حتى لا يتحول النقاش البنّاء إلى مهاترات ومراء ومزايدات
د. محمد الهاشمي الحامدي الحوار حول المصالحة الوطنية حوار يتصل بمصالح عشرات الآلاف من التونسيين والتونسيات وبحاضر الوطن العزيز ومستقبله. إنه أمر جسيم ومهم جدا، وهو الأولوية الكبرى للوطنيين المخلصين في نظري خلال هذه المرحلة. انطلاقا من هذا الفهم، حاولت على امتداد الشهر الماضي أن أعيد موضوع المصالحة إلى أولويات اهتمامات الطبقة السياسية التونسية، وقدمت اقتراحات ملموسة لتحقيق هذه المصالحة. حددت هدف هذه المصالحة بوضوح تام في مقالتي « تونس الجميلة » المنشورة يوم 8 أفريل الماضي، حين كتبت: « أعلن بأوضح عبارة ممكنة أن منهج تأجيج العداوة والقطيعة بين المتدينين والسلطة ليس منهجي على الإطلاق، وأنني أسعى بكل ما وسعي للتخفيف من هذه العدواة وللتخفيف من هذه القطيعة بين السلطات التونسية والإسلاميين المعتدلين، وللبحث عن صلح فكري وسياسي تاريخي بين الطرفين، صلح يحث عليه القرآن الكريم وتحث عليه تجارب المسلمين على مر العصور وليس هناك شك في ثماره الطيبة الكثيرة إذا ما تحقق. صلح يخدم مبادئ الديمقراطية والتسامح وحقوق الإنسان في بلادنا. من أجل الوصول إلى مثل هذا الصلح أدعو كل المهتمين بأمر التيار الحركي الإسلامي في تونس إلى التأمل في تجارب الماضي بشجاعة، وفي أولويات الحاضر بشجاعة أكبر. هل من الحكمة الإستمرار في نهج الصدام والمغالبة وتأليب الخصوم على السلطة، ذات النهج الذي جعل التيار الإسلامي يخرج من مواجهة إلى أخرى على امتداد ما يقرب من أربعين عاما، مع خسائر وتضحيات جسيمة تكبدها أنصاره، وتكبدتها عائلاتهم، وتضررت منها بلادنا كلها؟ أم أن الوقت قد حان، ليقول الإسلاميون، بشجاعة وثقة بالنفس، إن نهج المغالبة والصدام غير مفيد للوطن، وغير مفيد للإسلام. وأن التنازلات القاسية التي تقدم لبعض الغلاة المتطرفين من حلفاء المرحلة قد تكون أضخم وأعلى تكلفة من التنازلات التي يتطلبها إصلاح ذات البين مع رئيس الدولة والحزب الحاكم؟ » وفي السادس من ماي الجاري نشرت خطة عمل دقيقة لتحقيق الصلح بين الإسلاميين والسلطة في تونس. اقترحت أولا أن يتبنى مائة من الإسلاميين على الأقل عريضة علنية تمد جسور الأخوة والتقارب مع السلطة. وهذا هو نص العريضة التي اقترحتها والتي أظن أنه ليس بوسع مراقب منصف أن يرد جملة واحدة منها أو يقول إنها كاذبة أو مزورة: « إن المواطنين التونسييين الموقعين على هذا البيان يجددون الإعلان عن تأييدهم للمبادئ التي تضمنها بيان 7 نوفمبر 1987، ويشيدون بالإنجازات التي تحققت لبلادهم خلال العقدين الماضيين تحت قيادة الرئيس زين العابدين بن علي، وبالمكانة المرموقة التي حققتها تونس في المحافل الإقليمية والدولية بسبب السياسات الخارجية الرصينة والحكيمة التي انتهجتها الحكومة. كما يشيد الموقعون بما تضمنه خطاب الرئيس زين العابدين بن علي في اليوم الوطني للجمعيات من دعوة لتوسيع دائرة الحوار والتشاور والوفاق بين التونسيين، وتأكيد على أن المساهمة في الشأن العام حق لكل تونسي وتونسية، وتأكيده في خطاب عشرين المارس الماضي على الأهمية القصوى للولاء لتونس والتمسك بهويتها العربية والإسلامية. وفي هذا السياق يدعو الموقعون على هذا البيان لتصحيح مسيرة العلاقة بين التونسيين المنتمين للتيارات الإسلامية المعتدلة والتجمع الدستوري الديمقراطي، وإخراجها من دائرة الصدام والقطيعة والمواجهة، ومعالجة آثار المرحلة السابقة، وفتح صفحة جديدة من العلاقة تحكمها قوانين البلاد، وقيم التضامن والمحبة والتسامح بين أبناء الوطن الواحد. يعرب الموقعون على هذا البيان عن استعدادهم للمساهمة بكل ما في وسعهم وكل ما يطلب منهم للمساهمة في تحقيق هذا الهدف الوطني النبيل، وفي تعزيز الخيار الديمقراطي والوفاق الوطني ومواجهة تيارات العنف والتعصب والإرهاب. كما يعلن الموقعون على هذا البيان عن ثقتهم الكاملة في الرئيس زين العابدين بن علي ويأملون أن يلقى هذا البيان تقديره الشخصي واهتمامه ودعمه ». أوضحت في مقالتي المنشورة يوم 6 ماي تحت عنوان « الإستراتيجية المفصلة لتحقيق الصلح والوفاق بين السلطة والإسلاميين في تونس » أن الخطوة التي تلي نشر تلك العريضة، هي الدخول في حوار مباشر مع السلطة لتحقيق الأهداف الآتية: 1 ـ الإفراج عن المعتقلين الإسلاميين وإلغاء أحكام الرقابة الإدارية للسجناء السابقين وإدماج الجميع في الدورة الإجتماعية من جديد. ومثل هذا الهدف أمامه فرصتان ذهبيتان ليرى النور بعفو رئاسي كريم من الرئيس بن علي، في العيد الخمسين للجمهورية يوم 25 جويلية، أو في العيد العشرين لتحول السابع من نوفمبر. 2 ـ الحصول على رخصة للعمل الثقافي ضمن قانون الجمعيات. وهذا أيضا أمر ممكن، وبوسع السلطة أن تسمح بتكوين منتدى الإمام مالك أو منتدى ابن خلدون، على شاكلة منتدى الجاحظ الذي يديره عدد من الإسلاميين التقدميين. 3 ـ توضيح المسارات المتاحة للعمل السياسي لمن أراد ذلك من مناصري التيارات الإسلامية. فإذا كان التجمع الدستوري الديمقراطي مستعدا لاستيعاب الراغبين منهم في الإلتحاق بصفوفه فهذا هو الخيار الأفضل للجميع. أما الخيارات الأخرى بعد ذلك فكثيرة: يستطيع مناصرو التيارات الإسلامية المتمسكون بالعمل السياسي أن ينضموا فرادى لأي حزب آخر من الأحزاب المرخصة لأن القانون لا يمنعهم من ذلك. وهناك موضوعات أخرى سيكون علاجها نتيجة منطقية لهذا الإنقلاب المنشود في العلاقة بين التجمعيين والإسلاميين. المنشور 108 لن يبقى له داع لأنه صدر أول مرة عام 1981 في أجواء المواجهة الأولى بين الرئيس الراحل الحبيب بورقيبة وحركة الإتجاه الإسلامي. والمتدينات المتحجبات اليوم لسن أعضاء في جمعيات سياسية محظورة برنامجها السياسي الأول معاداة السلطة والكيد لها. كل ما يتصل بالحياة الدينية وحرية العبادة سيتأثر بأجواء الصلح والوفاق. وستوفر هذه المصالحة خيارات آمنة للشباب المتدين، تقيه من الوقوع في حضن التيارات العنيفة والتنظيمات السرية والنزعات الإرهابية. هكذا تفتح الصفحة الجديدة التي أدعو إليها في العلاقة بين التجمعيين والإسلاميين. وسيؤدي هذا الإنفراج إلى تعزيز المسيرة الديمقراطية في البلاد، وتحرير هذه المسيرة من الإشكاليات التي تعلقت بها بسبب التوجه السياسي الحالي للإسلاميين، وإلى مصالح أخرى عظيمة لتونس الجميلة وشعبها وقيادتها. * * * هذا ما دعوت إليه خلال الشهر الماضي بدقة ووضوح. وأسجل اليوم أن عددا من كتاب موقعي « الحوار نت » و »تونس نيوز » المحترمين تفاعلوا بإيجابية مع هذه الرؤية وأعلنوا تأييدهم العلني لها. كما أن عددا من الكتاب التونسيين في هذين الموقعين عارضوا هذه الرؤية بشدة، وهو موقف أتفهمه وأحترمه. وثمة آخرون رفضوا وزايدوا وخرجوا عن قواعد النقاش الواضح البناء. ولقد حاولت مرارا وتكرارا أن أبدد فكرة رددها بعض الكتاب وهي أن الدعوة للمصالحة فيها سعي وراء المغانم وركون للشهوات وإعراض عن النضال. ليس أبعد من هذه الفكرة عن الحقيقة. الدعوة للمصالحة بين السلطة والإسلاميين مغامرة خطيرة، تكاليفها كبيرة في أغلب الأحيان إلا ما رحم ربك. وإنما يتمسك بها مثلي ويصر على السعي لتحقيقها لأنها واجب ديني ووطني وتاريخي. مع ذلك، فإن الناس لا يقادون إلى الجنة بالسلاسل كما يقول المثل. وليس عندي رغبة في مخالفة قواعد الطبيعة وسنن التاريخ. لقد قدمت رؤيتي حول المصالحة بتفصيل كامل، وعرضت خطة عمل تقود إلى الإفراج عن المعتقلين الإسلاميين، ورفع القيود الأمنية عن المعتقلين السابقين، وإدماج التيار الإسلامي في العمل العام عبر جمعية ثقافبية، وعبر فتح الباب لأنصاره للعمل ضمن الأحزاب القائمة، وإلغاء المنشور 108 الذي يضع قيودا على ارتداء المرأة للخمار، وتحرير الحياة الدينية من هواجس أعوام القطيعة والجفاء. إذا وجد من الإسلاميين من يرى في هذه الخطة مبادرة بناءة ومفيدة تخدم الدين والوطن والتونسيين كافة، فإنني أعرب عن استعدادي الدائم لبذل كل ما في وسعي لتحقيق المصالحة وطي صفحة الصدام بين السلطة والإسلاميين. وإذا رأت أغلبية الإسلاميين أن هذه الأفكار لا تخدم مصالحهم ولا تلبي طموحاتهم فإنني أدعوهم لتجاهلها والعمل بما يرونه صالحا ومفيدا لهم. وأقترح متطوعا إنهاء النقاش حول المقترحات التي قدمتها الشهر الماضي لأنني لم ألمس التجاوب الكافي معها من الإسلاميين. لقد تعودت على دخول المساجلات الفكرية والإعلامية منذ أيام الدراسة في السنوات النهائية للتعليم الثانوي في المعهد المختلط بولاية سيدي بوزيد. واستنادا إلى هذه الخبرة، يتبين لي أن النقاش حول المقترحات التي قدمتها ينحرف تدريجيا نحو المراء والمهاترات والمزايدات، لذلك يصبح وقفه أكثر فائدة من الإستمرار فيه. تفضلوا أيها الإخوة. الساحة أمامكم. قدموا مشاريعكم للصلح والوفاق وسأكون أسعد الناس بنجاحها. والله تعالى أسأل أن يوفقكم أنتم وكل دعاة الصلح والحرية والوفاق من التونسيين للخير والنجاح. ولكل الذين تعمدوا الإساءة إليّ بالهمز واللمز والتجريح خلال الشهر الماضي، أقول: لقد قرأت في سير الكرام من الأنبياء والعلماء والقادة والدعاة والكتاب والمناضلين أنهم تعرضوا لأضعاف أضعاف ما تعرضت له من الهمز واللمز والتجريح فصبروا وتحملوا وعفوا. وإني أحب لنفسي أن أكون مثلهم، وممن مدحهم ربنا عز وجل بقوله: « الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ». والسلام عليكم جميعا ورحمة الله وبركاته
الجدل والمراء
نعم، الجدل ضلال مبين، فعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « ماضلّ قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أورثوا الجدل« . والجدل والجدال هو المراء، وهو إغضابُك لأخيه وأنت تحاوره. على أنّ هذا الغضب قد يكون نتيجة مراء ظاهر (مباح) وهو أن تقول لأخيك: ليس الأمر كما تقول أو ليس هو كما تتصوّر.
وقد تمنّينا أن يكون نقاشنا بنّاء معتمدا على معطيات صحيحة، قائما بتوصيف صحيح للحالة التونسية، مرتكزا على مبادئ ثابتة، راجعا إلى الله ورسوله في كلّ صغيرة وكبيرة. غير أنّ الذي اعتمده الأخ الهاشمي الحامدي كانت محاولة استدراج للبعض منّا دون أن يقدّر أنّ المصالحة لا تكون أبدا بتفكيك الصفوف أو إشاعة الاضطراب بين الأبناء والاخوة والآباء، وها هو اليوم يتحدّث اليوم عن مناصرين معتدلين طيّبين وطنيين مخلصين، وآخرين معارضين غلاة متطرّفين حاقدين منتفعين من الاستمرار بالخارج كما قال أخي الفاضل محمّد (غفر الله لنا وله). كي يضيف ذلك – ربّما – لسالف النّضال الذي كان قد قام به في التسعينات من القرن الماضي. ممّا قد يجعل البعض يزداد نقمة على هذا الذي منعه بتنطّعه وتحجّره وقصور رؤيته وعدم مرونته من فرصة العمر التي جاءت في هذه العشرية الأولى من هذا القرن الحادي والعشرين الميلادي.
أنا لا أبغض الهاشمي الحامدي ولا غيره من الإخوة الذين أختلف معهم في الرّأي (حاشا لله). ولكنّي حقيقة أبغض هذا المستوى الدون الذي أوقعنا فيه الأخ الهاشمي حيث قضّينا أكثر من شهر في الخوض في ما يُذهب الحياء والحياة. وإلاّ كيف يجرُأ أحدنا على دعوتنا إلى إتلاف ذواتنا والتأسيس للظلم والتأسيس للقبول بالظلم كي ينمّي فينا خاصيّة العبودية لغير الله، وقد حرّرنا الإسلام منذ أكثر من 1400 سنة… فوالله الذي لا إله غيره: لقد أساء صاحب التغيير إلى التونسيين أكثر بكثير ممّا أساء الاستعمار الفرنسي إليهم، ذلك أنّ هذا الأخير قد علّمهم الرّفض والمقاومة وأنّ ذاك الأوّل (وهو في الترتيب الأخير) قد أجرهم بجيوشه الطاغية على الخنوع والخوف وفقدان الحصانة الأخلاقية وغيرها من المكاره. فكيف يمكنك أخي أن تنصّب نفسك مدافعا عن هذا الشخص، وقد علمتُ أنّ أكثرمن دافع ضدّ المستعمر كان من ربوع قد انتسبتَ إلى أحدها… ألا تحسّ بالحرج بالله عليك؟!… ألا تنظر في قوله تعالى: « الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدوّ إلاّ المتقين » أي كل صداقة وصحابة لغير الله فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلاّ ما كان لله عز وجلّ فإنه دائم بدوامه… أتظنّ أنّ من اغتصب أختك وعرّى أمّك ونتف شيبة أبيك (باعتبار كلّ التونسين هم من أمّهاتنا وآبائنا وإخواننا وأخواتنا) يكون لك صاحبا وصديقا وملبّيا؟! إذن فلماذا لم يلبّ نداءك الخيري هذا؟!… إنّه ينتظر تلك الأعناق التي قد تذبل بدعوتك الظالمة (أكبر الظلم هو الانحراف عن الحقّ) ليطأها برجليه النجسة ولا يبالي… إنّه ينتظر الاحتفال بكسب آخر معركة في إذلال التونسيين بدوس تلك الأجسام الهزيلة بالأمراض والأوصاب والأنصاب، وقد ساءه سماع بعض نفس فيها يحكي عن العزّة والرّجولة والأنفة…
المصالحة أخي لا تهمّ عشرات الآلاف من التونسيين، بل هي تهمّ الملايين العشر في تونس. والمصالحة لا تعني أبدا التسليم للظّالم بنجاعة طرقه الخبيثة في إشاعة الخوف. بل المصالحة اعتراف بالخطأ وعزم على تلافيه في المستقبل وردّ حقوق. فهي إذن توبة، وهي إذن تواطؤ على الخير وعزم على إشاعته، وهي إذن معاقبة للمجرم أو صفح عنه وعفو… والذي أجرم هو الذي غيّر أو لنقل بأنّ الذي غيّر هو الذي أجرم، وأمّا بيده العفو فهم نحن، التونسيون من إسلاميين وغير إسلاميين: سنعفو عنه لأنّه بدّل دستور البلاد وشرّع القوانين الظالمة (كقانون الإرهاب وغيره) ونقض العهد الذي قطعه على نفسه وأفسد الأخلاق وأضعف البلاد (رغم الزركشة الخارجية الكاذبة) وأبطل دور العائلة وكثّر من السقط الحرام وغيره كثير كثير… وقد عبّرنا عبر بعض رجالاتنا عن استعدادنا لهذه المصالحة ولهذا العفو بهذا الوضوح، فلماذا تريد أن تتغافل عن كلّ ذلك وتجرّنا إلى الأسوأ حفظك الله؟! أيرضيك أن ترى أباك أو أمّك بلا كرامة ولا حرمة ولا حصانة وهما يتودّدان لقاتل المروءة في البلاد؟!
