ممارسات الاستبداد في سوريا بوابة العدوان الخارجي
نبيل شبيب
لا يقتصر الحديث هنا على ثورة شعب سورية، إنّما لا يخفى أنّها تواجه الآن أكثر من سواها حملة مضادة، يوضع لها عنوان “مواجهة مؤامرات خارجية ضدّ دولة الممانعة ومحور الممانعة والمقاومة”. ولا يخفى أيضا أن النظام القائم في سورية يستغلّ هذا الطرح إلى أبعد مدى ويسوّغ به حتى استخدام الأسلحة الثقيلة في محاصرة المدن السورية واقتحامها، علاوة على عمليات القتل، وحملات الاعتقال الشاملة، بحالة طوارئ ودونها، ومع رفض الاعتراف الحقيقي -الذي تتبعه إجراءاتٌ عملية حاسمة وليس مجرد وعود جزئية ناقصة- بأنّ شعب سورية يريد (مهما كان شأن المؤامرات والأهداف الخارجية ورغما عنها) حريته وسيادته على صناعة القرار في بلده، وإنهاء زهاء خمسة عقود من الاستبداد والقمع والفساد.. جملة وتفصيلا. وقد ساهم انزلاق ثورة شعب ليبيا الصامد الأبيّ المنكوب بحاكمه (تحت ضغوطٍ هائلة من صنع أساليب قمع أشدّ عنفاً وإجراما ممّا بدأت سورية تشهده حاليا) إلى حمل السلاح في وجه القمع الاستبدادي، ثم إلى الاستنجاد بتدخل دولي.. ساهم ذلك في تعزيز حجج من يخشون من تدخل دولي مشابه في سورية، أو تعزيز ذرائع من يلوّحون بهذا الخطر لأغراض أخرى، ورافق ذلك الإعرابُ عن دعمٍ متفاوت الدرجات (من درجة: على مضض.. حتى درجة التبجّح بتأييد القتل جماعيا) لِما يصنع النظام في سورية، مع الدعوة إلى استمرار وجوده كما هو وإنكار استبداده، أو القبول باستمراره –مع إصلاحات ما- من أجل “تميّز” سياساته الخارجية ودوره الإقليمي. إذا تجاوزنا ما يصدر من داخل حدود سورية على ألسنة جهات يعتبر وجودها وكلامها على كلّ حال جزءا من وجود النظام واستبداده وفساده، يبقى من الضروري في متابعة ما يتردّد خارج الحدود، لا سيما من جانب جهات “يسارية” متعدّدة المشارب، أن نؤكّد عدم جدوى الانشغال بتحديد معالم صورة واضحة لما جرى ويجري، وخارطة بيّنة للمواقف الصادرة عن إخلاصٍ حقيقي لقضايا التحرير والمقاومة، وتلك الصادرة عن ارتباط مصلحي أو نفعي بالاستبداد الفاسد، وليس هذا سهلا، على ضوء غلبة أسلوب “المشاحنات” في وسائل الإعلام التقليدية، وفي الشبكة العالمية، وحتى عبر بعض الفضائيات. رغم ذلك نحتاج إلى طرح بعض الأسئلة الأساسية حول التدخل الدولي (المرفوض في سورية وسواها) بعد أن بات الحديث عنه يتراوح ما بين الزعم بأنّه من وراء ثورة شعب سورية، وبين الخشية من وقوعه في مرحلة تالية. السؤال الأول: هل سورية مستهدفة دوليا؟.. من السذاجة بمكان إنكار ذلك، إنّما من السذاجة بمكان أيضا الاعتقاد بأن سورية مستهدفة دون سواها.. ومن يزعم ذلك يتناقض مع نفسه، عندما يتحدّث “الآن” عن استهداف ليبيا على سبيل المثال!.. الاستهداف من جانب قوى الهيمنة الدولية، لا سيما الصهيوأمريكية، كان قائما في الماضي، وهو قائم الآن، وسيبقى في المستقبل، وكان يشمل سورية وسواها في الماضي، ويشمل سورية وسواها الآن، وسيبقى على ذلك مستقبلا أيضا. ولنأخذ من مصر مثلا، وقد كانت مستهدفة على الدوام، بغض النظر عن طبيعة الحكم فيها: 1- في حقبة مواجهة الهيمنة الغربية تحت عناوين القومية والاشتراكية، مع الارتباط بالمعسكر الشرقي، وأثناء التعاون مع أقطار عربية أخرى مثل سورية.. وآنذاك كان الاستهداف عبر المؤامرات سرا وعلنا. 