبدادي الذي قامت عليه دولة ما بعد الإستقلال، ولما مثلتهالتطلعات الإجتماعية والسياسية للحركة الإسلاميّــة من دعم للحركةالنقابيّة والطلابيّة وحركة التحوّل الديمقراطي فقد انتهت الفآت الحاكمةالى اعتبارها تهديدا جادا لمصالحها الفئوية وشنت عليها حملات متلاحقة لاتزال متواصلة تخللتها فترات هدنة.
ورغم تأكيد الحركة على أولويّة المهمّة الفكريّة والتربويّة والثقافيّة فيكلّ خططها وبرامج عملها، الاّ أنّ العمل السياسي وبسبب هيمنة الدولة على كلالفضاءات، كان دائما يعود ويتمدّد بسرعة فائقة ليحتلّ الصدارة في سلّمالأولويات ويطغى على سائر اهتمامات الحركة ومناشطها، وغالبا ما يلقيبالحركة في قلب الصراع وجها لوجه مع جهاز الدولة المتوجّس من كل صوت معارضجاد و المتحفّز للمواجهة والصدام. لقد كان لهيمنة الفضاء السياسي علىالفضاءين الدعوي والثقافي النتائج السلبية على مسيرة الحركة وتطوّر الصحوة.
في المنهج التغييري:
9. لقد حدّدت الحركة طبيعةمنهجها التغييري منذ الإعلان عن نفسها في 6 جوان 1981 باعتبارها حركةعلنيّة سلميّة تنبذ العنف كأداة للوصول الى السلطة أو التمسّك بها، أوكوسيلة للتعامل بين القوى السياسية والإجتماعية والثقافية المتنافسة. ورغمتأكيدها عبر كلّ أدبياتها على تمسّكها بالمنهج العلني السلمي، لم تجد منخصومها غير الرفض والتصدّي بالقوّة الماديّة والمعنويّة. وقد ولّد ذلك لدىأبنائها قناعات مزدوجة جعلتهم موزّعين بين مجموعة من الثنائيات: كالسريّةوالعلنيّة، ممّا جعلهم يخلطون في بعض الأحيان بين متطلّبات العمل العلنيوالنضال السياسي والإصلاح المتدرّج من جهة، ومتطلّبات العمل السرّي الذيفرض على الحركة والتغيير الجذري من جهة أخرى. ومن هنا وقع استدراج الحركةلمخالفة استراتيجيتها بالدخول في مواجهة لطالما حاولت تجنبها، حيث اتّخذتأثناء مواجهتي 1987 و 1991 من الشارع مجالا لتحرّكاتها التعبويّة تصديّالعنف الدولة وغطرستها، كما اضطرّ بعض الشبان للقيام ببعض المبادراتالفرديّة تمثّلت أساسًا في استخدام المولوتوف ردّا على مداهمات البوليسواطلاق الرصاص والإعتقال العشوائي والتعذيب حتى المــوت.
في العلاقة مع السلطة.
10. خيّمت أجواء المواجهاتعلى العلاقة بين السلطة والمعارضة السياسيةعموما منذ توليّ الرئيس الراحلبورقيبة الحكم عام 1956 ، فمن اليوسفيين في الخمسينات الى القوميينواليساريين في الستينات وبداية السبعينات، مرورا بالاتحاد العام التونسيللشغل عام 1978، وصولا الى الحركة الإسلاميّة منذ بداية الثمانينات 1981~1987 الى المواجهة الأخيرة 1990~1993 التي شكّلت منعرجا خطيرا فيتاريخ تونس السياسي بما احدثته من تراجع خطير واختلال في التوازنات بينالدولة والمجتمع لصالح الطرف الأول.
11. جاء تغيير 7/11 /87حافلا بالوعود والشعارات التي تبشّر بالحريّة والديمقراطيّة ورفع الوصايةعن الشعب وعدم اقصاء أيّ طرف في المجتمع، وتفاعلت مع وعوده وشعاراته الحركةالإسلاميّة وسائر القوى والأحزاب الوطنيّة تفاعلا ايجابيا طموحا، الى أنبدأ التراجع وحصلت الأنتكاسة بعد عام ونصف من » التغيير » وبدأ العدالتراجعي بدءا بمواجهة الحركة الإسلامية وانتهاءا بسائر مكوّنات المجتمعالمدنـــي. فما هي الأسباب التي دفعت بالأوضاع ، بعد حوالي سنتين من التغيير، الىمواجهة ضارية بين السلطة والحركة ما فتئت انعكاساتها السلبية تتّسع لتطالكلّ الأصوات الحرّة ولتعلن عن تعطّل الحياة السياسيّة.
12. لقد بدأت السلطة مرحلتهاالأولى بالدفاع عن نظريّة « الديمقراطية المتدرّجة » و » الإصلاح المرحلي » وبالتأكيد على أن الرئيس محتاج الى الوفاق الوطني حتى ينجز التغييرالديمقراطي. والحقيقة أن الحركة الإسلامية كباقي نخب البلاد وتياراتهاالفكريّة والثقافية بذلت جهودا كبيرة في البحث عن هذا الوفاق وعن السلمالسياسي والمصالحة الوطنيّة، وبتزكيتها للحكم الجديد ودخولها في الحوار معهمن أجل تسوية آثار العدوان الذي استهدفها في آخر فترة الحكم البورقيبي،والبحث عن صيغ قانونية وفاقية لتأطير عمل الحركة الإسلامية ضمن القوىالثقافية والسياسية الوطنية الأخرى مستقبلا.
13. ورغم التنازلات السياسيةالتي أقدمت عليها الحركة، من امتناع عن أي احراج أو ضغط اتجاه السلطة،وقبول الدخول في الميثاق الوطني بغير صفتها الرسميّة ورغم ما تضمنه من بنوداقصائيّة، وتغيير اسمها من الإتجاه الاسلامي الى حركة النهضة استجابةللشروط اللاديمقراطية التي فرضها النظام في قانون الأحزاب ، رغم كل ذلكن لمترفع المظالم القديمة عن الحركة الاّ جزئيا وامتنعت السلطة بوضوح وإصرارعن الإعتراف بحق الحركة الإسلامية في العمل الثقافي والدعوي والسياسيوالإجتماعي والقانوني.
14. و لقد ساهم في تبلورالقطيعة المعلنة بين الحركة الإسلامية والحكم، مشاركة الحركة في جلّ دوائرالإنتخابات التشريعية لسنة 1989 عبر قوائم مستقلّة، بسبب حرمانها من حقوقهاالسياسية والمدنيّة، وحصولها على نتائج مبهرة فاجأت الحركة نفسها وسائرالقوى الأخرى حيث كشفت عن التعاطف الشعبي الكبير الذي تتمتّع به الحركةالإسلامية ورغبة الشعب الجامحة في التغيير. وفي الوقت الذي اعتبرت قيادةالحركة هذه المشاركة الواسعة، تسرّعا وتجاوزا لسياستها في التدرّج فيالمطالبة بالديمقراطية وتحقيق الإصلاح السياسي دون تعريض التوازنات القائمةللخلل الفادح، سيطرت القراءة الأمنيّة للحدث على عقل السلطة وانطلقتأجهزتها في إحصاء وتتبّع ومضايقة المرشحين والمزكّين وحتى الناخبين للقوائمالمستقلّة بعد ذلك. وقد زيفت السلطة الإنتخابات على نطاق واسع وأعلنت عن فوز الحزب الحاكم بكلمقاعد البرلمان، موّجهة بذلك ضربة قاسية لإرادة التونسيين ومجهضة لآمالالشعب ونخبه المختلفة في تحقيق حد أدنى من التعددية السياسية.
15. وفي خلال كل ذلك كانالأسلوب الأمني يتضخّم ويتمدد باضطراد على حساب المنهج والهياكل السياسيةللدولة وعقلها المفكر حتى تمكنت المؤسسة البوليسية من الإستلاء عليها. وساهم ذلك في تصلّب موقف السلطة تجاه الحركة. وقد غذّى هذا التوجّه نحوالقطيعة والتصلّب تسرّب بعض الإنتهازيين المحسوبين على اليسار داخل أجهزةالحزب والدولة ومساهمتهم في التخطيط لمشروعِ « تجفيف الينابع » الذي كشفتهوسائل الإعلام فيما بعد من أجل استئصال الحركة الإسلامية وتدمير الهويةالعربية الإسلاميـــــــــة.
يضاف الى كلّ ذلك تبلور مناخ عالمي مشجّع لمشاريع التصديّ لحركات الصحوةالإسلامية تحت لافتة مقاومة » الخطر الأصولي » ولا سيما إثر النجاح الكاسحالذي حقّقته الحركة الإسلامية في الجزائر. تظافرت كل هذه العوامل لتزيد فيقناعة السلطة التونسية بتبنّي » مشروع الإستئصال » ليس فقط من أجل التخلّصمن خصم سياسي يتضخّم حجمه يوما بعد يوم ، ولكن أيضا من أجل التبشير بهذاالمشروع الجديد والعمل على تصديره كأنموذج لمواجهة « الخطرالأصولي » علىالمستوى الدولي ، بحثا عن الدعم الخارجي.
16. كان انتقال موقف السلطةإزاء الحركة من سياسات « سحب البساط » الى مشروع الإستئصال ، عاملا رئيسا فيتصلّب موقف الحركة ونزوعها الى العمل السرّي والتخطيط لـ » استجماع شروطالإستعصاء » وهي خطّة دفاعية قصد منها أن تستعصي الحركة على الإستئصال،بتوفير أسباب المناعة الداخليّة والتحصين الخارجي حتّى لا تقصمهاالضربـــــة.
ولكن أمام اتساع الأحداث وتفاعلها ، وخاصة بعد تكثف حملات الإعتقال في صفوفكوادر الحركة وسقوط عدد من الشهداء تحت التعذيب الوحشي وبرصاص البوليس،أخذت الخطّة طابعا ايجابيا هجوميّا واستبدل شعار الأستعصاء بشعار جديد هو »استجماع الشروط من أجل فرض الحريات » باعتبار أن الحريّة لم يعد بالإمكانطلبها بل بات من الضروري فرضها وافتكاكها عبر كلّ وسائل النضال المدنيوالتعبئة الجماهريّة.
17. بلغ النتاقض بين الطرفيننقطة اللاعودة، وأخذت الاستراتيجيات المتقابلة طابع الصدام والتنافي بدلالوفاق والتصالح، وارتفعت درجة الإستقطاب بين مشروع السلطة وعنوانه « الإستئصال » ومشروع الحركة وعنوانه » فرض الحريات » من أجل تغيير موازينالقوى لصالح المجتمع وكسر شوكة الدولة المتغوّلة.
