لندن ـ يو بي أي: استنكرت اللجنة العربية لحقوق الإنسان عمليات نزع الجنسية التي قالت إنها طالت أكثر من 400 مواطن بوسني من أصول عربية في إطار ما تسميه الحكومة البوسنية سياسة المساهمة الفاعلة في الحرب علي الإرهاب . وقالت اللجنة في بيان لها امس الأحد إنها دق ناقوس الخطر لأن تجربتها مع الحكومة البوسنية منذ أحداث 11 أيلول (سبتمبر) تجربة سيئة في ملفات حقوق الإنسان، حيث رحلّت السلطات البوسنية أسامة فرج الله والشريف حسن السيد إلي مصر في 6/10/2001، وهما يقبعان في السجن بحكم من محكمة استثنائية بالسجن لعشر سنوات . وأضاف أنها سلمت ستة مواطنين من أصل جزائري إلي السلطات الأمريكية وتم نقلهم إلي (معتقل) غوانتانامو (في كوبا)، وهم شلنة الحاج، آية إيدير مصطفي، صابر الأحمر، بومدين لخضر، بو ضلعة الحاج، وبلقاسم بن سايح، مع أن القضاء البوسني برّأ ساحتهم جميعا من أية شبهة في 8/1/2002 . كما أشار البيان الي ترحيل طالب اللجوء السياسي بدر الدين الفرشيشي في 29/8/2006 إلي تونس وهو في السجن ينتظر محاكمة عسكرية . واعتبرت المنظمة أن سياسة الحكومة ووزارة الأمن البوسنية القائمة علي الترحيل العشوائي والاعتباطي بدعوي تنظيف البلاد من الإرهابيين الإسلاميين تطال مواطنين وعائلات بوسنية تعيش في الحياة المدنية منذ عشر سنوات كأي مواطن بوسني، وتخالف تصديق البوسنة علي اتفاقية حقوق الطفل وتوقيعها العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية والاتفاقية الأوروبية لحقوق الإنسان والحقوق الأساسية واتفاقية مناهضة التعذيب، وتخالف أيضا الدستور الذي يحظر الإبعاد لدول تمارس جريمة التعذيب وتتعرض فيها حياة المبعد للخطر . (المصدر: صحيفة “القدس العربي” (يومية – لندن) الصادرة يوم 23 أفريل 2007)
حول العنف المبرر دينيا
شوقي عريف (*) لم يكد ينتهي المحللون من تحبير المقالات حول المواجهات التي عرفتها تونس نهاية العام الفارط حتى لحقت بها تفجيرات الرباط والجزائر العاصمة. وقد إتفق، تقريبا، كل من شارك في التحليل على أن من نفذوا التفجيرات الأخيرة في الرباط هم من الشباب المغرر بهم وضحايا عمليات غسيل الدماغ. وبعد الإتفاق على أن منفذي التفجيرات من المغرر بهم ينتقل المحللون والمعلقون على مثل هذه الأحداث إلى المرحلة الثانية في تحليلاتهم ليقفوا على الأسباب. هنا أيضا يتفق الجميع دون إستثناء على أن الدافع (الرئيسي) وراء هكذا أفعال هي الحالة الإقتصادية التي يعيشها منفذي الهجمات ولعل التقرير الذي بثته قناة الجزيرة كتغطية لحدث تفجيرات الرباط ذهب في نفس الإتجاه حيث وضعنا في صورة الوضعية الإقتصادية والإجتماعية المزرية التي ينحدر منها منفذي التفجيرات. زد على ذلك أن تحليلات بعض المتدخلين في نفس المساحة الإخبارية التي بث فيها التقرير ذهبت في نفس الإتجاه، إذ تم ترديد عبارات كحي سيدي مومن الفقير وأحياء الصفيح وأحزمة الفقر… كما يتفق هؤلاء المحللون على أن وضعية الإنعلاق السياسي الذي تعرفه المنطقة والتضييق على الأحزاب والجمعيات تلعب دورها في دفع الشباب إلى اليأس والتفكير في العنف. وهنا يتدخل الباحثون عن الأدوار، على حساب الشعوب التي تسحق، ليذكروا بضرورة الإنفتاح السياسي بإعتبار أن أحداث العنف التي تعرفها المنطقة من حين لآخر ما هي إلا رد فعل على محاصرة المجتمع وتعبيراته السياسية وخاصة الإسلامية المعتدلة منها المفترض أنها تقوم بتأطير الشباب المسلم الراغب في العمل السياسي وإنتشاله من خطر الأطروحات التكفيرية، كما لا يفوت مجموعة التجار التذكير بسب آخر هو العلمنة المفروضة على المجتمع بالقوة والنهج التغريبي القصري والتواطئ مع الإحتلال والسكوت عليه. وبالمناسبة كان أحد هؤلاء التجار قد أعاد أسباب التفجيرات الأخيرة التي حصلت في الجزائر العاصمة إلى إعتداء الجيش والأجهزة الأمنية المدعومين بالنخب اليسارية والعلمانية، قبل خمسة عشر سنة خلت، على رغبة الشعب (الجزائري) الذي إختار الإسلاميين في الإنتخابات. لكنني أعتقد بأنه ليس من الموضوعية بما كان أن نحمل الجيش والنخب اليسارية والعلمانية مسؤولية ذبح مائتا ألف إنسان جزائري نظرا لأن الجنرالات والبوليس وهذه النخب اليسارية والعلمانية لم يتحركوا إلا بعد أن صرح علي بالحاج “ببرنامجه” الشهير الذي أعلن فيه عن موت الديمقراطية. وحسب تقديري فإن كل هذه التحليلات التي ترجع ظاهرة الفكر التفجيري إلى الوضعية الإقتصادية والسياسية أو الإعتداء على رغبة الشعب (الجزائر مثالا) مجانبة للصواب أو لنقل على الأقل منقوصة. فقد أتفق، إلى حد ما، مع القائل بأن الوضعية الإقتصادية والإجتماعية لهؤلاء الذين يتبنون الفكر التفجيري أو العنف المبرر دينيا تلعب دورا في تحريكهم لكنني لا أتفق مع من يرى بأنها السبب الرئيسي. كما أنني لا أتفق مع من يقول بأن حالة الإنغلاق السياسي تلعب دورا كذلك في دفع الشباب إلى الفكر التكفيري، فحركة النهضة الإسلامية التونسية، مثلا، أدانت التفجيرات رغم أنها تتبنى الفكر التكفيري هي الأخرى (وثيقة “الرؤية الفكرية والمنهج الأصولي لحركة الإتجاه الإسلامي بتونس”). كما أنني كنت سأتفق مع من سيقول بأن التفجيريين لهم الحق في تبادل العنف مع الدولة المفترض أنها تحتكره وتعقلن إستعماله بما يضمن سلامة العقد الإجتماعي إلا أنها لا تفعل فهي تمارس العنف ضد الشعب وضد تعبيراته السياسية المختلفة بمناسبة وبغير مناسبة. لكن حتى هذه القراءة لا تتناسب مع ما حدث في الرباط بإعتبار أن منفذي التفجيرات لا يمارسون السياسة. إذا فلا الوضع السياسي أو الإقتصادي القائمين ولا حتى تبادل العنف بالعنف (لو كان التفجيريون يمارسون السياسة) حسب رأيي هي الدوافع وراء التفجيرات، بل إن الإشكالية تكمن في الدين في حد ذاته وما يحمله من تناقضات، قبل أن يكون إيديولوجيا تشرع للفعل السياسي. فالقائل بأن الوضع الإقتصادي هو الدافع وراء أحداث العنف سيجد نفسه غير قادر على تفسير ظاهرة بن لادن/الضواهري (المسلمين جدا جدا) المختفيين في جبال أفغانستان وهما المتحدرين من أوساط ميسورة لا بل ثرية جدا؟ ألا يمكنهما أن يقنعا نفسيهما بالآية القائلة “وأطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم” كما يفعل ذلك الكثير من المسلمين، التونسيين مثلا، أو في أقصى الحالات تبني نموذج الإخوان المسلمين الذين يعملون في السياسة وهم مسلمون فيأمن بن لادن على نفسه وعلى أمواله ويمارس الضواهري حياته وهما محافظان على إسلامهما. من هنا تبدأ التناقضات تأخذ منحا تصاعديا وتزداد حدتها. فلو إسترسلنا في التساؤل بنفس المنهج سيكون السؤال الذي نواجهه الآن من هو إذن المسلم الحقيقي أسامة بن لادن الذي ضحى بماله وعمل بكلام الله وأراد تغيير المنكر بيده أم الحركات الإسلامية التي تصف نفسها بالمعتدلة والتي تشتري بآيات الله ثمنا قليلا ولا تساهم في تغيير المنكر إلا بالفم أو بالقلب؟ للإجابة على هذا السؤال يعتمد الناس عموما نموذجين إثنين لا ثالث لهما. الأول يعتبر الإسلام خطا متواصلا ينطلق من النقطة صفر لينتهي في النقطة واحد وسيكون تحديد المسلم من الكافر هنا بإعتماد النزعة، فكلما إقترب شخص من الصفر يعتبر كافرا زنديقا وكلما إبتعد عنه ليقترب من الواحد يعتبر مسلما صالحا وفي المسافة الفاصلة بين الحدين توجد تصنيفات أخرى تتغير بتغير النزعة. أما النموذج الثاني فيرى أن الإسلام عبارة عن نقطة واحدة (مع إمكانية إعتبار هامش خطأ) وبذلك يكون تحديد المسلم من الكافر بالنسبة إلى تلك النقطة. فإذا كان الشخص على النقطة أو في هامش الخطأ المسموح به فهو مسلم وإذا كان خارج الهامش فهو كافر لا محالة. مع الإشارة إلى أن التكفريين الحقيقيين/الأصليين لا يعتمدون هامش الخطأ. وجدير بالذكر بأن كل من النموذجين له تبريراته في عقول أنصاره. فأنصار النموذج الأول يقولون بأن الإيمان درجات والإسلام دين يسر وغيرها من التبريرات المأخوذة من القرآن والسنة وتأويلات المؤولين. أما أنصار النموذج الثاني، وهم كذلك يستقون تبريراتهم من الدين، فيقولون بأن الدين وحدة أفكار ومبادئ وأحكام تقبله كله أو تتركه كله. حسب النموذج الأول، المتسامح نوعا ما، سيكون الإخوان المسلمون، مثلا، مسلمون جيدون أو هم الأقرب إلى المسلمين الصالحين، بمنطق النزعة الذي يعتمده النموذج. أما التفجيريون المسلمون فإسلامهم حسب النموذج تحصيل حاصل بإعتبارهم يتبنون أفكار تفوق في إنضباطها أفكار المعتدلين. أما معظم الشعب التونسي، مثلا، فسيصنف في المنزلة بين المنزلتين أو لنقل مسلمين ينقصهم الصلاح أو بطريقة أكثر تهذيبا هم في الدرجات الأولى من سلم الإيمان. أما لو إستعمالنا النموذج الثاني فسيبقى المتطرفون مسلمون وقد يسقط بعضهم في هامش الخطأ المسموح به (ويبقون مسلمين على أية حال) أما السؤال هنا فسيكون عن مآل الإسلاميين الذين يقدمون أنفسهم معتدلين، أو بعبارة أخرى ما هو حكم من يشتري بآيات الله ثمنا قليلا؟ أما الشعب، كالشعب الجزائري مثلا، فهو أبو جهل لا محالة (وصف زعيم تنظيم القاعدة ببلاد المغرب الإسلامي تفجيرات الجزائر بغزوة بدر) ويجب أن ينزل به أشد العقاب. في هذا الوسط الديني الموسوم بالتناقضات يظهر شخص إسمه “س” لا يريد شيئا سوى ممارسة دينه غير منقوص. بعد المعاينة والتدقيق تبين لـ”س” أن النموذج الأول، الذي قدمته أعلاه، لا يلبي رغبته في أن يصبح مسلما صالحا بإعتباره نموذجا ملتبسا لا يحدد بشكل واضح من هو المسلم من غيره، كما أنه لم يقرر بعد إختيار النموذج الثاني ولنعتبر أنه لم يكتشفه بعد. يبدأ “س” في الإطلاع على الإنتاج الديني من قرآن وسنة وكتب فقه وإجتهاد في تأويل الدين ليساير العصر وغيرها من المصادر. في الأثناء يتعرف “س” على بن لادن الثري جدا جدا، من خلال الإعلام، كما يتعرف على المهمة التي هو بصددها ومن أجلها ضحى بالغالي والنفيس. من خلال نفس الوسيلة الإعلامية، يتعرف “س” على مجموعة من الإسلاميين الذين يقدمون أنفسهم كمعتدلين منتشرين هنا وهناك في دول الشمال سلاحهم جهاز الكمبيوتر ومقالات تندد وتشجب تنشر في هذا الموقع أو في تلك الصحيفة كلما سمحت الأحداث. بعد هذا الكم من المعلومات تبدأ الأسئلة في التظخم في عقل “س” ويبدأ “س” بدوره يبحث عن إجابة لهذه الأسئلة الصعبة: رجل ثري، قد تساوي ثروته ثروات هؤلاء مجتمعة يضحي بكل شيء من أجل محاربة الكفار والصليبين؟؟ ماذا يعني هذا…لا…لا…حتما لا، المعتدلون كذلك يصلون ويصومون…وماذا يعني إن هم قاوموا الحكام الطغاة والكفار من خلال مقالاتهم…يضع “س” الجريدة التي كان يقرأ فيها خبرا عن وكالة الإستخبارات الأمريكية وحربها على أسامة بن لادن وأيمن الضواهري ليعود إلى كتب الفقه التي يعتقد أنها ستنير السبيل أمامه ويصبح مسلما صالحا. فيقرأ عن الجهاد وضرورة تغيير المنكر كما يقرأ في كتاب آخر يبين فيه مؤلفه كيف أن القرآن صالح لكل زمان ومكان. تزيد حيرة “س” ويبدأ البارادوكس في التضخم وهو يأكل ما تبقى من زوايا العقل المطمئنة: أمريكا تحتل العراق وسوت من قبله أفغانستان بالأرض والقرآن الذي هو صالح لكل زمان ومكان يحثنا على الجهاد ضد الكفار ونصرة المسلم أينما كان…يا له من بطل بن لادن إنه يقوم بواجبه على أتم وجه…إنه نموذج المسلم الحقيقي الغيور على دينه الذي لم يشتر بآيات الله ثمنا قليلا… في هذا المستوى وقد كبر البارادوكس في عقل “س” وبعد أن عرف ما لم يكن يعرفه زادت المسؤولية الأخلاقية. فلو كان لا يزال يجهل كل ما توصل إليه لأمكن له مواصلة إعتماد النموذج الأول، لكنه الآن يعرف الكثير ويجب أن يتحرك على أساس هذا الكثير، فيجد “س” نفسه “مضطرا” لتبني النموذج الثاني دون هامش خطأ فالدين كل متكامل وصالح لكل زمان ومكان وإذا كان الجهاد قد عرفه الأجداد قبل مئات السنين فلا مجال لإنكاره الآن خاصة وأن الكفار الذين حاربهم الأجداد قد عادوا. يضع “س” كتبه جانبا ويهتف إلى صديقه الذي سيلتقيه في المسجد بعد ساعة ليقول له بأن لديه الجديد وعليهما أن يتحركا وإلا فقد يضيع الأجر. (*) طالب في ماجستير الإقتصاد 23 أفريل 2007
أنــا أعارض..إذا أنــا مجنــون !!!
خــالد الطــراولي
ktraouli@yahoo.fr
دخل بيتي على حين غفلة من أمري، رافق صداقة قديمة لم تستطع الأيام طيها، قال بملء الفم والعين أنه معارض، قال أنه ينتمي إلى جنس بدأ ضموره يغزو العقل والنقل…
سألته : لماذا تعارض؟
قال : لأني مخالف ولا يهنأ لي بال إذا لم أبدي اختلافي أو خلافي
قلت : إذا القضية نفسية… وتكاد أن تكون شخصية! ولهذا أنصحك بأول مارستان أو طبيب نفساني يقيك شر نفسك أولا، ويقينا شرها من بعد شفائك!
