اعتبر نفسي من بين الذين روجوا لهذه المقولة في عدة مقالات أهمها مقالي المنشور على إيلاف في سبتمبر 2006 ، بعنوان أولوية الحداثة في ترتيب عملية الإصلاح، والذي تناقلته عدة مواقع أخرى على الانترنت بعد ذلك، و يمكن للقارئ تصفحه على الشبكة.
في ذلك المقال كتبت: “توفر الحداثة التربة الصالحة لنمو نبتة الحرية و الحكم الرشيد، مما يساعد على نجاح الانتخابات الحرة، التي تأتي في هذه الحالة تتويجا للمجهود السابق، عل عكس ما يجري حاليا (تاريخ كتابة المقال) في العالم العربي من قفز في المجهول نتيجة التسرع في تنظيم انتخابات حرة نسبيا، لكن في مجتمع لا تتوفر فيه الشروط الضرورية لتحمل نتائجها و تبعاتها.” و هنا لا أجد نفسي في تناقض مع إعلان العقلانيين العرب: “نتفهّم وجود مخاوف من انحراف هذه الثورات عن أهدافها الحداثية وانجرافها نحو مقاصد أصولية انتكاسية أو نحو فتن طائفية قد تأتي على الأخضر واليابس.” لكنني لا أرى الأساس الذي بنت عليه الرابطة قناعتها عندما أكدت: ” وواقع الحال أن الديمقراطية، وإن لم تكن شرطاً كافياً لولوج عتبة الحداثة، فإنها في المقابل شرط ضروريّ للعبور الآمن نحوها.”
سؤالي هنا هل وفرت الانتخابات الحرة التي نظمها الجنرال سوار الذهب بعد إسقاطه نظام النميري عبورا آمنا نحو الحداثة في السودان؟ أم أن الرهان أن ذلك كان سيحصل في الجزائر لو سقطت في أيدي الجبهة الإسلامية للإنقاذ يوم الانتخابات الحرة التي نظمها الرئيس بن جديد، و هو اليوم الذي اعتبره الشيخ علي بلحاج “يوم عرس الديمقراطية و يوم مأتمها”؟ أم إن سطو الفرع الفلسطيني للإخوان على الحكم في قطاع غزة بعد أن سمحت لهم لانتخابات الحرة برئاسة الحكومة يمثل عبورا آمنا نحو الحداثة في القطاع المنكوب؟ الم يتابع عقلانيو الأمة ما حصل في غزة كنتيجة للانتخابات الحرة بعد أن حولت حماس القطاع إلى جحيم، كما ورد في مقالات عديدة لباسم النبريص و احمد أبو مطر و كما ورد في تقارير المنظمات الحقوقية الدولية ذات المصداقية؟ أملنا لا يختلف بطبيعة الحال عن أمل رابطة العقلانيين عندما أعلنت: “ولعلّ تمحور ثورات الشارع العربي حول قيم الحرية والكرامة والعدالة والتغيير، ومواجهتها للأنظمة الاستبدادية بشعار الديمقراطية، وللأنظمة الدينية بشعار المدنية، وللأنظمة الطائفية بشعار العلمانية، ومواجهتها لحالات الانقسام بشعار الوحدة الوطنية، وتأكيدها على انخراط المرأة في الفضاء العمومي… يضع المنطقة العربية أمام فرصة تاريخية لولوج عهد الدولة الديمقراطية والحداثة السياسية.” لكن من المهم التنويه هنا أيضا بان تمحور عدد من الثورات في السابق نحو قيم الحرية و المساواة لم يمنع من اختطافها من طرف مجموعة مستبدة، كما حصل في إيران على أيدي من اعتبروا أنفسهم أوصياء على الدين، و الذين أقصوا كافة الشرائح الأخرى التي ساهمت في الثورة مثل مجاهدي خلق و الاشتراكيين و البازار و الداعين للديمقراطية على الطريقة الغربية…
و اليوم و نحن نرى إعادة سيناريو سرقة الثورة مثلما حصل مؤخرا مع احد أشهر زعماء الثوار الشاب في ميدان التحرير في القاهرة على يد أتباع الشيخ القرضاوي، فالواجب يقتضي التحذير من المخاطر المحدقة و إيجاد أفضل الوسائل لقطع الطريق أمام مختطفي شعارات الحرية و الكرامة و العدالة و التغيير.
و العقل ولي التوفيق M5432112@hotmail.com
http://www.elaph.com/Web/opinion/2011/3/641010.html?entry=homepagewriters
للــــوطـــن…مــع الأيـــــــام
بقلم: محمد الطاهر الضيفاوي “جئناك سيّدتي بالدم يحفظ تاريخ من قاتلوا جئناك سيّدتي بالدم يحفظ تاريخ من خاتلوا نصبنا الخيام في الريح ولن نرتحل .. فاخلعي ثوب الحداد” من قصيد: أناشيد لأعراس السنة الحرام، شتاء 1978 “حين تهرأ الرايات ويفرنقع الوسطاء والمرابون من حولها أين أمضي بها تونس؟! أين أخبئها ؟! وهل لا يكون فات الأوان” من قصيد “شتاء 1985” كانت هذه بعض صرخاتي في ما عشت وعايشت من مفاصل تاريخ هذا الوطن وليله الطويل كفرد مؤمن بضرورة رعاية الأحلام الجميلة والآمال شرطا أوليا لجدارة الحياة واستحقاق الموت دون ادعاء بطولة أو فضل. والآن: يتجه تفكيري إلى كلّ من ماتوا غبنا قبل الابتهاج لهذا الصباح الجديد. يتجه تفكيري إلى والدي الذي علمنا حرية القول والفعل وكان سندا لنا في محن السياسة والفكر رغم اتّقاد عاطفة الأب الّلجوجة وآليات الترهيب وزرع الخوف، وإلى شقيقي و رفيق الدرب عبد الرزاق الضيفاوي الإنسان الشاعر المناضل الذي لم أبرأ بعد من آلام فقده المفاجئ، وإلى مناضلين وأصدقاء كثيرين من أمثال مختار اللغماني والصادق الهيشري والهادي زعتور ومحمد بن عثمان ونور الدين بن خذر وفوزي السنوسي والفاضل الغدامسي ووحيد قبادة والهادي بن محرز وكثيرين غيرهم.