2- في عهد الاستبداد الطويل أثناء حكم مبارك ومن معه، رغم الارتباط التبعيّ الوثيق بالغرب، وأصبح الاستهداف عبر تحقيق مطامع الهيمنة من خلال الحكم الاستبدادي الفاسد نفسه. 3- ومصر –وهنا ما يجب تركيز الأنظار عليه- مستهدفة اليوم أكثر من أي وقت مضى على الإطلاق، أي بعد سقوط الاستبداد، وفور بداية المشوار الطويل لتكون إرادة الشعب هي صاحبة السيادة الحقيقية في صناعة القرار في مصر على كل صعيد. الشاهد: لم يكن وجود الاستبداد ولا غيابه هو العنصر الحاسم” في ممارسة الهيمنة أو عدم ممارستها، وبالتالي لم يكن تحرّر مصر من الاستبداد هو “الثغرة” لنفاذ مطامع الهيمنة الدولية، ولكنّ تحرّر إرادة الشعب في مصر، هو ما يشكّل السدّ الأقوى من سواه، لمواجهة تلك المطامع وما ينبثق عنها، الآن ومستقبلا. كانت “تعبئة الطاقات الشعبية” لحقبة من الزمن في مصر (وسورية وسواها آنذاك) عنصرا حاسما في تحديد درجة فعالية “الصمود.. والمواجهة” تجاه الهيمنة الدولية، والآن أيضا يظهر للعيان أنّ “تعبئة الطاقات الشعبية” في حقبة الثورة العربية، الشاملة لمصر وسواها، هي العنصر الحاسم الذي يمكن (ويجب) أن يُعتمد عليه في “الصمود.. والمواجهة”، وهذا بالذات ما تخشى الهيمنة الدولية من مفعوله، أكثر من أي عنصر آخر. إنّ رؤية ثورة شعب سورية بمنظار قويم تفرض العودة إلى اعتماد معيار “تعبئة الطاقات الشعبية” لتحديد الموقف الواجب من الثورة، ولم يعد ممكنا الآن على كل حال الجمعُ بين “الاستبداد” و”التعبئة” في أي قطر من الأقطار دون استثناء، وهذا ما يشمل سورية مثلما يشمل مصر وسواهما. السؤال الثاني: ماذا تعني الممانعة؟ ظهر مصطلح “الممانعة” حديثا كما هو معروف، وينبغي في التعامل معه ضمانُ رؤيته على أرض الواقع كما هو، لا أن نخلط بينه وبين هدف “التحرير”، فمهما تقصّينا وبحثنا لا يمكن اعتباره مرادفا لمصطلح “تحرير”، ولا حتى مرادفا لمرحلة من المراحل على طريق التحرير، وليس هذا مجهولا وإن غاب في الجدل حول تدخل خارجي.. ويشهد على ذلك وصفُ سورية بأنّها الدولة الباقية من بين “دول المواجهة” (وهو مصطلح قديم أيضا) على طريق “الممانعة واحتضان المقاومة”، إنّما لا يزعم أحد بما في ذلك النظام القائم في سورية أنّها باقية على طريق “التحرير”، بمعنى الكلمة الأصلي كما عُرف فور النكبة الأولى بفلسطين، وأقصى ما يمكن قوله إنّ التحرير المطلوب هو التحرير الجزئي كما عرف بعد كارثة 1967م واحتلال الجولان. يتجلّى الفارق بين ما يعنيه المصطلحان على أرض الواقع، أي على صعيد التطبيق العملي، فيما يلي، على سبيل المثال دون الحصر: 1- سورية الدولة –وليس الشعب- شاركت خلال وجود السلطة الحالية (منذ 1963م.. أو 1970م على الأقل) فيما عُرف بمشروع فاس، الذي يُعتبر أول موقف رسمي عربي مشترك يتحرّك على طريق الاعتراف والصلح.. ويتخلّى عن طريق المقاومة والتحرير. 2- سورية الدولة –وليس الشعب- شاركت في مؤتمر مدريد الذي يُعتبر المنطلق لتثبيت مشروع كامب ديفيد من قبل ومشروع أوسلو من بعد. 3- سورية الدولة –وليس الشعب- شاركت في إنهاء وجود منظمات المقاومة الفلسطينية الأولى في لبنان بشكل مباشر، ومنذ ذلك الحين لم تفسح المجال لقيام سواها في سورية أو لبنان أثناء السيطرة السورية فيه. 4- سورية الدولة –وليس الشعب- شاركت ولو بتحفظ (التحفظ على تغييب هدف العودة.. وليس تغييب هدف التحرير الكامل) فيما سمّي “مبادرة بيروت” التي مضت أبعد من سابقاتها في اتجاه التصفية والتطبيع. 5- بالمقابل.. سورية الدولة (ولا يعارض الشعب.. ولكن إرادته مصادرة على كل حال) بقيت وحدها في ميدان رفض المشاركة “المطلقة” في الحلقات الأخيرة من مسيرة التصفية لقضية فلسطين وحصار المقاومة (مع غالبية توجهاتها الإسلامية) التي نشأت خارج سورية، وأصبحت واقعيا هي الوريث الشرعي من حيث أطروحاتها (أي: التحرير الكامل) للعمل الفدائي سابقا. 