قال : إني أعارض لأني أريد خدمة وطني والعمل على سؤدده ورقيه، أحلم بالعدل والحرية والرفاه لكل مواطن ولكل الوطن…
قلت : عجيب أمرك وهل تظن أن من أمسك اليوم بحالنا وتولى أمرنا كان يدعي غير ما تقول، كان كلامه ولا يزال حبا للوطن، فمزقه، وخدمة لنا فاستعبدنا، ورحمة بنا فاستخفنا..، هل رأيت حاكما قال لرعيته يوما أنه جاء لإظلام نهارها وتوضيع أحلامها وإضاعة آمالها..؟ لقد كان العهد الجديد وسمات التغيير والرفاهة للجميع والحرية للوطن… هي الكلمة الأولى ولا تزال! فهل هذه معارضتك؟، وعلينا لن تنطلي من جديد…
قال : إذا أعارض من أجل نرجسيتي من أجل فطرتي وقد جُبلت على حب السلطة وقيادة الناس، وليس في هذا عيب أو ضرر!
قلت : عفوا، إذا لماذا نخيّرك على حاكمنا وقد عرفناه؟؟؟، جاءنا جائعا فأشبعناه، وغريبا فآويناه، وكاذبا فصدقناه، وفقيرا فأثريناه، وصغيرا فكبرناه، وحقيرا فعظمناه، وجاهلا فعلمناه… ثم كان منه ماكان.. أشبعناه فجوّعنا، وآويناه فشرّدنا، وصدقناه فكذبنا، وأثريناه فأفقرنا، وعظمناه فوضعنا، وآويناه فشردنا، وعلمناه فجهّلنا..، وتريد منا أن نعيد مأساة لم تنته فصولها ونسقي شجرة لا تنبت إلا حنظلا وزقوما طعاما لنا!
قال : أعارض حتى أتشبه بالمتقدمين بين الأمم، فالمعارضة صفة التقدم والتمدن والتحضر!
قلت : قد أمسكنا بالقشور طيلة حياتنا وأمة لا تعرف طعم اللب، لن تعرف طريقه ولن تعرف الحياة… حتى المعارضة جعلناها ككسوة العيد نلبسها لتنتشي بها ذواتنا يوما ونستفز بها ابن الجيران، ثم تأخذ مكانها في الخزانة في انتضار العيد القادم ونتركها غير عابئين، لبسناها يوم العيد وظننا كل أيامنا عيد!!!
قال : إني أعارض لأني بعيد عن الوطن، بعيد عن موطن الألم، بعيد عن الركل والشتم والسحل والضرب والسجن، حميت ظهري وملأت بطني فنقصت أوجاع رأسي، كلمات لا تكاد تغادر حلقي، همسات أرددها في بيتي وتحت لحافي، ودردشات خفية الصوت مع من أستأمنه على حالي، وأتجنب كل جدار مقوس أو ثقب بباب أو بيت كثير النوافذ والأعتاب.
قلت : ذلك أضعف الإيمان ولكن في مثل حالنا لا نريد أقل من كل الإيمان، فمن للأوطان إذا عارضت في كهفك وتحت وسادتك، بعيدا عن أرضها وسمائها؟، من للأوطان إذا تركت مفاتيحها لغير أهلها؟ من للأوطان إذا استولى عليها العبث؟، من للجائع والمعتر؟، من للسجين والشريد؟، من لليل حتى يقصم سواده وينجلي عن صبح قريب؟
قال : لقد حيرتني إذا أنا معارض لكي يقال معارض وكفى!
قلت : قد قيل، قد قيل… فأنت المعارض وزيادة! فماذا ربحنا وماذا ربحت؟ معارضة بلا إخلاص كبناء بلا أساس، يحمل سقوطه بين يديه وهو يظن البناء، يبني هلى هواء والهواء منه براء…ألا ترى ياصاحبي أن الأخلاق قيمة، من ضيعها فهو لما سواها أضيع، ولذلك ضاعت شعوب بأكملها وبيعت أوطان بأجمعها على حين غفلة من أهلها!
قطب جبينه، علا حاجباه، ثم قدّر، ثم نظر، ثم أطلق زفرة خلتها النهاية ثم علته ابتسامة وقال مبتهجا : وجدتها وجدتها وجدتها… أنا أعارض…إذا أنا مجنون!!!
قلت مستغربا بل قل يا صاحبي: أنا أعارض ..إذا أنا موجود!
المصدر : ركن “خواطر” موقع اللقاء الإصلاحي الديمقراطي
www.liqaa.net
كلمة الرئيس زين العابدين بن علي بمناسبة اليوم الوطني للجمعيات
إن احترام استقلالية العمل الجمعياتي يجب ان لا يتنافى مع الثوابت الوطنية
أكد الرئيس زين العابدين بن علي في الكلمة التي القاها بمناسبة اشرافه يوم الاثنين على موكب الاحتفال باليوم الوطني للجمعيات، الذي حضرته السيدة ليلي بن علي حرم رئيس الجمهورية ورئيسة جمعية بسمة للنهوض بتشغيل المعوقين، الدور الهام للعمل الجمعياتي في خدمة الشان العام وترسيخ روح البذل والتطوع في المجتمع التونسي .
كما اكد على توسيع فضاءات الحوار وفرص المشاركة امام اكبر عدد ممكن من الجمعيات بعيدا عن كل وصاية او احتواء .
واذن في هذا الصدد “مركز الاعلام والتكوين والدراسات والتوثيق حول الجمعيات” برصد التوصيات والاقتراحات والافكار والمواقف التي تصدر عن الجمعيات حول اى قطاع او موضوع وطني او دولي جدير بالعناية والدراسة وذلك بغاية الاستئناس بها في رسم الاختيارات الوطنية واستشراف افاق المسيرة التنموية للبلاد .
وشدد رئيس الجمهورية في كلمته على ان احترام استقلالية العمل الجمعياتي لا يعني ان تتحول هذه الاستقلالية عند البعض الى عقلية احتكارية منغلقة على نفسها وعلى من حولها ولا ان تنقلب احيانا الى ذريعة للتطاول على القانون او الاضرار بمصالح البلاد او السقوط في التبعية لجهات خارجية لا تنسجم غاياتها ومواقفها بالضرورة مع الخصوصيات والثوابت الوطنية .
وأعرب الرئيس زين العابدين بن علي في ختام كلمته عن ثقته بوعي العاملين في الحقل الجمعياتي بضرورة التفاعل والتكامل بين دور هياكل الدولة ودور مكونات المجتمع المدني من اجل خدمة تونس واثراء مكاسبها والرفع من شأنها .
وألقى الدكتور منجي الزيدي في هذا الموكب محاضرة بعنوان المجتمع المدني وتحديات العولمة .
وجرى الموكب بحضور النائب الاول لرئيس التجمع الدستورى الديمقراطي والوزير الاول ومفتي الجمهورية واعضاء الديوان السياسي للتجمع واعضاء الحكومة .
كما دعي لحضوره الامناء العامون للاحزاب السياسية ورؤساء المنظمات الوطنية والهيئات القائمة والمجالس الاستشارية وممثلو النسيج الجمعياتي وعدد من الشخصيات الوطنية ومن رجالات الفكر والثقافة والاعلام .
النص الكامل لكلمة الرئيس زين العابدين بن علي
(المصدر: موقع “أخبار تونس” (رسمي) بتاريخ 23 أفريل 2007)
بسم الله الرحمن الرحيم
الوطنية والوفاق والمشاركة في خطاب الرئيس بن علي
د. محمد الهاشمي الحامدي
ألقى الرئيس زين العابدين بن علي خطابا هاما في اليوم الوطني للجمعيات صباح الإثنين 23 ـ 4 ـ 2007 خلال موكب رسمي احتضنه قصر الجمهورية في قرطاج.