قد أكون أحرص منك على المصالحة بل إنّني كذلك، ولكنّي أريدها مصالحة الرّجال، ومن أجل تونس وليس من أجل تمتين ملفّ نضالي أو غيره من الأمور التي أشكّ كثيرا في نقائها وصلاحيتها، وقد قلت ولا أزال أقول: بأنّني على استعداد إلى الرّجوع إلى تونس مشيا على الأقدام من أجل أن أدخل الفرحة على والدي وإخوتي (وقد ماتت أمّي رحمها الله – كما مات الكثير من أوليائنا – دون أن تنعم بفرحة ولعلّها قد أبلغت ربّها – وهو العليم – بأنّ الذي حرمها أبناءها هو هذا الذي تتغنّى أنت بمحاسنه صباح مساء) وأبنائي وأحبابي، من أجل أن أسهم في خدمة بلدي، من أجل أن أزيح الضرر عن بلدي… وعليه فخطّتك أو بيانك المقترح قد كان عارا على كلّ تونسي حرّ، وأحسب أنّ أهل سيدي بوزيد يشعرون اليوم بالحرج الكبير أمام إخوانهم التونسيين، كما أنّهم لا محالة سيقطعون كلّ السلاسل التي استحضرتها لجرّ النّاس إلى « جنّتك » التي ذكرتها بالمثل…
طموحات الجميع أخي تتمثّل في العيش بحريّة في ظلّ قانون يخدم مصلحة البلاد ويحترمهم، تماما كما نرى ذلك في هذه البلاد التي كرّمت أهلها وأذلّت بعض النّازحين إليها… نريد أن نكون أحرارا في أفكارنا، في تنقلاتنا، في تعابيرنا المقنّنة بالأخلاق، في اختياراتنا المحدّدة بالقوانين التي صاغها التونسيون من أجل رفعتهم وتقدّمهم وليست القوانين التي صاغتها عصابة رغبت في استعبادنا باستغلال طيبتنا… فإن كنتَ استجبت وسايرت طموحاتنا فلله درّك وإن قعدتّ عنها لما اكتنفها ممّا يسيئ إليك فاقعد، ولكن ثق في الختام بأنّني أتألّم لرؤيتك مروّجا للبضائع المزجاة، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته…
عبدالحميد العدّاسي، الدانمارك في 14 مايو 2007
العولمة والجريمة والحياة السجنيّة
بقلم سامي نصر(*) * الهدف من الدراسة نهدف من وراء هذه الدراسة السوسيولوجيّة تقديم قراءة لظاهرة العولمة مغايرة لتلك التي تناولتها إمّا من جانبها الاقتصادي أو جانبها الثقافي، فإنّنا سوف نحاول الاعتماد على الرؤية السوسيولوجيّة وتحديدا علم الاجتماع الإجرامي وسوسيولوجيا الحياة السجنيّة، بحيث يكون تركيزنا على جملة من العلاقات الترابطيّة مثل: علاقة العولمة بتطوّر الأنظمة السجنيّة. اقتحام الشركات المتعدّدة الجنسيات عالم الاستثمار السجني (خوصصة السجون) علاقة العولمة بالمنظمات أو المؤسسات الحقوقيّة العالميّة علاقة العولمة بتفاقم ظاهرة الجرائم التقليديّة علاقة العولمة بالجرائم المستحدثة تأثيرات العولمة على التركيبة السكانيّة للمجتمع السجني.
المبحث الأوّل: قراءة أوّليّة لظاهرة العولمة
(1) لمحة عن بعض القراءات التي تناولت العولمة:
قبل تناول مختلف العلاقات الترابطية بين العولمة والجريمة والحياة السجنيّة من الضروري تناول ولو بإيجاز بعض القراءات والمفاهيم المستعملة لدراسة هذه الظاهرة (العولمة Globalisation). ومن بين أهم الدراسات التي تناولت ظاهرة العولمة نجد الباحث عبد الإله بلقزيز والذي ركّز اهتمامه على الطابع الانفتاحي للعولمة وقضيّة التجانس الثقافي وذوبان الهويّة الثقافيّة للشعوب، إذ يرى أنّ العولمة ظاهرة تسير بالمجتمعات الإنسانية نحو ما يمكن تسميته بالتجانس (التشابه) الثقافي وتهدف لتكوين وخلق الشخصية العالمية ذات الطابع الانفتاحي على ما حولها من مجتمعات وثقافات مختلفة[1] أمّا شفيق الطاهر في دراسته « العولمة واحتمالات المستقبل » فحاول تناولها من خلال علاقتها بانتشار وهيمنة النظام الرأسمالي لذلك يرى أن العولمة تمثل في حقيقة الأمر عملية رسملة العالم، أي أن العولمة عملية يراد منها نشر مبادئ النظام الاقتصادي الرأسمالي وفرضه على عامة الأساليب الاقتصادية التي تتبعها المجتمعات الأخرى[2] وفي نفس الاتجاه تقريبا ذهب الباحث عبد الحسن جواد حين ربطها بالمشروع الأمريكي الذي يهدف حسب تعبيره إلى عملية أمركة العالم، أي نشر الثقافة الأمريكية بحيث تغلب على الثقافات المجتمعية الأخرى[3] ، بحيث لم تعد مجرّد هيمنة نظام اقتصادي بل هيمنة سياسيّة وثقافيّة للولايات المتحدة الأمريكيّة. وفي اتجاه آخر ربط الباحث شعبان الطاهر الأسود قضيّة العولمة بالتغير الاجتماعي العام والمسألة التحديث ويقول في هذا الإطار بأنّ العولمة تشير إلى التغير على مستوى العالم الإنساني، أما التحديث فهو يشير إلى التغير على مستوى المجتمع الواحد، وللدلالة على هذه التفرقة ما بين مفهومي التحديث والعولمة (وهى فروق كمية أكثر من كونها فروق نوعية ) نجد بعضاًً من المنتمين إلى علم الاجتماع بالدرجة الأولى يشيرون إلى عصر العولمة بأنه عصر ما بعد التحديث الاجتماعي أو مرحلة ما بعد التصنيع[4]
(2) الفرق بين العولمة والعالميّة:
من الصعب جدّا التمييز بين مفهومي العولمة والعالميّة، فعلى المستوى النظري نجد على الأقل ثلاثة مستويات يمكن من خلالها التمييز بينهما، ويتمثل المستوى الأوّل في طبيعة الدور الذي تقوم به الدولة، والمستوى الثاني يتمثل في شكل وطبيعة الهيمنة السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، أمّا المستوى الثالث فيتمثل في الأسس التي على ضوءها تقع التحوّلات الاجتماعيّة. فقد حاول السيد محمد فائق أمين عام المنظمة العربية لحقوق الإنسان تناول هذه المستويات الثلاثة إذ اعتبر أن العولمة تحد من دور الدولة وسلطاتها لتضعف تأثير الحدود السياسية والسيادة… كما تقوم العولمة بدور تسييد أوضاع معينة على العالم أجمع أي أنها تعتمد على التحول من الخارج. فلن تتغير الاقتصاديات من داخل الدولة – على سبيل المثال – لذلك لا بد من فرضها من خلال المؤسسات الدولية والضغوط الخارجية من أجل تحويل هذه الاقتصاديات وإدماجها في النظام العالمي وليس اعتماداً على الدينامية الذاتية، وهي بذلك اختراق للآخر وسلب لخصوصيته * العالمية شيء مختلف عن العولمة، فالعالمية لا تُنهي دور الدولة، ولا تسعى للتقليل من شأنها. فالعالمية تضع على الدولة التزامات معينة وهي تحتاج لدور الدولة لتنفيذ هذه الالتزامات… » [5]
المبحث الثاني: علاقة العولمة بتطوّر الأنظمة السجنيّة
(1) العولمة وحقوق الإنسان:
من الملاحظ أنّ الحقوق السياسية والمدنية احتلّت مكانة متميّزة في عصر العولمة بعد أن أصبحت حقوق الإنسان لغة العصر والوجه الآخر للعولمة، كما لعبت قضيّة السجون والأوضاع السجنيّة والقواعد القانونيّة المنظمة لهذه المؤسسة إحدى أهم المواضيع المرتبطة بحقوق الإنسان وأيضا بالعولمة ويتضح ذلك من خلال: أوّلا، سرعة وسهولة انتقال الخبر الناتج عن التطور المذهل في تكنولوجيا الاتصال وثورة المعلومات بحيث لم يعد من الممكن إخفاء الانتهاكات التي تحدث لحقوق الإنسان في أي بلد، وهذا يعتبر تطوراً هاماً، إذ لم يعد من الممكن أي مجتمع من المجتمعات بفضل هذه الثورة في الاتصال وفي المعلومات وحجب أي إخفاء ما تقع قيه من انتهاكات. فقدر ما أحكمت المؤسسات الحكوميّة غلق المؤسسة السجنيّة وعزل المساجين عن العالم الخارجي، بقدر ما أصبحت هذه السجون مفتوحة على العالم الخارجي من المنظمات الحقوقيّة الوطنيّة والدوليّة. ثانياً، نشوء ما يسمى بالمجتمع المدني الدولي، حيث تكوّنت مجموعة شبكات لحقوق الإنسان المتعددة الجنسيات والتي تضم معظم جمعيات ومنظمات حقوق الإنسان في العالم والتي تقوم بالتنسيق فيما بينها، والقيام بالتحركات الدوليّة في مواجهة الانتهاكات المحلية. « وتعتبر هذه الشبكات نواة حقيقية لقيام مجتمع مدني على مستوى الكوكب، ولقد لعبت الإنترنت وأدوات الاتصال الحديثة بما فيها الفاكس والتلفون المحمول والميديا العالمية الدور الرئيسي في إقامة هذه الشبكات.[6] وفي هذا الإطار نجد المنظمة الدوليّة للإصلاح الجنائي (PRI) Penal Reform International www.penalreform.org والتي تأسست في سنة 1989 ومقرها لندن. و OIP (Observatoire International des Prisons) و… ثالثاً : ارتباط الاستثمارات الدوليّة والانفتاح الكامل على العالم باحترام الحد الأدنى من حقوق الإنسان، فكثيرا من مؤسسات التمويل الدولية والبنوك أصبحت اليوم تقحم الجانب الحقوقي في نشاطاتها الاقتصاديّة والتنمويّة تفرض على العديد من الدول « التقدم في مجال الوعي بالحريات الأساسية والديمقراطية، وخاصة أن معظم الدول والمؤسسات العالمية الغربية المهتمة بعمليات التحول إلى اقتصاد السوق مثل الولايات المتحدة وصناديق التنمية وفي مقدمتها صندوق النقد الدولي والبنك الدولي بالإضافة إل مجموعة الدول الأوروبية، تربط بين المساعدات التي تقدمها للدول النامية وبين سجل حقوق الإنسان والتحولات الديمقراطية في هذه الدول. وبطبيعة الحال فإن ازدهار الديمقراطية يؤثر إيجابياً على حقوق الإنسان ».[7] لأجل ذلك أصبحت الإصلاحات السجنيّة والتشريعات القانونيّة توظّف من طرف الحكومات لمزيد كسب درجة رضا الجهات المانحة وجلب المستثمرين الأجانب.