6- لا يرقى دور الممانعة واحتضان المقاومة إلى مستوى “إطلاق يد المقاومة”، الفلسطينية تخصيصا، لتتحرّك على أرض سورية –ولا لبنان من قبل- بل أصبح دعم المقاومة الفلسطينية الإسلامية وما بقي من المقاومة ذات التوجهات الأخرى، مقتصرا على احتضان “مكاتب ومؤتمرات”، وعلى عدم المشاركة في قرارات عربية مشاركة مباشرة إذا فُتحت أبواب التطبيع والتصفية.. وإن كان معروفا أنّ القرارات المشتركة لم تتجاوز في أي وقت من الأوقات حدود توصيات لا تقيّد سياسات “قطرية” ما. ولكن: في سورية كان معيار “التحرير” منذ النكبة الأولى إلى أواسط السبعينات من القرن الميلادي الماضي، ثم أصبح معيار “الممانعة واحتضان المقاومة” من بعد، حجة حاسمة في تعليل سياسات الاستبداد الداخلي، بدعوى أنّ “المعركة” تتطلّب حكما قادرا على اتخاذ القرارات الحاسمة، وعلى تخصيص النفقات الكبرى لشؤون الدفاع. شعب سورية أحرص من أي زعامة سياسية أو اتجاه سياسي، على قضية فلسطين، وعلى المقاومة، وعلى رفض الهيمنة الأجنبية.. (وهذا وحده.. وليس أي نظام من الأنظمة، هو الضمان لمستقبل دور سورية بعد الثورة) وكان يتقبّل تلك الحجة –نسبيا- لزمن طويل، إنّما كان يرصد واعيا على أرض الواقع: 1- مضى على احتلال الجولان 44 سنة.. ولم يحرّرها النظام الاستبدادي. 2- مضى على النكبة العسكرية الأولى 63 سنة والثانية 44 سنة، ولم يحرّر النظام الاستبدادي “شبرا” من الأرض الفلسطينية المغتصبة ولا العربية المحتلّة. 3- تعرّضت أرض سورية وتعرّضت قوات سورية سابقا في لبنان –إلى جانب أرض لبنان- لعدد من الاعتداءات الإسرائيلية المباشرة، وبقي الموقف الرسمي للنظام القائم متشبّثا بعبارة “نردّ في الوقت المناسب” دون أن يحين الوقت المناسب رغم مرور عشرات السنين. كما رصد شعب سورية على صعيد مواجهة “الإمبريالية”: 1- مشاركة الدولة –وليس الشعب- في الحرب الأولى ضدّ العراق لتحرير الكويت، مع أنّه ظهر منذ ذلك الحين أن الهدف هو ضرب العراق، بذريعة تحرير الكويت (مع تأكيد رفض احتلال الكويت جملة وتفصيلا). 2- مشاركة الدولة –وليس الشعب- في قسط كبير ممّا مارسته الدولة الأمريكية “الإمبريالية” تحت عنوان “الحرب ضدّ الإرهاب” حتى أصبح التعاون الاستخباراتي بين الجانبين “نموذجا” لا يستهان به في المنطقة. وفي الوقت نفسه رصد شعب سورية على الصعيد الداخلي: “الثمن” الذي كان الشعب على استعداد لدفعه على حساب حرياته وحقوقه المعيشية، من أجل “التحرير” تحوّل في حقبة شعار “الممانعة واحتضان المقاومة” إلى درجة غير مسبوقة من الاستبداد القمعي والفساد المترف، دون أي خطوة من الخطوات على مستوى التعبئة من أجل التحرير، ولا التعبئة من أجل النهوض والتقدّم. السؤال الثالث: ما الذي تغيّر الآن؟.. 1- بغض النظر عن التفاصيل وضع مسلسل الثورات العربية المنطقة بأسرها والعالم بأسره أمام معطيات جديدة.. فلم يعد يمكن أن يستمرّ الاستبداد كما كان في أي قطر من الأقطار، العربية على الأقل، سواء تبدّل ذاتيا أو تبدّل رغما عنه، جزئيا أو بصورة شاملة جذرية، ولم يعد يمكن أن تُمارس الهيمنة الأجنبية بأساليبها العتيقة. 2- انهار أحد الأعمدة الرئيسية لمسيرة “الهيمنة والتصفية والتطبيع” من خلال الثورة الشعبية في مصر، وسيّان كم تبذل القوى الدولية لتحتفظ بقدرٍ ما من النفوذ، أو لتوجد مرتكزات بديلة، لا يبدو أن “مصرغدا..” ستكون مثل “مصر بالأمس القريب” إطلاقا. 3- لا يكاد يوجد على الأرض العربية والإسلامية محورٌ إقليمي قادر على أن يصنع سياسيا وشعبيا تحوّلا جذريا على صعيد التعامل مع الهيمنة الدولية والتعامل مع هدف التحرير على صعيد فلسطين تخصيصا، مثل ما يمكن أن يصنعه المحور السوري-المصري، وهو ما يشهد عليه التاريخ القديم، وكذلك التاريخ الحديث بغض النظر عن التفاصيل والأخطاء والانحرافات. 