حث الرئيس بن علي كل الجمعيات على أن تقدم المصلحة العليا للوطن فوق كل اعتبار آخر، وهو مصيب في هذا تماما.
كما أكد “أن الإسهام في تحقيق التنمية الوطنية المستديمة، والتفاني في خدمة تونس، والمحافظة على سيادتها واستقلالية قرارها، وصيانة هويتها ومكتسباتها الحضارية والثقافية، هو جهد يومي مشترك بين سائر المواطنين والمواطنات“.
وشرح الرئيس بن علي طبيعة التحديات التي تواجهها بلادنا في هذه المرحلة ورد الفعل المطلوب من العتونسيين فقال: “إن ما ينتاب عالمنا من توترات ونزاعات وعنف وإرهاب، وما يسوده من تجمعات إقليمية وتحالفات دولية واختلالات اقتصادية وتفاوتات علمية وتكنولوجية، يحتّم علينا مزيد الوعي واليقظة، والاستعداد الدائم للبذل والعطاء، في سبيل تحقيق الرفاه لشعبنا والمناعة لبلادنا. ولن يتسنى لنا ذلك إلا بمزيد التماسك والتعاون والتضامن، وتوسيع مجالات الحوار والتشاور والوفاق، وترسيخ قيم التسامح والوسطية والاعتدال، والتصدّي لكل مظاهر التعصّب والتطرّف والعنف، والحرص المتواصل على مد جسور التفاهم والتكامل مع شتى الشعوب والحضارات والثقافات”.
ولمن بقيت عنده بعض الشكوك في وضوح دعوة الرئيس بن علي للحوار والتشاور والوفاق، وردت في ختام كلمته عبارة أخرى قوية جدا في مضمونها، جدد فيها الإعراب عن إيمانه بأن “الاهتمام بالشأن الوطني والمشاركة في صياغة مضامينه وأهدافه، حق مشاع بين جميع التونسيين والتونسيات“.
* * *
كاتب هذه السطور يوافق على كل ما جاء في كلمة الرئيس بن علي من معان وأفكار. ليس لي تحفظ على أي عبارة وردت في الخطاب. وأعتقد أن من حق كثير من التونسيين الإسلاميين المعتدلين أن يسجلوا بارتياح وحفاوة تعهد الرئيس بن علي بتوسيع مجالات الحوار والتشاور والوفاق، وتأكيده في أكثر من مرة في ثنايا الخطاب أن الاهتمام بالشأن الوطني والمشاركة في صياغة مضامينه وأهدافه، حق مشاع بين جميع التونسيين والتونسيات“.
أقول لكل الإخوة الأعزاء الذين يسألونني من أيام عن استراتيجية الصلح والوفاق بين السلطة والإسلاميين في تونس، إن الفرصة تقدم نفسها للجميع.
أقترح على الجميع التركيز على نقاط الإلتقاء مع السلطة في تونس لا على موضوعات الخلاف والنزاع. وأؤكد أن مثل هذا التوجه سيجعل الكلمة الطيبة الجميلة تَتَسيَّد الموقف بعد سنين من التهميش لحساب بيانات العداوة والبغضاء.
إن صدور بيان رسمي من هذه الهيئة أو تلك، من الجهات الإسلامية المعتدلة في تونس، وصدور عريضة من عدد من الشخصيات التونسية المحسوبة على التيارات الإسلامية المعتدلة، وصدور مقالات فردية لكتاب إسلاميين معتدلين، ستقدم للرئيس بن علي ولكل المهتمين بهذا الموضوع الدليل القاطع على رغبة الإسلاميين التونسيين في التواصل معه ومع حزبه وحكومته، على أساس المبادئ التي تضمنتها كلمة رئيس الجمهورية في اليوم الوطني للجمعيات، وكلمته يوم 20 مارس الماضي، التي شدد فيها على الولاء لتونس وعلى التمسك والإعتزاز بالهوية العربية الإسلامية لتونس، بالإضافة إلى مبادئ بيان السابع من نوفمبر 1987.
الحركية التي ستحدثها هذه المبادرات والنصوص ستفوق في حجمها وآثارها توقعات أكثر المتفائلين. ألف زهرة وزهرة ستتفتح. أبواب كثيرة للحوار والوفاق والتقارب ستفتح من بعد ما ظن الناس أنها أغلقت إلى الأبد. والساسة والكتاب والصحفيون المحايدون أو المنتمون للتيارات الأخرى، سيخرجون عن صمتهم، وسيقولون بصريح العبارة، عن قناعة أو عن اضطرار: نحن أيضا مع الصلح والوفاق والمشاركة.
أيها الإسلاميون المعتدلون: دعوا عنكم التردد. الرئيس بن علي رئيسكم. خاطبوه مباشرة من دون وسيط. قولوا له في مقالات وبيانات علنية صريحة وواضحة إنكم تؤيدون دعوته للحوار والتشاور والوفاق، وأنكم على أهبة الإستعداد لتلبية دعوته للمساهمة في ترسيخ قيم التسامح والوسطية والإعتدال، وأنكم حريصون على التفاهم والتعاون معه، وخدمة الوطن العزيز تحت قيادته، والدفاع عن هوية تونس العربية الإسلامية.
أكدوا له أنكم نابذون نهج الخصومة والعداوة، وأنكم تنتظرون منه خطوات وإجراءات كريمة تدخل الفرحة على قلوبكم وقلوب عائلاتكم، تشعركم أنكم من التونسيين والتونسيات المشار إليهم في خطابه المهم والموفق.
لا تشترطوا شيئا ولا تعقّدوا الأمور. مثلما يتصافح الناس يوم العيد في القيروان وحمام الشط وقفصة، ينهون أعقد الخصومات في لحظة صفاء وتسامح، ستأتي لحظة الصفاء بينكم وبين رئيس بلادكم.
جرّبوا نهج الكلمة الطيبة دون تأخير، وليكن هدفنا الجماعي ألا يكون السابع من نوفمبر المقبل عيدا خاصا بالتجمع الدستوري الديمقراطي وحده، وإنما عيد التسامح والوفاق والتصافي بين كل أبناء العائلة التونسية.