(2) تطوّر الأنظمة السجنيّة:
عرفت المؤسسات العقابيّة العديد من الأنظمة السجنيّة المتعاقبة والمرتبطة أساسا بالتطوّرات التي عرفتها المجتمعات البشريّة وخاصة بالأفكار والاتجاهات الإصلاحيّة لبعض المفكّرين والمهتمّين بالشؤون العقابيّة على غرار سائر المؤسسات الاجتماعيّة الأخرى. بحيث لعبت العديد من المتغيّرات الداخليّة والخارجيّة في جعل العالم السجني يحتلّ صدارة بوادر التغيير الاجتماعي. وفي ما يلي لمحة عن تلك الأنظمة السجنيّة: النظام الجمعي: النظام الجمعي هو أقدم الأنظمة السجنيّة التي عرفتها البشريّة، يتميّز بالاختلاط بين المساجين ليلا ونهارا ويسمح لهم بهذا الاختلاط في جميع أعمالهم اليوميّة كالأكل والنوم والتحادث… ومن ايجابيات هذا النظام هو عدم تكلفته وعلى المساجين يحفظ لهم توازنهم النفسي والمادي باعتبارهم أقرب الأنظمة إلى طبيعة الإنسان وأشبهها بالحياة الاجتماعيّة خارج أسوار السجن. كما تقترب كثيرا من المبادئ الواردة في « القواعد النموذجيّة الدنيا لمعاملة السجناء ». ولكن في المقابل يتضمن هذا الشكل التنظيمي العديد من السلبيات منها، جعل هذا النظام السجني من المؤسسة السجنيّة مدرسة لصناعة الجريمة وتكوين المجرمين والمحترفين، وتمكّن السجناء فيه من خلق أشكال تنظيميّة أخرى معاديّة للنظام الإداري وللقائمين على شؤون السجن. النظام الفردي أو النظام البنسلفاني أو الفيلاديلفي: ارتبط النظام الفردي أو النظام البنسلفاني أو الفيلاديلفي بنظام السجون الكنيسيّة التي ترى في السجن المكان المناسب لتحقيق التوبة وبالتالي الإصلاح،بحيث في السجن البنسلفاني يعتبر العامل الوحيد في الإصلاح هو الضمير. لذلك يتميّز هذا النظام بالعزل التام بين المسجونين ليلا ونهارا وتكون عدد الزنزانات متجانسا مع عدد المسجونين. وفي القرن السادس عشر انتقلت فكرة « السجن الانفرادي » من السجون الكنسيّة إلى السجون المدنيّة فمثلا في هولندا طبّق هذا النظام في أمستردام في نهاية القرن السابع عشر وفي إيطاليا في سجن سان ميشيل في روما ثم بني سجن في ميلانو سنة 1759 على نفس الشكل التنظيمي. أمّا عن تسميته بالنظام الفيلاديلفي أو البنسلفاني فيرجع ذلك إلى سجن كان موجود في فيلادلفيا التابع إلى ولاية بنسلفانيا بالولايات المتّحدة الأمريكيّة والذي أنشأ سنة 1790 والذي كان يتّبع النظام الجمعي عند إنشاءه ولكن بعد فشله في السيطرة على المساجين وفرض النظام السجني عليه وقع اعتماد نظام العزلة. وفي سنة 1826 انشأ سجن آخر على نفس النمط في بنسلفانيا الشرقي ثم تلاه إنشاء السجن الغربي في بنسلفانيا أيضا سنة 1829 بمدينة فلادلفيا ومثّل هذا السجن أحسن نموذجا لنظام السجن الفردي رغم ضخامته وعدد النزلاء به. نظام أوبون Auburn » : يرتكز هذا النظام على فرض الزنزانات الفردية خلال الليل و العمل و الطعام الجماعي خلال النهار، و من مزايا النظام الأوبيروني حسب وجهة نظر أنصاره، أنه تكرار للمجتمع بالذات، حيث تتكاثف وسائل المراقبة و المتابعة التي تفترض المحافظة على الخشوع بواسطة قاعدة الصمت، و هكذا يصبح المساجين ينظرون إلى القانون بكل وسائله المسخرة للمراقبة و كأنه حكمة مقدسة تؤدي مخالفتها إلى انتقام عادل شرعي. و تتجسد المراقبة في هذا النظام في النقاط التالية : – المراقبة و المتابعة الفردية خلال الليل عن طريق الأعوان و الإداريين و عيونهم المنتشرة. – المراقبة خلال النهار و التي تتخذ الشكل الجماعي، و تمتد من الباحة إلى المشغل إلى المطعم.. – المراقبة الداخلية عن طريق قاعدة الصمت، الذي يقوي لدى كل فرد هاجس المراقبة والمحاسبة … كما أن النظامين الأمريكيين السابق ذكرهما: « نظام اوبورنAuburn » و » نظام فيلادلفيا Philadelfia »،يركزان فعلا على عزل المسجونين ماديا و معنويا، ليلا و نهارا، حيث تكون العزلة هي الشرط الأول للطاعة الكاملة . و أثارت قضية العزلة العديد من النزاعات و الاختلافات بين المختصين و من منطلقات متباينة، فمن الناحية الطبية و النفسية أفرزت النزاعات بروز الأشكال التالية : هل العزلة الكاملة تؤدي إلى الإصلاح أم إلى الجنون؟، ومن الناحية الدينية والأخلاقية طرح التساؤل التالي: هل العزلة والقطيعة تولد الإصلاح والاهتداء إلى طريق الصواب أم الانتكاس والنقمة على المجتمع وقواعده القانونية؟ أما من الناحية الاقتصادية فقد أثيرت إشكالية التكلفة « أين هي الكلفة الأقل؟ في عزل المساجين أم في تجميعهم؟ » النظام التدريجي: إذا كان سلب الحريّة في النظامين السابقين هدف في حدّ ذاته فإنّ الأمر يختلف في النظام التدريجي الذي يجعل من سلب الحريّة وسيلة من أجل التدرج بالسجين نحو الإصلاح والحياة الطبيعيّة. حيث يقع تقسيم مدّة العقوبة إلى مراحل وفق برنامج إصلاحي ويبدأ السجين بالسجن الانفرادي أين تقع دراسته ودراسة قابليّة تأقلمه مع النظام السجني ودرجة انضباطه ثم على ضوء نتائج الدراسة التي تتواصل طيلة فترة السجن يقع تحديد المرحلة المواليّة والتي تسير في اتجاه الحريّة الكاملة. ويعتبر سجن نورفولك Norfolk بجزيرة نورفورك بالقرب من استراليا هو أوّل مؤسسة سجنيّة تطبّق هذا النظام وأوّل من طبقه هو « إلكسندر ماكونوشي » وذلك سنة 1840 . ولكنّ « الميجور والتر كروفتون » تمكّن بعد ذلك من تطبيقه بنجاح في ايرلندا الشيء الذي جعل تسميّة النظام بالنظام الايرلندي ثم انتشر تطبيقه في العديد من الدول ومهّد لبروز أنظمة سجنيّة أكثر تقدّما. النظام القائم على الثقة: هو عبارة عن امتداد للنظام السابق أي النظام التدريجي الذي يقوم أساسا على نتائج دراسة السجناء ودرجة انضباطهم. وهذا النوع من النظام لا يطبّق على كل المساجين وكل الفئات بل يقتصر على الفئة التي تكون محل ثقة ولا يخشى من هروبها من السجن. ونلاحظ وجود ثلاثة أنواع من الأنظمة القائمة على الثقة: أوّلا، نظام العمل خارج السجن: أوّل بلد طبّقت هذا النظام هي فرنسا وذلك سنة 1824 وتحديدا في السجن المركزي لفونتيل حيث سمح لفئة من المساجين بالعمل في الهواء الطلق. ثم طبّق في سجون أخرى ولكن نظرا لتكلفته (يتطلب عدد كبير من موظفي الإدارة السجنيّة التي تقوم بمراقبتهم) وعدم نجاعته في إصلاح المساجين صدر سنة 1864 في فرنسا قرارا بإلغائه. ثانيا، نظام شبه الحريّة: طبّق أيضا في فرنسا أثناء الحرب العالميّة الثانيّة ثم وقع إقراره في قانون الإجراءات الجنائيّة الفرنسي الصادر عام 1958 ثم انتشر في العديد من الدول. ويتميّز هذا النظام عن سابقه بالتقليل من الحراسة وبالتالي من موظفي السجن، بحيث يمارس السجين نشاطه المهني أو التعليمي خارج السجن بكل حريّة ثم يعود في آخر النهار إلى السجن. ثالثا، النظام المفتوح: هو نظام يتمتّع فيه السجناء بأكثر حريّة ولا يقيمون في سجون مغلقة ولا تحاط بهم الأسوار وإنّما يوضعون في معسكرات أو مزارع كبرى يمارسون عملهم بكل حريّة وكأنّهم يعيشون في الحياة الطبيعيّة. وأوّل من طبّق هذا النظام هو « كلرهالس » في عام 1891 حين أنشأ مستعمرة زراعيّة في فيتزفل بسويسرا يديرها مجموعة من المحكوم عليهم. ثم انتقلت الفكرة إلى العديد من الدول الغربيّة كإيطاليا وانجلترا والولايات المتّحدة الأمريكيّة… وقد أفرزت هذه الاختلافات والنزاعات، العديد من النتائج والتساؤل حول مدى نجاعة هذه المؤسسة السجنية، خاصة وأنها من أقدم المؤسسات الاجتماعية التي عرفتها الإنسانية، إذ تاريخها تزامن مع وجود المجتمع ذاته. فمثلا، عزل المساجين عن بقية أفراد المجتمع نتج عنه ظهور نظرية الوصم أو ردود الفعل الاجتماعية لـ Frank Tannenbaum)1938( ثم بعد ذلكEdwin M.Lemert … كما أن عملية عزل المنحرفين وتجميعهم في مؤسسة انضباطية جعل « ميشال فوكو » يقول بأن السجن ظل أداة إنتاج للجريمة والانحراف كمؤسسة عملية، فالمنحرف العابر يتخرج من السجن خبيرا بارتكاب الجرائم الموصوفة قانونيا.
(3) نشأة السجون الخاصة أو خصخصة السجون:
بعد مرور المؤسسة السجنيّة بمختلف الأشكال التنظيميّة التي سبق وأن تحدّثنا عنها، جاءت فكرة الخصخصة لتحلّ محل الدولة في إدارة وتسيير هذه المؤسسة وبدأ أصحاب رؤوس الأموال يفكّرون في استثمار أموالهم في سوق السجون وذلك لما فيها من مكاسب وأرباح، بل أصبحت هناك شركات مختصة في هذا المجال. وعبر السجون الخاصة وقعت نقلة نوعيّة في موقع السجين أو الموقف تجاهه، فبعد أن كان السجين شخصا منبوذا تتحمّل الدولة والمجتمع أعباءه بداية من نتائج أعماله الإجراميّة المكلّفة وصول إلى تكلفة تنفيذ العقوبة عليه أصبح في نظام السجون الخاصة شخصا مرغوبا فيه ومصدر ربح لأصحاب رؤوس الأموال الذين عرفوا كيف يجنون ثمار الفساد والانحراف الاجتماعي… ومن بين أشهر الشركات المتنافسة في سوق السجون في فرنسا نذكر شركة « ايفاج » والتي كانت تحمل اسم فوجيرول » وشركة « بويغ ». بل هناك شركات عالميّة وشركات متعدّدة الجنسيات تعنى باستثمار أموالها في السجون الخاصة مثل شركة « واكنهوت » (الشركة العالميّة الأولى لإدارة السجون الخاصة) والتي لها حضور كبير في الولايات المتّحدة الأمريكيّة. كيف نشأت فكرة السجون الخاصة؟؟؟ نشأت فكرة إحداث سجون خاصة على إثر التطّور الذي عرفته المؤسسة السجنيّة وفشل الأنظمة السجنيّة التي لم تفلح في الدور الموكول إليها أو بلغة أخرى بعد فشل الدولة في الاضطلاع بالمهام المناط على عهدتها -وهذا طبعا محل نقاش- وأيضا نشأت فكرة السجون الخاصة بعد أن أصبح عمل السجين جزء من العمليّة الإصلاحيّة والتأهيليّة. العمل السجني : في المرحلة الأولى، كان العمل في حدّ ذاته عقوبة كاملة.ففي القرن السادس عشر كان العمل داخل السجون عبارة عن عقوبة خاصة للمتشرّدين والكسالى والمتسوّلين الذين يوضعون في السجون ويجبرون على العمل وكانت تسمّى سجون عمل Prisons de travail وفي المرحلة الثانيّة، أصبح السجن عقوبة رئيسيّة والعمل العقابي عقوبة تكميليّة تضاف لعقوبة سلب الحريّة. لذلك اتصفت نوعيّة الأعمال العقابيّة بالقسوة والشدّة التي تتناسب ونوع الجرم الذي ارتكبه السجين مثل الأشغال الشاقة… وفي المرحلة الثالثة، اعتبر العمل جزء جوهري وأساسي في إصلاح السجين بل إحدى الحقوق الأساسيّة للمساجين والتي نادت بها المؤتمرات الدوليّة لحقوق الإنسان فمؤتمر بروكسال 1947 قال بضرورة العمل داخل السجون. وفي مؤتمر لاهاي 1950 ومؤتمر جنيف 1955 أكّد نفس الشيء بل اعتبروا العمل وسيلة للتأهيل والتهذيب والإصلاح. الشكل التنظيمي لعمل السجين ومسألة قيمة عمل السجين: رغم أهميّة العمل السجني ودوره في إصلاح المساجين وتأهيلهم، ورغم اتفاقه مع المبادئ الحقوقيّة العالميّة إلاّ أن مع بداية تطبيقها طرحت العديد من الإشكاليات القانونيّة والتنظيميّة خاصة عندما طرحت مسألة جني ثمار عمل السجين ومسألة المقابل الذي يتحصّل عليه هذا الأخير نتيجة لعمله. فمن جهة لا يمكن حرمان السجين من المقابل المادي بعد عمل ثمان ساعات أو أكثر، ومن جهة ثانيّة، برز على الساحة السجنيّة الهدف الاقتصادي للعمل خاصة إذا أخذنا بعين الاعتبار انخفاض تكلفة إنتاج العمل السجني نتيجة انخفاض الأجور. ولعلّ هذا ما شجع على ظهور السجون الخاصة التي يديرها أصحاب رؤوس الأموال ضمن مشاريعهم الاقتصاديّة الربحيّة. كما لاحظت بعض الدول مع بداية تطبيق العمل السجني خطورة على العمل خارج السجن ومنافستها لها فمثلا فرنسا أثناء الأزمة الاقتصاديّة لسنة 1948 قرّرت إلغاء العمل داخل السجون وذلك في 14 مارس 1948 ولكن تراجعت عنه بعد حوالي سنة واحدة. وعموما هناك ثلاثة أصناف من التنظيم القانوني للعمل السجني لهما علاقة مباشرة ببروز فكرة السجون الخاصة وهي: أوّلا، نظام المقاولة: ظهر نظام المقاولة بشكل واسع في بداية القرن الـ19 ولكنّه اختفى واتخذ صور أخرى. وكما تدل تسميته هو عبارة عن اتفاق أو عقد عمل أو إجارة بين إدارة السجن وأحد المقاولين من القطاع الخاص حيث تتعهد إدارة السجن بتوفير اليد العاملة (المساجين) مقابل تشغيلهم وجني ثمار عملهم وتوفير كل مستلزمات عملهم وحياتهم المعيشيّة اليوميّة كالأكل واللباس والإقامة. بحيث يختفي دور الإدارة السجنيّة بصفة كليّة. وبالتالي لا يمكن الحديث لا عن إصلاح ولا عن تأهيل… لأنّ ما يهم المشرف عليهم (المقاول) هو الربح. ثانيا، نظام الاستغلال المباشر: على النقيض من النظام السابق تحتل الإدارة العقابيّة في نظام الاستغلال المباشر مكانة متميّزة في الإشراف على المساجين فهي التي تقرّر نوع العمل وتوفر المواد الأوّليّة وتشرف عليهم فنيّا وإداريّا، كما تتولّى التوزيع والتسويق. في المقابل عليها توفير كل مستلزمات السجين. وهنا أصبحت الإدارة السجنيّة تتحدث عن اكتفاء ذاتي وعن الربح الناتج من عمل السجين. ثالثا، نظام التوريد: نظام التوريد هو عبارة عن نظام وسط بين النظامين السابقين إذ لا تتولّى الإدارة كليّا عمليّة تشغيل ورعاية المساجين كما هو الحال في نظام الاستغلال المباشر كما لا تتخلّى كليّا عن مسؤوليتها كما هو الحال في نظام المقاولة. بحيث تتعاقد إدارة السجن مع أحد رجال الأعمال الذي يلتزم بتوفير الآلات وكل مستلزمات العمل وله حق الحصول على ثمرة عمل المساجين مقابل أن يدفع مبلغا من المال لإدارة السجن مع تنازله على الإشراف على المساجين لصالح الإدارة. فصاحب رأس المال لا سلطة له سوى على استغلال « عملهم ». وفي الفترة الأخيرة 30 جويليّة 2004 أعلن السيد وزير العدل الفرنسي « دومينيك بيربان » عن مناقصة فتحت شهيّة الشركات الخاصة تتضمن مشروع بناء 30 سجنا خاصا يستقطب 13200 مكان من يوم بداية المشروع إلى نهاية العام 2007 وبموازنة تبلغ 4,1 مليار يورو. وما يعطي لهذا السوق الجديد في الميدان الاقتصادي أهميّة ومنافسة بين الشركات هو ارتفاع نسب الإجرام وارتفاع عدد المساجين (في الولايات المتّحدة الأمريكيّة مثلا يوجد واحد على كل 143 شخص وراء قضبان السجن) وخاصة انتشار ظاهرة العود أي فئات المساجين الذين تعوّدوا على الحياة السجنيّة وتمكّنوا من قلب مفهوم السجن بحيث صار المجتمع السجني يجسّد فضاء الحريّة بالنسبة لهم بينما المجتمع الخارجي أصبح عبارة عن سجن تكبت فيه حرياته وتقمع فيه رغباتهم. هذه الفئة تمثل أهم رأسمال الشركات الاستثماريّة. ففي 9 و10 أكتوبر 2004 نظم مركز المعلومات والتأهيل لحقوق الإنسان HRITC بالتعاون مع البرنامج الإنمائي للأمم المتّحدة عبر مشروع دعم القدرات الوطنيّة في مجال حقوق الإنسان باليمن ووزارة حقوق الإنسان ومفوّضيّة الأمم المتّحدة الساميّة لحقوق الإنسان ندوة وطنيّة متعلّقة بحقوق الإنسان والتي انتهى عملها بصياغة توصيات ختاميّة أهم ما تضمّنته هو « إلغاء كافة السجون الخاصة وإطلاق كافة المحتجزين بها … بدون أمر قضائي ».