4- لا يمكن أن يقوم هذا المحور الآن، في حقبة الثورات العربية، دون أن يتحقق في سورية التحوّل الجذري المطلوب، كشرط لا غنى عنه لاستعادة “تعبئة الطاقات الشعبية” وكذلك لاستعادة القدرة على تعبئة الإمكانات الذاتية بصورة مستقلة عن الارتباطات الدولية القائمة على معادلة الهيمنة والتبعية. إنّ الذين يخشون على الدور الإقليمي لسورية –كما يقولون- بسبب ثورة الشعب على الاستبداد فيها، يغفلون على الأقلّ عن الفرصة التاريخية البالغة الأهمية، لولادة دور إقليمي سوري-مصري، وبالتالي دور إقليمي عربي شامل، وربما أوسع جغرافيا ليشمل قوى إسلامية إقليمية. هم يخشون على المحور القائم الآن تحت عنوان “الممانعة والمقاومة.. من إيران عبر سورية إلى لبنان وفلسطين” ويخاطرون إلى حد بعيد بالحيلولة دون قيام محور أرسخ شعبيا، وأقوى مفعولا، يمكن أن يتخذ عنوان: “التحرير والوحدة والنهوض.. من مصر عبر فلسطين إلى سورية”.. وربما إلى أبعد من ذلك. السؤال الرابع: هل يُطبّق النموذج الليبي في سورية؟.. لا يمكن استبعاد المخاوف التي تعبّر عنها جهات كثيرة بصدد أن يتكرّر التدخل الدولي في ليبيا بصورة ما إذا استمرت ثورة شعب سورية.. ولكن وضع هذه المخاوف في الميزان، يتطلّب نظرة موضوعية إليها: إنّ التدخل الدولي بحد ذاته.. جارٍ على قدم وساق في تونس ومصر أيضا، وفي اليمن بصورة أوضح للعيان، إنّما اختلف المظهر في ليبيا فاتخذ صيغة عسكرية مباشرة. بتعبير آخر: ليس استمرار الثورة حتى إسقاط النظام هو العامل الحاسم في منع التدخل الدولي، إنّما هو عامل حاسم -وفق المعطيات الحالية المشهودة- ألا يتخذ صيغة عسكرية. إن التدخل الدولي قائم إزاء كافة أقطار المنطقة، ولكنه يتخذ أشكالا متعدّدة، يبرز للعيان منها حاليا، أي في حقبة الثورات العربية: 1- التدخل السياسي المتسلّل.. كما يجري حاليا في تونس ومصر، دون أن يوجد أصلا من يطلبه من جانب القوة الشعبية الثائرة على استبدادٍ سقط وبقايا يجب أن تسقط أيضا.. 2- التدخل السياسي المكثف والعنيد.. مباشرة أو بصورة غير مباشرة (اعتمادا على قوى إقليمية) كما يجري حاليا في اليمن، دون وجود من يطلبه من جانب القوى الشعبية الثائرة على استبدادٍ لم يعد قادرا على التشبّث بموقعه لولا “مناورات” التدخل الخارجي لصالحه.. 3- التدخل العسكري المباشر، مع نتائج يصعب التنبّؤ بها حتى الآن، كما يجري حاليا في ليبيا، مع وجود من طلبه وذلك من جانب فريق من القوى الشعبية الثائرة، تحت ضغوط إجرام قمعي استبدادي هائل، ومن جانب قوى إقليمية، اتخذت من الطلب “الداخلي الليبي” حجة لتحرّكها في هذا الاتجاه. على ضوء ذلك يمكن القول: سورية معرّضة لتدخل دولي أيضا، بصورة من الصور الثلاث المذكورة، أي أن الوضع الراهن في سورية، مع مطلع أيار/ مايو 2011م، يفتح الأبواب أمام ثلاثة احتمالات: 1- تغيير جذري، بمشاركة السلطة أو رغما عنها، ستواكبه محاولات تدخل سياسي دولي “متسلّل” على غرار ما يجري في تونس ومصر.. ومع قابلية أن يضعف مفعوله قطرياً أمام تحرّر الإرادة الشعبية، وأن يضعف مفعوله إقليميا، عبر البلدان الثلاثة معا ومن ينضمّ إليها على صعيد تغيير النظام الاستبدادي الفاسد، فهذا ما يفتح أبواب نشأة محاور جديدة راسخة، بين دول متحررة من الاستبداد والفساد، وتحكمها الإرادة الشعبية، وينفسح فيها المجال لتعبئة الطاقات الشعبية والإمكانات الذاتية، وتفرض واقعا جديدا على الخارطة الإقليمية والدولية معا. 2- استمرار “المعركة” بين النظام والشعب ولكن على طريقة ما يجري في اليمن حاليا، وستواكبها محاولات تدخلّ سياسي عنيد مكثف، مباشرة أو عبر قوى إقليمية، إنّما قد يكون أشدّ مفعولا ممّا يشهده اليمن، لأن النظام الاستبدادي في سورية قد تجاوز على طريق القمع “نموذج” اليمن واقترب من النموذج “الليبي”. 