برهان غليون للموقف: أتقنا فن المقاومة لكن أضعنا فن الحكم والسياسة
حاوره محسن المزليني 1ـ كيف يتبدّى لك المشهد السياسي العربي في مفتتح الألفية الجديدة، وهل اختلفت قضايا العرب بين الألفيتين؟ بعد مشروع النهضة الفكرية الذي عرفته البلاد العربية في القرن التاسع عشر، يشكل مشروع التحرر من الاستعمار وبناء دولة وطنية موحدة في القرن العشرين المشروع الأكبر الثاني على طريق انبعاث الاجتماع العربي. بيد أن هذه المشروع اصطدم بالسيطرة الأجنبية وبالبنيات التقليدية القوية التي أجهضت اندفاع الجمهور العربي نحو الحداثة. وخلال عقود أربع ماضية عاش العالم العربي في حالة ضياع، ضياع فكري وسياسي واقتصادي ونفسي ووطني. وقد شهدت بداية الألفية الثالثة ملامح يقظة جديدة مع نمو المقالة النقدية والفكر الحر وولادة بعض براعم الحركات المدنية والاجتماعية. لكن الطريق لا يزال طويلا للخروج من نفق الاستلاب والشك والتردد والحيرة ولاستعادة الثقة بالنفس وبالمستقبل. 2 اعتبرتم أنّ الدولة في الوطن العربي تخضع لقانون مفاده” بقدر ما تقبل الخضوع والالتحاق تستحق دولة “مستقرة” وشبه قانونية، قادرة على الإدارة وتحقيق الحد الأدنى من التقدم والازدهار”، فهل هذا يعني قدرية جديدة وإجهاض التطلّع لبناء دولة مستقرة بشروطها الذاتية؟ لا. ليس هناك قدرية ولا يأس من بناء أي دولة سيادية، إنما إدراك أفضل وأسلم، وبالتالي وعي أنجع لتشابك المصائر العالمية. وفهم أعمق لقانون السيطرة الكلية أو العولمية، وبالتالي لمباديء مقاومتها أو الاندراج الايجابي وليس السلبي فيها. وربما كان الشرق الاوسط الذي يشكل بؤرة مصالح دولية وإقليمية متضاربة، ويندرج أكثر من أي منطقة في العولمة على قاعدة التبعية والتسليم، هو المكان الذي يبرز أكثر من غيره طبيعة هذا القانون. والنتيجة، لا يستطيع مجتمع اليوم أن يعيش خارج دائرة السيطرة العالمية أو المعولمة، إنما يستطيع أن ينتزع جزءا أكبر من هامش المبادرة وبالتالي يخضع بشكل أقل لعواقبها السلبية بقدر ما يشارك فيها بشكل إيجابي، أي بقدر ما تكون له فاعلية في تحقيقها. ويعني ذلك أيضا أن هذه السيطرة ليست مرتبطة بدولة مهما كانت عظمة هذه الدولة، ولكنها تشكل شبكة من العلاقات المتفاعلة بين جميع الأطراف. والولايات المتحدة الدولة الأعظم تتحكم بها بقدر ما تشارك في تغذيتها من خلال الإنتاج العلمي والتقني والصناعي والعسكري. لكنها مع ذلك لا تملك زمام المبادرة الكلية فيها ولا تضمن النجاح في كل المشاريع التي تطلقها، وقد أخفقت بالفعل في الأعوام الماضية إخفاقا ذريعا في العراق لأنها ماثلت بين السيطرة العالمية والسيطرة الأمريكية واعتقدت أن تفوقها العسكري يسمح لها بتجاوز رأي جميع الدول الأخرى بما فيها حلفاؤها. وكانت النتيجة أن برغيا صغيرا عطل الآلة بأكملها، وهذا البرغي هو المقاومة المسلحة في العراق غير المتوقعة منها وغير المنتظرة. 3ـ كيف يبدو لكم مستقبل المشروع المقاوم للهيمنة في منطقتنا وكيف تقيّمون أخطاء التجربة الماضية؟
أتقنت منطقتنا فن المقاومة في كل الميادين وعلى كل الجبهات، الدينية والسياسية، السلبية والإيجابية، لكنها أضاعت فن الحكم والسياسة ومفهوم القانون والعدل ا لذي لا تقوم من دونه دول ولا مجتمعات. وبموازاة نجاحنا في كسر إرادة الهيمنة الأجنبية التي استشرست في بلادنا بسبب انقسامنا وتشتتنا، علينا أن ننتقل من منطق المقاومة للأجنبي إلى منطق بناء الذات. ولا نستطيع أن نفعل ذلك ما لم نميز بين مهام المقاومة ومهام البناء أولا، وبين منطق المقاومة المطبق على عدو خارجي ومنطق القانون المطبق على المجتمع. والخوف أن يكون تمثلنا لمنطق المقاومة، أي تحقيق الانتصار للذات أو منع الآخر من الانتصار بأي ثمن وبالوسائل العنفية قد قضى نهائيا عندنا على منطق القانون، وما ينطوي عليه من مفهوم مواطني لدور الدولة، ومن خضوع الأفراد الطوعي لهذه الدولة، ومن تمثل لمباديء وقيم الحق والعدالة والسلام الأهلي والتضامن الوطني والتكافل الاجتماعي. 3ـ ما هو تقييمكم لأثر القومات الاحتجاجية في الوطن العربي بمختلف تلويناتها الإيديولوجيّة طوال القرن الماضي، هل ساهمت في إضعاف الدولة أم كانت سببا في تقويتها؟ إنّ الواضح أنها أضعفتها، خاصة في تلك المناطق التي امتدت فيها حقبة الصراع لعقود طويلة. لكن الذي أضعف الدولة في الواقع ليس المقاومة والاحتجاج القومي وإنما إخفاق الدولة أو النخب الحاكمة وعجزها عن توفير شروط المقاومة على قاعدة السياسة والقانون، وتحول العديد من هذه الدول ثم المقاومات أيضا إلى موطن لمافيات المال والأعمال الحاكمة، وأحيانا تحويل الدول مع أجهزتها القسرية إلى ميليشيات تخضع السكان لصالح هذه المافيات من دون التقيد لا بمبدأ ولا قانون. 4ـ كيف تنظرون إلى إمكانية التصادم و الإحتراب الداخلي في إطار تقسيمات ما قبل الدولة؟ وكيف بعد هذا الجهد التحديثي الذي كان شعار كلّ الدول العربية بعد الإستقلال، كيف يرتدّ إلى هذه التكوينات ولماذا، وهل هناك آلية اجتماعية أو صمام أمان يمكن الاعتماد عليه لتجاوزها؟ لا مخرج من الاحتراب من دون استعادة مفهوم الدول والقانون وإعادة بناء مفهوم الوطنية بمعنى المواطنية. ففي غيابهما تتحول التكوينات ما قبل السياسية إلى مجال التضامن الوحيد بين الأفراد وبالتالي إلى أداة حرب داخلية وصمام أمان للفرد في الوقت نفسه، بل بسبب ما تستعيده من قيمة كصمام أمان للفرد. لأن الفرد الإنساني لا يستطيع أن يعيش في الفراغ. إنه بحاجة إلى شبكة من العلاقات والتواصل والتعاون. وعندما تعجز الأطر السياسية، كالدولة والحزب والجمعية المدنية، عن تقديم مثل هذا الخير الاجتماعي، أو عندما تفسد البنيات والهياكل السياسية والمدنية وتوظف لغير ما نشأت من أجله، ينزع الفرد تلقائيا إلى البحث عن الأطر القديمة ما قبل السياسي ويعيد خلقها من جديد عندما تكون قد اندثرت. وهذا ما حصل في مجتمعاتنا بالضبط. العودة إلى القبيلة والعشيرة والطائفة والمذهب والعائلة مما نشاهد نموه هنا هو إدانة عملية للدولة وللسياسة الحديثتين اللتين أسيء استخدامهما من قبل النخب الحاكمة وصولا لتحقيق هدف غير هدفهما. فبدل أن يأتيان لضمان الحياة القانونية والحريات المدنية والسياسية الأساسية للأفراد وتأكيد درجة أكبر من التضامن والتكافل الاجتماعي وتعظيم فرص التقدم والعمل والإنتاج والرفاه، تحولا في الغالب إلى أدوات قهر واستلاب وحرمان من الحقوق ومن الحريات. هذه العودة تشكل بالتأكيد رد فعل واحتجاج على ما أطلقت عليه في كتاب “الدولة والدين، الحداثة المغدورة”، اسم الحداثة الرثة. لكن صمام الأمان ليس حلا، وستستمر الحرب الأهلية على صورة معلنة أو كامنة، طالما لم ننجح في بناء دولة مواطنية تلغي الحاجة إلى تحويل الطائفة أو العشيرة أو المذهب إلى دولة بديلة أو ما يشبه التعويض عن الدولة. حاوره محسن المزليني (المصدر: صحيفة “الموقف” (أسبوعية معارضة – تونس)، العدد 402 بتاريخ 20 أفريل 2007)