وفي مثل هذه الظروف المتوتّرة لا مناص من حدوث التجاوزات وخاصّة الفرديةمنها، فكان أن حصلت » حادثة باب سويقة » المتمثلة في مهاجمة بعض الشبانالإسلاميين لأحد مقرات الحزب الحاكم بالعاصمة وحرقهم لها مما أدى الى حادثمؤسف تمثل في وفاة أحد الحراس. وقد مثّل هذا الحادث منعرجا حاسما في تاريخالصراع بين السلطة والحركة. ورغم استنكار الحركة الرسمي لهذه الحادثةالمعزولة والمؤسفة، على ما أحاط بها من غموض، واعدام السلطة الذين قاموابها بعد محاكمتهم، فقد اتّخذتها ذريعة جديدة للاستمرار بخطى حثيثة في مشروعتجريم الحركة والتنكيل بأبنائها وكل من له صله ـ ولو هامشية ـ بها.
18. لقد انهار » منهجالتدرّج » الذي ادعته السلطة لتحقيق الديمقراطية، وانقلب الى شعار فضفاضفاقد لأيّ مصداقيّة. وأكّدت الأحداث فيما بعد أنه استخدم للدعاية والتغطيةعلى مشروع الإستئصال وترك المعارضة تعيش على التمنّي المتدرّج الى أن تمّالإجهاز على الحد الأدنى لمعالم الديمقراطية وهو حق التعبير وإبداء الرأي. واختلّ التوازن بصورة كليّة لصالح الدولة بل لصالح جهاز الأمن ومراكزالنفوذ على حساب المجتمع الذي حطّمت جلّ دفاعاته.
19. ومن أجل تجنيب البلادخطر السقوط في حرب أهليّة مدمّرة بما تجرّه من خسائر في الأرواح والعمرانقرّرت الحركة ـ ومن جانب واحد ـ منذ 1992 التخلّي عن خطتها التي أساسهافرض الحريات، رعاية منها للمصلحة العامّة وتحمّلا منها للمسؤولية أمامالله وأمام العباد، رغم تمسّك السلطة الى حد الآن باستراتيجية الإستئصال،محتسبة ما أصابها في سبيل الله، وملتزمة بالصبر الجميل . وقد برهنت الأحداثأن منهج ,, التدرّج في تطبيق الديمقراطية,, لم يكن الاّ مظلّة للتغطية علىمشروع الإستفراد بالسلطة وسياسة الحزب الواحد والهيمنة على المجتمع وإجهاضالأمل في التغيير الديمقراطي ودفع المجتمع الى التفسّخ العام والسياسة الىالمـــــوت.
في العلاقة بالمعارضة
20. رغم الاختلافات الفكريةوالسياسية بين الحركة الإسلامية وباقي التيارات والأحزاب ، فلقد عرفت تونسفي الثمانينات أشكالا مختلفة من التقارب والتعاون الوطني والتنسيق المشتركبين الأطراف السياسية الوطنية على أرضية النضال من أجل الديمقراطيةوالتعددية والعدالة الإجتماعية واحترام حقوق الإنسان، حتى كادت تتميزالحالة التونسية بهذه الخاصيّة الحضارية، بما ساهمت به الحركة الإسلامية فيتونس من تجديد في الفكر السياسي الإسلامي المعاصر تأصيلا لمعاني التعدديةوالديمقراطية واعترافا بحق الإختلاف.
ولكن رغم وعي الحركة بضرورة تعميق الروابط مع كلّ مكوّنات الفضاء السياسيوالمجتمع المدني، وبذلها جهود فكرية ومساعي عملية في اتّجاه ذلك، فإنّها لمتوفّق في بناء قاعدة ائتلافية متينة مع النخبة وبقيّة أطراف المعارضةالوطنيّة تتأسس على تقدير موقف مشترك من الأوضاع وسبل تغييرها، ممّا عمّقظاهرة الإستقطاب الثنائي بينها وبين النظام، ودفع قطاعا من النخبة امّا الىالإنحياز الى السلطة نتيجة لتضخّم صورة الحركة أو لاعتبارات إيديولوجيةومصلحية قاصرة، وإمّا الى الإنطواء على الذات واعتزال العمل السياسيوالثقافي والإجتماعي، لقد أخطأت الحركة بتبنيها خطة تصعيدية ضد مشروع الإستئصال دون مراعاة طاقة المعارضة الوطنية واستعداداتها ، وكذا الوضعالشعبي والإقليمي والدولي. وأخطأت المعارضة في غالبيتها عندما انخازت إلىالسلطة وراهنت على إمكان تحقيق ديمقراطية عبر اقصاء طرف رئيسي فيالمعارضة: النهضة.
في التفاعل مع الأحداث الإقليمية والدولية:
21. تزامنت المواجهة الأخيرةالتي عاشتها الحركة والبلاد مع أحداث دولية وإقليمية كبيرة لم تحسن الحركةالتفاعل معها وتقدير انعكاساتها وتداعياتها. فقد تأثرت الحركة بتطوّر الوضع الجزائري منذ أحداث أكتوبر 1988 وما تبعهامن تحولات مفاجئة وفورية نحو تبلور مظاهر ديمقراطية حقيقية وتعدّدية شاملة. وتفاعلت الحركة بحماسة مع الإنتصارات المتتالية للحركة الإسلامية وتقدمالديمقراطية بتسارع مذهل والقطع مع مرحلة الحكم الفردي ونظام الحزب الواحد. وظنّت أن هذه الإنتصارات غير قابلة للتراجع، دون تقدير لاحتمالاتالإنتكاسة، فرفعت سقف مطالبها السياسية حتى اذا حصل الانقلاب على المسارالديمقراطي، وجدت الحركة نفسها تخوض المواجهة بمفردها في ظلّ أوضاع محليّةوإقليميّة محكومة بانكفاء شعبي وبتمدد دولي خصوصا مع حرب الخليج.
لقد خدمت حرب الخليج الثانية النظام في خطته الإستئصالية ، حيث استغلانشغال الرأي العام الوطني والدولي بالحدث الخليجي، وسلط آلة قمعه الرهيبةعلى الحركة والصحوة الإسلامية عامــــة، متظاهرا بموقف مساند للعراق ومعارضللتحالف الغربي استقطب به المعارضة ولكن سرعان ما انقلب عليه كليا بعدتنفيذ القدر الأكبر من خطته الداخليــــــّة. خلاصـــــة: 22. نخلص من كلّ ذلك الى أنّالتجربة المريرة التي لا تزال تعاني منها البلاد منذ عام 1990 وأدت الى هذاالمأزق الخانق وموت السياسة تتحمل مسؤوليتها السلطة ثم الحركة ثم المعارضةعامة بجرّ البلاد الى التشابك وهدر الطاقات بدل التنازل المتبادل وحتى منطرف واحد، والبحث عن الوفاق تغليبا للمصلحة الوطنية العليا.
لقد كان يسعنا أن نصبر أكثر على ظلم السلطة وأذاها ونحتسب ذلك لله عز وجلونتحصن بشعبنا ونلتحم بنخبه الوطنية الجادة ملتزمين بنسق مطالبها دونمجاوزتها، من أجل تجنب ما تأدت اليه البلاد من تدهور ومآسي ومأزق مستحكم.
23. إنّ بلادنا اليوم في أشدّالحـــــاجة الى مراجعات عميقة من طرف الجميع من أجل التوصّل الى نهوضحقيقي يقوم على توازن جديد قوامه الثقة المتبادلة وإشراك المواطن في الحياةالسياسية والإجتماعية والثقافية ورفع كابوس الخوف والرعب عن التونسيينجميعًا، ونزع فتيل التوتّر وفكّ الإشتباك بين السلطة والمجتمع.
24. إنّ تـــــــــــونس تزخربطاقات بشرية هائلة وكفاءات مسؤولة راقية، قادرة على أن تخوض تجربةديمقراطية نموذجية . ولكنها لن تتحوّل بين عشيّة وضحاها من نظام آحاديهيمني الى نظام تعددي متفتّح. فممارسة الديمقراطية بحاجة ولا شك الى تدرّجصادق غير مغشوش، تدرّج ترسم أسسه ومنهجه ومراحله كلُّ الأطراف الوطنيةوالقوى الإجتماعية.
25. وممّا لاشك فيه أن منمقتضيات التدرّج الديمقراطي الحقيقي وشروطه الأساسية تحقيق الإنفتاحالسياسي والتخلّي عن ثقافة التناحر والتصادم والإقصاء ، والتمسّك بالإعتدالوالدخول في حوار جامع وعميق. ولن يتأتى ذلك الاّ بمبادرة النخبة التونسيةبالانفتاح على بعضها البعض وضبط قواعد الحوار الوطني المنشود ومقوّماتهودفع السلطة الى الإنفتاح من أجل الوصول الى المصالحة الوطنيةالشاملـــــــــــة.
26. تلك هي جملةالــــــــــــــــــــــــدروس والعبــــــــــــــــــــر التي استخلصتهاحركة النـــــهضة من مسيرتها وتجربتها السياسية إثر سلسلة الحوارات التيدارت بين أبنائها، وهي ترى فيها نبراســــــــا للجميع دون استثناء من أجلفتح صفحة وطنية جديدة وبناء مستقبل أفضل للبـــــــــــــــــــــــلاد.
الفصل الثاني خلاصات تحليلية
ملامح المشهد السياسي الراهن في تـــــونس 1. مشروع السلطة:
إنّ النظام السياسي في تونس بوليسي فردي مركزي يتركّز حول شخص رئيس الدولةتشاركه النفوذ من وراء ستار جملة من مراكز النفوذ المتصارعة تتجمّع حولهافعاليات سياسية وثقافية انتهازية وذلك بعد أن أصبح الحزب الحاكم لا يمثّلالاّ اطارا شكليا ينتمي إليه الناس رغبة ورهبة، انتماء ذا طابع تأمينيانتهازي لا سياسي. كما صارت هياكل الحزب خالية من الرموز السياسيةوالتاريخية المعروفة بنضالها الوطني، وأزيحت كل القيادات التي لها رأيمستقل فضلا عن التي تشكّل منافسة ما لرئيس الدولة والحزب. ولا تزال فكرةالإستئصال ~ ليس استئصال الحركة الإسلامية فحسب ولكن استئصال كلّ معارض جادخرج عن الصفّ وتجاوز الخطوط الحمراء التي رسمت له~ الفكرة الرئيسيةالجامعة لهذه الأطراف من أجل المحافظة على السلطة والثروة وإحكام القبضةعلى البلاد.
2. وضع المعارضة:
كثّفت السلطة من ضغوطها السياسية والأمنية على المعارضة الرسمية حتى تظلّهامشية وصورية كما أريد لها، وحتى لا تلعب دورها الوطني في الدفاع عن مصلحةالشعب والبلاد وترسي خطابا نقديا معارضا تجاه السلطة.