3- تصعيد القمع باتجاه “النموذج الليبي”.. وسيّان آنذاك هل وجد فريق من القوى الشعبية الثائرة، أو من القوى السياسية والحقوقية المواكبة للثورة، من يطلب تدخلا دوليا أو لا يطلب، سيكون القرار بشأنه صادرا عن تقدير القوى الدولية لمصالحها هي، ومطامعها هي، وإمكانات التدخل من جانبها هي.. سيّان هل يأتي بقرار يصدر عن مجلس الأمن الدولي أو بدونه. لهذا يجب القول بكل وضوح: إن الممارسات القمعية الاستبدادية لثورة شعبية في أي قطر من الأقطار العربية، وفي سورية تخصيصا، هي التي تفتح الثغرات، وهي التي تتحكّم في حجم تلك الثغرات وخطورتها، أمام التدخلات الأجنبية بكافة أشكالها ودرجاتها. الموقف المطلوب إنّنا نرفض التدخل الدولي، نرفضه بكافة أشكاله، ونرفضه بكافة درجاته، ونرفضه بكافة ما ينبني عليه من نتائج لصالح الهيمنة الدولية، ولكن هذا الرفض المطلق لا ينبني عليه، ولا ينبغي أن ينبني عليه، بأي حال من الأحوال مطالبة الشعب بالخضوع لاستمرار الاستبداد والفساد، لا سيّما وأنّهما بلغا في سورية عبر زهاء نصف قرن درجات لا يحتملها إنسان، ولا يجوز أن يقبل بها إنسان منصف. إنّما ينبني على الرفض القاطع للتدخل الدولي أن نؤكّد نؤكّد بإلحاح شديد على صعيد كافة الأقطار العربية، لا سيما اليمن، وليس على صعيد سورية فقط:
1- مطالبة النظام الحاكم بالكفّ عن القمع الاستبدادي الدموي لثورة الشعب..
2- مطالبة أنصار النظام الحاكم بالكفّ عن توجيه سهامهم لشعبٍ يطلب الحرية، بذريعة خطر التدخل الدولي، وأن يوظفوا –بدلا من ذلك- علاقاتهم بالنظام لمحاولة دفعه إلى الكفّ عن فتح ثغرة خطيرة بممارساته القمعية أمام التدخل الدولي المرفوض..
3- الأمل الكبير الراسخ في صانعي الثورات العربية عموما، وفي ثوّار سورية الأباة الصامدين تخصيصا، وفي قدرتهم بعون الله على متابعة ثورتهم السلمية، والصمود رغم التضحيات، والاستمرار على رفض التدخل الأجنبي رغم تصعيد البطش والقمع والتنكيل.. فالثورة الشعبية السلمية البطولية منتصرة بإذن الله، وتحرير سورية من الاستبداد والفساد قريبٌ قريب، وليس الثمن الذي يدفعه شعب سورية اليوم من أجل سورية ومستقبلها فقط، بل هو أيضا من أجل مستقبل المنطقة بأسرها، ومستقبل قضاياها المصيرية جميعا، لا سيما قضية فلسطين.
(المصدر: موقع أون إسلام ( القاهرة-مصر) بتاريخ 8 ماي 2011)
عبد الباري عطوان
اذا كانت هناك مؤامرة خارجية لخطف الثورات العربية المطالبة بالتغيير الديمقراطي، او تحويلها عن مسارها، فإن ما يجري في مصر حالياً هو التجسيد الحقيقي لها، ونحن هنا لا نتحدث عن الصدامات الدموية الطائفية التي وقعت امس بين مسلمين ومسيحيين في منطقة امبابة فقط، وانما ايضاً عن العديد من جوانب الثورة المضادة، ومحاولات تغذيتها بكل اسباب القوة، من داخل البلاد وخارجها.
باتت الفتنة الطائفية خطرا يهدد مصر، لانها السلاح الوحيد، والفاعل لتمزيق الوحدة الوطنية، واجهاض الثورة الديمقراطية، واعادة مصر مجدداً الى حظيرة التبعية الامريكية والاسرائيلية، مثلما كان عليه الحال، وربما اسوأ، في عهد النظام المصري المخلوع بزعامة الرئيس محمد حسني مبارك ومافيا رجال الاعمال التي كانت تشكل العمود الفقري لبطانته الفاسدة.
صحيح ان الهدوء عاد الى منطقة امبابة الشعبية التي تعتبر واحدا من الاحياء الاكثر فقراً في العاصمة المصرية، بعد حرق كنيستين وصدامات دموية ادت الى مقتل اثني عشر شخصاً على الاقل، ولكن الصحيح ايضاً ان نار الفتنة ما زالت مشتعلة تحت الرماد وان هناك من سيحاول اشعالها في المستقبل القريب اذا لم يتم التصدي لهؤلاء بحزم وسرعة قبل ان يحققوا اهدافهم الكارثية.
فاستمرار حالة ‘الرخاوة’ الامنية، وعدم قيام قوات الامن بواجبها الوطني في حماية دور العبادة، وانهاء المواجهات الطائفية قبل ان تستفحل وتتسع دائرتها، هو الذي ادى الى هذا العدد الكبير من الضحايا، القتلى والجرحى في مواجهات هي الاسوأ منذ اكثر من ثلاثين عاماً.