الأستاذ عبد اللطيف الهرماسي: المالكية لم تعد حاجزا كافيا في وجه السلفية الجهادية
حاوره: سمير ساسي ومحسن المزليني mezlini@yahoo.fr samirsassi@yahoo.fr أعادت التفجيرات الأخيرة في كلّ من الجزائر والمغرب الحديث عن ظاهرة السلفية الجهادية وبشكل أدقّ عن حالتها في المغرب العربي من حيث قوتها وإمكان نموّها. واستشرافا لمجمل هذه القضايا التقت “الموقف” الباحث التونسي في علم الإجتماع الديني عبد اللطيف الهرماسي وهو خبير في الحركات الإسلامية، فكان الحوار التالي
الموقف: سبق لكم دراسة الظاهرة الإسلامية طوال السبعينات والثمانينات، فهل نحن إزاء اتصال أم انفصال بين ما درستموه والظاهرة السلفية الجهاديّة؟
هناك فوارق هامة وهناك وجه قرابة، الفوارق تكمن في أن الفصيل الرئيسى للحركة الإسلامية التونسية “الاتجاه الإسلامي” ثم “النهضة” كان عبارة عن فصيل استطاع أن يطور مقولاته ومواقفه في فترة من الفترات في السبعينات بالتحديد. كان خطابه استعادة شبه كاملة لخطاب الإخوان المسلمين الوجه الحركي للفكر الإسلامي وللموروث الديني بوجهه العقائدي والفقهي بل أن بعض العناصر في صلب الاتجاه الإسلامي ذهبت ابعد من ذلك وراودتها في فترة ما أفكار المودودي وسيد قطب التي تدور حول ثنائيّة الجاهلية و الحاكمية بما أدى إلى الحكم على المجتمعات الإسلامية، فضلا عن بقية العالم بالتكفير ورغم هذه المنطلقات يُشهد لحركة النهضة أنها استطاعت أن تستوعب بشكل تدريجي ضغوط الواقع الحديث وان تستفيد من الانتقادات الشديدة التي وجهتها لها أطراف اليسار والعلمانيون في تونس وبذلك استطاعت أن تطور خطابها بنسبة مهمة في عدد من القضايا الحساسة سواء ما تعلق بنقد الموروث الفقهي حول المرأة أو السعي لإيجاد صيغة توفيقية بين مسالة السيادة الالهية من جهة وسيادة الشعب من جهة أخرى، كما يُشهد لها الانخراط في نزعة براغماتية إذ قبلت الحوار مع أحزاب معارضة تحمل فكرا مختلفا وان تجلس معها. وفى الحقيقة لم تكن المسالة تأثيرا من جانب واحد بل يمكن القول أن ما طرحه الاتجاه الإسلامي كان حافزا لجزء من اليسار مثله بالخصوص التجمع الاشتراكي التقدمي آنذاك لكي يعيد النظر في موروثه اليساري وبالتالي لكي يدمج ضمن رؤيته الموروث الثقافي الإسلامي هذا عن الاختلاف، يبقى أنّ الحركات الإسلامية ورغم الاختلافات الكثيرة والشاسعة بين أطروحاتها كما هو الشأن بالنسبة لحركة النهضة وما شابهها ولتيّار السلفية الجهادية، رغم ذلك فإنّ كليهما ينتميان إلى اتجاه فكري كبير يؤكّد على مرجعيّة السلف ويضع مشروعه ضمن رؤية يحتلّ فيها الدين دورا قياديا ومهيمنا، وهذا التيّار في الحقيقة يقود إلى طرح تساؤلات جوهرية تتعلّق بعلاقة الإسلام والموروث الفكري الإسلامي بالحداثة بمعنى إلى أيّ حدّ يمكن إيجاد إجابة عن تحديات الحداثة والعصر من خلال العودة إلى النّصوص التي لا تخصّ الإسلاميين وحدهم بل هي مطروحة على الجميع بمن فيهم العلمانيون.
الموقف: ما هي المنطلقات الفكرية للسلفية الجهادية وكيف تحوّلت الفكرة السلفية إلى أزمة بهذه الحدّة؟
السلفية الجهادية تقدّم لنا الصّبغة الأكثر جذرية لتقسيم العالم على أساس ديني وتسييس الدين. بالنسبة للجانب الأوّل فهي تختزل كلّ القضايا والتناقضات والرهانات في العالم إلى صراع ثنائي بين الكفر والإيمان بل تذهب إلى تضييق مفهوم الإسلام بحيث لا يبقى من المسلمين إلاّ جماعة السلفية الجهاديّة. أمّا تسييس الدين فلئن كان الإسلام التاريخي يحمل مكوّنا سياسيا هاما إلى درجة أنّ البعض اعتبره دينا سياسيا فإنّ السلفية الجهادية تذهب بالتسييس إلى غايته القصوى إذ توظفه في مجرى الصراعات الاجتماعية والسياسية وتجعل منه سلاحا لنزع الشرعية عن الحكام وعن سائر المخالفين لها، كما تختزل مفهوم الجهاد إلى قتال لا ينتهي حسب قولها إلاّ بإقامة حكم الإسلام على الأرض جميعا.
الموقف: ما هي مميّزات الخطاب السلفي الجهادي من الناحية السوسيولوجية؟
خطاب السلفية الجهادية يوسم بكونه خطابا تبسيطيا ومركّبا في آن. تبسيطي لأنّه كما سبق القول يقوم على ثنائيات وكلّ تفكير من هذا النّوع ينتج تقسيمات قصوى لا تأخذ بالاعتبار تنوّع الواقع ووجود مناطق وسيطة ويذهب في حديّته إلى إقصاء واصطناع العداوة حتّى مع أقرب التيارات الفكرية إليه كما أنّه يعتبر الكثير من قضايا التنمية والعدالة الاجتماعية ومكافحة الاستبداد باطلة ولا يبقي إلاّ على التناقضات التي ينظر إليها من زاوية دينية.
وهو خطاب مركّب لأنّه يدّعي الصدور مباشرة عن كلام الله ولا يمكن فهم مغزاه إلاّ إذا اعتبرنا الحلقات الوسيطة أي طبقات التأويل المتراكمة تاريخيا وهي تأويلات لا يأخذ منها هذا التيار إلاّ ما يرى أنّها تخدم إيديولوجيته الصدامية.
الموقف: كيف أمكن أن تنتج مدرسة الدولة الوطنية التي انبنت على مشروع الحداثة والتحديث مثل هذه الظاهرة؟ أليست هذه من المفارقات الكبرى؟
الإجابة ليست سهلة. من الممكن أن نذكّر بما أحاط بالتجربة التحديثية في تونس على إيجابياتها الكثيرة من مظاهر التنكّر للموروث الثقافي الإسلامي والحطّ من قيمته وما انتهت إليه من تخلّ عن الطموحات الكبيرة المتعلّقة بمكافحة البطالة وإدماج الفئات المهمّشة، كما يمكن الإشارة إلى تأثيرات التبعية للغرب، لكن يبدو لي أنّ العوامل الاجتماعية والسياسية المحلية ليست كافية لتفسير الظاهرة، فالأمر يستدعي النّظر إليها في أفق أوسع أي أفق التوترات العميقة التي يعيشها الإسلام مع الحداثة والعالم الإسلامي مع الغرب. إنّ المتخيّل الديني المشحون بصور الصّراع ما زال يفعل مفعوله وهو قابل للتنشيط والإحياء وكذلك صورة الماضي المجيد، ماضي المنعة والقوّة والعزّة وهذا بالضّبط ما يقوم به الخطاب السلفي الجهادي. ومن الواضح أنّ استمرار التوتّر بين عالم الإسلام وعالم الغرب من جرّاء التحيّز للكيان الصهيوني يخلق شعورا عاما بالنّقمة على الغرب والمتعاملين معه، شعور يتحوّل في الخطاب السلفي الجهادي إلى رفض للغرب وما يصدر عنه.