(4) عولمة القواعد المنظمة للسجون:
تعتبر « القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء » التي اعتمدها مؤتمر الأمم المتحدة الأول لمنع الجريمة ومعاملة المجرمين الذي عقد سنة 1955 بجنيف ، ثم أقرها المجلس الاقتصادي والاجتماعي بقراريه 663 جيم (د –24 ) والمؤرخ في 31 تموز /يوليه 1957و 2076 ( د-62 )9المؤرخ في 13 أيار / مايو 1977. وتضمّنت « القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء » 95 مادة منظمة للحياة السجنيّة وكيفيّة تعامل الإدارة السجنيّة مع السجناء، وعلى أساسها تشتغل اليوم المنظمة الدوليّة للإصلاح الجنائي وتحاول الحكومات القيام بتشريعات وطنيّة متجانسة مع هذه القواعد. وأصبحت درجة التجانس التشريعي مع « القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء » مؤشر من المؤشرات الإصلاح السجني. وهكذا لم تعد التشريعات السجنيّة تشريعات وطنيّة بل وقع تدويلها وعولمتها … -ج- عولمة الاحتجاجات تجاه الانتهاكات السجنيّة: لم تعد الانتهاكات المسجّلة داخل السجون تخصّ المنظمات والجامعيات الوطنيّة في البلد الذي وقعت فيه الانتهاكات، فعبر ما يمكن تسميته بالمنظمات الحقوقيّة العابرة للقارات أو المتعدّدة الجنسيات أصبحنا نشاهد العديد من الاحتجاجات الصادرة من نشطاء حقوق الإنسان لا ينتمون للبلد الذي وقعت فيه الانتهاكات، سواء أكان في شكل القيام بتحرّكات عاجلة أو مراسلات موجهة للحكومات أو رسائل تضامن مع الضحيّة أو عائلته كما هو الحال بالنسبة لأشكال التحرّك في منظمة العفو الدوليّة، إضافة للاعتصامات الجماهيريّة أمام سفارات الدولة التي وقعت فيها الانتهاكات. « فقد أصبحت حقوق الإنسان جزءاً من القانون الدولي. ولم تعد الانتهاكات الجسيمة التي تحدث لحقوق الإنسان في أي مكان من العالم، من الشئون الداخلية للدولة بل أصبحت تدخل في اهتمام المجتمع الدولي ككل، وتتطلب تدخله، وإن كانت معايير هذا التدخل ما زالت تثير الكثير من الجدل ».[8]
المبحث الثالث: علاقة العولمة بالحياة الإجرامية:
(1) ارتفاع نسب الجرائم التقليديّة:
من بين الإفرازات الأساسيّة للعولمة هو ارتفاع نسب الإجرام الناجم عن التغيّرات الاجتماعيّة والاقتصاديّة مثل تفاقم نسب البطالة وارتفاع نسب الهجرة والنزوح، فحسب إحصائيات الأمم المتحدة نلاحظ زيادة كبيرة في حجم الجرائم المرتكبة كل سنة، إذ بلغت بنسبة نمو الجريمة الـ 5% كل سنة، وهي تفوق بكثير نسبة زيادة عدد السكان[9]. كما عبرت وزارة العدل للجمهوريّة التونسيّة عن هذا الارتفاع من خلال إحصائيات 2001-2000 والتي صرحت بوجود1.602.390 قضية موزعة على هذا النحو : * النيـابة العمـومية : احتلت الصدارة بـ668004 قضية و بنسبة 41.70 % من مجموع القضايا المرتكبة. * المادة الجناحية : احتلت المرتبة الثانية بـ 654596 قضية و بنسبة 40.9 % من مجموع القضايا المرتكبة .[10] هذا بالطبع بالنسبة للجرائم التي حدد فيها الجاني و المجني عليه، أما إذا أخذنـا بعين الاعتبار الجرائم التي حدد فيها المجني عليه و لم يحدد فيها الجاني فإن نسب الإجـرام سوف يرتفع حتمـا. .. وهذا الارتفاع يجعل الظاهرة الإجراميّة أكثر جاذبيّة للباحث الاجتماعي. كما عرفت الجزائر تطوّرا كبيرا في حجم الجرائم المرتكبة في السنوات الأخيرة ويذكر لنا الباحث يزيد بوعنان بعض الأرقام والنسب المائويّة للظواهر الإجراميّة إذ يقول في هذا الإطار: « لقد تفاقمت الأوضاع الأمنية في البلاد بشكل لم يسبق له مثيل ، ففي السنة الماضية وحدها تم توقيف حوالي 450000 شخص بتهمة السرقة والاعتداء على الآخرين ، وحسب الحصيلة الإحصائية التي قدمت من قبل مصالح الدرك الوطني وحدها فإن الاعتداءات المصنفة ضمن الجرائم المختلفة قد ارتفعت بنسبة 90% بين فيفري 2005 وفيفري2006 ومنها 1115 اعتداءا جسديا بنية القتل أو الجرح، كما ارتفع عدد الجرائم بنسبة 123% خلال نفس الفترة وذلك زيادة عن الجرائم الاقتصادية والاختلاسات المرتكبة في حق المال العام وممتلكات الدولة، وهذه الأرقام هي أرقام مهولة جدا ، ولا نعلم بالضبط ما هو الحجم الحقيقي للخسائر المادية التي تسبب فيها هؤلاء المجرمون الصغار مقابل ما يقوم به المجرمون الكبار الذين أصبحت جرائمهم حديث العام والخاص، وهي تشكل ديكورا يوميا لواجهات الصحف الجزائرية العمومية منها والخاصة. »[11] « ظاهرة الإجرام في أوساط الشباب أصبحت خطيرة بكل المقاييس إذ أن الإحصائيات تشير إلى أن قرابة 60%من المساجين تقل أعمارهم عن 30 سنة ، يحدث كل هذا في الوقت الذي فشلت فيه الحكومة وكل مؤسسات الدولة في اقتراح بدائل اجتماعية فعالة لهذه الفئة ، وكيف بإمكان الحكومة أن تنجح في اقتراح البدائل والإدارات والمؤسسات تكاد تختنق من جراء الممارسات التي يعاقب عليها القانون مثل الاستحواذ على المال العام والاستئثار بأملاك الدولة؟ » [12] ولهذا الارتفاع في نسب الجرائم المرتكبة انعكاساتها السلبيّة على المؤسسات السجنيّة والعقابيّة، وتجعل وظيفة الإصلاح والتأهيل صعبة التحقيق إن لم نقل مستحيلة، فنسب اكتظاظ السجون تجاوزت الـ600% في بعض البلدان مثل المغرب وبلغت نسبة الـ400% في بعض السجون التونسيّة مثل السجن المدني بتونس قبل أن يتم غلقه.
نسبة اكتظاظ السجون بالمغرب[13]
النسبة المئوية
للاكتظاظ (%)
|
عدد النزلاء
|
الطاقة الاستيعابية
|
المؤسسة
|
640
|
538
|
84
|
الحسيمة
|
442.53
|
823
|
186
|
بني ملال
|
407.53
|
595
|
146
|
العيون
|
329.73
|
854
|
259
|
برشيد
|
323.99
|
1040
|
321
|
انزكان
|
319.20
|
399
|
125
|
العرائش
|
278.70
|
641
|
230
|
المحمدية
|
271.23
|
1923
|
709
|
القنيطرة– المحلي
|
247.31
|
690
|
279
|
بن سليمان
|
225.53
|
530
|
235
|
ابن احمد
|
220
|
825
|
375
|
تطوان
|
196.83
|
284
|
126
|
وزان
|
186.32
|
395
|
212
|
تارودانت
|
185.26
|
352
|
190
|
الخميسات
|
184.77
|
444
|
243
|
تيزنيت
|
182.35
|
155
|
84
|
قرية با محمد
|
(2) تغير أنماط الجريمة:
(2) تغير أنماط الجريمة:
من بين الإفرازات الأساسيّة للعولمة والمتعلّقة بالعالم الإجرامي تفاقم ما يعرف بالجرائم التقليديّة عرفت تطوّرا كميّا بحيث تفاقم الظواهر الإجراميّة نتيجة تفاقم العوامل الإجراميّة والمناخ الإجرامي المناسب لها مثل ارتفاع نسب البطالة، وتفاقم أزمة النزوح والهجرة، والحد من الدور الذي كانت تقوم به الأسرة… إضافة لكل ذلك أصبح المجتمعات تعاني من ظهور ما يسمّى بالجرائم المستحدثة والتي أصبحت تنافس الجرائم التقليديّة سوى على مستوى عدد مرتكبيها وعدد ضحاياها وخاصة في مستوى كيفيّة ارتكاب هذا النوع من الجرائم. « .. شهد هذا العصر جرائم متعدّدة منها جرائم الحاسبات الآلية، وشبكة المعلومات الدوليّة، والاعتداء على نظم بطاقات الائتمانيّة والاتجار في الأسلحة الصغيرة… وتطوّر أشكال الإرهاب المعاصر والإجرام المنظم »[14] ففي المؤتمر العربي السادس لرؤساء أجهزة الإعلام الأمني ناقش وزراء الداخليّة العرب وممثليهم قضيّة الجرائم المستحدثة: – وزارة الداخليّة بالإمارات: « … ولعلّ التطوّر العظيم في نظم الاتصالات والمعلومات والحاسبات الآليّة وتطوّر مختلف العلوم الطبيعيّة والإنسانية على حد سواء، أسهم بشكل كبير في إيجاد ظواهر إجراميّة مستحدثة » – وزارة داخلية الأردن: « أمّا الجرائم المستحدثة فخي تلك الجرائم التي تفرزها التطوّرات والمتغيّرات الحادثة في إطار المجتمع الذي ترتكب فيه وأن الفقه الجنائي حدّدها بالجرائم الاقتصاديّة والجرائم التنظيميّة والمخالفات التي لا تندرج تحت نص عقابي محدّد » « هي نتاج الانفجار التكنولوجي الحديث والتحرّر من الخصوصيّة الزمانيّة والمكانيّة للبنى الاجتماعيّة التي نشأت فيها ممّا أدّى إلى تدويلها وتعدّد جنسيات مرتكبيها واختفاء التوافق الزمني والمكاني بين الجاني والضحايا أو المجني عليهم وارتفاع تكلفتها بكثير عن الجرائم التقليديّة وغياب البنى القانونيّة وآليات الضبط الاجتماعي الرسمي الخاص بمكافحة هذه الجرائم على الصعيدين المحلي والدولي » – وزارة الداخليّة التونسيّة: « لقد أفرزت العولمة والتطوّرات العلميّة والتكنولوجيّة أنماطا إجراميّة مستحدثة ومستجدّة من حيث مظاهرها وأدواتها وأساليبها، ويمكن أن نذكر من بين هذه الجرائم المستحدثة جرائم الحاسوب أو ما اصطلح على تسميته أيضا « جرائم السيبرناتية » وجرائم تبييض الأموال والجرائم الاقتصاديّة فضلا عن جرائم الاتجار بالبشر والجرائم الإرهابيّة بمختلف أشكالها ». – وزارة الداخليّة السوريّة: « لقد تجلى المفهوم المعاصر للجرائم المستجدّة وظهر من خلال المتغيّرات الاجتماعية والاقتصاديّة الناشئة عن التقدّم العلمي والتقني، التي تغلغلت في المجتمعات فزادت من تطلعات الأفراد وغيّرت من أنماط المعيشة وتسبّبت بنشوء علاقات إنسانيّة واجتماعية واقتصاديّة جديدة بدلا من تلك التي كانت قائمة على القيم السابقة، وبالتالي ظهرت أشكال جديدة للجريمة متآلفة مع الأوضاع الجديدة التي لم تكن معروفة من قبل » – وزارة الداخليّة الفلسطينيّة: « … غير موصوفة بذاتها في قانون العقوبات بالنظر لأن الجاني يستخدم أساليب ووسائل واختراعات حديثة لم تكن معروفة عند وضع القانون » – وزارة الداخلية الكويتية: « … فالتطوّر الهائل الذي أحدثته الثورة المعلوماتيّة في وسائل الاتصالات الحديثة وظهور شبكة المعلومات الدوليّة… ودخول هذه التقنية السريعة والمتطوّرة إلى كافة البلدان.. وسهولة امتلاكها من قبل الكثيرين » – وزارة الداخلية السودانيّة: « … كنتيجة للتغييرات في البنية الاجتماعية والاقتصادية للمجتمعات الحالية، فمن الناحية الاجتماعية جاء تغيّر منظومة الأعراف والقيم الاجتماعية وتحوّلها من المحليّة إلى العالمية (التعولم) ليولد سلوكيات جديدة (منحرفة ومجرمة) خارج سياق القانون الوطني » وبهذا المعنى تحدّثت الوزارة عن دور التقنية في إنشاء وعولمة الجرائم.([15]) = التعريف المتفق عليه من طرف وزراء الداخلية العرب للجرائم مستحدثة: « ظواهر إجرامية أو أفعال غير مشروعة وغير مألوفة تمثل انعكاسا للتغيّرات الاجتماعيّة أو السياسيّة أو الاقتصاديّة أو التكنولوجيّة المعاصرة. وتلحق أضرارا أو تشيع أخطارا بالأفراد والمؤسسات والبيئة المحيطة، وتستوجب تدخل المجتمع بآليات قانونيّة وأمنيّة لمواجهتها والحد منها[16] ومن خلال هذا التعريف حدّدت الأمانة العامة لوزراء الداخلية العرب 5 خصائص أساسيّة للجرائم المستحدثة وهي: أوّلا، التعارض مع السلوك الاجتماعي السوي (القانون والأعراف والقيم) ثانيا، عدم الألفة (سلوكيات جديدة وغير مسبوقة، طرق وأساليب جديدة في ارتكاب هذه الجرائم) ثالثا، الارتباط بالمتغيّرات المعاصرة (الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة والتكنولوجيّة) رابعا، الإضرار بالمجتمع خامسا، ضرورة التدخل بآليات تشريعيّة وأمنيّة.