و يتّجه تفكيري بصورة خاصة إلى شهداء هذه الثورة المباركة في جميع أنحاء الوطن والذين أعادوا لنا الأمل بالحياة الكريمة بعد طول يأس. ولكن … هل يمكن الحديث بهدوء وسط العاصفة؟! تلك هي، في اعتقادي، الوظيفة الصعبة للنّخب، وشرطها الأساسي التواضع والقطع مع الانتهازية وركوب الموج. فالوطن ليس وليمة، وإنما هو أمانة وبناء يومي صعب. و لقد تسلم أبناؤنا هذه الأمانة بثورتهم، وليس لنا إلاّ المساهمة في محاولة إنارة السبيل أمامهم، دون إعطاء دروس، حتى يستطيعون بدورهم التقدم بهذه الأمانة إلى الأجيال القادمة. لذلك فإنّ ما أحاول تقديمه في هذا المقال ليس إلاّ قراءة شخصية مقتضبة للتاريخ والواقــع والآفاق. و حسبي المساهمة. I-في التاريخ
1- الحركة الوطنية ودولة الاستقلال
لئن كان الاستقلال مطلبا جماهيريا شارك الجميع في النضال من أجله كل من موقعه على مدى جيلين، فقد شكّل الحزب الحرّ الدستوري بزعامة الحبيب بورقيبة نواته الأساسية ومركز ثقله إلى جانب الحركة النقابية بشقيها العمالي والطلابي بما كانت تزخر به من طاقات وعزائم. و قد يطول الحديث في هذا الشأن وهو ما لا يسمح به المجال الآن، لذلك أكتفي بالتركيز على نقطة جوهرية مازلنا نتحمّل نتائجها إلى الآن وهي طبيعة هذا الحزب، تحت مسمياته الثلاث، و أسلوب عمله.
كانت الخطّيّة والمركزية المفرطة هما السّمتان الطّاغيتان على مجمل الأحزاب السياسية في كل بلدان العالم في النصف الأول من القرن العشرين، فالمؤتمر يقرّر الخط العقائدي للحزب والقيادة المركزية تحدد السياسات المرحلية وتصدر الأوامر والقواعد تنفّذ. وكان العنف والتصفية الجسدية للخصوم داخل الحزب وخارجه هما الوسيلتان الوحيدتان لحسم الخلافات. و لم يخرج الحزب الحرّ الدستوري، رغم ليبرالية خطه العقائدي كما هو واضح من تسميته نفسها، عن هذه القاعدة، بل إنّه بالغ وتفنّن فيها منذ نشأته سنة 1934 حتى نهايته المرتقبة الآن.
لقد أصبح معروفا الآن لدى الجميع على نطاق واسع، وبما لا يدع مجالا للشك، أنّ الحكومة الفرنسية برئاسة بيار منداس فرانس (الاشتراكي الذي تبرّع لإسرائيل بمفاعل ديمونة النووي سنة 1954) اختارت الحبيب بورقيبة لدولة الاستقلال، الذي فرض عليها بنضال الشعب التونسي، انطلاقا من مصالحها الإقليمية في شمال إفريقيا والشرق الأوسط وموافقته هو على تلك المصالح بما فيها مصلحة إسرائيل (نظرا للعلاقة العضوية بين أغلب الأحزاب الاشتراكية الأوروبية وإسرائيل) في مواجهة المدّ الناصري من جهة، و لسدّ الطريق أمام تجذّر الحركة الوطنية في اتجاه حرب شعبية شاملة قد تكبّدها هزيمة ” ديان بيان فو” ثانية من جهة أخرى . كما أنّها ساعدته حتى في تصفية خصومه سواء داخل الحزب (الجناح اليوسفي) أو خارجه من الشخصيات ذات الإشعاع الوطني و الجهوي أمثال فرحات حشاد والطاهر وعلي أولاد حفوز وغيرهم، وذلك عن طريق ما عرف حينها بعصابة اليد الحمراء. و واصل الجهاز القمعي للحزب بعد الاستقلال تصفية اليوسفيين داخل الوطن (في ما يعرف بصباط الظلام) وخارجه بإعانة المخابرات الفرنسية والألمانية.
لقد شكّل الحبيب بورقيبة، بحق، نقطة التقاطع التراجيدية بين العقلانية الغربية الحديثة والعصبية الخلدونية القروسطية الشرقية في الفكر والممارسة. فهو من جهة يصدر مجلّة الأحوال الشخصية، ويحلّ جمعية الأوقاف، ويرسي النظام الجمهوري، ومبدأ الانتخابات البلدية و البرلمانية، ويعمّم التعليم الحديث مجانا ويخصّص له جزءا وافرا من ميزانية الدولة، ويبني السدود، ويطور الإدارة وآليات رقابتها، ويحقق الجلاء العسكري و الزراعي، ويعيد التقسيم الترابي للبلاد بما يتنافى ومنطق “العروشية” القائم آنذاك، ويضع برنامج تنظيم النسل، والصحة العمومية، ويعيد الاعتبار لقيمة العمل ويعتبره الجهاد الأكبر.
