« الحقل النقابي والمهني يجب أن يختص بالمشمولات المناطة بعهدته » ـ ثلاثة أشهر تمر اليوم منذ ثورة الكرامة التي اهتز لوقعها العالم في الرابع عشر من جانفي الماضي وهي بحساب الدول الراقية التي تمنح الحكومات الجديدة تسعين يوما مهلة يمكن بمقتضاها مراجعة أبرز ما تحقق خلال هذه المرحلة الانتقالية من الحكم الاستبدادي الى النظام الديموقراطي التعددي لاستقراء المشهد الراهن في تونس وما يواجهه من تحديات وعراقيل قبل الوصول الى شط الأمان… « الصباح » التقت السيد أحمد نجيب الشابي المحامي والمعارض السابق ووزير التنمية المستقيل في حكومة الغنوشي مؤسس الحزب التقدمي الديموقراطي، في المكتب الجديد الواقع في قلب العاصمة والمطل على شارع بورقيبة حيث يستعد فريقه لاطلاق حملته الانتخابية، وكان اللقاء لرصد مختلف الرهانات التي تنتظر الحكومة الانتقالية الراهنة في انتظار موعد الاستحقاق الانتخابي لتشكيل المجلس التأسيسي انطلاقا من تجربة الشابي خلال خمس وأربعين يوما في صلب أول حكومة تتشكل بعد سقوط النظام السابق ثم كمراقب للاحداث من خارج الحكومة وفيما يلي نص الحديث. حوار آسيا العتروس ثلاثة أشهر تمر اليوم على ثورة الرابع عشر من جانفي فالى أين يتجه المشهد في تونس وكيف تنظرون الى الحصاد السياسي حتى هذه المرحلة عندما كنتم طرفا داخل الحكومة ثم من خارج الحكومة؟ في اعتقادي أن الحصاد ايجابي ومشرف والاجراءات السياسية التي وقع اتخاذها والتي من شأنها ان تؤدي الى الانتقال السلمي عديدة ولا فائدة من سردها والحقيقة أنه لم يكن بالامكان القيام بأكثر مما كان بما في ذلك تتبع المحاكمات لاتباع النظام السابق وخلال خمس وأربعين يوما لم يكن بالامكان تحقيق أكثر مما تحقق. كانت النية صادقة وهي الحفاظ على الدولة والفصل بين الهمجية وبين القانون،في اعتقادي أن الشعب التونسي لم يتكلم بعد والجميع يتكلم نيابة عنه. الان وعندما نتحدث عن حكومة السيد باجي قايد السبسي هناك نجاحات ايضا وهي نجاحات نسبية تحققت في ثلاثة ميادين سياسية وأمنية واجتماعية تمثلت في التهدئة السياسية والاتفاق الحاصل مع اتحاد الشغل والعناصر السياسية وهو ما مكن لجنة الاصلاح السياسي التي يتراسها السيد عياض بن عاشور من التقدم على هذه المستويات الثلاثة السياسية والاجتماعية والامنية. -تحديد وابقاء موعد الانتخابات في 24 جويلية. -المصادقة على الهيئة العليا للانتخابات -المصادقة على قانون الانتخابات. اجتماعيا لا يزال التوتر صفة من صفات الوضع الحالي لكن الملاحظ ان هذا الوضع هدأ نسبيا بعد تولي السيد قايد السبسي. على المستوى الامني هناك تحسن ولكن لا يمكن القول أن الامن عاد الى سالف عهده توجد عناصر تحسب لحكومة قايد السبسي في هذه الفترة القصيرة،و في اعتقادي أنه من الصعب انجاز أكثر من هذا على الاقل في هذه المرحلة. نحن نعيش مرحلة ثورية غير عادية واذا واصلنا على هذا النسق سنصل الموعد الانتخابي وسيتمكن التونسي من كل الوسائل من حرية التنظيم وتكافؤ الفرص ووجود قانون انتخابي يعزز دور الاحزاب للمشاركة مشاركة حرة. طبعا التفاؤل يظل نسبيا والرهان كله يوم 24 جويلية وما سيختاره الشعب التونسي وما اذا كان سيختار الحفاظ على النمط الحداثي والديموقراطية واعادة الثقة الى المستثمرين والحفاظ على الوحدة الاجتماعية أو التحول الى مرحلة غامضة والانزلاق الى نمط اخر من المجتمع قد يعمق الازمة على مختلف الاصعدة ويخلق التوترات ويعمق أزمة الثقة والضبابية حول المستقبل.وأخشى ما أخشاه أن نقع بعد ذلك في السيناريو الاسوأ الذي قد يدفعنا الى الترحم على أيام العهد السابق هذا ما لا نريده وما لا يجب أن يحدث ولكنه أمر يمكن أن يصبح واردا.و المهم الان أن يكون الرهان على نجاح المرحلة الانتقالية ولاشيء غير ذلك. و كيف يمكن تفسير هذه الطفرة في الاحزاب السياسية وهل نحن أمام ظاهرة عادية أم ان الامر له اسباب اخرى ؟ هي ظاهرة عادية في كل المراحل الانتقالية من الاستبداد الى الديموقراطية الانتخابات ستصفي العدد هناك عدد من الاحزاب ستكون قادرة على المنافسة ولكن الاحزاب الصغيرة لن يكون أمامها ما يكفي من الوقت لتنتشر وتكون قاعدة شعبية لها حتى لو تم تمديد الانتخابات بثلاثة أشهر.