(3) عولمة الجريمة وعولمة المعالجة:
مع التطوّرات المحدثة في عالم الجريمة والمتزامنة مع استفحال وانتشار ظاهرة العولمة هو أنّ القضيّة الإجراميّة لم تعد تقتصر على الحلول والمعالجة الوطنيّة ومحليّة، بل فرضت عمليّة التشبيك الدولي والعلاقات الدوليّة ما يمكن تسميته بتدويل العلاج والمتوازي بدوره مع تدويل الجرائم، سوى على مستوى مرتكبي الأفعال الإجراميّة أو على مستوى ضحايا الإجرام بصفة عامة، إضافة إلى تأثير بعض أنماط الجرائم على العلاقات الدوليّة، والاستثمارات الاقتصاديّة. كما لم تعد المعالجة تقتصر على الأجهزة الأمنيّة كما كان الحال مع الجرائم التقليديّة، بل أصبحت القضايا الإجراميّة من بين الاهتمامات الأساسيّة لأصحاب رؤوس الأموال والمؤسسات التمويليّة كالبنوك وغيرها. وفي هذا الإطار يمكن التذكير ببعض المشاركين في المؤتمرات الدوليّة التي تعنى بالقضايا الإجراميّة، مثل: المثال الأوّل: المؤتمر الدولي السادس لجرائم المعلومات، والذي انعقد بالقاهرة من 13إلى 15 أفريل 2005 (الذي يتم عقده مرة كل سنتين) شارك فيه 190 خبيرا من 57 دولة ونظمه كل من: المنظمة الأوروبية للشرطة الجنائيّة جامعة نايف للعلوم الأمنيّة مؤسسات أمنيّة تساهم في معالجة الظاهرة الإجراميّة منظمة التجارة العالمية مؤسسة تجاريّة دوليّة تساهم في معالجة الظاهرة الإجراميّة بنوك متعدّدة مؤسسات تمويليّة تساهم في معالجة الظاهرة الإجراميّة وناقش هذه التشبيكة المؤسساتيّة المتنوعة في هذا المؤتمر قضية الجرائم غير الوطنيّة والإرهاب المعلوماتي والتهديدات التي تفرضها جرائم التقنيات الفائقة والمتطوّرة. المثال الثاني: مؤتمر الأمم المتحدة الحادي عشر لمنع الجريمة والعدالة الجنائيّة والمنعقد في بانكوك بين 18 و25 أفريل 2005. وحضر المؤتمر: ممثلو 132 دولة من بينها 18 دولة عربيّة ومراقبون عن 93 منظمة حكوميّة وغير حكوميّة متخصصة منظمات حكوميّة وغير حكوميّة تساهم في معالجة الظاهرة الإجراميّة والأمانة العامة لجامعة الدول العربيّة حكومات عربيّة تساهم في معالجة الظاهرة الإجراميّة وأكاديمية نايف للعلوم الأمنيّة وزارات الداخلية مؤسسات أمنيّة عربيّة تساهم في معالجة الظاهرة الإجراميّة ممثلين عن البنوك مؤسسات تمويليّة تساهم في معالجة الظاهرة الإجراميّة ووزارات العدل… مؤسسات عدليّة تساهم في معالجة الظاهرة الإجراميّة وتناول المؤتمر ست قضايا أساسيّة يمكن اعتبارها أهم وأبرز الظواهر الإجراميّة التي أفرزتها العولمة، وهي: – التدابير الفعالة لمكافحة الجريمة عبر الوطنية – التعاون الدولي في التصدي للإرهاب – التصدي للعلاقات بين الإرهاب والأنشطة الإجرامية الأخرى – الفساد – التهديدات والاتجاهات في القرن 20 – الجرائم الاقتصاديّة والمالية (تحديات تواجه التنمية المستدامة) وصدر عن هذا المؤتمر ما يعرف بإعلان بانكوك، والذي أقرّ التشديد على تعزيز الحوار بين الحضارات وتشجيع التسامح والسعي لحشد التعاون الدولي على مكافحة الجريمة والإرهاب على الصعيد الإقليمي والثنائي والمتعدّد الأطراف. -المنتدى المصرفي العربي العام وعنوانه « مكافحة تبيض الأموال وتمويل الإرهاب »، والذي انعقد في بيروت من 18 إلى 20 أفريل 2005 وشارك فيه كل من: المكتب العربي للشرطة الجنائيّة مؤسسة أمنيّة عربيّة تساهم في معالجة الظاهرة الإجراميّة اتحاد المصارف العربيّة مجموعة العمل المالي لمنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مصرف لبنان مؤسسات ماليّة عربيّة وإقليمية ووطنيّة تساهم في معالجة الظاهرة الإجراميّة تناول المنتدى قضيّة حجم الأموال المغسولة سنويّا والتي تقدّر بـ5% من إجمالي الناتج العالمي أي حوالي 18% من حجم التجارة الدوليّة لتحتل بذلك المرتبة الثالثة عالميّا بعد تداول العملة وتصنيع السيّارات. المبحث الرابع: العولمة والحياة السجنيّة يمكن فهم العلاقة القائمة بين العولمة والحياة والسجنيّة من خلال 3 مستويات: (1) يتمثل المستوى الأوّل في الدور الذي قامت به (وتقوم به) المنظمات والجمعيات والحقوقيّة بمختلف أشكالها، الوطنيّة والدوليّة والمتعدّدة الجنسيات، ويظهر ذلك بشكل أساسي في الإصلاحات السجنيّة وتطوّر أنظمة السجون واعتبار القواعد النموذجيّة الدنيا لمعاملة السجناء مقياسا عمليّا لهذه التأثيرات، كما يظهر أيضا في ما يمكن تسميته بتدويل الاحتجاجات أو عولمة الاحتجاجات تجاه الانتهاكات المقترفة داخل السجون (كما رأينا ذلك). المستوى الثاني، ارتفاع نسب الجرائم التقليديّة:
أدى نسب الجرائم التقليديّة مثل السرقة (المجردة والموصوفة)، وجرائم السلب باستعمال العنف أو التهديد، والعنف بمختلف أشكاله… إلخ إلى شكلين من الاكتظاظ ساهما في تفاقم الأزمة السجنيّة: اكتظاظ داخل السجون: كما هو الحال بالنسبة للمغرب ففي الوقت الذي تبلغ فيه المساحة الجملية للسجون 45784.94متر مربع، نجد عدد النزلاء حسب الإدارة في 30/05/2003 وصلت إلى 25025 وبذلك تكون حصة كل نزيل (حسب معطيات الإدارة) بالمتر المربع 1.82. وتتأزّم الوضعيّة أكثر حسب الاستمارة حيث بلغ عدد النزلاء 27962 أي تنخفض حصة كل نزيل بالمتر المربع (حسب الاستمارة) لتصبح 1.63…[17] ومن بين أبرز النتائج السلبيّة للاكتظاظ السجني هو صعوبة احترام التوزيع التصنيفي للسجناء وبالتالي تطبيق مبادئ « القواعد النموذجية الدنيا لمعاملة السجناء »، حيث تضطر إدارة السجن إلى جمع فئات إجرامية مختلفة في فضاء سجني واحد فتكثر المخالفات السجنية وتصبح المؤسسة السجنية مدرسة جيّدة لتعلّم فنون الجريمة، إضافة لانتشار الأمراض المعدية وصعوبة توفير احتياجات السجين ورعايته أو إصلاحه وتأهيله وتوفير الخدمات التعليميّة للسجناء « تفيد معطيات الإدارة أن نسبة المستفيدين من خدمات التعليم بكافة مستوياته تبلغ 1.73%، وهي نسبة ضئيلة جدا… »[18] . كما ترتفع الهوّة بين عدد السجناء مقارنة بعدد الموظفين المكلّفين بالرعاية والإدارة والمراقبة والتسيير، إذ ذكر في تقرير المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان حول وضعية السجون في المملكة المغربيّة (أفريل 2004) « يلاحظ من خلال معطيات الإدارة أن عدد السجناء بالنسبة لكل موظف مكلف بالحراسة، قد بلغ 10/1 في حين أن المعدل العالمي هو موظف لكل 3 سجناء… »[19]. وأفرزت نتائج الرصد هوّة رقميّة أكثر خطورة فمثلا نجد بالسجن المحلي القنيطرة 1/53 وفي مركز الإصلاح عين السبع 1/23 وفي السجن المحلي سلا 1/19 وفي السجن المحلي قرية بامحمد 1/19 وفي السجن المحلي ايت ملول 1/18…[20] هذا النقص العددي لموظفي إدارة السجون جعلها تكلّف المساجين للقيام بالأعمال التي من المفترض أن يقوم بها أعوان السجون، وهو ما جعل التنظيم الحقيقي للسجون يهيمن عليه السجناء لا الموظفين الإداريين وأعوان الحراسة. ويكون الشكل التنظيمي التراتبي الذي يخضع لسيطرة المساجين في السجون التونسيّة على النحو التالي:
-أ- الشكل الهرمي التراتبي داخل كل غرفة: * « كبران شمبري »: في بعض السجون أو الكتابات السجنيّة تستعمل مقولة ناظر الغرفة عوضا عن « كبران الشمبري » وهو السجين الذي يكلّف بإدارة وتسيير الغرفة، ويمثل السلطة العليا داخل هذا الفضاء التي تعطيه القدرة الفعليّة كفاعل اجتماعي على زيادة درجة حريته وعلى الحد من حرية الآخر. و ذلك يجعل تصرفه مستقلا و غير قابل للتوقع عن طريق هامش الحرية، و مجال اللايقين الذي يتحرك فيه هذا الفاعل (حسب مفهوم ميشال كروزيه)[21]. ونتيجة قيامه بهذه الوظيفة يتمتع بامتيازات وصلاحيات عديدة، كتعيينه لبقية أعضاء البناء الهرمي (مع استشارة السلطة التي عينته)، ويتحمل مسؤولية كل ما وقع أو سيقع داخل الغرفة. واحتفاظه بموقعه مرتبط بمدى حسن تنظيم الغرفة و اجتناب كل أنواع المشاكل وخاصة العنف الجماعي، لذلك يعتمد تارة على اللين وتارة على القوة الشرعية لفرض هيبته وسلطته، كما يحاول بشتى السبل إقناع كل أفراد الغرفة والسلط العليا بجدارته واستحقاقه لهذا الموقع… وقد يضحي الكبران بكل شيء من أجل الاحتفاظ بموقعه… ففي السجون التونسيّة كان يتم اختيار هذا الشخص من بين محترفي الجرائم التقليديّة والمتمتّع بقدرته على فرض الانضباط وعادة ما يكون الشخص الأكثر عنفا وشراسة هو المرشح أكثر من غيره لتولي منصب « الكبران ». * « كبران كرفي »: يحتل الدرجة الثانية في هذا السلم الهرمي للبناء التنظيمي داخل الغرفة، وتتحدد مسؤوليته في أربعة مجالات محدودة وهي النظافة داخل الغرفة (الشمبري) و توزيع الأكل (الصبّة) مرتين في اليوم وتوزيع الخبز على المساجين مرة في اليوم والإشراف على فرش غطاء النوم لمن يسكنون « القدّس »[22] وبالإضافة إلى هذه المجالات المحددة، فهو « كبران كرفي » يساعد « كبران الشمبري » في كل شيء، و أحيانا يتخذه هذا الأخير ستارا و ليلقي المسؤولية و العتاب عليه… و بما أن « كبران الكرفي » هو أول المرشحين لمنصب « كبران الشمبري » في صورة عزل « كبران الشمبري » من منصبه، لذلك يحترس منه جيدا، خاصة إن كانت العلاقة بينهما من نوع العلاقة العدائية الخفية، كما تحاول السلطة العليا تغذية هذه العدائية حتى يراقب كل منهما الآخر… لذلك يمكن إضافة وظيفة أخرى ل »كبران الكرفي » وهي نقل الأخبار و المعلومات إلى السلطة العليا عن « كبران الشمبري » و تصرفاته داخل الغرفة.[23] * كبرانBuvette : هو عبارة عن الواسطة المباشرة بين المساجين و »Buvette » السجن التي تبيع لهم القهوة و الشاي و المشروبات الغازية و الماء المعدني و الحليب و مشتقاته و أحيانا الحلويات و المرطبات. إذ يسجل « كبران الـBuvette » على ورقته كل المشتريات التي يرغب السجين في شراءها و يقبض منهم الثمن و يحضرها لهم بعد يومين… و من امتيازاته المشروعة: -الإقامة متميّزة عن بقية المساجين مثل الفراش المنفرد والاقتراب من الشبابيك ومن التلفاز. – حق التجول في « اللارية » [24]خارج الأوقات المخصصة لغرفته. – الحصول البعض من هذه المشتريات مجانا. * »قارد شمبري » وهو حارس الليل، الذي تبدأ مهمته و سلطته داخل الغرفة من منتصف الليل و تنتهي مع الساعة7:30 صباحا، عند إيقاظ كل أفراد الغرفة… يقوم بحراسة ممتلكات الأشخاص، و يبلغ الكبران والسلط العليا عن الانحرافات المرتكبة في المدة الزمنية التي يكون فيها كبرانا على الغرفة، و خاصة الجنسيّة المثليّة (اللواط) والسرقة… لذلك فهو يمنع من النوم ليلا، و له حق النوم كامل النهار إن شاء، و من أهم امتيازاته: – حق الخروج من الغرفة إلى الـ »L’Airia » متى يريد ذلك. – التمتع بفراش خاص به. – يتقاضى أجرة مقابل قيامه بوظيفة (أفراد الغرفة هي التي تعطيه هذه الأجرة). *كبران توالات Toilettes: لا يوجد هذا الصنف إلا في الأجنحة المتميّز بنوع من الرفاهيّة مقارنة بالأجنحة الأخرى، مثل الجناح C والجناحF في السجن المدني بتونس قبل أن يتم غلقه نهائيّا في أواخر سنة 2006، كما أنه غير متوفر في كل الغرف من هذه الأجنحة الأخرى… وفي حالة وجوده فإن المشرف عليه يكون عادة إما « قارد شمبري » لأن مكان إقامته قريبة جدا من الـ »Toilettes » أو يشرف عليه « كبران الكرفي » نظرا لأن مسؤوليته الأساسية هي التنظيف، وفي بعض الأجنحة وبعض الغرف يتحمل مسؤولية تنظيف الـ »Toilettes » شخص يسمى « كرفي الشمبري »، ومقابل عمله تقدم له بعض الأطعمة والملابس خاصة إذا كان محروما من الزيارة ويقبل هذا النوع من العمل… وبالإضافة إلى مهمة التنظيف التي يقوم بها، تسند إليه أحيانا وظيفة الإشراف على عملية الاستحمام داخل الغرفة، لأن القانون الإداري يمنع الاستحمام في أوقات معينة… * قارد النهار: وهي لا توجد إلاّ في الأجنحة التي تكثر فيها السرقات مثل الجناحH والجناحDp بالسجن المدني بتونس، حيث تنتشر السرقة ومهمته محددة بالفترة الزمنية التي يخرج فيها كل أفراد الغرفة إلى الفسحة اليومية « اللارية »… وعموما كل من « كبران التوالات » و »قارد النهار » هي من اجتهادات « كبران الشميري » لدعم موقفه أمام السلط العليا على جدارته بمنصبه وبحسن تسييره لأمور الغرفة…
-ب- الشكل الهرمي التراتبي داخل كل جناح: هذا الشكل الهرمي التراتبي داخل كل غرفة (شمبري) يرتبط بشكل مباشر بشكل هرمي آخر مثل: – كبران سقيفة[25]: هو سجين يكلّف بالإشراف على كل الغرف الموجودة داخل الجناح ويوضع في هذا الفضاء (السقيفة) كل الملفات المتعلقة بكل السجناء (الاسم و اللقب، تاريخ و مكان الولادة، الجهة التي يقطن بها، التهمة، السوابق العدلية، تاريخ قدومه للغرفة…)، كما يوجد بها لوحة حائطية يكتب عليها عدد الغرف و عدد السجناء بكل غرفة، و عمودا خاصا بمن يغادرون الجناح نهائيا أو مؤقتا في ذلك اليوم مثل مقابلة المحامي أو التحقيق أو رئيس المحكمة… ، و يشرف عليها « كبران سقيفة » كأعلى سلطة يمكن أن تمنح لسجين داخل الجناح تحت إمرة رئيس الجناح (عون) . – كبرانL’airia: وهو سجين تمنح له مسؤوليّة الإشراف على مواعيد الفسحة اليوميّة للغرف وكذلك نظافةL’airia – « كبران الBuvette » اللاريا: وهو الشخص يتولى عمليّة توزيع كل ما يمكن أن يباع داخل الغرف مثل الشاي والقهوة والحليب والمشروبات الغازيّة… ويحاسب « كبران الـBuvette » داخل كل غرفة. وهكذا نلاحظ أن الحياة السجنيّة وكيفيّة اشتغال المؤسسة السجنيّة تتمّ ضمن الفئات السجنيّة وبين المساجين أنفسهم أكثر ممّا تتمّ مع الأعوان الإداريين، وهو ما جعل الحياة السجنيّة اليوميّة تسير ضمن ما يمكن تسميته بالتنظيم اللاشكلي، أي الشكل التنظيمي الذي يفرضه السجين لا التنظيم الذي يفرض عليه. اكتظاظ وضغط على المحاكم: أدّى ارتفاع نسب الجرائم التقليديّة إلى إحداث نوع من الضغط على المحاكم بمختلف درجاتها واختصاصاتها، إذ يكف إلقاء نظرة على طاولة أي رئيس محكمة وعدد الملفّات التي يبت فيها كل يوم، أو عدد السجناء الاحتياطيون الذين ينتظرون حكم المحكمة، فمثلا بلغ عدد الاحتياطيون في سجون المملكة المغربيّة الـ 22.047 شخصا وهو ما يعادل نسبة 40.67% (حسب المعطيات الرسمية) و52% (حسب معاينة فريق الرصد)[26]. كما نلاحظ ارتفاع نسب اكتظاظ السجون المخصّصة للموقوفين والاحتياطيون كما هو الحال بالنسبة للسجن المدني بتونس والذي لا تتجاوز طاقة استيعابه الـ1500 سجين في حين بلغ عدد النزلاء فيه الـ6000 نزيل أي بنسبة اكتظاظ 400%.