الموقف: لكنّ سطوة العالم الغربي وسوء تعامله مع العالم الإسلامي ليسا جديدين، فلماذا تكون الاستجابة بهذا الشّكل المستجدّ؟
ينبغي وضع المسألة في سياقها التاريخي أي في سياق تطوّر ردود الفعل في العالم الإسلامي على صدمة الحداثة ابتداء من وجهها الاستعماري الذي كان يضغط في اتجاه معاكس لتطلّعات المجدّدين بما عطّل تفتّح وتبلور الفكرة الإصلاحيّة وجعل من الصّعب اقتراح تحديث المجتمع والفكر الإسلاميين والعدو الغربي جاثم على الصدور. كلّ ذلك أدّى إلى تراجع سجّلته أفكار السلفية المجدّدة التي كان رائدها محمّد عبده. وعندما جاءت النّظم الوطنيّة بنت آمالا جديدة استقطبت الجمهور لمرحلة لتنتهي ببروز جوانب الإخفاق والقصور عن تحقيق التطلّعات إلى الوحدة والمنعة والتنمية والمشاركة السياسية وبالتالي إنتاج حالة إحباط ويأس في صفوف الشباب وهي حالة بصدد تغذية السلفية الجهادية خاصة وأنّ التراجع شمل مسألة الاستقلال الوطني وسيادة الدّول في ضوء تفاقم التدخّلات الأمريكية. الموقف: كثيرا ما يتمّ الحديث عن خصوصية مغاربية لا تشجّع على نموّ هذه الأفكار، فما مدى صدقيّة هذه الفكرة والاطمئنان إليها؟
إنّ الخصوصيّة المغاربية المتمثّلة في غلبة الثقافة الدينية المالكية لعبت دورها كعائق في وجه الأفكار الوهابية فالفقهاء عندنا لم يسايروا أفكار ابن تيمية وفتاواه. لكنّ المالكية لم تستطع أن تتكيّف مع متطلّبات الحداثة مما أضرّ بشرعيتها وتناقصت فعاليتها وإن بقي لها تأثير لكون الساحة المغاربية لا تعرف ما يعرفه المشرق بل الشّرق الإسلامي عموما من تعدّد طائفي وصراعات عرقية إذ تتخذ السلفية الجهادية عندنا بشكل أوضح صبغة احتجاج اجتماعي وسياسي والفرق واضح بين الحالة العراقية والجزائرية. وعليه فلا يمكن الاطمئنان إلى مقولة المجتمع المسالم بطبعه أعني أنّ العنف الذي تمارسه الدّولة يمكن أن ينتج أحد ردّين إمّا الإحباط والابتعاد عن الشأن السياسي وهذا ما حصل عندنا لفترة وإمّا الاستعداد للمجابهة.
الموقف: كثيرا ما يفسّر تفجّر المرجعيات التقليدية بتعميم أفكار ورؤى دينية عابرة للحدود يسّرتها التقنيات الحديثة، فما مدى صواب هذا الرأي في حالتنا هذه؟
السلفية الجهادية معاصرة وليست حداثية، فهي تجيب عن مشاكل معاصرة بحلول تقليدية وتبني نوعا من الأممية الإسلامية بتوظيف أحدث وسائل الإتصال وأحدث الأسلحة ومع ذلك ليست حداثية من جهة الفكر.
الموقف: ما هي برأيكم الطرق الأنجع للتعامل مع ظاهرة السلفية الجهادية؟
العامل الأمني لوحده قاصر وهذا ما أثبتته تجربتا الجزائر والمغرب والتجارب الأخرى. فالقمع الأعمى أنتج مزيدا من التجذّر ومزيدا من الكراهية، في المقابل أدّت سياسية الحوار مع الإسلاميين ومن ضمنها الفصائل السلفية الجهادية إلى نتائج إيجابية. ينبغي أن تكون القضايا التي تطرحها هذه التيارات موضوع حوار ونقاش واسع تشارك فيه كلّ الفعاليات السياسية والمثقفون ورجال الدين بما يتيح محاصرة التأويلات المتطرّفة وردود الفعل المتشنّجة ويقرّب الفجوة بين الأطروحات المتضاربة. بدون شكّ أنّ سياسية الحوار ينبغي أن تكون مرفقة بسياسات اقتصادية واجتماعية تحدّ إلى أقصى حدّ ممكن من الشعور بالغبن والحيف الاجتماعي، كما ينبغي السعي إلى دمج الإسلاميين وإحلال الحوار بدل المواجهة فالحوار وسيلة للتخلّص من ثقافة الاستبداد التي تكرّرها الأنظمة وتعيد إنتاجها السلفية الجهاديّة.
(المصدر: صحيفة “الموقف” (أسبوعية معارضة – تونس)، العدد 402 بتاريخ 20 أفريل 2007)
طفولة تونس.. ليست سوى كلمة
د.محسن بو عزيزي (*) وجد بيار بورديو أن اللغة تتراوح بين الرقّة والخشونة، بين الصفاء والغموض، من الأعلى إلى الأسفل، فكلّما اقتربنا من الطبقات العليا كانت اللغة نقيّة، صافية. وكلّما انحدرنا في السلم الاجتماعي نحو الطبقات الشعبية والمهمَّشة اشتدّ عنف اللغة وتوحُّشها وقتامتها، وهي النتيجة تقريبا التي توصلنا إليها في بحث ” طفولة مقصيّة: بحث في العلاقة بين اللوغوس والإيتوس”، ويدور حول لغة أطفال الشوارع في تونس، حينما وجدنا أن الاتصال اللغوي في السياق الاجتماعي التونسي تحلّل حتى لا يكاد ينطق الأشدّ فقرا بلغة مفهومة. فاللغة تعد مدخلا مناسبا لتعرية واقع الطفولة المقصيّة والمطاردة؛ فتتحصّن بالكلمة لتخفي معيشتها اليومية بجموحها وجنوحها في تعبيراتها واستعمالاتها الاجتماعية للغة بمجازاتها واستعاراتها، كما وجدت الدراسة فيما أجرته من مقابلات مع اثنين وعشرين طفلا ممن ينتمون للطفولة المقموعة عجزا عميقا عن التعبير ما عدا بعض الألفاظ المحدودة، القاتمة، الماكرة، المستترة والعميقة في تعبيرها عن البؤس، وفيما يلي موجز للدراسة. كلمة.. بقدر ما كان الموضوع دقيقا وضيّقا، كانت نتائجه مفاجئة ونافية لفرضياته؛ فقد فوجئ الباحث وهو يخوض غمار هذا العالم الطفولي، في تفاعلاته العفوية، الطبيعية، ولحظة مغامراته الجانحة وحين تسكعه في الشارع، أن الطفولة “ليست سوى كلمة” وأن الغائب الأساسي فيها هو الطفل نفسه؛ فليس ثمّة ما يحيل إليه إلا في السّن وقصر القامة، أما في ممارسته ومناورته وإستراتيجياته فهو أقرب إلى الكهولة منها إلى غيرها، هذا القفز فوق المراحل العمرية مردُّه إلى ما تواجهه هذه الفئة -موضوع الدراسة- من قمع اجتماعي ومطاردة وتفكُّك وحرمان، أكسبها قدرة على المواربة والتخفي خلف شبكة من الألفاظ الخاصة، المقنّنة (codés)، المتمرّدة على اللغة الشرعية بغياب الأصل الاشتقاقي فيها؛ فكأنما للبؤس خطابه الخاص الذي يكشف عن ضروب من المكر والعمق والتستر خلف المبهم من الألفاظ التي لا يمكن فك شفراتها (décoder) إلا لمن اقتحم عالمها الخاص. اللغة المتوحشة ومن المثير ملاحظة أن قاموس هذه الفئة -الأطفال الفقراء- ليس سوى جملة من الكلمات المقصيّة من اللغة الشرعية، تتكوّن في زوايا قصّية من الشارع، من كلمات ليس لها أصل اشتقاقي أو معجمي من قبيل “قرجة”، “شبش”، “فصع”، يتعمد فيها الغموض وتكسّر قواعد اللغة نحوا وصرفا وصوتا، إنه نظام محدود من اللغة خفي، لا تعاقدي، إلا لمن عايش عالمه من الداخل، إذ هو وليد كم هائل من التفاعلات الاجتماعية والنفسية بين أطفال تشابهوا في البؤس، فجمعهم على توليد استعمالاتهم اللغوية المحدودة. ويبدو أن