ورغم انسياق هذه المعارضة إجمالا وراء سياسة الحكم في مواجهة الحركةالإسلامية والقوى الديمقراطية الحقيقية وتقديهما العديد من التنازلات، الاّأنها لم تكافأ الاّ بمزيد من التضييق والمحاصرة، ولم يجلب لها غيابالإسلاميين~ الذين كانوا يحدون من تغوّل الدولة~ عن الساحة السياسية سوىالمزيد من التهميش بسب هيمنة الحزب الحاكم واحتكاره لكلّ مجالات الحياةالسياسية في البلاد.
وما حصل أخيرا لزعيمي حركة الديمقراطيين الإشتراكيين السيدين محمد مواعدةوخميس الشماري من اضطهاد، وللتجمع التقدمي الإشتراكي من مضايقات، ليس الاّدليلا صارخا على حالة الإنسداد التي تأدّت إليها أوضاع البــــــلاد.
3. النخبة والمجتمع المدني:
بقدر ما نجح مشروع السلطة في الإحاطة بالمعارضة الرسمية وترويضها، بقدر ماأخفق في الإطباق على جميع شرائح النخبة وإفقادها شرعيتها الفكريةوالسياسية. ولئن انخرط قطاع من النخبة في البداية في برامج السلطة بدعوى التصدّي » للخطر الأصولي » ، فإنّ جزءا مهمّا وحيويا من النخبة ظلّ صامدا ورافضالمساومات النظام وضغوطه وقد عبّر عن ذلك بسلسلة من العرائض والإحتجاجيةوالتحرّكات الإعلامية والحقوقية الشجاعة غير آبه بالتهديدات الأمنيةالمسلّطة عليه، قادها عدد من الرموز الوطنية مثل الدكتور المنصف المرزوقيوالدكتور مصطفى بن جعفر والأستاذ نجيب الشابي وغيرهم.
4. وضع حقوق الإنسان:
يشهد وضع حقوق الإنسان في بلادنا انتهاكات واسعة وخطيرة طالت عددا مهمّا منالمعارضين على اختلاف انتماءاتهم الفكرية والسياسية ، حيث بلغ عددالمضطهدين سجنا واعتقالا ومحاكمة منذ 1990 ما يقارب 40.000 ضحية حسبتقديرات المنظمات الإنسانية الدولية والعربية وشهادة بعض المحامينالتونسيين. واستشرت أصناف التعذيب البدني والنفسي حتّى ذهب ضحيّتها قرابة 60 مناضلا، نحسبهم شهداء باذن الله عز وجل، قتلوا بمحلاّت الشرطة ومختلفالسجون التونسية.
كما يتعرّض المساجين الى التعذيب المتواصل وأصناف من الإهانات تتنافى وكلّالقيم الإنسانية والقوانين التونسية والدولية. وتخضع عائلاتهم وأقاربهم الىسياسة تجويع محكمة إمعانا في إذلالهم ومحاولة يائسة لتحطيم معنوياتالمساجين وثنيهم عن مواقفهم وأفكارهم. وتتعرّض زوجات المساجين والمناضلاتالإسلاميات والمتدينات والديمقراطيات بصفة عامة الى ألوان من الإضطهادتستنكرها كل شرائع السماء وقوانين الأرض. وقد كشفت تقارير المنظماتالإنسانية والدولية والعربية عن حقائق مفزعة تعكس حربا همجية على المرأة فيتونس توسعت فيها دائرة الإنتهاكات وضحاياها لتصل الى استهداف الناس فيحقوقهم الأساسية المتعلّقة بالعبادة وحريّة اللباس والتنقّـــــل.
5. المنظمّــــات الوطنية:
اعتمدت السلطة في تنفيذ مشروعها الإستئصالي للحركة الاسلامية في البدايةولكلّ نفس معارض فيما بعد على احتواء المنظمات الوطنية الفاعلة. ولئن نجحتفي السيطرة على معظم قيادة الإتحاد العام التونسي للشغل وتدجينها، فقدأخفقت في ترويض الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان وضرب استقلاليتهاأو تحييدها رغم المساعي المتكرّرة في هذا الإتجاه والهجمات المتتالية التيسلّت عليها. حيث ظلت الرابطة من آخر الحصون التي بقيت تدافع عن الحقوقالمدنية والإنسانية في البلاد. كما أنّ قواعد المنظمة العالمية وقياداتهاالوسطى بدأت هي الأخرى تخوض جملة من التحرّكات الإحتجاجية على خياراتالسلطة الإجتماعية والإقتصادية. لقد مثل اضعاف الإتحاد العام التونسي للشغلكما توقّعنا منذ الهجوم عليه سنة 1986 ثم ضرب العمل الطلابي المدخل الرئيسللسيطرة على المجتمع واضطهاد القوى الحية في البلاد، وتفكيك مؤسساتالمجتمع المدني واحدة تلوى الأخرى ، بدءا بالجامعة والحركة الطلابية ، الىالكشّافة والمنظمات الشبابية والمحامين الشبان والقضاة والنساءالديمقراطيات . ومع كل ذلك لا يزال الإتحاد يمثّل الاطار الأكثر أهليةللتأطير نضالات النقابيين ويتبنى قضايا المتضررين من سياسة الحكومةالمنحازة ضد الحركة العماليـــــة.
6. الجـــــامعــــة.
لقد ساهمت الجامعة التونسية بالإضافة الى دورها العلمي والأكاديمي في تنميةالوعي الفكري والسياسي وربط الطلبة بقضايا المجتمع الحيوية ، بما تحقق فيمؤسساتها من مكاسب على صعيد حريّة الرأي والتجمّع ، بحيث كانت حقلاًمتميّزا للحوار والصراع بين التيارات الفكرية والسياسية المختلفة المحرومةمن مجرّد حق التعبير خارج الحرم الجــــامعي. لقد ساهمت الحركة الإسلاميةفي تنمية الدور الطليعي للجامعة والحركة الطلابية في المجتمع بتثبيتهالشعار الحرية للجميع دون اقصاء ولتأصيلها للبعد الثقافي في الحياةالجامعية. ولقد تراجعت هذه المكاسب مع الحكم القائم الى درجة فرض نظامأمني سلطوي على الحياة الجامعيّة بإلغاء الإتحاد العـــام التونسيللطلبـــــة واضطهاد مناضليه والتضييق على الإتحاد العام لطلبة تونسومصادرة حق الأساتذة والطلبة معا في الاستقلال بالفكر والتعبير عنهوالمساهمة في التنمية الثقافية الجادّة للجامعة والبلاد.
7. الوضع الإعــــــلامي:
لم تشهد البلاد في تاريخها المعاصر هيمنة كليّة للسلطة على وسائل الإعلامبكلّ أصنافها المكتوبة والمسموعة والمرئية مثلما هو حال اليوم. لقد حوّلتالآلة الإعلامية الى سلطة تابعة ومتناقضة مع مهامّها الجوهريّة في خدمةالحقيقة وحريّة التعبير والرأي. واختصّت بعض الوسائل الإعلامية التابعةللسلطة في تشويه الرموز الفكرية والسياسية بأسلوب غاية في الإسفاف والهبوط. كما مارس النظام كلّ الضغوط والإنتهاكات على جهاز النشر والتوزيع، فسيطرعلى دور النشر وضيّق على المكتبات وحاصر معرض الكتاب العربي ومنع الصحفالأجنبية الهامّة وطارد ممثلّي أجهزة الإعلام الدولية وأغلق بعض مكاتبهاحتى تحوّلت صورة الدولة التونسية رمزا لمعاداة الكلمة الحرّة وانتهاك حقوق 8. الوضع القيمي والثقافي:
إن الأزمة الشاملة التي تعاني منها البلاد ترجع بالأساس الى انهيار نظامالقيم واهتزاز البناء الثقافي للمجتمع. فلقد امتد الإستبداد السياسي للدولةمن مجال الصراع السياسي وضرب التعددية وتعطيل آلية المشاركة الى استهدافمعالم الصراع الثقافة والفكر والقيم وعالم الرموز التي تتأسس عليه هويةالبلاد العربية الإسلامية. ولقد نهجت السلطة السياسية في ذلك منهجا أمنيّايقوم على تجريم التديّن والإلتزام الخلقي وحاربة مظاهره في السلوك الفرديوالجماعي حتى غدت الاستقامة شبهة والتدين جريمة يعاقب عليها القانون وفيهذا الأطار منع الكتاب الإسلامي من التداول وحرّم ارتداء الزي الإسلامي (الحجاب) وأمّمت المساجد…وفي مقابل ذلك ما فتئت السياسة الثقافية للنظامتروّج لمظاهر التحلل الخلقي وتشجّع الإثارة والإبتذال وتدعم الإنتاج الفنيالذي يدعو الى خدش الحياء وتهديد تماسك الأسرة مما أدى الى تدهور خطير علىالمستوى التربوي والأخلاقي فتفشّت الجريمة وازدادت العائلة تفككا كماانتشرت الأمراض الإجتماعية مثل الرشوة والمحسوبية وتعاطي المخـــــدرات.
إن أزمة القيم التي صارت تعاني منها البلاد تنذر بمخاطر تهدد توازن المجتمعواستقراره وتضامنه ما لم تتم مراجعات عميقة على خذا الصعيد والتخلي عنسياسة محاربة الهويّة ومظاهر التدين والكف عن اشاعة الثقافة المبتذلة.
9. الوضع الإقتصادي والإجتماعي:
أما على الصعيد الإقتصادي ، فإن الحكومة التونسية ما فتئت تروّج منذ سنواتللنجاح الباهر الذي حققته في هذا المجال ، وتشاركها في هذه الدعاية بعضالجهات الدولية المستفيدة من هذا الوضع، حتى وصل الأمر الى تبرير ما فشا منانتهاكات واسعـــة لحقوق الإنسان ومن انغلاق سياسي وتكميم الأفواه ،بالضريبة الضرورية للتقدم افقتصادي.
10. لكن رغم تواصل هذهالمغالطة ، وتعدد التثمينات وشهادات الإستحسان الأجنبية ، فإن الأصواتالمناهضة لخيارات السلطة الإقتصادية وتطبيقها المتعسّف والمكلّف لسياساتالإصلاح الهيكلي منذ ثمانية سنوات ، تظهر من هنا وهناك في الداخل والخارجبعدما بدت تنكشف يوما بعد يوم سوءات برنامج الإصلاح الهيكلي وآثاره السلبيةعلى الصعيدين الإقتصادي والإجتماعي .