لا يشرف الاسلام، دين التسامح ان يتم حرق كنيستين للاشقاء الاقباط، وبسبب اشاعة مغرضة روج لها بعض انصار الثورة المضادة لتأجيج مشاعر البسطاء ودفعهم الى مثل هذا العمل غير المسبوق منذ دخول العقيدة الاسلامية الى ارض الكنانة.
سيدنا عمر بن الخطاب الخليفة الثاني قدم لنا مثلاً مشرفاً، وقدوة حسنة، في احترام الاشقاء النصارى ومعتقداتهم من خلال عهدته العمرية، وعندما رفض الصلاة داخل كنيسة القيامة في القدس حفاظاً على حرمتها، وحتى لا تتحول صلاته الى سابقة يقتدي بها المسلمون من بعده، اما سيدنا عمرو بن العاص فاتح مصر واميرها فقد اعفى الرهبان المسيحيين واديرتهم من الجزية احتراماً لهم، واجلالاً لعقيدتهم. ‘ ‘ ‘ نجاح الثورة المصرية، وبالاصرار الذي شاهدناه في وعي شباب ميدان التحرير وصمودهم، والتفاف الشعب المصري بكافة طوائفه وفئاته حولهم، شكل صدمة كبرى لكل قوى الردة، وعصابات القمع والفساد، وخفافيش الظلام، وبقايا عهد التبعية، ولهذا بدأوا، وبمجرد الافاقة ولو قليلاً من وقع هذه الصدمة، مؤامراتهم لتقويض الثورة، وسلب انجازها الكبير في تحرير الشعب المصري من عقدة الخوف، واستعادة كرامته وحريته بالتالي، ووضع مصر على الطريق الصحيح كدولة قائدة ورائدة في محيطها الاقليمي والعالمي ايضاً.
الفتنة الطائفية هي الاختراع الابرز للنظام السابق ورجالاته، وهي الورقة الاقوى التي استخدموها لارهاب الشعب المصري، واجباره على عدم الخروج على هذا النظام، خوفاً على الوحدة الوطنية، وتجنباً للانزلاق في جحيم الاضطرابات الداخلية، وبما يؤدي الى فتح المجال، وتوفير الذرائع للتدخل الخارجي وقواه المتربصة.
نحن لا ننسى، بل لا يمكن ان ننسى، كيف ‘فبرك’ اللواء الحبيب العادلي وزير داخلية النظام السابق الاعتداء الدموي على كنيسة القديسين في الاسكندرية ليلة رأس السنة الميلادية الماضية، وحاول إلصاق التهمة بجماعة فلسطينية مجهولة، في محاولة يائسة من جانبه لاطالة عمر نظام بدأت اعمدته تهتز، وأساساته تتآكل، بفعل الفساد والقمع وسرقة عرق الفقراء والمحرومين.
نحن لا ننسى، ولا يمكن ان ننسى، كيف لجأ الرئيس المصري الراحل انور السادات، عميد اكاديمية التبعية المصرية للغرب واسرائيل، الى احتضان بعض الجماعات الاسلامية في بداية حكمه، ليس حباً بهم، وايماناً بنهجهم الاسلامي الصحيح، وانما لاستخدامهم كفيلق لضرب الحركات القومية واليسارية، بل ولضرب القوى الوطنية المسيحية التي رفضت قيادتها اصدار فتوى تسمح للاشقاء الاقباط بزيارة القدس المحتلة بعد زيارته المشؤومة لها.
اننا ومثلما ندين مروجي الاشاعات الكاذبة حول احتجاز سيدة قبطية اسلمت داخل كنيسة، وهي اشاعة تبين كذبها، ندين بعض المتطرفين الاقباط الذين تظاهروا امام السفارة الامريكية في القاهرة مطالبين بالتدخل الامريكي لحماية اتباع كنيستهم، فهؤلاء الذين لا يحترمون هويتهم المصرية، وانتماءهم الوطني، لا يمكن ان يمثلوا ملايين الاشقاء الاقباط المعروفين بوطنيتهم، ومشاركتهم العظيمة في بناء مصر الحديثة، وانجاح ثورة 25 يناير جنباً الى جنب مع اشقائهم المسلمين. ‘ ‘ ‘ لقد حان للمتطرفين من الجانبين، الذين يخدمون اجندات خارجية بعلمهم او بدونه، ان يدركوا ان تطرفهم هذا اذا ما استمر او بالاحرى قدر له ان يستمر، هو اقصر الطرق لتدمير بلادهم، وفتح الباب على مصراعيه امام مجازر طائفية، وحمامات دماء تعصفا بأبرز انجاز تحقق في تاريخ مصر الحديث، وهو الثورة الشعبية. فليس هناك اسهل من التحريض على الكراهية وتكفير الآخر، وليس هناك اصعب من تطويق آثار الفتنة التي يمكن ان تترتب على هذا التحريض، واسألوا الاشقاء في لبنان لاستيعاب احد اكثر الدروس دموية في هذا المضمار.