وهو من جهة ثانية يضرب التعدّدية السياسية (بحلّ الحزب الشيوعي)، ويرسي دعائم حكم الحزب الواحد، ويدجّن اتحاد الشغل(رغم أنّه ساعده على إقصاء الجناح اليوسفي من الحزب خلال مؤتمر صفاقس سنة 1955 و من انتخابات المجلس التّأسيسي) واتحاد الطلبة واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد الفلاحين والجمعيات الثقافية والمدنية والرياضية والبلديات ومجلس النواب، ويزرع سرطان الجهويات بتبجيل جهتي المنستير وسوسة في جل المشاريع التنموية وتوزيع أراضي الدولة (التي كان من المفروض أن تعود إلى أصحابها اللذين افتكّها الاستعمار منهم ) على مقاومي جهة الساحل، و يحقّر بالأدباء و المثقفين بدعوى تبجيل العلوم الصحيحة و التقنية، و يشرع عيد ميلاده الشخصي عيدا وطنيا يقيم له المهرجانات البائسة يغدق فيها العطايا من المال العام على شعراء العكاظيات الرديئة، و يلقي بطوابير معارضيه من الشباب الجامعي و النقابيين في السجون و المنافي و التجنيد القسري، ليغلق في النهاية دائرة الحكم الاستبدادي الشرقي بإقرار وتشريع الرئاسة لشخصه مدى الحياة وهو يتقدم بخطى حثيثة إلى حالة من الترهل الجســدي و الفكري لا يحسد عليها حتى أصبح التخلّص منه مطلبا داخليا و خارجيا عاجلا و ملحا .
و قد تزامن كل ذلك مع مخططات و مشاريع تنموية عرجاء راكمت الفشل تلو الفشل.
فمن تجربة التعاضد القسري ونتائجها الكارثية حتى على صعيد البيئة بالقضاء على التوازن الطبيعي في عديد الجهات، إلى تحررية الهادي نويرة الموجّهة و فتح الباب للرأسمال الأجنبي بقانون أفريل 1972 و تطوير السياحة على حساب الفلاحة مما أدى إلى استكمال انخرام التوازن الجهوي لفائدة الشريط الساحلي و تصحير الريف و ترييف المدن، إلى برنامج الإصلاح الهيكلي مع الثنائي محمد مزالي و رشيد صفر بما عناه من قضاء على القطاع العام و تخلي الدولة عن دورها في التشغيل و تحطيم المؤسسات الصغرى و المتوسطة و إطلاق العنان لاقتصاد السوق و لهيب الأسعار في رضوخ مفضوح لإملاءات الرأسمالية العالمية المتوحشة بزعامة الثنائي ريغن و تاتشر و التي لم تكن في جوهرها سوى غطاء هشّا لعودة الأصولية الدينية البروتستانتية الكالفينية إلى الواجهة بمبدئها القديم المتجدد : تجميع الثروة و مباركة الإلـه .
2ـ 7 نوفمبر 1987 الوعود الكبيرة و النهاية السريعة
أيّا كانت التسمية التي يمكن إطلاقها على صعود زين العابدين بن علي إلى سدّة الرئاسة في ذلك التّاريخ ( انقلاب ، تحول ، تغيير) , فإن الحقيقة التي لا خلاف حولها أنّ هذا التغيير ، و لئن كان منتظرا و مطلوبا داخليّا و دوليّا ، فقد كان تغييرا أفقيا من داخل أجهزة النظام البورقيبي المترهل وبها. و قد شارك فيه طرفان تجمعهما الرّغبة في الانتقام من بورقيبة هما جماعة الهادي البكوش، اللذين سجنهم بورقيبة و حمّلهم مسؤولية فشل تجربة التعاضد مع أحمد بن صالح ( رغم انشقاقهم عن هذا الأخير بعد ذلك و عودتهم إلى حظيرة الحزب ) من جهة ، وجماعة زين العبدين بن علي، اللذين تربوا في وزارة الدّفاع الوطني في ظل عبد الله فرحات الذي أقصاه بورقيبة بطريقة مشينة مباشرة إثر مؤتمر الحزب لسنة 1979 (رغم أفضاله هو و شقيقه محمد فرحات على بورقيبة خلال فترة الاستقلال و ما بعـدها) و أبرزهم بالطبع زين العابدين بن علي و عبد الله القلاّل و الحبيب عمار ، من جهة أخرى.
كما أنّ الوعود الدّيمقراطية الكبيرة التي جاء بها بيان 7 نوفمبر 1987 ، و لئن كانت مطلوبة بإلحاح داخليا من قبل جميع القوى الدّيمقراطية ، فقد كانت ضرورية أيضا للانتقال من الاقتصاد الموجّه إلى اقتصاد السوق(عبر برنامج الإصلاح الهيكلي سيء الذكر) استجابة لضغوط البنك العالمي و الرّأسمالية العالمية المتوحشة كما أسلفنا. وقد كشف الخلاف السريع حول هذه المسألة بالذّات بين زين العابدين بن علي و الهادي البكوش مدى هشاشة و انتهازية اللقاء بينهما و كذلك هشاشة التغيير نفسه .
و مع ذلك فإنه لا أحد ينكر، حتّى الآن، أنّ جميع مكونات المجتمع التونسي ساندت ذلك التغيير. كما أنّ الإجراءات السريعة التي اتخذت خلال سنة 1988 من إلغاء محكمة أمن الدولة و الوكالة العامة للجمهورية إلى نص الميثاق الوطني كانت مطلوبة و إيجابية و لقيت ترحابا من الجميع.
لكنّ سلسلة التراجعات السريعة التي حدثت بعد ذلك عجّلت بنهاية المشروع الذي بشر به ذلك البيان ، و أدخلت البلاد و العباد في دوّامة الشّخصنة المتورّمة و الحكم الفردي المطلق لتؤكد بذلك للمرة الألف أنّ التّاريخ لا يعيد نفسه إلاّ في شكل مهزلة .