11. ويدور السؤال الاقتصاديفي تونس اليوم حول حقيقة نتائج الإصلاح الهيكلي بين الدعاية والواقع بعيداعن كل خطاب سياسي مفرط في التفاؤل أو التشاؤم. والمتتبع لما يصدر من حينلآخر حول الوضع الإقتصادي التونسي ولا سيما عن الأوساط المهتمة مباشرة بهذاالوضع، يلحظ أن هذا الإقتصاد بعد عشر سنوات من التجربة ، لا يزال يعاني منمصاعب حقيقية واختلالات جوهرية من أهمّها :
12. هشاشة النـــــمو:
يعاني اقتصاد البلاد من هشاشة نمو واضحة وخطيرة تعكسعا التقلبات الحادةلمعدّل النمو العــــام، بما يؤكّد الطبيعة الهيكلية لأزمة النمو والتنميةفي البلاد وظرفية الإنتعاشة التي تطرأ من حين لآخر جرّاء تحسّن الظروفالطبيعية أو تدفّق الإسعافات الخارجيّة. فمنذ بداية تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي ، شهدت معدّلات النمو للنتائجالإجمالي تقلّبات حادة تراوحت بين 0,1% عام 1988 و 8 % عام 1992 و2,1 % عام 1993، كما أنّ موسم 1994 لم يسجّل عودة الإنتعاشة المنتظرة واقتصر علىمعدّل متواضع 3,3 % ، بينما تشير الإحصاءات الدولية في هذا الصدد الى بقاءالأمور على حالها في العام الماضي ( المصدر: الميزان الإقتصادي 1996).
13. تواصل الإختلالات:
لجأت تونس لسياسات الإصلاح الهيكلي في أواخر عام 1986 أي قبيل تغيير 1987.11.7 ببضعة أشهر، وكانت البلاد يومئذ على حافة الإنهيار والإفلاسالإقتصادي . وكان الهدف الأساس من وراء هذا الخيار إصلاح الإختلالاتالهيكلية التي تأدّي إليها اقتصاد البلاد وفي مقدّمتها العجوزات الماليةالتي تعاني منها الموازين الإقتصادية الكبرى.
واليوم، تشير الأرقام الرسمية الى تواصل الإختلالات بشكل عام، برغم التطبيقالحرفي لبرنامج الإصلاح الهيكلي وتدفّق الإمدادات المالية المترتبة عليه. فميزان المدفوعات يقدّر عجزه عام 1995 بـ 690 مليون دينار أي بما يعادل: 4% من الناتج الإجمالي الخام، بينما كان في حدود 195 مليون دينار عام 1986قبيل تطبيق البرنامج.
وعجز الميزان التجاري يقدّر بـ 2411 مليون دينار عام 1993، بينما كان فيحدود 833 مليون دينار عام 1986، وهو يتراوح حوالي 1900 مليون دينار 1994 ،كما أنّ ميزانية الدولة تشهد بدورها عجزا متفاقما: من 284 م د عام 1994 الى 276 م د عام 1995، ويتوقع أن يصل الى 385 م د عام 1996 (المصدر: البنكالمركزي التونسي~ التقرير السنوي 1994~)
14. كما تشير الإحصائياتالمتعلّقة بالمديونية الى استمرار الحكومة في مخطّطاتها الإنمائية فيالإعتماد على القروض ومواصلة خيار الإستدانة الذي دخلت فيه البلاد منذالسبعينات.فقد تضاعف حجم الدين الخارجي خلال فترة تطبيق برنامج الإصلاح الهيكلي من 4305 م د عام 1986 الى 8701 م د عام 1994 ثم 9240 م د عام 1995 وتتوقعالتقديرات الرسمية أن يبلغ حجم الدين 9987 عام 1996 أي بما يعادل نسبةتداين 25,1 % ولا يزال معدّل خدمة الدين يشكّل عبءا ثقيلا على ميزانيةالدولة سنويا: 1445 م د عام 1994 و 1565 عام 1995 بما يعادل حوالي 18 % منعائدات التصدير. (نفش المصدر)
15. بالإضافة الى تلكالإختلالات التقليدية، ساهمت سياسة الإصلاح الهيكلي في تكريس الإختلال بينقطاعات الإنتاج الأساسية من جرّاء تورّم قطاع الخدمات الذي أصبح يستحوذ على 53 % من الناتج القومي على كل من القطاعين الزراعي 16 % والصناعي 31 % كماتراجعت هذه القطاعات الإنتاجية نفسها مقابل صعود ما يسمّى بالقطاع الرمزيالقائم على المضاربة المالية في الأسواق المحليّة والأجنبية. وتحوّل نشاطالمصارف والبنوك من الإستثمار في القطاعات الإنتاجية التقليدية الىالإستثمار في البورصات التي شهدت دعما ملحوظا من قبل الحكومة في السنواتالأخيرة.
16. وعلى الصعيد الإجتماعيأدّت هذه السياسات الى تفاقم البطالة وخاصّة في أوساط المتعلّمين: 150 ألفتلميذ يطردون سنويا من جهاز التعليم دون تكوين، ممّا جعل من النظام التربويالتونسي عائقا إضافيا للتنمية بعدما كان محرّكا لها. ويقدّر معدّل البطالةرسميّا بـ 17 % بما يناهز 400 ألف عاطل عن العمل، بينما تشير الإحصائياتغير الحكومية الى ضعف هذا العدد، كما أن نسبة 70% من العاطلين لا يتعدّونالثلاثين من العمر.
وتشير التقديرات الى تنامي البطالة في السنوات المقبلة من جرّاء التسريعالمتعسّف في تحرير الإقتصاد الذي يهدد حوالي 20 % من الصناعات الوطنيةبالإندثار ، وفي مقدّمتها صناعة النسيج التي شكّلت الى وقت قريب أهمّ موردمن العملة الأجنبية وتضمّ ما يزيد عن 1500 مؤسّسة إنتاجية وتوفّر أكثر من 100 ألف موطن شغل.
والخطير أن جزءا مهمّا من هذه المؤسسات اضطّر الى الإفلاس وتسريح ما لديهمن عمّال، كما أن مستوى الإستثمار في هذا القطاع تدنّى بمعدّل 52 % عام 1993.
17. ومن المنتظر أن يؤدّياتّفاق الشراكة الذي أبرم بين تونس والمجموعة الأوروبية الى تراجع العائداتالجبائية بما يعادل 60 % في المرحلة الأولى، واندثار ما لا يقل عن 33 % من الصناعات المعملية الصغيرة والوسطى نتيجة فتح السوق المحلية على مصراعيهأمام المنتوجات الأجنبية الأكثر جودة ومنافسة، وهو ما يزيد من تسريحالعمّال وتعزيز صفّ البطّالين في المجتمع.
ومقابل هذا التدهور في القطاعات الإنتاجية الأساسية، تواصل الحكومة بشكلغير عادي في دعم القطاعات الخدماتية الهشّة مثل السياحة وبورصات الأوراقالمالية التي تهيؤها للإحلال محلّ الصناعات الوطنية المذكورة.
إنّ التحوّلات الهيكلية التي فرضت على الإقتصاد الوطني، والتلاشي المتسارعللطبقة الوسطى في المجتمع، وتنامي شريحة الفقراء والمعوزين من جرّاء غلاءالمعيشة وتدهور المقدرة الشرائية باطراد ، لا يمكن أن تمرّ دون إحداثاهتزازات اجتماعية ذات أثر على مستقبل البــــــلاد. الفصل الثالث استشراف المستقبل شروط التجاوز:
1. إنّ واجب النهوض بأمانةالدفاع عن حقّ شعبنا في الحريّة والعدالة والديمقراطية، وعن طموحاتهالمشروعة في تطوير أوضاعه نحو حياة سياسية مدنية وعصرية انطلاقا من أصولالإسلام، وتساوقا مع مطالب الواقع وقيم العصر، جعل الحركة منذ إعلانتأسيسها عام 1981 ، وتغيير اسمها على مقتضى قانون الأحزاب سنة 1989، تتبنىبوضوح لا لبس فيه منهج العمل السلمي من خلال مؤسسات المجتمع العلنية.وهي تجد نفسها اليوم~ أكثر من أيّ وقت مضى~ مدعوّة الى مزيد من التوضيح فيمشروعها والإصرار على أهدافها ومبادئها ومنهجها المعتدل في التغيير .
2. وأمام خطورة الوضع الذيتمرّ به البلاد، تجدّد الحركة التأكيد على ضرورة مراجعة المسار من قبل كلّالأطراف السياسية ـ وفي مقدّمتها النظام القائم ـ والتنازل لمصلحة البلادالعليا، والكفّ عن سياسة التعنّت والإصرار على الخطإ، والعمل الجماعي فيسبيل تحقيق انفتاح سياسي في البلاد يرفع المظالم ويردّ الحقوق والحريّاتدون إقصاء أيّ طرف اجتماعي أو سياسي أو ثقافي ، واطلاق سراح المساجين وعودةالمغتربيــــــــن.
3. تجدّد الحركــــــــــــة تأكيدها على طبيعتهاالسياسية المدنية، ورفضها لأيّ ازدواج في الإستراتجية أو الخطاب ،واعتمادها المنهج العلـــــني السلمي في التغيير، ورفضها استعمال العنفوسيلة لحسم الصراعات السياسية والفكرية ومنهجا للوصول الى السلطة أوالتمسّك بها باعتماد وسائل الضغط السلمية والخطاب المعارض المعتدل والمسؤول، بعيدا عن القطيعة والتشخيص والمهاترة . وهي تؤمن بأن الحوار الوطني هوالكفيل وحده بضبط قواعد العمل السياسي الديمقراطي والتوصّل إلى مصالحةوطنية شـــــاملة.
معالم رؤيتنا السياسية:
4. بالإضافة إلى تلك الشروطالأساسية لتجاوز الأزمة الشاملة التي تعصف بالبلاد، فإنّ حركـــة النهضةترى من الضروري التذكير بالمقوّمات الأساسية لرؤيتها السياسية التيتؤطّرعملها السياسي وتشكّل مجموعة الثوابت والأهداف التي ما فتئت تناضل منأجلها ومن أهمّها:
5. الهوية الثقافية للحركــــة:
تتمسّك الحركة بمرجعيتها الإسلامية وشمول مشروعها التغييري الديمقراطي ،وتوازن أبعاده السياسية والثقافية والإجتماعية. وهي لا تحتكر الصفةالإسلامية، وإنما تقدّم مشروعا اجتهاديا بشريا في معالجة أزمة المجتمع،استنادا الى فهمها للدين. كما لا تحتكر الصحوة الإسلامية ولا تحرص على ذلك. وتؤكّد على أولوية البعد الثقافي والتربوي والدعوي في مشروعها بعيدا عنالإختزال الحزبي أو السياسي للمشروع الحضاري والنهضوي الشامل الذي يستدعيمساهمة كل تيارات المجتمع لبلورته وانضاجه.