ظهور ما يسمى بالجرائم المستحدثة: ظلّت لفترة غير بعيد فئة مقترفي الجرائم التقليديّة محتكرة لكل هذه المناصب السجنيّة (كبران سقيفة، كبران لاريا، كبران شمبري، كبران كرفي…)، حيث كانت تمنح لأكثر الفئات انحرافا وخرقا للقوانين والذين يخشاهم بقية المساجين، وكثيرا ما تصبح تجاربهم السجنيّة وتاريخهم الإجرامي رصيد ورأسمال رمزي حسب تعبير عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو[27] يمكنّهم من أعلى المناصب والمراتب في الفضاء السجني أو ما يمكن تسميتهم برموز السجن، إلاّ أنّ المتتبع للحياة السجنيّة يلاحظ أن هذه الفئة بدأت تفقد مكانتها داخل الفضاء السجني في السنوات الأخيرة وتفقد قدرتها التأثيريّة والتي تزامنت مع ظهور الجرائم المستحدثة والتغيير الذي حصل في التركيبة السكانيّة للسجون، بمعنى دخول فئات إجراميّة أخرى تمكّنت من فرض هيمنتها ومنافستها في احتلال المناصب السجنيّة. فمن جهة أولى نوعيّة الجرائم التقليديّة المقترفة(مثل السرقات المجرّدة، والسلب باستعمال التهديد والعنف البسيط…) وخاصة العقوبات الجزائيّة المرافقة لها جعلت هذه الفئة الإجراميّة تفقد هذه المكانة داخل الفضاء السجني ، والتي لا تتجاوز مدّة العقوبات السالبة للحريّة فيها الأشهر، وهي مدّة غير كافية لفرض النفوذ والسيطرة على التنظيم السجني، خلافا للجرائم المستحدثة مثل القضايا الماليّة والتي ترافقها عقوبات سجنيّة تفوق مدّتها في العادة الخمس سنوات. ومن جهة ثانيّة، تميّزت فئة مرتكبي الجرائم المستحدثة بسرعتها في فهم قوانين اللعبة السجنيّة وطرق كسب مودّة المسؤولين والتقرّب إليهم للحصول على هذه المناصب، مستثمرين في ذلك مكانتهم الاجتماعيّة خارج السجن ومستواهم التعليمي، وبذلك تغيّرت المقاييس المعتمدة في الحصول على أعلى المراتب داخل التنظيم السجني. ونظرا لارتفاع عددهم أصبحت في بعض السجون التونسيّة تخصّص فضاءات سجنيّة خاصة بالمتهمين أو المحالين ضمن القضايا الماليّة كما وقع في السجن المدني بتونس حين خصّص الجناح C لهذه الفئة وكان يطلق عليه بـBATAM (وهي شركة تجاريّة تقوم ببيع منتجاتها بالتقسيط المريح وما يمكن أن ينجرّ عنه من قضايا شيكات بدون رصيد…) وبما أن مقولة تحقيق النجاح وتفادي الفشل[28] المحور الرئيسي في تصرّفات وممارسات مختلف الفئات الاجتماعيّة بما في ذلك مرتكبي الجرائم التقليديّة والذي ظلّ العالم السجني إحدى الفضاءات المناسبة لها لتحقيق هذا النجاح، أدّى فقدانها لمواقعها داخل الفضاء السجني، وصعوبة تحقيق النجاح داخله إلى العودة إلى العالم الخارجي لتحقيق النجاح فيه وذلك عبر إتقان فنون الجريمة وكيفيّة المراوغة والتحيّل على القوانين وتطويعها. (*) باحث تونسي مختص في علم اجتماع السجون هوامش
[1] عبد الإله بلقزيز، العولمة والهوية الثقافية( عولمة الثقافة أم ثقافة العولمة)، مجلة المستقبل العربي، العدد234، 1998، ص 91 – 99 [2] شفيق الطاهر، العولمة واحتمالات المستقبل، مجلة دراسات، العدد الأول 1999، ص7 -11 [3] ليث عبد الحسن جواد، المضامين الاجتماعية للعولمة، مجلة دراسات، السنة الأولى، العدد الرابع، 1999، ص 46 [4] شعبان الطاهر الأسود، الثقافة والمجتمع والتغير الاجتماعي، مجلة دراسات، السنة الأولى، العدد الرابع، 1999، ص 13- 14 [5] كلمة أ. محمد فائق أمين عام المنظمة العربية لحقوق الإنسان برلين – 24 مارس 2000 http://www.ibn-rushd.org/arabic/M_Fayek-arab.htm) [6] كلمة أ. محمد فائق أمين عام المنظمة العربية لحقوق الإنسان » حقوق الإنسان في عصر العولمة رؤية عربية » مجلة « منبر ابن رشد للفكر الحر ») (http://www.ibn-rushd.org/arabic/M_Fayek-arab.htm [7] نفس المصدر – المصدر السابق [8] كلمة أ. محمد فائق أمين عام المنظمة العربية لحقوق الإنسان » حقوق الإنسان في عصر العولمة رؤية عربية » مجلة « منبر ابن رشد للفكر الحر » http://www.ibn-rushd.org/arabic/M_Fayek-arab. [9] محمد محيي الدين « الاتجاهات الحديثة في السياسات العقابيّة ومدى انعكاساتها في العالم العربي » – المجلة العربيّة للدراسات الأمنيّة والتدريب- العدد 21 ماي 1996 ص16. [10] إحصائيات وزارة العدل وحقوق الإنسان بتونس سنة 2000- 2001 [11] يزيد بوعنان: « من الإرهاب السياسي إلى اللصوصية والإجرام » http://www.chihab.net/modules.php?name=News&file=article&sid=1233 ) [12] نفس المصدر [13] تقرير خاص بالأوضاع في السجون –أفريل 2004- المملكة المغربيّة، المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان http://www.ccdh.org.ma ص54 [14] المرجع أصداء الأمانة –مجلة فصلية تصدر عن الأمانة العامة لمجلس وزراء الداخلية العرب العدد 11 يوليو /تموز 2005 ص34 « أسس تعامل أجهزة الإعلام الأمني مع الجرائم المستجدة ») [15] نفس المرجع ص34- 37 [16] نفس المرجع ص 37 [17] تقرير خاص بالأوضاع في السجون –أفريل 2004- المملكة المغربيّة، المجلس الاستشاري لحقوق الإنسان ص46 و47 أو http://www.ccdh.org.ma [18] نفس المرجع ص87 [19]نفس المرجع ص60 [20] نفس المرجع ص61 [21] . « L’acteur et le système » (1977) E. Friedberg , M. Crozier ; Paris: Seuil, call . Points [22]القدّس: هو أسوء أنواع الإقامة داخل الغرفة، حيث لا يتمتع متساكنيه به إلاّ في الليل، ثم ينتزع منهم في النهار حتى يتمكن الجميع من التحرك والتجول داخل الغرفة… انظر: سامي نصر « محاولة في سوسيولوجيا الحياة السجنية: دراسة ميدانية للسجن المدني بتونس » أطروحة الدراسات المعمّقة في علم الاجتماع 2001 [23] سامي نصر « محاولة في سوسيولوجيا الحياة السجنية: دراسة ميدانية للسجن المدني بتونس » أطروحة الدراسات المعمّقة في علم الاجتماع 2001 [24] « اللارية »: وهي الساحة الموجودة في كل جناح يتجولون فيها كل يوم: مرة في الحصة الصباحية، ومرة في الحصة المسائية [25] « السقيفة »: وهي الفضاء الذي يفتح على السنترة من جهة وعلى « اللارية » من جهة أخرى، و بذلك تمثل الممر الإداري الذي يربط الجناح بالسنترة (الساحة الكبيرة للسجن والتي توجد فيها كل الخدمات السجنية مثل المرشد الاجتماعي والمكتبة والمطبخ وأماكن الزيارة والاستحمام والمعالجة…)، [26] نفس المرجع ص 54 [27] من بين المقولات الأساسية في سوسيولوجية »P.Bourdieu » نجد مقولة « الرأسمال » والتي يعرفها بكونها كل طاقة قابلة أن تكون مستخدمة( بشكل واع أو لا واع) كأداة في عملية التنافس الاجتماعي، لذلك نجده يتحدث عن الرأسمال الاقتصادي، و الرأسمال الاجتماعي و الرأسمال الثقافي و الرأسمال الرمزي والرأسمال الإجمالي. [28] ويرجع الفضل في استعمال هذه المقولة وإدراجها ضمن آليات تحليلنا إلى عالم الاجتماع R.Merton وتحديدا كتابه « النظريّة الاجتماعيّة والبناء الاجتماعي » Social Theory and Social Structure والذي أكّد فيه على أنّ ارتفاع معدّلات الجريمة يمثل انعكاسا للمواقف الاجتماعيّة التي تمجّد النجاح وتنبذ الفشل، كما أن المجتمع لا يمنح نفس فرص النجاح بالنسبة لأفراده ممّا يخلق الوازع الإجرامي لمن أغلقت أمامه سبل النجاح. « …فالأفراد في الطبقات الدنيا تشارك بقيّة طبقات المجتمع في اعتناقها لقيم النجاح والثروة. وفي نفس الوقت فهي تعاني من الإحباط والفشل نتيجة عدم استطاعتها تحقيق قيم الثروة والنجاح. وهذا الفشل والإحباط في عدم تحقيق النجاح والثروة لا يؤدّي دائما إلى السلوك الإجرامي، فقد يؤدّي إلى سلوك انسحابي. وكلا الموقفين السلوك الإجرامي والانسحابي يتوقّف على ما لدى الفرد من استعدادات. » انظر: علي أحمد الطراح « المعتقدات الاجتماعيّة وتأثيرها على الجريمة: رؤية سوسيولوجيّة » كتاب « تكوين الرأي العام واق من الجريمة » أكاديميّة نايف للعلوم الأمنيّة 2001 ص66. (المصدر: مجلة « أقلام أون لاين » (اليكترونية تصدر كل شهرين)، العدد 20 لشهري أفريل وماي 2007)
ساركوزي وحلم اتحاد البحر المتوسط
د.أحمد القديدي (*) في فبراير الماضي أثار المرشح للرئاسة الفرنسية في مدينة تولون فكرة انشاء اتحاد متوسطي تقوده فرنسا و يجمع بلدان أوروبا المطلة على المتوسط أي ايطاليا وأسبانيا و اليونان و قبرص و بلدان الشمال الافريقي مصر و ليبيا و تونس والجزائر والمغرب الى جانب البلاد الكبيرة الأخرى على ضفة المتوسط وهي تركيا. و ليلة فوزه بالرئاسة الأحد 6 مايو و فور الاعلان عن النتائج كرر الرئيس ساركوزي هذه الفكرة في قاعة (غوفو) بباريس، موضحا بعض التفاصيل بشأنها، والأهداف التي يراها لهذا الاتحاد. و قال الرئيس المنتخب بأن مستقبل المنطقة سوف يكون رهين ضفاف البحر المتوسط، و أنه حان الوقت لانشاء هذا الاتحاد كهمزة وصل بين أوروبا و افريقيا، وهو يشكل بالنسبة لنا حلم سلام وحلم حضارة، و كما توفقنا منذ ستين عاما في بناء الاتحاد الأوروبي سنتوفق معا في بناء الاتحاد المتوسطي. هذا ما قاله ساركوزي في قاعة (غوفو) وسط حماس مؤيديه، لكن المحللة السياسية السويسرية (ايليونور سولزار)، كتبت في صحيفة (لوتون) الصادرة بجنيف يوم 8 مايو تقول: علينا أن ننتبه الى ما قاله ساركوزي في خطابه أثناء الحملة الانتخابية حول هذه الفكرة حين أكد حرفيا بأن هذا الاتحاد هو بمثابة الحلم ممكن التحقيق، مضيفا بأنه نفس الحلم الذي ألهم بونابرت في مصر وألهم نابليون الثالث في الجزائر و ألهم الماريشال ليوتيه في المغرب. وهي اشارات لا تخطأ بأن الرئيس الجديد يريد اعادة الحضور الفرنسي لبلدان العرب والمسلمين بنفس العقيدة التي حركت بونابرت ليحتل مصر و الشام عام 1798 والتي دفعت نابليون الثالث امبراطور فرنسا ليعزز استعمار الجزائر، بعد انتصار الجيش الفرنسي على ثورة الأمير عبد القادر سنة 1846، و التي أوحت للماريشال ليوتيه بادارة المملكة المغربية كأنما كانت مقاطعة فرنسية في الثلث الأول من القرن العشرين! وهذه الخلفية لللعقل الباطن لليمين الفرنسي كشفت عن نفسها من خلال تصريح ( لا تلميح) ساركوزي، وهو أمر على أقل تقدير يجب الاحتياط منه و الحذر من عواقبه، خاصة اذا علمنا بأن السياسة العربية التي انتهجها الرئيس السابق شيراك أسوة بالجنرال ديجول أصبحت صفحة مطوية في الدبلوماسية الفرنسية الجديدة، وخاصة اذا كنا قرأنا تاريخ تلك « الأحلام » الثلاثة وعرفنا بأن بونابرت حين دخل الى القاهرة قتل علماء الأزهر و نكل بالمجاهدين و قمع ثورة القاهرة في أكتوبر 1899 بحمام دماء و هرب من مصر الى باريس بعد شهور تاركا خليفته الجنرال كليبير الذي قتله الفدائي الشامي سليمان الحلبي، و خلفه الجنرال مينو الذي اعتنق الاسلام، و باءت تلك الحملة المجنونة بفشل ذريع. و في عهد نابليون الثالث قام الجنرال بيليسييه بحرق قبيلة كاملة في الجزائر و مجازر لا تحصى، أما الماريشال ليوتيه فنعرف كيف أخمد ثورة الأمير عبد الكريم عام 1921 بالمغرب! ان هذا اللجوء للتاريخ الذي قام به الرئيس ساركوزي يؤكد احدى فرضيتين: اما أنه لا مستشار لديه تعمق في فهم معاني التاريخ، أو انه كما أعلن هو ذاته لا يستعمل اللغة الخشبية و يفصح بجرأة عن نواياه. و نأمل أن تكون الفرضية الأولى هي الأصح لأن الفرضية الثانية تفتح لعرب الضفة الجنوبية للمتوسط اشكاليات أخطر في العلاقات القادمة مع فرنسا و أوروبا، تسعى اسرائيل جاهدة لكي تورط فيها الرئيس الجديد ساركوزي، من خلال هذا الحلم باتحاد متوسطي له هذه الأبعاد الضبابية الغامضة. البعد الثاني للاقتراح جاء أيضا على لسان الرئيس ساركوزي، وهو قوله حرفيا بأن تركيا تلك الأمة العظيمة ستجد مكانها ضمن الاتحاد المتوسطي، وذلك أفضل لها من الجري وراء عضوية الاتحاد الأوروبي الذي لا يتسع لها لأنها تقع في اسيا. و هنا لا بد من الأشارة الى أمرين: الأول هو أن رئيس المفوضية الأوروبية السيد مانوال باروزو لفت نظر الرئيس الفرنسي المنتخب الى أن هذا الكلام مناف للعهود التي قطعها الاتحاد الأوروبي على نفسه بالاجماع بفتح مفاوضات مع تركيا تؤدي الى عضويتها، و بأن تركيا عضو كامل في حلف شمال الأطلسي منذ نهاية الحرب العالمية. و الأمر الثاني هو أن السيد ساركوزي يدرك تماما بأن اقصاء تركيا من الاتحاد الأوروبي ليس سببه جغرافي بل السبب الحقيقي ديني و حضاري أساسا، وهو ما ذكرته الصحيفة الايطاليه ( لا رسبوبليكا) في عددها (7 فبراير 2007) فساركوزي يعرف في اطار حملته الانتخابية بأن رفض انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي يجلب له المزيد من الأصوات و يسحب البساط من تحت أقدام اليمين المتشدد الذي تشكله الجبهة الوطنية بنسبة حوالي 15% من المقترعين. ومن جهة أخرى كتبت مجلة (لونوفيل ابسرفاتور) الباريسية تعلق على الموضوع قائلة بأن ساركوزي يريد استعادة دور الأمبراطورية الرومانية ثم الفرنسية، لأن هاتين الامبراطوريتين اعتبرتا بأن البحر المتوسط هو فضاء التنافس التاريخي الطويل بين الاسلام و الغرب، منذ الفتوح الاسلامية لأوروبا و الحروب الصليبية والصراع الاستعماري الى اليوم. و قد تغير هذا الصراع في الزمن الراهن ليأخذ أشكالا جديدة أبرزها ملف الهجرة التي تقض مضاجع الأوروبيين، و التي جعل منها ساركوزي حين كان وزيرا للداخلية حصانه الرابح في معركة الفوز بالرئاسة، وكذلك ملف تصدير الارهاب من الضفة الجنوبية للمتوسط الى ضفته الشمالية بعد تفجيرات مدريد و لندن. فهل يريد الرئيس الجديد انشاء اتحاد أمني و قضائي فقط لدرأ مخاطر الارهاب و الهجرة السرية؟ أم هل يريد بالفعل شراكة متوسطية كان جربها الرئيس ميتران عام 1995 و أخفقت و كان أطلق عليها اسم (يورو ميد)؟ اننا على الضفة الجنوبية كدول مستقلة و حرة و ذات سيادة لا بد أن نتشاور قبل الانخراط في كيان هلامي و شبحي لا يخدم مصالحنا و لا يراعي حقوقنا و لا يقرأ حسابا للوشائج العريقة و العميقة التي تربطنا بقضايا فلسطين و العراق و أفغانستان و تركيا و ايران، فنحن متوسطيون بالفعل و يدين لنا هذا البحر بالجزء الأعظم من حضارته و من سلامه و من أمنه، و لكننا أيضا عرب مسلمون. و يخطأ من يخط سياساته على غير هذه الحقائق. (*) كاتب وسياسي من تونس (المصدر: موقع الحزب الديمقراطي التقدمي بتاريخ 13 ماي 2007)