لا يمكن في هذه العجالة نسيان الدور الاسرائيلي في بذر بذور الفتنة في مصر، واشعال فتيل الحرب الاهلية، فإسرائيل هي المتضرر الاكبر من نجاح الثورة، وكم سمعنا المسؤولين الاسرائيليين يتحدثون علناً عن تحول مصر الجديدة مصر الثورة الى عدو استراتيجي، واعادة النظر في عقيدة جيشهم واستعداداته وتسليحه لأخذ هذا التحول في عين الاعتبار.
مصر الثورة أعادت لمصر دورها، وانحازت الى قضايا الحق والعدالة في فلسطين، وانهت مرحلة الاستجداء للمساعدات الخارجية، وأرادت اطلاق المشروع العربي النهضوي على أسس جديدة، ولهذا يحجبون الاستثمارات عنها، ويتآمرون عليها، حتى تعود ذليلة راكعة امام بنيامين نتنياهو وهيلاري كلينتون، وهي لن تفعل ذلك حتماً في ظل ابطال ميدان التحرير بوليصة التأمين الاقوى لحماية الثورة وانجازاتها، وتصحيح مساراتها في كل مرة يحاول البعض حرفها عن طريق الصواب، الطريق الذي حفرته دماء الشهداء وأرواحهم وتضحياتهم الرجولية.
(المصدر: صحيفة “القدس العربي” (يومية – لندن) الصادرة يوم 8 ماي 2011)
عُربان “تويتر” و”فيس بوك”
د. فيصل القاسم
لا يمكننا أن ننكر القدرة التنظيمية الرهيبة التي امتاز بها شباب الثورات العربية عبر مواقع التواصل الاجتماعي على الإنترنت مثل “تويتر” و”فيس بوك” وغيرهما من المواقع، فقد تمكنوا من حشد مئات الألوف من المتظاهرين في الشوارع العربية من خلال تجمعات وخطط إلكترونية فريدة من نوعها. لكن، للأسف الشديد، ليس هناك غير هذه المأثرة يمكن أن يتباهى بها عُربان الانترنت.
صحيح أن هناك بعض الشخصيات العربية الرائعة من إعلاميين وصحفيين ومفكرين ورسامين وأكاديميين وأساتذة تـُغني مواقع التواصل الإلكترونية بمساهماتها الفكرية يومياً، لكن هؤلاء يظلون قلة قليلة إذا ما قارناهم بالملايين ممن يمارسون ما يمكن تسميته بالتسكع أو التنابز الإلكتروني. فكما أن الكثير من العرب يمضي جل وقته متسكعاً بلا هدف لقتل الزمن في حياته اليومية، فإنه نقل أسلوب حياته البائس بما ينطوي عليه من تفاهة وسفاهة وعبث إلى الشبكة العنكبوتية، مما جعل تسكعه على الشبكة يبدو متناقضاً تماماً مع طبيعة تلك الشبكة وديناميكيتها وحداثتها الرائعة.
لا شك أن الكثيرين لمسوا كيف تحول موقع “تويتر” مثلاً إلى ساحة لتبادل الشتائم والسباب الثقيل بين العربان بدل أن يكون ميداناً لتبادل الأفكار والتثقف والصراعات العقلية المفيدة. وأركز على كلمة صراعات، فليس هناك مشكلة أبداً أن يتحول هذا الموقع وغيره إلى حلبة صراع فكرية وإعلامية وثقافية صاخبة لعلنا نعوّض من خلالها جوعنا التاريخي للنقاش الحر والمناظرات المفتوحة الساخنة. لكن بدل أن يتناقش “العُربان” على “تويتر” تراهم يسفهّون بعضهم البعض لأتفه الأسباب. وأكثر ما يجعل المرء يُصاب بخيبة أمل كبيرة أن الكثير ممن يرتادون موقع “تويتر” يقدمون أنفسهم على أنهم محامون، أو قضاة، أو صحفيون، أو إستراتيجيون، أو أشخاص ذوو مكانات اجتماعية مرموقة. ومما يزيد الطين بلة أن معظمهم يضع شعارات جميلة لبروفايله أو حسابه من الشعر أو الأقوال المأثورة أو الأحاديث الشريفة. لكن ما أن يبدؤوا بالتعليق على تغريدات الآخرين، حتى يتحولوا إلى أولاد شوارع بامتياز، إن لم نقل إلى “بلطجية” كلام. فبدل أن يناقشوا الأفكار المطروحة، يبدؤون على الفور بالنيل من المغردين شخصياً بلغة غاية في البذاءة والصفاقة والسقوط الأخلاقي، وكأن مهمتهم إخلاء هذا الحيز الالكتروني الجميل من الفكر والثقافة وتحويله إلى منتدى للتنابز بالألقاب والسخافات والترهات والتفاهات.
ولا ألوم بعض المغردين المحترمين أبداً إن انسحبوا من مثل هذه المواقع، أو حجبوا تغريداتهم عن هؤلاء الرعاع والغوغائيين الإلكترونيين الساقطين الذين يلوثون منتجات الحضارة الإعلامية الحديثة بوساخاتهم وقلة تربيتهم، ويحولونها إلى مرتع للسخافات والسفاهات.