6. الحرية وحقوق الإنسان:
تعمل الحركة على المساهمة في تحقيق الحرية، باعتبارها قيمة محورية تجسّدمعنى تكريم الله للإنسان، وذلك من خلال دعم الحريات العامّة والخاصّة مثلحريّة الرأي والتعبير والتجمّع والصحافة، واحترام حقّ الأغلبية في الحكموالأقلية في المعارضة عبر مؤسسات منتخبة تنبثق عنها الشرعية والتداول علىالسلطة.كما تؤكّد الحركة على مبدإ استقلال القضاء وحياد الإدارة، والعمل على تحقيقذلك في الثقافة الإسلامية حتى تتحوّل الى قناعات راسخة ومبدئية في الوسطالإسلامي ، ويثبت عليها الإسلاميون في مرحلة المعارضة كما في مرحلة الحكم.
7. منزلة السياسي من الثقافي :
إنّ تأكيدنا على أولوية الثقافي والإجتماعي على السياسي تعني أن السياسييأخذ محمولات ومضامين بدرجة فكرية جديدة بحيث يكون خادما للمهمّة التربويةوالثقافية بدرجة أولى . لقد ضاقت حدود السياسي في تجاربنا الى الحدّ الذيكاد يفقد معاني الإصلاح الحضاري والتغيير المجتمعي والأخلاقي والتربوي ،واختُزل في نمط العلاقـــة الثنائية: سلطة/حركة. ومن دلالات وشروط حملالسياسي لمعاني الإصلاح الحضاري والنهضة هو أن يتأهّل في صورة خطابه ونموذجعلاقاته وآليات اشتغاله ضمن رؤية فكرية سياسية اسلامية عميقة ذات مدلولاتحضارية واسعة ومنفتحة لا ترتهن لدوافع الكسب الآني والسريع وإنما تمهّدللتحوّل الحضاري الإسلامي المتدرّج ببلادنا بمشاركة الجميع والإسهام فيتطوير الكسب السياسي العالمي في دورته الجديدة.
8. المصالحة الوطنية الشاملة:
تعمل الحركة على المساهمة في تحقيق المصالحة الوطنية الشاملة داخليّا وعلىالصعيديين العربي والإسلامي ، وهي تتويج لمرحلة من الحوار والإنفتاحالسياسي على قاعدة المشاركة والتعايش بديلا عن الإقصاء والتنافي أو حتىهيمنة الأغلبية ، عبر وفاق يحدّد ملامحه الميثاق السياسي الوطني من أجلتعميق الهوية العربية الإسلامية والتعدديّة والديمقراطية واحترام مبادئحقوق الإنسان . نحن بحاجة لتوسيع دائرة الثوابت الحضارية والوطنية عبر الإقناع والحواروالتسامح والتدرّج في الإنجازات أكثر من حاجتنا الى سيطرة مشروع تيّارمعيّن ولو كان اسلاميا ولو حاز على الأغلبية في لحظة انتخابات معيّنة. فتوزيع الأنصبة اليوم في بلادنا سياسيا بين مختلف القوى الفاعلة لا يخضعفقط للقانون الإنتخابي وإنما ينبغي أن يخضع كذلك خلال هذه المرحلةالتاريخية الى التراضي العام والوفاق واعتبار دور كلّ قوّة ليس بحسب عددهافقط وإنما بحسب قوّة تأثيرها ونفوذها في الواقع وحاجة التوازن لها أساسا . فإذا قدرنا مثلا أن الإسلاميين مرشحون عامة لنيل الأغلبية الإنتخابية فيهذه المرحلة في مجتمعاتنا، فينبغي أن يكونوا على استعداد للقبول بأقل منحصتهم خدمة للمصلحة العامة ورعاية لضرورات الوفاق الوطـــــني.
9. سلطة المجتمع ودور الجماهير فيتحقيق النهضة الشاملة:
تؤمن الحركة بأهمية دعم سلطة المجتمع واستقلالية هياكله وقوامته علىالدولة، بما يهيئ الإطار النظري والهيكلي لتقوية المجتمع المدني الحقيقيوتحقيق التوازن بين الدولة والمجتمع . إنّ مشروع الحركة هو المساهمة فيتحقيق النهضة الإسلامية الشاملة في البناء وتحرير الإدارة ، ولا يتأتّى ذلكفي ظلّ الإختلال الواضح في موازين القوى العالمية دون إشراك الجماهيروالإصغاء لمطالبها وتطلّعاتها. وما يصدق على الدول، يصدق من باب أولى علىالحركات التغييرية . فمن دون مشاركة جماهرية واسعة، ووعي جماهيري فعاّل ،غالبا ما تنتهي محاولات التغيير الى الفشل. وإنّ عدم تلبية الجماهيرلنداءات التغيير في وقت معيّن لا يعني اسقاطها من المعادلة أو تحقيرها،وإنّما يعني أنّ هناك خللا مّا في النـــداء ذاته بحاجة الى تعديلوتصويـــب.
10. الدفاع عن الوحدة الوطنية:
وذلك بمواجهة نزوعات التفتّت الطائفي أو المذهبي أو العرقي ، والتخفيف منالإستقطاب الحاد بين الحكّام والنخب، وبينهم وبين الشعب وذلك باشاعة مناخاتالحريّة والمشاركة العامة ورفع المظالم وتحقيق العدالة » يَا أَيُّهَاالَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلايَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَأَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَاتَعْمَلُونَ » المائدة الآية 8
11. حماية الإستقلال والسيادةالوطنية:
من خلال المساهمة في رفع الوعي الإسلامي وضرورة التمسّك باستقلالية القراروالسيادة الوطنية وحمايتها من الإختراق الأجنبي وتنسيق الجهود والخطواتلحماية مقدّرات البلاد ومصالحها . إنّ الصراعات الداخلية ومعارضة التياراتلبعضها البعض ومعارضة الأنظمة ما ينبغي مطلقا أن تكون على حساب المبادئالوطنية العليا واستقلال الوطن وسيادته.
12. سياسة خارجيّة مستقلة ومنفتحة:
تدعو الحركة الى إقامة سياسة خارجية تنبني على عزّ البلاد ووحدتهاواستقلالها، والتبادل العادل والمتكافئ للمصالح، ودعم قضايا التحرر والكفاحضد سياسات الإستعمار والتمييز والإسعلاء بكلّ أشكاله ومناهضة الأوضاعالمؤسسّة على الظلم والإضطهاد. كما تؤكّد على أهمية الحوار الصادق والبناءبين العالم الإسلامي والغرب ونبذ كل أشكال التعصب والإنغلاق والإرهابالفكري والمادي يقول الله سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّاخَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَلِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّاللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ }الحجرات13
13. بناء اقتصاد وطني قوي ومتوازن:
بالإعتماد على الإمكانات الفعلية للبلاد وتوزيع العادل للثروة ، بما يعنيحق كل فرد في التمتّع بثمار جهده في حدود مصلحة المجموعة والحصول على حاجتهالأساسية في كلّ الأحوال ، والقضاء على الفوارق الإجتماعية المبنية علىالإستغلال والإحتكار والفساد، والإسهام في تحقيق التكامل والإندماج مغاربياوعربيا وإسلاميا، مع الحرص على إقامة علاقات اقتصاديّة متوازنة مع بقيّةالكتل لا سيما أوروبيا وآسيويا.
14. العدالة الإجتماعية وحريّةالمرأة:
العمل على تحقيق العدل وتوفير الخدمات الإجتماعية بما يضمن كفاية الجميع فيالغذاء والصحّة والسكن والتعليم وغيرها من أساسيات الحياة الطبيّة ، صوتالكرامة الإنسان وتماسك المجتمع، في تناسق بين ضمان الحقّ وأداء الواجب. والعمل على حفظ الأسرة قوام المجتمع السليم، والنهوض بواقع المرأة، وتحريرفعالياتها للمساهمة في تنمية المجتمع بعيدا عن التبعية أو الإنحطاط بتأكيدمساواتها بالرجل وضرورة تحررها من التقاليد المتخلفة التي تحرمها من حقهافي المشاركة في التنمية الإجتماعية والإقتصادية والثقافية والسياسيةبالإضافة الى دعم المؤسسات الإجتماعية والنقابية المؤهّلة لتأطير نضالاتالشعب ضدّ كلّ مظاهر الحيف الإجتماعي والإستبداد السياسي. يقول الله سبحانهوتعالى » إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِيَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ » النحل الآية 90
15. الدفاع عن التضامن المغاربيوالعربي الإسلامي والتوجّه الوحدوي:
تؤكّد الحركة على أهميّة التضامن العربي والإسلامي، وضرورة حماية مؤسّساتهورموزه، وتعمل على دعم موقع تونس في محيطها وتطوير علاقاتها العربيةوالإسلامية والإفريقية على طريق التكامل والتعاضد، وتدعو الى الحفاظ علىالإتحاد المغاربي وتسريع خطوات بنائه ووضع حد للنزاعات الضيّقة التي تنخرهذا الكيان، والإتجاه قدما نحو إرساء هياكل التكامل الإقتصادي والتعاونالسياسي، وتشجيع التقاء المؤسسات الشعبية وتوحيد برامج التكوين التربويوالتعليم والثقافة، وتجاوز البعد القطري في التغطية الإعلامية والتعامل معالمنطقة كوحدة ذات مصالح وهوية مشتركة. وأن نجعل من التجمّعات الإقليميةخطوة نحو تحقيق الوحدة العربية والإسلامية.
16. التمسّك بفلسطين:
تؤمن الحركة بأنّ أرض فلسطين حق للأمّة لا يجوز التنازل عنه، وتدعو الىالسعي لتحريرها ورفض الحلول غير العادلة والتهافت على التطبيع مع الكيانالصهيوني مهما كانت المبررات والمنافع.وإذا كان من الجائز انتهاج المرحليةوالتدرّج في استعادة الحقوق المغتصبة ، فإنه لا يجوز الإعتراف بشرعيةالغاصب. مطالب المرحلة القادمة
تأسيسا على كلّ ما تقدّم، فإنّ حركة النهضة التونسية تطالب بما يلي
1. احترام حقوق الإنسان الفرديةوالجماعيةوضمانحرياته الأساسية، كما نصّت عليها تعاليم الإسلام السمحة والإعلاناتالعالمية وتضمّنتها المواثيق الدولية والقوانين الدستورية المحليّة.
2. ترسيخ هويّة البلاد العربيةالإسلاميةوالكف عن استهداف مظاهر التدين وإشاعة ثقافة التفسخوالإنحلال.