ساركوزي وحدود التغيير في السياسة العربية لفرنسا
توفيق المديني (*) فرنسا ليست ايطاليا، البلد الذي يمكن ان «تسقط» فيه حكومة جراء رهان خاسر في السياسة الخارجية، لهذا السبب لم تحظ السياسة الخارجية بموقع مهم في سلم أولويات المرشحين للانتخابات الفرنسية الاخيرة. وأصبح هذا الغياب النسبي لقضايا السياسة الخارجية عن النقاش في المعركة الانتخابية الفرنسية، والتشديد على القضايا الداخلية تقليداً راسخاً منذ انتخابات العام 1965 الرئاسية. ويظل هؤلاء المرشحون متكتمين حول السياسة الخارجية التي سيكون عليهم تطبيقها في حال جرى انتخابهم. فيكتفي معظمهم بالعموميات المزخرفة ببعض المقتطفات ذات الرؤية الجيوستراتيجية. غير ان الرئيس المنتخب نيكولا ساركوزي الذي يعتبر انقلابياً وفق كل المقاييس، وربما هو يعتقد فعلاً ان انقلابيته الاجتماعية في الداخل، ستطلق من جديد «العظمة الفرنسية» في الخارج بصورة عامة، تجنب طيلة الحملة الانتخابية الخوض في تفاصيل السياسة الخارجية حول مسائل كبيرة، على الأقل، تفرضها عليه المستجدات: العلاقات مع الولايات المتحدة، وأزمات الشرق الأوسط، ولا سيما الصراع العربي – الاسرائيلي. قبل ان يتسلم الرئيس الفرنسي الجديد مفاتيح قصر الاليزيه، من الرئيس جاك شيراك صباح 16 أيار (مايو) الحاري، تتساءل الدوائر الرسمية العربية، ومعها النخب في العالم العربي عن ماهية السياسة الخارجية الفرنسية التي سينتهجها ساركوزي، وهل ستشهد انقلاباً حقيقياً لجهة تجسيد القطيعة مع السياسة الديغولية. لا شك ان كلام ساركوزي المتكرر عن القطعية مع الماضي يتضمن تغييراً أساسياً في السياسة الخارجية، على رغم ان المراقبين متفقون على ان وصول ساركوزي لرئاسة دولة كبرى في أوروبا «يعوض» واشنطن خسارة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير الذي يترك الحكم خلال اسابيع، فإنه لا يمكن تحسس التغيير الذي ينتظر فرنسا إلا بعد فترة قصيرة من وضع آلية الحكم. لقد قام ساركوزي بزيارة للولايات المتحدة الاميركية في 12 ايلول (سبتمبر) الماضي، حيث صرح كي يصبح أهلاً لالتقاط صورة الى جانب الرئيس بوش، بأن فرنسا ليست «معصومة عن اللوم» في علاقتها مع واشنطن. وهو علن، بعد لقائه الرئيس جورج بوش ان فرنسا «يمكن ان تنتقد» في علاقتها مع الولايات المتحدة، وفهم كثيرون في فرنسا ان هذا الانتقاد يطول، خصوصاً معارضة شيراك للغزو الاميركي للعراق ولمعالجة واشنطن لمشكلات الاحتلال. بيد انه أدرك، بسرعة كبيرة، ضخامة الخطأ الذي ارتكبه بظهوره العلني الى جانب رئيس الولايات المتحدة، حيث بدا مؤيداً لسياساته. إذ سبق للولايات المتحدة ان ساهمت في هزيمة رئيس الحكومة الاسباني، خوسيه ماريا أثنار، في انتخابات آذار (مارس) 2004، وتسببت برحيل رئيس الحكومة في بريطانيا توني بلير. وكان لافتاً وصف المعلقين في الصحف الاميركية ساركوزي بـ «صديق» الولايات المتحدة، فيما توقعت موسكو «تطوراً ديناميكياً» في العلاقات الفرنسية – الأميركية. «تعجرف» هذا المصطلح المستخدم في جهتي المحيط الأطلسي، من قبل خصوم الموقف الفرنسي حينها من العراق، قد لفظه أيضاً ساركوزي في العدد نفسه من صحيفة «المحافظين الجدد» في فرنسا: «إنني لا أريد فرنسا متعجرفة». غير ان ساركوزي اجتهد لاحقاً لتصحيح صورته المؤيدة لأميركا، عن طريق مطالبة «أصدقائنا الأميركيين» بترك فرنسا وأوروبا «لحريتهما»، والمجاهرة بأن «الصداقة لا تعني الخضوع» (خطابه في 28 شباط/ فبراير 2007). علماً ان الرئيس الفرنسي المنتخب، أوضح ان هذه الصداقة المتينة لا تعني التبعية وغياب الاختلاف بالرأي. من الصعب جداً تسمية الرئيس المنتخب «محافظاً جديداً» على طريقة «المحافظين الجدد» الأميركيين، لأن اختلافات عدة تفصله عنهم، ولأن فرنسا لا يمكن ان تنتج «صورة طبق الاصل» لـ «المحافظين الجدد»، الذين ظهروا في الولايات المتحدة، ووجدوا ضالتهم في الرئيس جورج بوش. على رغم ان فرنسا ليست الولايات المتحدة وساركوزي ليس بوش، فإن البعض يحاول ان يعيد نسخ التجربة الأميركية. لقد تشكل تيار «المحافظين الجدد» في فرنسا من مجموعة من الكتاب الذين عرفوا في السبعينات بالفلاسفة الجدد، حينما التفوا من حول جان بول سارتر، بعد ان غير موقفه من القضية الفلسطينية، وأصبح اقرب الى اسرائيل، ومن هؤلاء على وجه الخصوص برنار هنري ليفي وآلان فنكلكروت واندرية غلوكسمان، وانضم اليهم في السنوات اللاحقة صف من الصحافيين والخبراء في الشؤون السياسية مثل الكسندر أدلر وجاك تانيرو وبيار اندريه تاجييف الذي برز خلال السنوات الاخيرة على نحو فاقع، من خلال طروحاته الداعمة لاسرائيل على نحو استفزازي، وذلك من نمط «الفرنسيون المعادون للصهيونية اكثر تطرفاً من الاسلاميين» و «معاداة السامية ومناهضة الصهيونية في كفة واحدة». ومارس هؤلاء التضليل الاعلامي سنة 2000 عبر عملية تلاعب ضخمة بالرأي العام الفرنسي، وقد نشر تاجييف وفنكلكروت سلسلة من المقالات، تتبنى الطرح الاسرائيلي القائل ان عرفات رفض في كامب ديفيد عرض اسرائيل السخي بإقامة دولة فلسطينية على 97 في المئة من أراضي الـ1967، وان توقيع «اتفاق اوسلو» ما هو إلا للتغطية على هدفه الفعلي، وهو عودة اللاجئين وتدمير اسرائيل. استحق هؤلاء تسمية «الصهاينة الجدد» التي اطلقت عليهم في أكثر من مناسبة، وسماهم البعض الآخر «المبشرين الجمهوريين»، وينطبق ذلك اكثر ما ينطبق على فنكلكروت، الذي يعتبر الابرز من بين هذه المجموعة. وقد زاد من بروزه في العامين الأخيرين قربه الفكري من ساركوزي، فهو وقف في خريف سنة 2005 ليؤيد موقفه من الأحداث التي شهدتها الضواحي الفرنسية، ويحمل المسؤولية عنها الشبان ذوي الاصول العربية والافريقية والاسلام. وقد كانت شرائح واسعة من الرأي العام في حينه قد استهجنت تصريحات ساركوزي، التي اشعلت النار حين وصف هؤلاء الشبان بـ «الحثالات». واعتبر ساركوزي ان فنكلكروت «شرف المثقف الفرنسي» بتصريحاته، وإذا كان البعض ينتقده فلأنه يقول أشياء صادقة. هذا «المثقف الصادق» لطالما افتخر بأنه قاد ما أطلق عليه معارضة معارضي الحرب على العراق، وسبق له ان وقع على بيان يدين ما سماه «العنصرية التي تطال البيض»، وهو الذي يعتبر ان المثقف العربي لا يمكن ان يكون ديموقراطياً، إلا إذا تخلى نهائياً عن المطالبة بحق العودة للشعب الفلسطيني. ومهما يكن من أمر، فإن ساركوزي هو أقرب الى رونالد ريغان ومارغريت ثاتشر في حماسة لأحداث «ثورة ليبرالية» تقود الى تخفيض الضرائب عن الأغنياء والشركات الكبرى، وإطلاق قوى السوق الليبرالي من عقالها، وتعديل قوانين العمل، وقلب النظام الاجتماعي الذي أسسته فرنسا منذ قرنين، والذي استند برمته الى الدور الريادي للدولة في الاقتصاد والإدارة والمجتمع رأساً على عقب. أما العلاقة مع اسرائيل، فقد أشاع فوز نيكولا ساركوزي برئاسة فرنسا أجواء من الارتياح في اسرائيل على المستويين السياسي والاعلامي، بحيث أجمع المسؤولون الاسرائيليون في الحكومة والمعارضة، على وصفه بـ «الصديق»، وهذا ما عكسته الصحف الاسرائيلية ايضاً التي اعتبرت ان وصول المرشح اليميني الى الاليزيه «ثورة فرنسية» تصب في مصلحة الدولة العبرية. رئيس وزراء اسرائيل ايهود اولمرت، أعرب في رسالة تهنئة الى الرئيس الفرنسي المنتخب، عن ثقته بأن العلاقات بين اسرائيل وفرنسا ستزداد متانة في عهد نيكولا ساركوزي، وأضاف: «لدي قناعة بأن التعاون بيننا سيكون مثمراً وأننا سنتمكن معاً من دفع النشاط الديبلوماسي والسلام في منطقتنا»، واصفاً فرنسا بأنها واحدة من أهم الدول وأكثرها تأثيراً في أوروبا والعالم على السواء. وأشار بيان لرئاسة الوزراء الإسرائيلية إلى أن ساركوزي أبلغ أولمرت بأنه «صديق لإسرائيل ويمكن لإسرائيل دائماً الاعتماد على صداقتي». وعلى رغم أنه من السابق لأوانه التكهن بنوع التحول في «السياسة العربية» لفرنسا في عهد الرئيس الجديد نيكولا ساركوزي، فإن هذا الأخير حين كان وزيراً للداخلية استدعى السفراء العرب في باريس ليقول لهم إنه صديق إسرائيل، ولم يتغير موقفه. لكن تشابك المصالح العربية – الفرنسية التي يجب أن تعبر عنها السياسة الخارجية الفرنسية، إضافة إلى استمرار ضغط القضية الفلسطينية على السياسات الأوروبية عامة، ولا سيما الفرنسية منها، حتى وان تراجع التأييد الدولي لها، كما كان في السابق، جراء اندفاع معظم البلدان العربية نحو التطبيع مع إسرائيل واقامة سلام معها، لا يزالان يمنعان انزلاقاً كبيراً نحو تقارب استراتيجي فرنسي مع إسرائيل. الرئيس ساركوزي سيكون مثل سابقيه محكوماً بسقف التقليد الخاص للديبلوماسية الفرنسية، كما كان قبله فاليري جيسكار ديستان وفرانسوا ميتران، اللذان عرفا لحظة انتخابهما بالانتماء إلى الأطلسية مع بعد الديغولية وبالتأييد المفرط لإسرائيل، واللذان سرعان ما وجدا نفسيهما في إطار إرث ديغول، لم يحيدا عنه في سياساتهما الخارجية. ينبغي عدم المبالغة في قدرة الرئيس الفرنسي على صوغ سياسات خارجية وطنية بمفرده. وفي الواقع، وعلى رغم الصلات التاريخية القوية التي تربط فرنسا بالعالم العربي، والتي تضاربت خلالها المصالح الفرنسية مع مصالح الدول الكبرى المنافسة لها، وبخاصة بريطانيا والولايات المتحدة، إلا أن قيام إسرائيل منذ 1948 صبغ العلاقات الفرنسية – العربية بصبغة خاصة. لقد وقعت فرنسا مع بريطانيا والولايات المتحدة على البيان الثلاثي في سنة 1950، الذي تلتزم الدول الثلاث بمقتضاه بحماية أمن إسرائيل ووجودها. كما أرست الجمهورية الرابعة في عهد حكم الاشتراكيين (غي موليه) علاقات وطيدة وحيوية مع إسرائيل. فكانت فرنسا هي المصدر الأساسي للسلاح لإسرائيل، كما ساعدت بقوة برنامج الأبحاث النووية الإسرائيلي، حيث تم بناء ول مفاعل نووي إسرائيل في ديمونة في صحراء النقب بمساعة فرنسية أساسية. ووصل التحالف الفرنسي – الإسرائيلي الى مداه بمؤامرة العدوان الثلاثي على مصر سنة 1956، التي كانت محصلة كبرى لعاملين رئيسيين: الأول مساعدة مصر عبدالناصر للثورة الجزائري التي أصبحت تمثل مصدر توتر شديد في العلاقات الفرنسية – العربية. والثاني، العداء المشترك الفرنسي – الإسرائيلي لحركة القومية العربية الصاعدة بزعامة عبدالناصر. واستمرت السياسة الفرنسية ترجح كفة التقارب مع إسرائيل على كفة التقارب مع العالم العربي إلى أن جاءت الجمهورية الخامسة في العام 1958 بزعامة الجنرال ديغول، التي جسدت قطيعة حقيقية مع سياسة فرنسا في الشرق الأدنى. ولقد أعطت الحرب العربية – الإسرائيلية الرابعة في حزيران (يونيو) 1967 الفرصة التاريخية كي تفصح السياسة الديغولية عن وجهها الجديد في المنطقة العربية لجهة تأكيد هدف أساسي لسياسة ديغول ألا وهو استقلالية تفكيره وقراره وسياسته العملية التي كان يمارسها تجاه الولايات المتحدة وإسرائيل على حد سواء، وخدمة المصالح الفرنسية في المنطقة العربية (التجارة + النفط). وقد تبلورت «السياسة العربية لفرنسا» التي قادها الجنرال ديغول على أرضية خدمة المصالح القومية الفرنسية كما يدركها هو، والتخلص من قيود السياسات الداخلية لفرنسا المؤيدة لإسرائيل، لجهة قيام فرنسا بدور مستقل في عملية البحث عن تسوية، جنباً الى جنب مع القوتين الأعظم الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. إن سمة تلك الفترة المتجسدة بالصدمة النفسية الإسرائيلية من السياسة الفرنسية – سواء كانت مصطعنة أم حقيقية – منذ عام 1967، خدمت سياسة الرفض الإسرائيلية لكل المبادرات والمساعي الحميدة الفرنسية خلال السنوات الأخيرة. وعلى النقيض من ذلك، فإن الدول العربية تفرح عندما يصل الورثة السياسيون المفترضون للجنرال ديغول الى السلطة في فرنسا. وهذا ما حصل عندما تولى جورج بومبيدو السلطة عام 1969، حيث وطد علاقات فرنسا مع العالم العربي، ولا سيما مع المملكة العربية السعودية والعراق وليبيا التي كان قد استولى فيها العقيد القذافي على السلطة حديثاً. وعندما جاء اليسار الاشتراكي بزعامة الرئيس ميتران الى السلطة في أيار (مايو) 1981، ثارت التساؤلات والتوقعات حول مسار السياسة الخارجية الفرنسية بصفة عامة، وفي المنطقة العربية بصفة خاصة، ذلك لأن ميتران كان معروفاً بصداقته الوطيدة مع إسرائيل وبانتقاداته الدائمة للسياسات الفرنسية المساندة للعرب فقط. وكان ميتران أحد وزراء الجمهورية الرابعة التي أرست نمطاً جيداً وحيوياً من العلاقات مع إسرائيل. وعلى رغم تحفظ ميتران في التعامل مع القيادة العراقية، إلا أنه ساند بقوة النظام العراقية في حرب الخليج الأولى ضد إيران، نظراً إلى موقف ميتران المتشدد من خطر تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية الى العالم العربي، وخطر العدوى الاصولية التي يمكن أن تمس فرنسا بالذات. وإبان أزمة الخليج الثانية، كان ميتران الرئيس الوحيد من بين الرؤساء الغربيين الذي حاول – من دون جدوى – اقناع الرئيس صدام حسين بالانسحاب بعد غزو القوات العراقية للكويت. (*) كاتب تونس (المصدر: صحيفة « الحياة » (يومية – لندن) الصادرة يوم 14 ماي 2007)
ساركوزي يأخذ فرنسا «إلى الحج والناس عائدة منه»