و دون الإسهاب في التفاصيل ، نكتفي هنا بالتّذكير بأهم تلك التراجعات:
أـ الانتخابات التشريعية أفريل 1989
عملت أجهزة التجمع الدستوري الديمقراطي، بزعامة الرباعي الهادي البكوش وعبد الرحيم الزواري وحامد القروي و عبد الله القلال، على إعادة صنع سلطة الحزب على مجلس النواب و بالتالي على الحياة السياسية في البلاد و ذلك عبر :
أولا: إفشال مشروع الجبهة الوطنية الذي اقترحه زين العابدين بن علي نفسه مع بقية الأحزاب القائمة آنها، بما عناه ذلك من رفض لأي حوار سياسي معمّق يفضي بالضرورة إلى تشريك فعلي لأطراف الميثاق الوطني، عل الأقل، في العملية السياسية عبر المؤسسات الدستورية.
ثانيا: التضخيم المتعمّد في القائمات البنفسجية التابعة للتيار الإسلامي، الذي عرف فيما بعد بحركة النّهضة، و إبرازها كقوة خطيرة زاحفة على السلطة، بما عناه ذلك من ضرب لكلّ القوى المدنية الوسطية و للتعدّدية الفكرية والسّياسية و تقليص الخيارات المجتمعية إلى عملية استقطاب ثنائي بين التجمع الدستوري الديمقـراطي و حركة النّهضة ، و العودة بالتّالي إلى منطق الحزب الواحد الّذي لطّفه الهادي البكوش باستعمال عبارة “الحزب الكبير”.
و قد انعكس كلّ ذلك مباشرة، بعد شهر واحد من تلك الانتخابات، على مؤتمر الاتحاد العام التّونسي للشّغل الّذي عقد بمدينة سوسة الساحلية وفي أروقة نزل مملوك و مسير من طرف شخصين معروفين بولائهما لمجموعة عبد الله فرحات وزير الدفاع الأسبق الّذي أسلفنا ذكره و مآله. و في ذلك من الترميز السياسي ما يغني عن كلّ تعليق.
و لئن سعت بعض النّخب المستقلة و اليساريّة و النّقابية في الحين إلى طرح مبادرة بديلة للخروج من واقع الاستقطاب الثنائي الّذي أفرزته تلك الانتخابات، عبر ما عرف بمجموعة “الـ151 “، فقد سبق السّيف العذل كما يقـال، و سعى التّجمّع الدّستوري الديمقراطي بكل الطرق إلى إفشال تلك المبادرة.
و بذلك شكّلت تلك الانتخابات ، عن سوء نية ، حجر الزاوية في مشروع العودة إلى سلطة الحزب الواحد ، و كان طبيعيّا بعدها أن ينفرد التّجمّع الدستوري الدّيمقراطي بالانتخابات البلدية لشهر ماي 1990 .
ب ـ تبنّي التجمّع الدّستوري الدّيمقراطي للبرنامج الوطني للتضامن الاجتماعي:
في خطوة إجرامية غير مسبوقة، أذن الرئيس زين العابدين بن علي في صيف سنة 1990 لحزبه بتبنّي البرنامج الوطني للتضامن الاجتماعي، و نصّب على رأس الاتحاد الوطني للتضامن الاجتماعي واحدا من أكبر رموز الفاشيـة و القمع في تاريخ ذلك الحزب في شخص عزوز الرباعي الّذي تبجّح ، في خطاب تسلّمه لمهمته، بأنّه جاء ليطهر تلك المؤسسة “بماء الفرق” من غير التّجمعيين . كان هذا الإجراء جريمة ضد الإنسانية بكلّ المعايير، إذ رهن القوت اليومي للعائلات المعوزة ( وكان عددها آنذاك 248000 عائلة حسب الإحصائيات الرّسمية) بولائها السياسي للحزب الحاكم من جهة ، و ألغى دور الدولة و المجتمع المدني في هذا المجال من جهة ثانية، و ضمن لحزبه ، بطريقة غير شرعية ، مالا يقل عن خمسمائة ألف صوت على الأقل في المواعيد الانتخابية مستقبلا، من جهة ثالثة.
و الغريب في الأمر أنّ الحكومة المؤقتة لم تتّخذ إلى حد الآن قرارا واضحا في هذه المسألة ، على أهميتـــها و ناريتها، وذلك معناه، ببساطة التغافل عن تحكّم المسئولين الجهويين و المحلّيين للتجمع الدستوري الديمقراطي إلى الآن في تلك الأموال الّتي قد تكون هي المموّل الأساسي للميليشيات.
ج ـ محاولة اغتيال بن علي في شهر أفريل 1991 :
أعلن عبد الله القلاّل عن هذه العملية، لا بصفته وزيرا للدّاخلية، وكانت تلك وظيفته آنها، كما تقتضيه القوانين و الأعراف في كل بلاد العالم، و إنّما بصفته أمين مال التجمع الدستوري الديمقراطي و عضوا بمكتبه الّسياسي وفي اجتماع عام بمنخرطي حزبه بالعاصمة. و بقطع النظر عن صحّة هذه الحادثة من عدمها، فإنّ الخطورة تكمن في إلغاء دور وزارة الدّاخلية في إعلام الرأي العام الوطني بحادثة على تلك الدرجة من الخطورة، و الانتقال مباشرة إلى التعبئة الحزبية، بما يعنيه ذلك من تحطيم مقصود لمؤسسات الدولة لصالح الحزب الحاكم من جهة، و إلغاء الدور السياسي للحزب و إدخاله في دوّامة الهاجس الأمني، من جهة أخرى . وكان من الطّبيعي في ظل هذا التّمشي المنحرف أن نقرأ في إحدى اللافتات الّتي رفعت في المظاهرات الحزبية المنظّمة تنديدا بهذه الحادثة تلك الدعوة ” لقتل أعداء التجمع “، وهي عبارة تغني عن كلّ تعليق بما عنته من إلغاء للوطن و إعدام مطلق للآخر.