ومن منغصات موقع تويتر، على عكس، “فيس بوك”، أنه لا يتيح للمغردين آلية ناجعة لحجب التافهين وحذف إساءاتهم وردودهم البائسة التي تجعل المغردين الجادين يتركون الساحة، وكأن شعار “تويتر” أصبح: “البضاعة الفاسدة تطرد البضاعة الجيدة”. صحيح أن عظيماً كالرئيس الأمريكي الراحل أبراهام لينكون قال يوماً: “أنا لا أقرأ رسائل الشتم والإهانة التي توجه إليّ، لا أفتح مظروفها، فضلا عن الرد عليها، لأنني لو انشغلت بها لما قدمت شيئاً لشعبي”. لكن المشكلة في “تويتر” أنه لا يتيح خاصية رمي المظاريف الوسخة في سلة المهملات قبل أو بعد فتحها، فتضطر لقراءتها مرغماً.
محزن جداً أن يختبئ ملايين العرب خلف الماوس والكيبورد ليمارسوا بأسماء وهمية هواياتهم التافهة في التجريح والقذف والقدح والافتراء والطعن والتخوين المجاني وكيل الاتهامات جزافاً بلغة ركيكة وهزيلة لا تحمل من العربية إلا اسمها. وكم سمعت بعض المغردين المحترمين يتأسفون على الحرية التي أتاحها الفضاء الالكتروني للعربان. فالحرية مسؤولية كبيرة يحاول الكثيرون من الجبناء المختفين وراء ألقاب مصطنعة تعهيرها وتسخيرها للافتراءات والبذاءات والاتهامات المجانية.
كم كان أحد المعلقين مصيباً عندما وجه الدعوة التالية إلى حشود الشتامين على موقع “تويتر”: “يا شعب “تويتر”: والنبي عشان خاطر النبي، انزلوا الشارع اعملوا حاجة بدل مجرد الشتم على تويتر.. البلد محتاج لكم أكثر من “تويتر”!!”
للأسف الشديد، فقد فهم الكثيرون من الجيل الصاعد الحرية على أنها تخلص وانفلات من كل القيود والتعبير بأي طريقة، وهذا طبعاً هراء، فالشعوب الغربية حرة ومتحررة، لكنها شعوب مؤدبة ومهذبة ودمثة في خطابها اليومي. ولو قارنا صفحات التواصل الالكترونية الغربية بالعربية لوجدنا الأولى منظبطة ومحترمة، بينما الثانية عبارة عن سوق عكاظ للردح وقلة الأدب والتجريح والاستفزاز.
وكم أشعر برغبة شديدة للضحك عندما يكتب بعض المغردين على “تويتر” فكرة ما، فيأتي معظم الردود عليها بعيدة كل البعد عن موضوعها، فمثلاً ترى كاتباً يعلق باحترام على إحدى الثورات العربية، فيدخل عليه مغرد متسكع، ليهاجمه على لباسه الذي يظهر فيه على شاشات التلفزيون، أو على أمر لا علاقة له بالموضوع المطروح لا من قريب ولا من بعيد. قلما تجد مغرداً عربياً في “تويتر” يرد ويعلق مباشرة على الموضوعات المكتوبة، بل يذهب باتجاه آخر لمجرد الإزعاج وتفريغ مكبوتاته وأحقاده وتفاهاته الصغيرة على الآخرين. وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أن غالبية المشتركين في “تويتر” الذين من المفترض أن يتمتعوا بقدر من الثقافة، لا يمتلكون العقول القادرة على النقاش والأخذ والرد، فيعوضون عن جهلهم ونزقهم بالنيل من الآخرين، خاصة وأن الشتم سلاح من ليس له حجة.
وحتى لو امتلك البعض من الجيل الانترنت الحجة، فإنه قلما يختلف عن الأجيال السابقة في التعصب والتزمت، فهو لا يقل استبداداً بالرأي عمن سبقوه. لا أدري لماذا نطالب بالتغيير في العالم العربي إذا كان الجيل الجديد تكفيري تخويني بامتياز كما يظهر من مشاركاته وتعليقاته على صفحات الشبكة العنكبوتية؟
وأرجو أن لا يتنطع أحد ليقول إن برامج الحوار في التلفزيونات العربية مصابة بمتلازمة “تويتر”، لا أبداً، فعلى الأقل فإن المتحاورين في البرامج التلفزيونية يتصارعون ويتصارخون من أجل قضية. أما متسكعو “تويتر” فلا قضية لهم سوى التهريج واللعن وتقيؤ عقدهم الشخصية والاجتماعية على بقية المغردين.
هناك مثل صيني رائع يقول: “العقول الكبيرة تناقش في المبادئ، والعقول المتوسطة تناقش في الأشياء، والعقول الصغيرة تناقش في الأشخاص”. فما أقل العرب الذين يتناقشون في الأشياء والمبادئ على “تويتر”، وما أكثر العربان الذين يُهملون القضايا الكبرى، ويغرقون في البذاءات والأحقاد والتفاهات والمسائل الشخصية الرخيصة!
(المصدر: صحيفة “السبيل” (يومية – الأردن) الصادرة يوم 8 ماي 2011)