3. سن عفو تشريعي عام،واخلاء السجون من المعارضين السياسيين، ورفع مختلف أشكال قمع عائلاتهموتجويعها وتمكينهم من حقوقهم المدنية والسياسية دون اعتبار لإنتماءاتهمالفكرية والحزبية.
4. تعاضد قوى المعارضة السياسيةوالمنظمات الوطنيةومختلف الفعاليات من أجل تحقيق انفراج سياسي فيالبلاد يرفع المظالم ويردّ الحقوق والحريات من أجل الوصول الى حياةديمقراطية عادلة، ونبذ كلّ مظاهر العنف والتسلّط والإقصاء مهما كان مصدرها.
5. احترام حريّة الصحافة والتعبيروالإجتماعوالتنظم وصيانة استقلالية القضاء والمنظّمات الشعبيةوالوطنية وحياديّة الدولة.
6. مراجعة القوانين الجائرةالمنظّمة للحياة السياسية والإجتماعية، كقطاع الإعلام والشغلوقانون الأحزاب والمجلّة الإنتخابية على ضوء مرجعيتها الدستورية وإلغاءالمناشير الغير دستورية المنافية لحرية المواطن وحقوقه الأساسية، وإلغاءالمناشير التي تمنع المرأة من ارتداء الحجاب، وإقامة الصلاة والتدريسبالمساجد.
7. رفع وصاية الأجهزة الأمنية علىالحياة السياسيةومؤسسات المجتمع المدني، وإقاف المحاكمات السياسيةتحت أيّ غطاء كان، ودعم المسار التصالحي بدل التناحر والتنابذ والقطيعة،تقديرا لمصلحة البلاد والعباد.
8. التصدي لمظاهر التطبيع معالكيان الصهيونيودعم الصمود العربي. وأخيرا ، فإن حركة النهضة، وهي تمرّ بمحنة قاسية تستهدف وجودها وتدفعغاليا ضريبة وقوفها شاهدة لدينها ولشعبها ، لا يسعها الا التمسّك بهويّتهاالإسلامية والمضي قدما في نضالها المتواصل وجهدها الدؤوب في سبيل المساهمةفي تحقيق المشروع الحضاري الإسلامي والأهداف الوطنية. وتقديرا لمصلحة البلاد العليا، وانطلاقا من فهمها لمنهج الإسلام الحضاري فيتغيير الأنفس والمجتمعات، تجدّد الحركة الدعوة الى كلّ أبنائها وشعب تونسأن يحذروا من الإستدراج مرّة أخرى لخطّة خصمهم، وأن يعملوا بأناة وطول نفسبين الناس، وأن ينشروا الكلمة الطيبة ويتسلّحوا بالصبر الجميل والتوكّل علىالله سبحانه وتعالى:
وَاصْبِرْوَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُفِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ(127)النحل وقوله تعالى: {قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍمِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْأُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّالإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِتَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} هود الآية 88 صدق الله العظيم لندن في 6 جوان 1996 حركة النهضة بتونس الشيخ راشد الغنوشي بمناسبةالذكرى الخامسة عشرة للإعلان عن حركة الإتجاه الإسلايم بتونس يوم 6 جوان 1981 ، وبعد انقضاء مرحلة من التأمل والحوار الداخليين في مسيرة العملالإسلامي والوطني ببلادنا تقويما وتحليلا واستشرافا، نعرض على الرأي العامالمحلي والعربي والدولي خلاصات هذا الحوار وفاء بما كنا قد وعدنا به. ولايفوتنا في البدء أن نجلّ ونترحّم على أرواح شهدائنا الأبرار وأن نحييبإكبار ووفاء تضحيات وصمود آلاف المساجين الأبطال وعلى رأسهم الإخوةالدكتور الصادق شورو والمهندس علي العريض وحمادي الجبالس والشيخ الحبيباللوز، وآلاف الصابرين على الظلم القابضين على الجمر من الإخوة والإخواتداخل تونس السجن الكبير. كما نتقدم بأخلص التحية والتقدير للمنظمات الإنسانية والدولية والعربيةالتي ساهمت في كشف بعض حقائق معاناة شعب تونس وبالشكر الجزيل للشخصياتالفكرية والسياسية والهيآت الإعلامية والثقافية والأحزاب التي وقفت ضدالإستبداد في تونس والدول التي تفهمت محنتنا وأوت اللجئيين من التونسيينالمضطهدين وكلّ من ساهم في التخفيف من محنة تونس. حركة النهضة.
(المصدر: موقع « الحوار.نت (ألمانيا) بتاريخ 11 جوان 2010)
في الذكرى التاسعة والعشرين للإعلان عن حركة النهضة التونسية. حركة النهضة بين الأمس واليوم.
((( 5 ))). عالجت الحركة أزمة البلاد حتى الآن بأمرين :
1 ـ إعادة الإعتبار للإسلام منهجا للحياة جامعا برؤية وسطية معتدلة في محاولة للمساهمة في لعق جراح العالمانية اللائكية البورقيبية الثخينة. 2 ـ إعتماد الديمقراطية منهجا سياسيا عمليا و الإجتهاد في ربط القنوات اللازمة بينها وبين الإسلام. مواصلة مع مختلف المعالجات المعتمدة لأزمة البلاد. 3 ـ الإنتظام ضمن العمل السياسي الوطني تقديما لأولويتي الحرية والعدالة. منشأ هذا الإنتظام أمور ثلاثة : 1 : الحركة رؤية إسلامية وليست الرؤية الإسلامية. 2 : البلاد ملك لكل أهلها. 3 : أزمة الهوية أزمة جامعة وليست أزمة جزئية أو : أزمة البلاد معقدة وليست بسيطة. ـ إستطاعت الحركة ـ بفضله سبحانه ـ إلتقاط لحظة وعي تاريخية دقيقة جدا وذلك عندما ميزت ـ ولم تفرق ـ بين كونها حركة إسلامية سياسية وسطية جامعة تتبنى فهما للإسلام ونهجا في التفكير الإسلامي بدا لها أنه هو الأوفى لميراث النبوة والخلافة الراشدة نائية بنفسها عن غرور الدعوى بإمتلاك ناصية الأمر من أطرافه كلها غابرا وتاليا من جهة وبين كونها تحترم حق غيرها في الإنتساب إلى الإسلام ومنهاجه التفكيري تحت سقفه العقدي المعروف إجماعا من الأمة قاطبة جمعاء على إمتداد أربعة عشر قرنا كاملة من جهة أخرى. ذلك تمييز بين حلقتين من الإنتماء لا يلقاه إلا ذو حظ من الفقه في الحياة عظيم بسبب أن بديله الأوحد هو السقوط في هاوية التكفير فإن لم يكن تكفيرا فهو تفسيق وتبديع أو تشبيه ( الرمي بالشبهة) وهو أمر من شأن الدوائر القضائية المختصة إفتاء أو حكما وليس من شأن حركات الإصلاح. لعل شعار الحركة هنا هو كتاب المرحوم الهضيبي ـ ثاني مرشد للإخوان ـ عليه رحمة الله سبحانه لما أراد معالجة فتنة التكفير التي أوراها الذي أوراها في مصر تأبيدا لحكم “ الثورة “ الجديد أي كتاب : دعاة لا قضاة. فصلت في ذلك ورقة الرؤية الفكرية والمنهاج الأصولي من خلال تأسيس منهج الفهم على أسس ثلاثة ( الكشف عن النصوص والمقاصد و التجريد والعموم في الأشخاص والأفعال و التكامل بين المصادر والنصوص والمقاصد) وآليات خمس ( اللغة العربية والمقصد والتكامل والعامل التاريخي والمعطى العلمي الصحيح). وبذلك يكون موقف الحركة من التراث ( الذي هو كل كسب بشري في التجربة الإسلامية عدا القرآن الكريم والسنة النبوية) موقفا راشدا قوامه : المساندة النقدية دون إزدراء خسيس ولا إنبهار سلاب.موقف يحاول إقتفاء الأثر الخلدوني العجيب من خلال إلتقاط سنن نشوء النهضات من بعد كبوات. ـ كما إلتقطت الحركة ـ بفضله سبحانه ـ حكمة أخرى وذلك من خلال إعتبار البلاد ـ أي تونس ـ ملكا لكل التونسيين على إختلاف مشاربهم الفكرية والسياسية أي بما فيهم الشيوعيون والعالمانيون. منشأ ذلك هو أن الحركة تيار إصلاحي تقف على تضاريس الواقع كما هو في محاولة لدراسة أسبابه وخاصة : السنن الإجتماعية التي وفرت له شروط الميلاد. تونس عريقة في الإسلام والعروبة منذ فتحها الأول في القرن الأول من خلال حملات قادها الصحابة الكرام في إثر حملات ( المقصود بتونس إسمها القديم أي : إفريقية).ربما لولا القيروان والزيتونة ما كانت عريقة.