نهلة الشهال (*) ليس الرجل عاديا، وهو مثير للاهتمام على الصعيدين الشخصي والعام. لعل ذلك سر ما قيل عن كاريزمية استهوت الفرنسيين. إذ تسكن رأسه صورة له عن نفسه يمتزج فيها الإعجاب الشديد بالذات بطموح لا يقل قوة. يطلق هذا المزيج العنان لتوسل كل السبل، بلا محرمات، من أجل الوصول. خلال الحملة الانتخابية، نبشت العديد من المقالات سيرة نيكولا ساركوزي المطبوعة بالغدر بأصدقائه من السياسيين الذين، ما أن يتيح احدهم له حيزا حتى يستولي على كل المساحة ويتجاوز صاحبه ويحل محله. بل أن «بلانتو» رسام الكاريكاتير الأشهر في فرنسا، الذي تتصدر لوحته يوميا الصفحة الأولى من جريدة «لوموند»، ابتدع له منذ سنوات شخصية «Isnogood» المنقولة عن إحدى قصص رسوم الأطفال المعروفة، وهي تمثل وزيرا لا تشغله سوى كيفية التخلص من الخليفة ليأخذ مكانه. وقد انتقل بلانتو بعد فوز ساركوزي ليصور الرجل كإمبراطور مضعضع يتبعه Isnogood ذاك كظله، موحيا بازدواج شخصيته، وبأنه قد يغدر بنفسه في أي وقت، وساخرا على الأرجح من مقارنته بنابليون بونابرت التي هُمس بها هنا وهناك، واضعا الرجل في خانة الإمبراطور نابليون الثالث الذي قال فيه ماركس إن التاريخ يعيد نفسه في المرة الثانية على شكل مهزلة. عمل ساركوزي على فكرة أساسية هي « تخليص المجتمع الفرنسي من عقده». أما المعادل العملي للشعار فهو برنامج جريء لتجاوز كل البناء النفسي والقيمي الذي تقوم عليه فرنسا. وفي الوقت نفسه تُقترح وجهة سياسية واقتصادية واجتماعية مخالفة تماما لما يقال له النموذج الفرنسي. لعل تلك هي في العمق «القطيعة» التي قدم ساركوزي نفسه كممثل لها، وهي بهذا المعنى تتجاوز مجرد القطيعة مع عهد الرئيس السابق شيراك، أحد ألد أعداء الرجل رغم انتمائهما لحزب سياسي واحد. فهل لفرنسا تاريخ استعماري؟ يجيب ساركوزي: نعم، ثم ماذا! وهو وإن وافق على إدانة مآسي العبودية التي تولدت عن الاستعمار، والمشاركة، كما هذه الأيام، في الاحتفال بانتهائها وفق قانون سنته الجمهورية الفرنسية، يناهض بشدة كل اتجاه للاعتذار عن ذلك التاريخ، معتبرا السلوك نوعا من كره النفس المقيت. هل فرنسا عنصرية؟ يسهب ساركوزي في إطلاق النعوت الشنيعة على ممارسات افتراضية لـ «بيئة» المهاجرين. فعلاوة على كسلهم المفترض وعدم رغبتهم في العمل (رغم انف الدراسات السيوسيولوجية التي أوصت عليها الحكومات المتعاقبة، والتي تظهر التمييز في القدرة على الحصول على العمل وفق اللون والأصل، والتي تشير إلى نسبة بطالة في صفوف الشباب المتحدرين من الهجرة – وهم فرنسيون – تصل إلى أربعة أضعاف النسبة الوطنية)، علاوة على ذلك، فهم يذبحون الخرفان داخل حمامات بيوتهم في عيد الأضحى، ويمارسون تعدد الزوجات وختان البنات… وهو ينشئ بهذا الخطاب صورة مفبركة عن عالم غرائبي وقاتم عليه أن يعتمد الأسلوب الفرنسي في الحياة أو أن يرحل، مبرراً بذلك مشروعه لإنشاء وزارة لـ»الهوية الوطنية»، وكأن هذه الأخيرة تخضع لجوهر محدد. ومؤخرا، وخلال زيارة له لموقع اثري ديني شهير، أطلق السيد ساركوزي العنان لطريقته «الصريحة» في القول، فود لو تغطي الكاتدرائيات كل الأرض الفرنسية! هذا في بلد يعتمد علمانية صارمة، بمعنى الفصل بين السلطة السياسية والدين، وفي بلد يبلغ مسلموه عدة ملايين تمنع القوانين العلمانية الإحصاءات من رصد رقمي دقيق لعددهم، ولكنهم يمثلون رسميا الدين الثاني في البلاد. هم «رعاع» و»حثالة» كما وصفهم العام الفائت أثناء انتفاضة الضواحي. يقيم التجرؤ على مثل هذا الكلام من مسؤول أصبح اليوم رئيسا للجمهورية، «قطيعة» فعلية داخل البلاد وفق خط انقسام عنصري، في الوقت الذي تعتبر قوانين الجمهورية كل إشارة عنصرية وتمييزية على أساس العرق أو الدين «جريمة» تستوجب العقاب، والنص مثبت في لوحة إعلانية على مدخل كل إدارة رسمية ودائرة بوليس، وفي الوقت الذي تربي «الجمهورية» أبناءها على فكرة الإخوة والمساواة. تلك قيم قد يقول الكثيرون إنها نظرية وان الواقع لا يطابقها. إلا أن في «التحرر من العقد» الذي يمارسه السيد ساركوزي وصحبه، كما في الاستخفاف بالقيم المعلنة طالما أنها لا تعكس تماما الواقع، الذي يجنح إليه من يبدون (أو يعتقدون أنفسهم) راديكاليين، فيه فرط للعقد الاجتماعي القائم وتشريع للأبواب أمام تغيير كبير، لن يتحقق في فرنسا بهدوء، ولا يريد السيد ساركوزي تحقيقه بتدرج بل بمبضع جراح. ولا يتوقف التحرر من العقد عند حد الموقف من الآخر المختلف، بل يتعلق أيضا بكل مناحي الحياة. لطالما فخر الفرنسيون بنموذجهم الخاص الذي يميزهم عن نمط الحياة الأميركي المثقل بالضحالة والعابد للمال. ولكنهم من ناحية أخرى معجبون في سريرتهم بالقدرة الأميركية على النجاح. فيأتي السيد ساركوزي ليطيح بهذا الازدواج وليقترح الانخراط في النهج الأميركي، حيث «يعمل الناس أكثر ليكسبوا مالا أكثر»، دون أن تحد من ذلك قوانين عمل وعقود، وحيث لا يشكل التواري خلف مظهر محتشم ماليا قيمة عليا. ففي فرنسا تقليد يحمل الأغنياء من أصحاب الثروات القديمة، وكذلك النبلاء، على تجنب الاستعراض. ولعل ذلك من مواريث الثورة الفرنسية التي اقتلعت النبالة تماما، ثم أرست تباعا نظاما يميل بقوة، رغم كل ما لحقه باستمرار من تخفيف، نحو مفهوم مساواتي، ويغرم بضرائب ثقيلة الثروات الكبرى والملكيات. لا يخفي السيد ساركوزي مناهضته لهذا النظام ونيته التخلص منه، بحجة معالجة الأزمة التي يعاني منها. وهذا بذاته مشروع في غاية الطموح، وهو في غاية العنف أيضا، لأنه يتصدى لبنيان كامل متشعب وشديد الرسوخ، ولطبقات اجتماعية واسعة تعتمد على التوازن الذي تمثله في حياتها تقديمات وضمانات الدولة الحمائية. ولكن، وقبل أن يبدأ السيد ساركوزي بمقارعته هذه غير المضمونة النتائج، والتي ستشهد صراعات مريرة يتهيأ لها الجميع، اختار الإعلان عن اللون كما يقول المثل الفرنسي، عبر الطريقة التي شاءها لتنظيم الاحتفال بفوزه مما له أهمية رمزية كبيرة: لقد تعشى وصحبه في مطعم يقع على الشانزيليزيه ولا يرتاده إلا الأثرياء الجدد، بل امضى ليلته في الفندق العائد لمطعم «فوكيتز» ذاك وليس في منزله القريب، ثم غادر بطائرة خاصة إلى إجازة قصيرة (كتلك التي يعيشها المليارديرات كما عنونت الصحف في اليوم التالي)، في ضيافة واحد من أثرى أثرياء فرنسا. لا يخفي الرجل إعجابه بشخصيات يتصدرها الرئيس الأميركي بوش، ولكن خصوصا رئيس الحكومة الايطالية السابق بيرلوسكوني. بل ثمة من يزعم انه يقلده، مفرنساً الشعبوية والسوقية التي ميزت الملياردير الايطالي، ومتناسيا ربما الهزيمة التي مني بها، والتي حملت اشتراكياً من تيار الوسط إلى السلطة التنفيذية، وزعيم الشيوعيين الطليان إلى رئاسة البرلمان ( كما أطاحت في اسبانيا بأزنار، صديق ساركوزي الآخر واتت برئيس الحكومة الاشتراكي زباتيرو). ولعله أيضا يتجاهل ما تشير إليه كل الدراسات المتوفرة لجهة مصير الرئيس بوش، الذي أصبح أقل الرؤساء شعبية في مجمل تاريخ الولايات المتحدة، ولكنه خصوصا الذي سيتسبب على الأرجح بخسارة حزبه للانتخابات الرئاسية المقبلة، بعد خسارة أغلبية الكونغرس في الانتخابات التي جرت منذ أشهر. ليس ذلك فحسب، مما قد يوضع على حساب تقلب الأمزجة ومصادفات اللحظة في صناديق الاقتراع. بل تشير دراسة إحصائية أخيرة نشرها المركز المرموقPew Research Center إلى بدء انحدار النظريات المحافظة والليبرالية الجديدة، حيث يطمح نصف الشعب الأميركي إلى «مزيد من الدولة»، وهو أمر غير مسبوق في تلك الأصقاع، ويعلن اقل بقليل من ثلاثة أرباعهم أن الضمان الصحي للجميع هو من مسؤولية الحكومة الفيدرالية، إي من السياسات العليا. ويرى المحللون أن هذا الاتجاه يؤذن ببدء انتهاء «الثورة المحافظة». فهل قدر فرنسا، المأزومة ولا شك على كافة الصعد، أن تسلك طريقا مجربا ومنتكسا، لم يعد يقوى على الدفاع عنه مهندسوه الأصليون ومنظروه هم أنفسهم؟ أليس ذلك فواتا زمنيا ما بعده فوات، وقلة عقلانية وواقعية، بينما يدعي السيد ساركوزي وتياره إنهم أنما جاؤوا لردم الفوات وتصحيح التعلق بالأوهام؟ (*) كاتبة وأكاديمية لبنانية مقيمة في باريس (المصدر: ملحق « تراث » صحيفة « الحياة » (يومية – لندن) الصادرة يوم 13 ماي 2007)
… عن التيارات الإسلامية والعمال: توجهات جديدة؟
وليد محمود عبد الناصر إذا كانت الأيام القليلة الماضية قد شهدت احتفالات عبر العالم بعيد العمال، ربما باستثناء الولايات المتحدة الأميركية التي تنفرد بالاحتفال بهذه المناسبة في أيلول (سبتمبر) من كل عام، فإن الفترة الماضية شهدت بدورها اتجاهاً لافتاً للنظر وجديراً بالدراسة والرصد، إذ لاحظنا فيها اهتماماً فوق العادة من جانب العديد من التيارات الإسلامية في الدول العربية بقضايا الطبقة العاملة في تلك الدول. والأمر لافت للنظر لأنه عكس توجهاً جديداً لدى التيارات الإسلامية في المنطقة العربية، وهى تيارات كانت تقليدياً ترفض الحديث عن مطالب فئوية للعمال وترى في الحديث عن «نضالات نقابية» للطبقة العاملة العربية ترديداً لشعارات شيوعية و»تفتيتاً لوحدة الأمة الإسلامية» على أسس طبقية «مستوردة» من الغرب بمعناه الحضاري العام لدى تلك التيارات، أى الغرب الرأسمالي والشرق الشيوعي السابق معاً. وهناك العديد من الأمثلة التاريخية التى يمكن الإشارة إليها في هذا الإطار، وذلك في عدد من الدول العربية والإسلامية، منها على سبيل المثال لا الحصر، موقف جماعة الإخوان المسلمين في مصر المناهض للجان الوطنية للطلبة والعمال في أعقاب الحرب العالمية الثانية، ثم معارضة الجماعات الإسلامية في الجامعات المصرية لجهود إحياء تلك اللجان في عهد الرئيس الراحل السادات في سبعينات القرن العشرين. ومثال آخر يحضرنا في العالم العربي هو الخاص بجهود حركة «المحرومين» ثم حركة «أمل» وحزب الله في لبنان لتجميع الشيعة في إطار واحد يبعد قطاعات من شيعة لبنان المنتمين للطبقة العاملة عن انتمائهم لفئات اليسار اللبناني وللحركة النقابية العمالية اللبنانية، وهو الأمر الذى كان غالباً لدى فقراء الشيعة في لبنان حتى منتصف السبعينات من القرن العشرين. والمثال الثالث الذى نشير إليه هنا هو سعي تيارات إسلامية يمنية – خاصة عقب الوحدة اليمنية عام 1990 – إلى تحويل الوعي الطبقي لدى العمال في اليمن، خاصة في القسم الجنوبي منه، بعيداً عن انتماءاتهم الطبقية والسياسية التقليدية لليسار إلى فرز جديد على أساس ديني أو مذهبي. وهناك أيضاً خارج العالم العربي ولكن في دولة إسلامية مهمة، مثال مسعى الحزب الجمهوري الإسلامي الذي كان موجوداً وحاكماً في إيران في زمن آية الله الخمينى للتخلص من المجالس العمالية التى تأسست خلال وعقب الثورة الإيرانية لعام 1979 والتي كان يسيطر على معظمها حينذاك تنظيمات يسارية علمانية مثل «فدائيي خلق» وحزب تودة الشيوعي أو تنظيمات يسارية إسلامية مثل «مجاهدي خلق». لكن الشهور الماضية شهدت تحركات ومواقف في اتجاه مختلف من جانب العديد من التيارات الإسلامية. فوجدنا التيارات الإسلامية في مصر – وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمين (المحظورة رسمياً) – تناهض بقوة عملية الخصخصة للقطاع العام المصري، وتؤيد اعتصامات وإضرابات كانت تلك التيارات، حتى الماضي القريب، تراها مخلة بالاستقرار وضارة بمصالح الأمة، بل باتت تلك التيارات تشكك في شرعية النقابات العمالية الرسمية وتتبنى إنشاء نقابات موازية لها ومستقلة عنها. وانعكست هذه المواقف في تصريحات لنواب محسوبين على تلك التيارات في مجلس الشعب المصري. وقبل ذلك كان إعلان حزب الله في لبنان عن تضامنه مع مواقف الحركة العمالية في لبنان المعترضة على الخصخصة هناك من قبل الحكومة الحالية والمطالبة بحقوق وضمانات للطبقة العاملة اللبنانية. وهناك أمثلة أخرى مماثلة أو مشابهة يمكن الإشارة إليها في هذا السياق حدثت من جانب تيارات إسلامية في الأردن والمغرب وغيرهما من دول المنطقة. ولكن لماذا جاءت هذه التحولات؟ وهل هي نتيجة مراجعات وتحولات فكرية حقيقية وعميقة مرت بها قناعات تلك التيارات الإسلامية؟ أم هي في الواقع ممارسة لتكتيك سياسي مرحلي يهدف إلى تحقيق مكاسب سياسية وقتية من خلال استغلال قضايا ساخنة وتوظيفها لتوسيع القاعدة الشعبية لتلك التيارات، خاصة في صفوف الطبقة العاملة؟ أياً كان السبب أو الأسباب، فإن هناك أكثر من عامل يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند تحليل وتقييم تلك التوجهات الجديدة نسبياً في إستراتيجية التيارات الإسلامية في المنطقة العربية في ظل تراكمات ممتدة زمنياً. وأول هذه العوامل الفراغ النسبي الذي أوجده تراجع تواجد اليسار العربي وانحسار نفوذ التيارات القومية والناصرية العربية، خاصة في صفوف الطبقة العاملة العربية، وهو فراغ بدأت التيارات الإسلامية الالتفات إليه والسعي لملئه ولو بشكل تدريجي أو جزئي منذ سنوات. أما العامل الثاني فيتعلق بحالة الاحتقان – الطبيعية والمتوقعة بطبيعة الحال – التي أوجدتها سياسات الخصخصة التي تُتبع على نطاق واسع في عدد ليس بالقليل من الدول العربية، في إطار حزمة الإصلاحات الاقتصادية المتبعة حالياً، في صفوف الطبقة العاملة التي ترى في موجة الخصخصة تلك افتئاتاً على حقوقها، كما تود أن تستغلها لتستقل بالحركة العمالية عن تأثير الحكومات. وفي هذه الأجواء انتهزت التيارات الإسلامية الفرصة لتوظيف حالة الاحتقان تلك لصالحها من خلال كسب أرضية على حساب الحكومات من جهة، ومن خلال إيجاد ساحة جديدة لإجراء اختبارات قوة بينها وبين الحكومات من جهة أخرى. أما العامل الثالث فهو إدراك بعض التيارات الإسلامية أن الاعتماد على الفئات الاجتماعية الوسطى ممن يسمون بـ «أصحاب الياقات البيضاء» لا يوفر حماية شعبية لازمة لتلك التيارات من تشديد الحكومات القبضة عليها، وبالتالي ربما كمن البديل في «أصحاب الياقات الزرقاء» الأكثر استعداداً للنزول إلى الشوارع والاعتصام والإضراب لتحقيق مطالبهم. وبذا قد تتبنى تلك التيارات مطالب العمال، حتى ولو مرحلياً، لكسب دعمهم لها وتحقيق اختراق في صفوفهم. أما العامل الرابع والأخير الذي يتعين أخذه في الحسبان فهو ذلك المتعلق بانتشار الثقافة الدينية التقليدية في صفوف الطبقة العاملة العربية، ربما في العقدين أو الثلاثة عقود الماضية، مما ساعد إلى درجة ما في توجيه التيارات الإسلامية إلى لعب ورقة المطالب الفئوية والنقابية للعمال في صراع تلك التيارات مع الحكومات من منطلق وحدة الخصم، ولو اختلفت الأولويات والتوجهات على المدى المتوسط أو البعيد بين التيارات الإسلامية والحركات العمالية. (المصدر: ملحق « تراث » صحيفة « الحياة » (يومية – لندن) الصادرة يوم 13 ماي 2007)