د ـ تنقيح قانون الجمعيات:
كان المقصود بهذا التنقيح ضرب هامش الحرية الضئيل الممنوح لجمعيات المجتمع المدني غير الحكومية في القانون القديم، و خاصة الرّابطة التونسية للدّفاع عن حقوق الإنسان، التي تم العمل على شلّ نشاطها بكل الطرق منذ صدور ذلك القانون سنة 1992. وكان ذلك النقيح آخر مسمار يدقّ في نعش بيان 7 نوفمبر 1987 لتنغلق الدّائرة من جديد، و منذ ذلك التّاريخ، على سلطة فردية مطلقــة و منفلتة من كل عقال أو رقابة، التجمّع جهازها الواشي و الأمن جهازها القمعي. حتّى أصبح الشعب عبيدا لدى عصابة نهب طالت أياديها القذرة حتى المقابر.
II ـ الثورة… الواقع و الآفاق.
حتّى تتحرّر اللغة، في الجهد اليومي الخلاّق، من انحرافات نصف قرن من الشّعبـوية الجهولـة و الفاشية، سيظلّ أيّ توصيف لهذه الثورة ملتبسا، لفرادتها و خروجها عن المألوف و فجئيتها. إذ لم يكن أحدا يتصوّر أنّ طاغية، في حجم بن علي، يمكن أن ينهار و يهرب في ظرف شهر من اندلاع الشرارة الأولى لهذه الثورة، رغم تفنّن أجهزته القمعية في تقتيل أبناء الشّعب العزّل و مواجهتهم بالقنابل الإسرائيلية الصنع و المعدّة أصلا لتقتيل الحيوانات المتوحّشة.
ولئن تحدّث الكثيرون عن عفوية هذه الثورة و غياب التّأطير السياسي الحزبي لها، ربّما باعتبارها ثورة شعبية سلمية تخرج عمّا عرفناه من ثورات القرن العشرين المسلّحة و ذات الطّابع الطبقي، فإنّ العكس هو ما أثبته واقعها اليومي. إذ بقدر ما بدت مرنة و مسئولة في قبول مبدإ الانتقال الدستوري للسّلطة في مستوى رئاسة الدولة عبر الفصل 57 من الدّستور، بقدر ما كانت حازمة في القطع مع النّظام السابق فكرا و ممارسة و رموزا. و بذلك وضعت على طاولة البحث، منذ اعتصام القصبة الأوّل، التناقض السياسي الرئيسي الّذي يشق المجتمع التونسي بين تيّارين:
أ ـ تيار التغّيير في الاستمرارية:
وهو الّذي يتزعمه الوزير الأوّل محمد الغنّوشي ( و يقف وراءه بارونات التّجمّع الدّستوري الديمقراطي بزعامة الهادي البكوش مرّة أخرى) وهو تيار لا يمكنه، بحكم محدودية تكوينه الفكري و السياسي، أن يحدث القطيعة مع النّظام السابق ( أي مع ذاته بالضرورة ). لذلك فهو يسعى إلى تدجين الثّورة وحصرها في بعض الإصلاحات السّياسيـــة و الاقتصادية كالتّفاوت بين الجهات، (وكأنّه لم يكن مسئولا عن ذلك في السابق). و لذلك أيضا استعمل فزّاعتي الانفلات الأمني و الأزمة الاقتصادية لكبح التحرّكات الاجتماعية و الوصول إلى انتخابات رئاسية في ظلّ الدّستور الحالي في أسرع وقت ممكن ودون تقديم أي برنامج سياسي واضح للخروج من الوضع الاستثنائي القائم. كما أغرق وسائل الإعلام المرئية بالخصوص في إبراز الوجه الجشع والبشع للنّظام السابق من جهة، و في جدل قانوني و حقوقي يومي لا ينتهي، و كأنّ رجال القانون، على أهمّيتهم، يملكون مفاتيح كلّ المعارف و الحلول الجاهزة لكلّ المعضلات، و بذلك يتمّ إنقاذ التجمّع الدّستوري الديمقراطي و لو جزئيا من الانهيار التّام تحت وطأة الثورة.
ب ـ تيار الثّورة الشعبية :
و هو، على عكس ما يدّعيه البعض من وجود أغلبية صامتة، تيار الأغلبية الساحقة من الشعب التونسي الّذي اكتوى بنار الحزب الواحد والحكم الفردي المطلق طيلة نصف قرن و امتلك في نهاية النّفق المظلم قراره و مصيــره و قدره و دفع ضريبة الدم في سبيل ذلك و لم يعد قابلا بأي شكل من الأشكال بديلا عن القطيعة التامّة مع النّظام السابق. وقد برز ذلك بوضوح لا لبس فيه سواء في الشعارات التي رافقت أيام الثورة أو في الاعتصامات و المسيرات الجهوية أو في اعتصام القصبة الأوّل و الثاني.
و لئن يبدو الآن أنّ جل المطالب الأوّلية للثورة قد وجدت طريقها إلى التّحقّق فعلا باستقالة الوزير الأوّل و حلّ التجمع الدّستوري الديمقراطي و البوليس السياسي وتعطيل العمل بدستور بن علي و إقرار انتخاب مجلس تأسيسي ووجود صيغة وسط لمطلب مجلس حماية الثورة، فإنّ المخاطر المحدّقة ما زالت كبيرة. و تتطلّب كحدّ أدنى مرحلي اتخاذ الإجراءات التالية :
أ ـ ضرورة اجتثاث دمّل التجمع الدستوري الديمقراطي محلّيا و جهويا من مراكز القرار و ذلك بتجديد إطار عمداء المناطق و العتمدين والمجالس القروية و الجهوية و البلدية كلّيا بشخصيات مستقلّة، في هذه المرحلة الانتقالية على الأقل، حتّى نضمن حياد الإدارة و قدرا أكبر من الشّفافية في انتخاب أعضاء المجلس التأسيسي وصولا إلى انتخاب أعضاء تلك المجالس نفسها في مرحلة لاحقة لاستكمال بناء أسس الدّولة الدّيمقراطية المنشودة.