نشوء الشيوعية والعالمانية وتيارات أخرى كثيرة لا تخرج عن دائرة التأثر بالفكرة الغربية المعاصرة في وجهها الإشتراكي الشيوعي أو اللبرالي الرأسمالي في الجملة.. نشوء كل ذلك جدير بحسن القراءة لإدراك حسن التعامل معه والتفاعل سيما أن ذلك الوجود له ثقله في الدولة والحكومة والمؤسسات والنخبة المثقفة بصفة عامة سيما في ذلك العهد الذي يعد فيه التدين إنحطاطا عن ركب الحضارة وعارا في وجه المدنية والحداثة ولذلك حبسه بورقيبة في الزوايا المظلمة والبعيدة عن مواطن المدنية رغم أنه يؤثر عنه أنه ـ ربما بسبب تكوينه الفرنكفوني العالماني المتطرف جدا ـ لا يرضى بذلك النمط من التدين ولكن لحساب التنوير كما يراه وليس لحساب الإسلام الذي يحارب مناهج التفكير الخرافية والأسطورية. ـ وكان من ثمرة ذلك المنهاج الإصلاحي الذي تبنته الحركة أن صرح زعيمها ورئيسها الشيخ الغنوشي عام 1980 لمجلة المجتمع الكويتية ( لسان الإخوان هناك) أن إسلاميي تونس يقبلون التحاكم إلى صناديق الإقتراع إلى درجة أنه إذا إنتخب الشعب التونسي الشيوعيين فما عليهم ـ أي الإسلاميين ـ إلا أن يعملوا على تغيير موازين القوى من خلال العمل المدني القائم على التوعية والتثقيف والتنوير وغير ذلك. أثار ذلك التصريح ـ وكان ضمن حوار مطول ـ الذي أثار في الصحافة الإسلامية وغير الإسلامية يومها. ـ ثم كانت الحركة عام 1981 بأصوات أبنائها وبناتها ـ رغم سجن قيادتها التاريخية ـ هي التي حملت حركة الديمقراطيين الإشتراكيين ـ بزعامة أحمد المستيري يومها أحد الليبراليين المنشقين عن الحزب الإشتراكي الدستوري في مؤتمر صفاقس عام 1975 بمناسبة إنتخاب بورقيبة رئيسا للبلاد مدى الحياة لأول مرة ـ إلى نيل أكبر نسبة أصوات ومقاعد برلمانية لولا أن مباضع التزييف الواسعة جدا كانت أسبق تحميها سلطة البوليش الغاشمة. ـ من يطلع على بيانات التنديد الممضاة من رؤساء الأحزاب والحركات والمجموعات اليسارية على مختلف أنواعها ـ في تونس والعالمين العربي والإسلامي فضلا عن العالم الغربي ـ إحتجاجا على سجن قيادة حركة النهضة ( الإتجاه الإسلامي يومها 1981).. من يطلع على ذلك يدرك أن الحركة الإسلامية التونسية نجحت في إختراق معادلة الإسلام والحداثة أو الإسلام والديمقراطية أو الإسلام والسياسة نجاحا كبيرا جدا. ـ كما تواصلت الأعمال الإعلامية والسياسية المشتركة بين الحركة ومختلف شركائها العالمانيين في البلاد وهو أمر أزعج الحكم التونسي يومها أيما إزعاج. ومما ساعد على ذلك تنوع مبادرات الليبراليين المشار إليهم أعلاه ( من مثل تأسيس الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان عام 1977 وحركة الديمقراطيين الإشتراكيين بعد ذلك بقليل ودخول المعترك الإعلامي بقوة من مثل : جريدة الرأي التي كانت بحق لسان الفئات السياسية والفكرية التونسية بمختلف مشاربها الفكرية والسياسية). كما أن بورقيبة لم يواجه ذلك الحراك الإعلامي والسياسي بشراسة إلا قليلا وقد تكون بعض العوامل حاسمة في ذلك من مثل حماية زوجه وسيلة بورقيبة ـ عليها رحمة الله سبحانه ـ لشقيقها حسيب بن عمار أحد أقطاب الليبراليين المعروفين ـ عليه رحمة الله سبحانه ـ فضلا عن عوامل أخرى يضيق عنها هذا المجال الآن. ـ أدركت الحركة إذن أن مشكلة تونس الأولى ـ ولن تزال إلى اليوم رؤية من جانب الحركة وحقيقة واقعية ـ ليست هي الوجود العالماني بمختلف تعبيراته ولكن مشكلة تونس الأولى هي مشكلة الإستبداد السياسي والدكتاتورية المتطرفة المتسترة خلف مبادئ الجمهورية وبقية المشهد الديمقراطي المعروف. لما أدركت الحركة ذلك عملت على الإنصهار ضمن العمل المعارض السياسي المشترك مع الإقرار بالإختلافات الفكرية و السياسية تواضعا على قضية تونس الأولى أي الحرية وتواطؤا على قرينتها التي تغذيها أي : العدالة الإجتماعية. ـ أدركت الحركة أنها لو نجحت في فك الإرتباط بين العالمانية التي ترتدي بثوبها الدولة ـ الدولة التي تغازل الإسلام وترتديه في الوقت ذاته ـ وبين الإستبداد الذي تغرزه في حرمات الناس .. أدركت الحركة أنها لو نجحت في ذلك ـ أو يوم تنجح في ذلك ـ فإنها تنجح في قطع نصف مشوارها الطويل. ـ وجدت الحركة من كثير من شركائها في المعارضة والنخبة لفيفا عنيدا ضد الدكتاتورية والإستبداد وهو لفيف يدرك جيدا أنه يختلف مع الحركة في مشروعها الثقافي والفكري بمرجعيته الإسلامية حتى وإن يكن وسطيا معتدلا متوازنا بسبب غربة كثير من أولئك على التربة التونسية العربية الإسلامية غربة شائنة لولا أن بعضهم راجع أمره بمثل ما راجعت الحركة أمرها وإكتشف كل منهما ما كان ينقصه أو يزيده. ـ دعني أقول : أسست الحركة معركتيها : الحرية والعدالة على أساس العدل والظلم وليس على أساس الكفر والإيمان لأن أساس الكفر والإيمان هو أساس صالح بملف الهوية وليس صالحا بملف الحرية والعدالة وهما مقياسان يتكاملان بالضرورة أما الفصل بينهما دون وصل أو الوصل بينهما دون فصل فهو الحالقة التي تضل بوصلة الطريق وخارطته. ـ أدركت الحركة أن شعار التحرير ـ تحرير البلاد من أنياب الدكتاتورية ومخالب الإستبدادـ هو الشعار المناسب الذي يجمع شركاء الإصلاح والتغيير حول ملفات مشتركة. أما ما عدا ذلك فهي إما طرقات فرعية تظل تضيق بسالكيها حتى تنعدم إمكانات المبادرة عندهم أو تكاد أو طرقات مخيفة محفوفة بمخاطر التفريق بين شمل التونسيين الذين جمعهم الإنسجام الديني والمذهبي واللغوي جمعا عجيبا. من يحاول قراءة مقاربة الحركة في ملف الهوية الذي إرتبط بها وإرتبطت به لاف بالضرورة ما يلي من خلاصات : ـ الهوية عند الحركة ليست هوية دينية فحسب حتى بالمعيار الإسلامي فضلا عن المعيار الكنسي. بل هي هوية جامعة متكاملة تبسط أجنحتها على القضية السياسية من خلال تقديم مطلب الحرية التي هي مخ الرؤية السياسية الإسلامية وعلى القضية الإجتماعية من خلال تقديم مطلب العدالة الإجتماعية وعلى قضية الوحدة العربية والإسلامية من خلال تقديم قضية الوحدة وغير ذلك من الجوانب. هي هوية إذن جامعة من جانب ومتكاملة من جانب آخر. ذلك أن كثيرا من الإسلاميين اليوم يعتبرون أن قضية الهوية قضية دينية قاصرة الإمتداد السياسي والإجتماعي والقومي ( قضية فلسطين المحتلة مثلا ).. لعل خير من وثق ذلك فيما يعتبر فقه الهوية المقارن بين مختلف التيارات السياسية و الفكرية التونسية هو الدكتور عبد المجيد النجار في كتابه : صراع الهوية في تونس. ـ مقتضى ذلك عمليا هو ما جمعت عليه الحركة نفسها أي مقاربة قضية الهوية سياسيا من خلال الإنتظام في العمل المعارض السياسي المشترك ومن خلال الإنتظام في العمل النقابي ورفض التعددية النقابية المغشوشة التي تسعى السلطة من خلالها ـ في عهدي بورقيبة وبن علي ـ إلى تشتيت الإتحاد العام التونسي للشغل وتقويض أركانه. ـ الهوية ـ بكلمة ـ في رؤية الحركة هي هوية دينية وهي في الآن ذاته هوية سياسية وهوية إجتماعية وهوية إقتصادية ( بادرت الحركة مبكرا جدا ـ عام 1980 ) إلى تنظيم ندوة إقتصادية مختصة حول الملكية الزراعية في الإسلام) وهوية قومية إلخ .. ليس هناك حقل لا تطاله الهوية الإسلامية في رؤية الحركة. كيف تعرض الحركة الهوية الإسلامية للتصويت والإنتخاب؟ ذلك سؤال لا يطرحه إلا ساذج ـ حتى لو كان يمتلأ طيبة ـ أو جاهل بفقه الإسلام أو فقه الحياة أو بهما معا. كيف؟ إذا كان السائل ساذجا فمعنى ذلك أنه لا يدرك أن الواقع الذي ترضى فيه الحركة الإحتكام إلى صناديق الإقتراع حول من يحكم البلاد ( الرؤية الإسلامية أم الشيوعية مثلا أو غيرها) هو واقع عربي إسلامي قح وليس هناك أدنى مغامرة في ذلك. ذلك ساذج عليه ان يثبت رجليه فوق الأرض الذي يطرح فوقها أو عليها السؤال. أما إذا كان جاهلا فعليه أن يتعلم أن كرامة الإنسان ثاني أكبر ثابت محكم قطعي لا خلاف عليه من بعد توحيد الرحمان سبحانه مباشرة. يجب أن يتعلم الجاهل بفقه الحياة أن الحركة إذا إنتزعت في عملية تصويت وإقتراع إعتراف الدولة بإنحياز الشعب إلى الخيار الإسلامي .. فإن ذلك لا يعد في العرف السياسي سوى تأشيرة عمل قانونية قبل التاشيرة.. تلك تأشيرة حكم وليس تأشيرة عمل قانوني. إذا إنتزعت أي حركة إسلامية ذلك من أي حاكم مستبد فمعنى ذلك إحراج للدولة وأي إحراج! وهل خير لك من إحراج خصمك سياسيا إحراجا تراكمه على إمتداد التجارب! ذلك هو معنى أن الحركة إنتظمت ضمن العمل السياسي المعارض المشترك إلتقاء على قضيتي الحرية والعدالة إذ بقدر تقدم العمل السياسي والإعلامي المعارض المشترك على ذلك الدرب قدما تكون قضية الهوية قد أخذت طريقها إلى الإعتراف من أبوابه الواسعة التي كانت تحجبه ظلما وزورا. وذلك هو معنى أن الحركة أدركت أن الواقع التونسي ـ ومثله واقع الأمة تقريبا ـ واقع معقد مركب وليس واقعا بسيطا. واقع مركب معقد لأن عوامل تأسسه كثيرة في الزمان وكثيرة في المكان وكثيرة في الهوية والموضوع. ولا يصلح بواقع مركب معقد غير حل مركب معقد.أي حل ينظر إلى المشكل من كل زواياه ويقدم له أكثر من إحتمال إصلاح ويتعاون عليه مع شركاء الطريق كلهم ومن بعد ذلك لأواء الطريق والصبر عليه. وحتى لقاء قابل. الهادي بريك ـ ألمانيا