الاستعمال الجامح المتوحش، الخارق لقواعد اللغة الشرعية قد نتج عن حالة من عدم الشعور بالانتماء إلى أي فئة اجتماعية بعينها، إذ ظلت خارج التصنيف، فكان احتجاجهم جذريا، إلى حد خلق إستراتيجية مغايرة للتسمية تلغي الاسم الموجود في بطاقة الهوية، وتستبدله بتسميات أخرى أكثر انسجاما مع أوضاعها الخاصة، فيتحول “طارق” إلى “حنك” ويتحول “أيمن” إلى “العزلوك” ويصبح المنذر “مسمارا”، ولعل إعادة تعريف الطفل لذاته وإلغاء التسمية الشرعية من التداول تمثل ضربا من ضروب الحاجة إلى التّخفي، ولعلّه كذلك شكل من أشكال الاحتجاج والرفض لما هو شرعي. ومن ضروب التمرّد على ما هو شرعي، تحويل مدرسة مهجورة في حي من أكثر الأحياء شعبية في مدينة تونس، إلى فضاء تراتبيّ يستوعب عالمهم الهامشي، فوزعت أقسامها بحسب احتياجاتهم الخاصة: قسم للجنس وثان للخمر، وثالث للمخدّرات ورابع “للكلفرة” (مادّة لاصقة، قويّة تستعمل مخدرا للاستنشاق). إن هذا المشهد ليس اعتباطيا بصرف النظر عن النوايا، خاصة أنّ صاحبه أطفال تذكّرهم المدرسة بفشلهم في تعلّم قواعدها وتذكّرهم بالقهر واللاّمساواة في حظوظ النجاح، ومعروف أن أبرز أطروحة دافعت عنها كتابات عالم الاجتماع الفرنسي “بيار بورديو” تكشف فكرة تشريع الهيمنة وإعادة إنتاج المدرسة للتمايز الاجتماعي، وقد يكون هذا السلوك الانقلابي للأطفال على رمز الثقافة الشرعية يرد إلى هذا العنف الشرعي الذي طالما كرّسته المدرسة ضد الفقراء، ولقد أثبت بيار بورديو في “الورثة: الطلبة والثقافة” أن الجامعة تقصي أبناء الطبقات الضعيفة وتحتضن أبناء الطبقات العليا، ذلك أن 6% فقط من أبناء العمّال يتمتّعون بفرصة دخول الجامعة، لكن المقموع في هذا المشهد يثأر من القامع بهتك ستر شرعيته وفكّ السّحر عنه. إن أبرز حقل دلالي يصوغه الأطفال ويتداولونه في تفاعلاتهم وذبذباتهم الجماعية يحيل إلى المواربة والتخفي، وتبرر فيه بلاغة المجاز والكناية، بما فيه من استعارة منحرفة مراوغة كما هو واضح في الاستعمالات التالية: الشرطة ß حنش “عْنَينَهْ” ß أُهرب “الحمام يدور” ß الشرطة اقتربت. “اللعبة” ß المخدّرات “الفْرَاكْ” ß البنات عَوْ ß السرقة فيه الصَّنْعَهْ ß لوطيّ ثقافة “تحت – أرضية” ما ينسجه الأطفال في تفاعلاتهم وعلاقاتهم ينزع نحو صياغة ثقافة صغرى، تحت – أرضية (Underground) تقوم على نكث المعايير المتداولة وخرقها، فالسرقة والخطف هما من بين الممارسات الأكثر شيوعا بين أطفال الشوارع، مع ميل عدواني وعنيف في السلوك والممارسة والتصور تحكمها نزعة لا معيارية أحيانا، تدفع الطفل إلى إطلاق عنان الرغبة وعدم كبح جماح اللّذة بكل الطرق الخفية الماكرة، وفي صورة كبتها يظهر السلوك العدواني الذي هو نتاج: “عدم التسامح إزاء الحرمان”. يسمّى الطفل الأكثر لا معيارية في السلوك والممارسة “خليقة”، وهذه ليست صفة سلبية لدى الأطفال الفقراء، بل عادة ما تمنح صاحبها مكانة قيادية ضمن مجموعته، وتخلق ضربا من السلطة التي تقوم على التراتب، وتشعر المجموعة بنوع من التوازن والتضامن الداخلي. وإدراكا لهذا الامتياز يسعى القائد “الخليقة” إلى المبالغة في إبراز لا معياريته التي تبدو خاصة في علامات الوشم ودلالاته وفي ندبات الوجه وحلاقة الشعر، إنها ملامح ثقافة صغرى، مضادّة، متمرّدة على قواعد المدرسة ولغتها، ما دامت هذه الأخيرة كانت رمز الفشل والإقصاء من مقاعدها. الطفولة المطاردة الطفل “منتصر” إحدى الحالات التي مزّقتها الحياة منذ نعومة أظفاره، فاكتسب شخصية تجمع الحيرة والألم والشغف المفقود والرأفة المرجوّة، كان يعيش مع أبيه وأمّه وإخوته السبعة، قبل أن تتفكّك هذه الأسرة جرّاء “حبّ بدويّ” عاشته أمّه مع غير أبيه؛ فأنجبت طفلا كان سببا في الطلاق، فودّع منتصر طفولته باكرا؛ ليرى نفسه رجلا قبل أوانه –كما يقول عن نفسه- يُخفي كآبة مزاجه بتصنّع المرح والفكاهة، ولكنه يعود يشدّ رأسه بين كفيه، كأنه يخشى وقوعه، ليقول أنا لا أنام ليلا، أعلم أن أمّي أنجبت مرّة أخرى أختا لي “لقيطة” لا أعرفها ولا أدري هل سأحبّها أم لا، كما أن علاقتي بأمّي تهت في تحديد معناها خاصّة بعد أن توعّدني والدي بعدم “السّماح في الدنيا وفي الآخرة” إذا ما بَحثت عنها. يحدث هذا في اللحظة التي تقولون لنا: إن “الجنّة تحت أقدام الأمهات”. يتذكّر “منتصر” ما كان يلاقيه من شتّى أصناف التعذيب من أمّه التي يعرف الآن من والده أنها بين أحضان رجل آخر في أحد الأحياء الشعبية في مدينة تونس، تفرّقت الأسرة وظلّت القصص تدور على الألسن يستحضرها ويعيشها من جديد كلّما وجّهت إليه شتيمة تعرّض بشرف أمه فتنال منه، وتقض مضجعه. وهنا يتذكّر بوجع -ويخفي دموعا تهمّ بالانفلات من محبسها- قاموسا لفظيا يفزعه، يهتك ستر أمّه وينكّل ببراءته. فهو بسبب هذا لا مكان له وسط المجموعة فيفضّل الهرب إلى الشارع لحفظ ماء الوجه، ولكنه برغم كل هذا يتعلّق بوعد ما في مستقبل أفضل يسكن في هواجسه المحمومة. فقد دفعه والده إلى مركز لملاحظة الأحداث ليتعلّم شيئا ما يكون له سندا في غياب السند الأسري. وعبد القادر، طفل تبدو عليه علامات الترهّل والشيخوخة.. ماكر برغم إنهاكه، يحاول أن يتحصّن بالصمت ويختبئ وراءه لئلاّ تكشفه اللغة، ويتوسّل –في أثناء المقابلة- بألم يصدّعه حتى يحقق رجاءه من الإدارة رغبة في المعالجة من وطأة المخدّرات على جهازه العصبّي الذي ارتخى بعد ستّ سنين من الإدمان، لا يجيب عبد القادر، ابن المتسوّل الذي مات بعد صلاة الصبح بحادث سيّارة، إلا بإيماءة بالرأس، ولكنّه من حين لآخر يطلق سراح كلمات متقطعة تشبه الهسهسة، من قبيل “النشْلَه” والتي تعني احترافه الخطف والسرقة، ولكنّ إدمانه شلّ قدرته على الجري وحال دون صنعته التي يدعّي أنها مصدر رزق أسرته الوحيد، لقد استهوته حياة الشارع، ذلك الحيّز المضاد للمؤسسة، فتعلّم فيه الخطف والسرقة والإدمان، وبما أن العنف يستلزم لغة العنف فكلّ مفرداته نسقا قاتما لا يجيد غيره. (*) باحث تونسي في علم الاجتماع، ورئيس الجمعية التونسية لعلم الاجتماع adam@iolteam.com (المصدر: موقع إسلام أونلاين.نت (الدوحة – القاهرة) بتاريخ 22 أفريل 2007) الرابط: http://www.islamonline.net/arabic/in_depth/adam/Children_Street/topic_01/07.shtml