ب ـ: ضرورة أن يضع القانون الانتخابي المزمع إصداره في الأسابيع القادمة و الخاص بانتخاب المجلس التأسيسي تقسيما ترابيا على أساس دائرة انتخابية لكلّ معتمدية ( أو لمعتمديات متصلة جغرافيا ) حسب الكثافة السكاّنية ضمانا لعدم تشتيت مجهودات المرشحين و تمكينهم من الوقت الكافي لتوضيح برامجهم للنّاخبين، إذ أنّ تقليص المساحة الجغرافية للدائرة الانتخابية يوفّر وقتا ماديّا أكبر للاجتماعات بالنّاخبين بما يمكّن هؤلاء من استيعاب البرامـــــج و التصويت عن اقتناع و تبصّر .
ج ـ : ضرورة إصدار مرسوم يؤكّد عدم جدارة كل المسئولين التجمّعيين بالترشح للهيئات الدستورية الخاضعة لمبدإ الانتخاب لفترة لا ثقلّ عن عشر سنوات على غرار ما حدث في عديد الدّول الديمقراطية بعد الحرب العالميــة الثّانية مثل فرنسا (la loi de l’ indignite nationale). د ـ : ضرورة الإسراع بإيجاد آلية لتوحيد مجهود التضامن الوطني (لإعانة العائلات المعوزة ) في هيئة واحدة مستقلة و خاضعة للرّقابة المالية الصّارمة، إلى أن يتم وضع البرامج و المخطّطات الاقتصادية الكفيلة بتوفير دخل أدنى مضمون لكلّ عائلة و تغطية اجتماعية شاملة لكلّ مواطن، حتى لا تحلّ المساجد و الحوانيت الحزبية محلّ التجمّع الدستوري الديمقراطي في هذا المجال و ندخل في شمولية فاشية من نوع آخر، أدهى و أمرّ و أعتى، بدأت تتوضّع بوادرها بعد.
و يبقى الأمل معقودا على اليقظة الدائمة لشباب الثّورة من جهة، و على جدّية أعمال اللجنة المقترحة و شمولها لكل مكوّنات الخارطة السياسية من جهة ثانية، و على استقلالية منظمات المجتمع المدني الفعلية عن الأحزاب السياسية وقد زالت أسباب خلط الأوراق و الأدوار بينها بزوال النظام القمعي من جهة ثالثة، مع التمنّي بأن يكون اللقاء بين السيدين فؤاد المبزّع الرئيس المؤقّت والباجي قائد السبسي الوزير الأوّل مصادفة أو ضرورة تاريخية لصالح الثّورة وألاّ يعيد للأذهان شبح انقسامات و تشفّيات ما بعد مؤتمر صفاقص سنة 1955 .
إنّها إذن أولى ثورات القرن الواحد و العشرين الديمقراطية في إفريقيا و الوطن العربي الّتي ستعيد صياغة دور كامل هذه المنطقة في التاريخ العالمي. و لأنّها بهذا الزخم الفريد، وهذه القيمة العالمية المسثقبلية الّتي دفعت مفكرا وفيلسوفا عالميا كبيرا في قيمة ” مانيوال دي دياقيز”[1] للحديث عن الثورة الديمقراطية العربية و نهاية إسرائيل، فسيظلّ الخوف عليها بحجم الفرح بإنجازاتها كلّ يوم. و لذلك أيضا وجب تنزيلها في الواقع الإقليمي والدولي، قبل كلّ شيء، لأنّه من نافل القول أنّ كلّ ثورة ، باعتبارها نقضا لواقع قائم، تعيد طرح وصياغة جميع إشكالات مجتمعها، و الّتي تظلّ معضلة الاستقلال الوطني حجر الزّاوية فيها، خصوصا في المنطقة العربية بالنّظر إلى سرطان الصهيونية و احتماء حكّامنا من شعوبهم بمظلاّت القوى الدولية . وذلك بالرغم من أنّ هذه المعضلة أخذت منحى جديدا، في ظلّ عولمة كلّ من الاقتصاد وإرهاب التطرّف الديني في الدّيانات السماوية الثّلاث، لم ينل حظّه من الدرس إلى الآن.
1 ـ الموقف الإقليمي:
رغم كل ما أسلفنا، فإن من إيجابيات النّظام التونسي أنّه ظلّ نظاما مدنيّا لم يدخل الجيش في الشأن السّياسي على عكس باقي الأنظمة العربية القائمة حتّى الآن، سواء كانت ملكيّة أم جمهورية، والّتي جاء جميع حكّامها إلى الحكم على وقع أحذية الجند و الدّبّابات. و بما أنّ الهاجس الأمني لكرسي السّلطة هو القاسم الوحيد المشترك بينها جميعا، فقد كان من الطّبيعي أن لا تلقى ثورتنا أيّ دعم من دول الجوار لما تشكّله من خطر عدوى الدّيمقراطية على حكّامها. بل إنّ موقف معمّر قذّاف الدم كان واضحا في العداء لها حتّى قبل أن ينصحنا بإبقاء بن علي رئيسا مدى الحياة، انطلاقا من خوفه على عرشه طبعا ( وها جاء الدّور عليه بسرعة لم يتوقّعها). و رغم التّحسّن الجزئي للوضع الإقليمي بعد الثّورة المصرية الّّتي أكّدت فعل العدوى الثورية في كامل المنطقـة العربية و جدّيته، خصوصا بحجم مصر الإقليمــــي و الدّولي، فإنّ الأمر في تونس، من هذه الناحية، ورغم انشغال دول الجوار بوضعها الدّاخلي المهزوز، سيبقى في المدى المنظور مدعاة لليقظة المسئولة سواء من النّاحية الاقتصادية ( اضطراب المبادلات التّجارية و المشاريع المشتركة، السوق السوداء، التجارة الموازية )، أو من النّاحية الاجتماعية لتداخل العائلات بالقرابة و المصاهرة في المناطق الحدودية الغربية بالخصوص، أو من الناحية الأمنيّة لمناطقنا الحدودية الغربية و الجنوبية و انعكاسات كلّ ذلك على الوضع الدّاخلي.