ان المساندة المطلقة والغير مشروطة لاسرائيل بدات تؤكد نزوع الامريكان لتحمل كلفة حرب دينية جديدة سيكون عنوانها الاستيلاء على القدس احدى المواقع الدينية الرئيسية للاسلام وهجوم متواصل على المسلمين اينما كانوا بطرق متنوعة فيها ما هوسلمي وفيها استعمال العنف وتدمير كل قوة وكل بلاد تمثل تهديدل لاسرائيل. تغييرا استراتيجيا بهذا العمق مرتكز اساسا على القوة هو جنون انساني لا يقيم وزنا لما تمكن التاريخ من نحته وتحول تقريبا الى فعل طبيعي. وجود اسرائيل في هذا المكان بالذات وديمومتها الى حد هذه الساعة هو فعل جنوني . هناك جسد تاريخي تكون على مدى اربعة عشر قرن وكلما اشد فعل القوة فيه كلما ازدادت مقاومته وصحوته. ولا يمكن لاية عملية زرع اصطناعية ان تقنعه بالابقاء على هذا الكيان ما دامت الغاية من الزرع هي الغاء بعض الوظائف لهذا الجسد. وجود اسرائيل ككيان غريب عن المنطقة لا يمكن ان يؤمن له طريق للبقاء الا اذا كان محاطا بافكار جديدة واديولوجيا مشعة وانسانية وتجميعية للبشر .بفضلها يستطيع ان يصهر هذا الكيان تفوقه العسكري بتفوق اديولوجي يعطيه الافضلية في قيادة المنطقة والسطيرة عليها. ولكن اسرائيل دولة عنصرية لا رسالة لها ولا شئ تقوله للمنطقة ولشعوب المنطقة.انها اشبه بقلعة عسكرية قروسطية تمارس لعبة اقطاعية بامتياز. وتبدو سياستها تتجه الى تحويل شعوب المنطقة الى عبيد. رافضة حتى ان تتقاسم معهم تطورها العلمي والتكنولوجي.ويتباهى ساستها على انها الدولة الوحيدة الديمقراطية في المنطقة دون اينتبهوا الى ان هذا التباهي لا يخدمهم كما يتصورون بل انه حجة عليهم يبين للعالم ان استحواذها على كل هذه الميزات دون غيرها من بقية دول المنطقة هو خير دليل على تاثيرها السلبي وسواد طالعها . منذ ستين عام لم تفلح اسرائيل في التاثير على دول المنطقة لتتحول نظمها الى نظم دسمقراطية. هذا الوجود السلبي يعمل ساسة اسرائيل على استعماله الى فائدتهم في البروبغدا التي يشنونها كجزء من الحروب المتواصلة على المنطقة وصارت تستعمل كتبرير لبشاعة هذه الحروب. حتى ان ذلك المختل جورج بوش اقتنع انها سبيل لتبرير غزوه للعراق. ولاول مرة في تاريخ البشرية استمعنا الى اجهزة البروبغدا الفاشية الصهيو امريكية تعلن ان الجيش الامريكي جاء ليحرر العراق وينشر الديمقراطية . لاول مرة في التاريخ صار نشر الحرية ذريعة لشن الحروب وقتل الابرياء. وقرانا مقالات شبيهة بتقارير طبية تنقل عن مجانين يدعون ان العرب يقتلون اليوم على ايادي الصهاينة والامريكان لانهم يرفضون ان يعيشوا في نظام ديمقراطي . كل هذه الحرب علينا صارت تبرر باننا اعداء للحرية والديمقراطية.وان وجود اسرائيل في المنطقة هو لنقل الديمقراطية حتى لو تسبب ذلك في قتل ملايين العرب الرافضين للحرية. الانهيار الاديولوجي يبدا عندما يتبعثر المنطق على هذه الشاكلة. لانه حتى لو فرضنا عبثا انه يمكن ان تقوم امة بمحاربة شعوب ما قصد اجبارها على اتخاذ نظامها السياسي فالمفروض ان تاتي تلك الحرب اكلها وتفصح عن اهدافها ويؤدي انتصار تلك الامة الى فرض النظام الديمقراطي على تلك الشعوب. و اسرائيل تحاربنا منذ ستين سنة وانتصرت علينا مرات عديدة ولكن هذا لم يؤدي الى انتشار الحرية في بلداننا. فاين الخلل؟ كم سيقتلون منا حتى نامل في ارساء نظم ديمقراطية عندنا؟ ام انهم يخططون لقتلنا وابادتنا وتحويلنا على ديمقراطية القبور؟ اسرائيل تجر الغرب الى حرب دينية. هذا هو التشخيص الحالي لما نحن بصدد فهمه اليوم.كل نتائج المعارك تصب في هذا الاتجاه.حتى انهم بسبب الغثيان الذي تسببه شروط الحرب الدينية هم اليوم يحفرون سراديب لديمقراطيتهم بهذه القوانين المعادية للحريات التي باتوا يتفننون في اصدارها ضد شعوبهم. كل الغرب الذي حمل المشروع الصهيوني على كتفيه بات يغرق تدريجيا في وحل حرب دينية لا ناقة له فيها ولا جمل؟ فماذا سيربح المواطن الامريكي او الفرنسي او الالماني من انتصارات سيحققها مجموعة من المجانين اليهود داخل مدينة القدس ستجعلهم قادرين على بناء معبدهم على انقاض المسجد الاقصى؟ ماذا سيربح الامريكان من معبد سليمان اذا قدر له وصار حقيقة عمرانية؟ كل هذا الاحتشاد للقوة.وكل هذا الدمار الذي لحق بالمنطقة ستكون نتيجته بناء معلم ديني لليهود .وبعد ان يتم بناءه على ماذا ستحصل شعوب البلدان الغربية لو فرضنا عبثا ان المسلمين سيتوقفوا عن محاربة من استولوا على موقعهم الديني؟ لاشئ. سوف لن يربحوا شيئا على الاطلاق. سيكون معبدا اخر في الشرق ومجموعة من اليهود المتدينين يجوبون غرف المعبد ولاشئ اخر. سيضاف هذا المعبد الى معابد اخرى اسلامية ومسيحية وغيرها ولن يتفجر من هذا المعبد لا حليبا ولا طماطم ولا سندويتشات لاطعام الغربيين. ورغم ذلك هذا الغرب العقلاني المجرب الذي دمرته سنوات حروب دينية بائسة يعود ليشرب السم من جديد. ويسمح لنفسه بتدمير حضارته من اجل مشروع ديني ميؤوس منه ولا يمكن ان يؤمن له لا قمحا ولا شعيرا. في السابق كانت الحروب الدينية تقوم على اسس تصادم مفاهيم وسلوكيات .كانت الديانات تحمل رؤية للحياة وللاقتصاد وللبوليس . ومنذ قرون استوفت الديانات مقوماتها الاديولوجية ولم يعد هناك مجال للاختلاف على الجوهر.وتوقفت الحروب الدينية لتترك المجال لصناعة الحضارة على اسس عقلية. هذا هو جوهر ما اقتربنا منه وربحناه. هذا هو جوهر مسالة العلم والعلمانية.ان نتصرف بعقلانية.وهو في النهاية ما كانت تحثنا عليه الديانات. ومنذ مدة كان يقف بين اليهود والعرب رجل اسمه ياسر عرفات .هذا الرجل قاوم اسرائيل في بداية حياته .ثم اقتنع ان موازين القوى السياسية والعسكرية لا تسمح له بالقاء اليهود في البحر.وكان رجلا عاقلا.وسمح لنفسه بتفسيخ ماضيه النضالي وقال للعالم انني اقبل بوجود اسرائيل. ورغم وجود معارضة شديدة له اصر الرجل على قبول مشروع التقسيم. وذهب الى اسلو وانحنى للقدر.ولكن اليهود لم يقدروا انحناء ذلك العملاق. وكانوا يقولون فيما بينهم هذا قزم اخر يريد التطاول .واعتقدوا انهم ليسوا في حاجة اليه. وقتلوه امام اعيننا. وراينا المجانين منهم يهرولون للاستيلاء على القدس. وكان هذا اعلام بانه لم يعد هناك مكان للعقل.على الغربيين ان يعلموا ان هذه الحرب الدينية القادمة لن تكون اهدافها اعطاء ارض لدولة اليهود. ياسر عرفات اعطاهم تلك الارض. وبعد ان قتلوا ياسر عرفات من حق الفلسطينيين ان يسحبوا منهم اذا ارادوا مشروعية امتلاك هذه الارض. ولكن اليهود يذهبون الى جهنم الاصطدام على مليار ونصف مسلم. ستكون حربا مجنونة .وحربا لا مثيل لها في تاريخ البشر اذا ما واصلت اسرائيل حشد الغرب خلفها. انهم يضعون حضارة البشر على محك لا محك مثله. من قال لهم ان الاستيلاء على القدس كاملة وبناء معبدهم على انقاض الاقصى هو امر ممكن. من قال ان هذا ممكن؟ الغربيين لا يعرفون ما معنى القبلة. لا احد في الاعلام وفي تنوير الراي العام فسر للغربيين ما معنى القبلة بالنسبة للمسلمين. حتى اني مقتنع ان اليهود لا يفهمون ما هو مفهوم القبلة عند المسلمين وما هي قيمتها.ويتصرفون كانه يمكن ان تنتزع قبلة المسلمين بسهولة. هم لا يلاحظون ان مليارا ونصف مسلم يتجهون يوميا خمسة مرات في اليوم وجهة قبلتهم وان انتزاعها هو ابطال مفعول خمسة صلوات في اليوم. ابطال الصلاة بالنسبة للمسلم هو كمن يعلن ابطال الاسلام. فمن يجرؤ على هذا ؟من بيديه القوة اللازمة لابطال هذا؟ في الغرب لا يعرفون ان اليهود يستولون على ركن اساسي في الاسلام. وهي الصلاة. لا احد يفسر لهم هذا.ويعتقدون فقط ان اليهود يسترجعون ارضا كان لهم فيها معبدا. وكل الناس تتحدث عن الحجر. لانه لا احد يرى المسلم الماليزي او التركي او الافغاني الذي سيبحث ذات يوم عن قبلته ولن يجدها ويعلم بذلك ان هذا ينقص من قيمة صلاته . ولا احد يستطيع ان يتنبا بما سيفعله ذلك المسلم في اقاصي المعمورة لاستعادة قبلته. لا احد يستطيع ان يتكهن بما سيفعله . هذه مسالة لا تتعلق بجماهير معباة ومسيسة يقودها خطيب يلهب مشاعرها .انها قضية شخصية بين المؤمن وخالقه.وفيها استحقاقات. ولن يخلق بعد ذلك الكائن الذي يعتقد انه يستطيع ان يعبث بقبلة مسلم. لا احد يفسر للامريكان وحتى لساسة الانظمة العربية ان وجود اسرائيل على حدود 67 هي قضية فلسطينية وان هذا الامر يمكن للفلسطينيين ان يتناقشوا فيه فيما بينهم . ما لا حول ولا قوة للفلسطينين فيه هو عندما ترفض اسرائيل قرار التقسيم وتتجه الى الاستيلاء على قبلة المسلمين فهي تدحرج القضية الى خارج حدود فلسطين.ولا توجد قوة على الارض قادرة على ايقاف هذا التدحرج الى عنف كوني لا احد يستطيع التنبؤ بما سيؤول اليه. الامجد الباجي