2 ـ الموقف الدولي:
أكثر من ستّين سنة تفصلنا الآن عن ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثّانية، و أكثر من عشرين سنة تفصلنا عن سقوط جدار برلين. و مع ذلك، فكلّ التغيرات الّتي حدثت يمكن القول إنّها كانت نحو الأسوأ.
فقد تربّعت الولايات المتّحدة الأمريكية وحدها عل عرش العالم، بمفهوم الهيمنة المتعجرفة في ظلّ حزبها الجمهوري، ومفهوم القيادة الوفاقيّة في ظلّ حزبها الدّيمقراطي، مع التقاء الحزبين الدّائم حول أمن إسرائيل و محاربة الإرهاب الإسلامي فقط.
و خسرت أوربا، تدريجيّا، قوّة التّيّار الّذي كان يدافع عن استقلالها عن الهيمنة الأمريكية بنهاية الديقولية الفرنسيـة و الدّيمقراطية المسيحية الإيطالية، و تعمقت تبعيّتها للولايات المتحدة الأمريكية في الفترة الأخيرة خصوصا مع الثلاثي الصهيوني ساركوزي وميركل و برلسكوني إضافة إلى موقع التبعية التقليدية الأنقليزية الدّائم لأمريكا، حتّى أصبحت القارّة العجوز الآن مستعمرة أمريكية كبيرة أجاد مانويل دي دياقاز مؤخّرا وصف حالتها و مستقبلها بقوله: ” إنّ السّاعة الّتي ستأخذ فيها كلّ من إيطاليا و ألمانيا طريق تونس و مصر و ليبيا قريبة، تلك السّاعة الّتي سنرى فيها الشعب الألماني يفرض على طبقته الحاكمة طرد مائتي فرقة عسكرية أمريكية تجوب بلاده و الشعب الإيطالي يطلب إلغاء مائة و سبعة و ثلاثين قاعدة عسكرية أمريكية جعلت من إيطاليا حاملة طائرات أمريكية عملاقة في قلب المتوسّط “.
ولكن السياسة الخارجية، بما هي انعكاس للسياسة الدّاخلية، تتحكّم في بعض جوانبها دائما الأجندات الدّاخلية الخاصّة بكلّ بلد. لذلك كان الاختلاف في المواقف واضحا بشأن الثورة الثّورة التونسية بين الولايات المتحدة الأمريكية و فرنسا.
فالرّئيس الفرنسي، الّذي وصل إلى الحكم بدعم واضح من اللّوبي الصّهيوني الفرنسي، والمنهك داخليّا بفشل اختياراته في كل المجالات، و المنهمك الآن في الإعداد لحملته الانتخابية لولاية ثانية، لم يكن بمقدوره مساندة ثورتنـا و التخلّي عن بن علي العميل الأوّل لإسرائيل في شمال إفريقيا و بالتّالي معاداة اللّوبي الصهيوني الفرنسي الّذي فتح بعد قنوات اتصال مع دومينيك ستروسكان كمرشح وافر الحظوظ لرئاسة فرنسا في السّنة القادمة . و لا أساس من الصّحّة لرفع شعار حماية المصالح الفرنسية في تونس، إذ بدا جليّا أنّ من علامات النّضج السياسي لثورتنا أنّها لم تطرح أصلا موضوع التزامات الوطن الخارجية.
أمّا الولايات المتحدة الأمريكية، فهي من جهة منهكة بكلفة الحرب في العراق و أفغانستان على اقتصادها الداخلي المتأزّم أصلا منذ سنة 2008 وليست بالتّالي في حاجة إلى بؤرة توتّر جديدة خصوصا في الحدود الجنوبية لأوروبا. وهي من جهة أخرى مقتنعة منذ مدّة، مثلما أكّدته مراسلات سفيرها في تونس المنشورة على موقع ويكيليكس، بأنّ بن علي دخل في هستيريا الحكم الفردي المطلق و أصبح غير قادر و غير قابل للقيام بأيّ إصلاح من شأنه أن يجنّبه المصير الّذي آل إليه. و لذلك تخلّت عنه منذ الأيّام الأولى للثّورة.
ولئن كان من الطّبيعي أن تصبح تونس، بعد الثّورة، قبلة و محجّا لعديد الوفود في لعبة المصالح و النفوذ الدّوليين، فإنّ الأمل معقود على يقظة جيل الثّورة و كلّ أبنائها للحفاظ على استقلال قرارها و توازن علاقاتها. تونس 13 مارس 2011
سوريا مصدر: هيمان رايتس ووتش 25 مارس 2011
قوات الأمن تقتل عشرات المتظاهرين
(آيفكس/ هيومن رايتس ووتش) – قالت هيومن رايتس ووتش اليوم إن على قوات الأمن السورية أن تكف عن استخدام الذخيرة الحية ضد المتظاهرين في بلدة درعا الواقعة جنوبي سوريا، حيث ارتفع عدد القتلى بشكل ملحوظ خلال الـ 48 ساعة المنقضية. كما يتعين على الحكومة أن تفرج فوراً عن جميع المحتجزين الذين تم القبض عليهم على خلفية احتجاجهم سلمياً وتعبيرهم عن آرائهم.
كانت منظمة حقوقية سورية قد أصدرت قائمة بـ 36 قتيلاً في درعا والمناطق المحيطة بها، منذ بدء التظاهرات في 18 مارس/آذار 2011، بينما قال مسؤول بمستشفى درعا الرئيسي لرويترز في 24 مارس/آذار إن المستشفى تلقى جثامين 37 متظاهراً على الأقل.
وقالت سارة ليا ويتسن، المديرة التنفيذية لقسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في هيومن رايتس ووتش: “قوات الأمن السورية تُظهر نفس اللامبالاة القاسية بأرواح المتظاهرين، كما فعل الأمن في ليبيا وتونس ومصر واليمن والبحرين. حديث الرئيس الأسد عن الإصلاحات لا يعني شيئاً طالما أمنه يُطيح بكل من له كلمة في تلك الإصلاحات”.
استخدمت قوات الأمن السورية حوالي الساعة 1:30 صباح 23 مارس/آذار الغاز المسيل للدموع والرصاصات الحية في أثناء اقتحامها لمسجد العمري بدرعا، الذي يتجمّع فيه المتظاهرون منذ 18 مارس/آذار، حسب قول اثنين من سكان درعا لـ هيومن رايتس ووتش. أحد أهالي المدينة – وكان على مسافة نحو 25 متراً من المسجد في ذلك الحين – قال إنه رأى جثثاً على قارعة الطريق. وأثناء المكالمة الهاتفية معه كان بالإمكان سماع أصوات طلقات نارية تقاطع الحديث.
قال أحد الناشطين بطريق الهاتف لـ هيومن رايتس ووتش – وكان يراقب الوضع عن كثب ويتحدث إلى أهالي درعا: ” صوت الرصاص عبر الهاتف وكأن درعا منطقة حرب. أنا قلق للغاية من احتمال وقوع مذبحة”.
وقال اثنان من نشطاء حقوق الإنسان السوريين إن سبعة متظاهرين قد قُتلوا تلك الليلة، منهم طفلة تُدعى ابتسام المسالمة.
وكالة الأنباء السورية الرسمية – سانا – أفادت في 24 مارس/آذار أن قوات الأمن هاجمت المسجد بعد أن هاجمت “عصابة مسلحة” سيارة إسعاف في ساعة مبكرة من يوم 23 مارس/آذار في المنطقة المحيطة بالمسجد، مما أسفر عن مقتل “طبيب ومُسعف وسائق”.
بث التلفزيون السوري الرسمي صوراً تُظهر أسلحة وذخائر وكميات كبيرة من النقود تزعم الحكومة أن العصابة المسلحة قامت بتكويمها بداخل المسجد، لكنها لم تقدم أية أدلّة تربط تلك الأغراض بالعصابة المسلحة المزعومة.
ولا توجد تقارير أخرى يظهر منها أن المتظاهرين مسلحين أو أنهم هاجموا سيارة إسعاف. أبناء درعا الاثنان اللذان تحدثت هيومن رايتس ووتش إليهما ليلة الهجوم أنكرا جملة وتفصيلاً فتح أي متظاهر النار على أحد أو حيازة أي متظاهر لأي نوع من الأسلحة.
وقال ناشط حقوقي سوري وأحد أهالي درعا لـ هيومن رايتس ووتش إن قوات الأمن فتحت النار على المتظاهرين مرة أخرى في وقت لاحق من يوم 23 مارس/آذار. صدرت مقاطع على اليوتيوب ذلك اليوم تُظهر أربع جثث على الأقل ملقاة على قارعة الطريق، مع محاولة المتظاهرين إبعاد الجثث، في الوقت نفسه يمكن سماع طلقات نارية كثيفة متصلة في خلفية المشهد. أحد سكان درعا، ممن شاهدوا المقطع، أكد لـ هيومن رايتس ووتش إن مسرح تلك الأحداث الواردة في مقاطع الفيديو هو درعا.
وقالت منظمات حقوقية سورية إن قوات الأمن قامت أيضاً بفتح النار على المتظاهرين الذين خرجوا في مسيرة يوم 23 مارس/آذار في البلدات والقرى المحيطة بدرعا تعبيراً غن تضامنهم مع أهالي المدينة. مركز دمشق لدراسات حقوق الإنسان وفّر قائمة من ثمانية متظاهرين على الأقل يُزعم أنهم قُتلوا في تلك القرى المجاورة.
وقالت سارة ليا ويتسن: “لو لم يكن لدى الحكومة السورية شيئاً تخفيه، فعليها أن تفتح على الفور تحقيقاً مستقلاً ونزيهاً في الهجمات القاتلة، وأن تسمح للمراقبين الخارجيين بالوصول إلى درعا بلا أي إعاقة”.
لجأت قوات الأمن إلى احتجاز النشطاء الذين غطوا التظاهرات أو دعوا إلى المزيد من الاحتجاجات. في 22 مارس/آذار اعتقلت قوات الأمن لؤي حسين، الكاتب والناشط السياسي، من بيته في صحنايا بمنطقة ريف دمشق، على خلفية تحركه على الإنترنت لدعم التظاهرات والإصلاحات. واتصلت قوات الأمن في 23 مارس/آذار بمازن درويش، مدير المركز السوري للإعلام وحرية التعبير في سوريا، ليوم ثانٍ من الاستجواب. تم الإفراج عن حسين ودرويش يوم 24 مارس/آذار. قدّم نشطاء حقوقيون سوريون لـ هيومن رايتس ووتش قائمة من تسعة أشخاص رهن الاحتجاز، على ما يبدو جراء نشرهم دعوات على الفيس بوك للمطالبة بالمزيد من التظاهرات. المرصد السوري لحقوق الإنسان ذكر أن قوات الأمن احتجزت رامي سليمان يوم 20 مارس/آذار من داعل، وهي بلدة صغيرة مجاورة لدرعا، بعد أن اتصل بقناة البي بي سي العربية واصفاً الموقف.
وقالت سارة ليا ويتسن: “بعد شهر من السماح بالفيس بوك في سوريا، تلجأ قوات الأمن السورية إلى احتجاز من يجرؤ على استخدام هذا الموقع في التواصل”.
وأضافت: “لم تكتف قوات الأمن السورية بقتل المتظاهرين، بل تريد أيضاً منع الجميع من توثيق أو انتقاد تلك الأعمال”. وأضافت: “إن النشطاء والصحفيين وأقارب المحتجزين يتحركون جميعاً في ظل مخاطر جسيمة تتهدد سلامتهم”.