البلاد لا تحتمل المزيد من الضبابية وعدم الاستقرار،اقتصادنا اقتصاد سوق قائم على ثقة المستثمر وعلى الطلب الخارجي وأذا لم يعد المستثمر الخارجي يجد في تونس مجالا للربح فانه سيتوجه الى دول أخرى وقد بدأ هذا يحدث وكل تأخير سيكوم مضرا بالوطن وغير مفيد للاحزاب.ثلاثة أشهر هي فترة وجيزة ولكن على الجميع بذل كل الجهود للاستفادة من الوضع الجديد. من خلال تجربتك الخاصة من داخل الحكومة ما هي الاخطاء التي وجب تفاديها ؟ لا أعتقد أنه اتخذت اجراءات خاطئة في مسار الانتقال الديموقراطي ولكن هناك مسائل تم التعامل معها بشكل اعتباطي كما هو الحال في حل الحزب الحاكم كذلك الغاء الدستور والتخلي عن التمشي الدستوري الذي كان يقتضي اختيار رئيس للجمهورية كان سيتم من ضمن الشخصيات المعروفة في دائرة وطنية والاختيار كان سيكون شخصيا. تقولون هذا الكلام من منطلق شخصي بعد سحب البساط أمامكم في الترشح للرئاسية؟ تفسير هذا الامر بأمور شخصية دلالة على ضيق الافق والمسألة تحتاج الى توضيح الطموح مشروع ولكن الحكم النهائي للمواطن والثقة التي سيضعها الشعب في شخص من الاشخاص ليس للموضوع أي بعد شخصي، نعم كان يمكن أن أكون أحد المترشحين ولم أتردد في ترك الحقيبة الوزارية وهذا العمل فيه بعد حزبي ورهان وطني أنا في خدمة حزبي وأسعى لخدمة الوطن.الدفاع عن النموذج التونسي الحديث خيار وقد كنا نقول هذا الكلام خلال النظام السابق ومشكلتنا مع نظام الحكم وليس مع النمودج التونسي. و لكن ما يعاب على نجيب الشابي من جانب الكثيرين أنه بمجرد مغادرته الحكومة اتجه الى انتقاد رئيس الحكومة السابق محمد الغنوشي وحمله مسؤولية الانهيار الحاصل ؟ بالعكس فالمصلحة الشخصية كانت تقتضي البقاء في المقعد الوزاري الوثير. هل هو فعلا وثير؟ أبدا لقد اكتشفت أن السياسة متعبة في المعارضة او في الحكم.لم اخرج من الحكومة من باب ايثار المصلحة الشخصية حياتي كلها كانت متجردة من اثارة المصلحة الخارجية لقد كان يمكن أن أصل الى تحقيق مارب أخرى ولكن هذا لم يكن هدفي مسيرتي عرفت السجن والمنفى والاضراب عن الطعام ومنذ الصغر لم تكن السلطة تستهوني،لم أحمل الغنوشي مسؤولية الاخفاق فقط عبت على الحكومة ضعف المبادرة السياسية وعدم احتلال الركح السياسي والظهور بمظهر الضعيف الذي يتراجع تحت الضغط مما ساهم في تغذية المعارضة لتلك الحكومة نعم اعتبرت أن في القيادة السياسية ضعفا ولكن كنت ولا أزال أشيد بشخص السيد محمد الغنوشي الذي يجمع بين الكفاءة والاخلاص والوطنية وقد رأيت فيه ذلك عندما كان يمثل تونس في الخارج ولمحت نظرة الاعجاب والاحترام له ولفريقه وشخصيا شرفني أني انتميت لفريقه الذي ضم كفاءات عالية ينتمون للمجتمع المدني ولممثلي واطارات الدولة والحركات السياسية المعارضة لقد كان لهذه التجربة حصاد ايجابي ولا أتنكر لهذه التجربة.كل هذا لم يمنعني من القول من وجود ضعف في القيادة السياسية وهذا ما يفسر سقوط حكومة الغنوشي وقعت مظاهرات جمعت في أقصى الحالات نحو خمسين الف متظاهر ولكم هذا العدد لا يمثل العشرة ملايين تونسي،اختارت حكومة الغنوشي عدم مواجهة الخصوم. اختار الحزب الديموقراطي التقدمي في مرحلة من المراحل التحالف مع قوى مختلفة بينها النهضة فهل أن هذا التحالف يبقى قائما اليوم ؟ بالتأكيد لا،هذا التحالف قام على أساس ثلاث مظاهر وهي حرية التنظيم والتغيـير والعفو العام وهذه الاهداف قد طواها الزمن والتحالف تفكك منذ 2008 وبعد اطلاق سراح المساجين السياسيين تفرقت مكوناتها في اتجاهات مختلفة ولم تعد الحركة للالتقاء عندما طرحت قضية التمديد والتوريث وقد كنا وحيدين في انتخابات 2009 في تلك المعركة.صدمت بموقف النهضة بعد الثورة.مساهمتهم كانت ضعيفة في الثورة وقد كنت التمس لهم العذر في الماضي ولكن كنت انتظر موقفا ايجابيا في المرحلة الانتفالية باعتبار أن حكومة الغنوشي أعادت لهم اعتبارهم كأي طرف سياسي آخر وكنت أنتظر أن يكون موقفهم المساعدة على أن يسود الانسجام بين النخبـــة وان نصل الى شاطئ السلام ولكن رأيتهم يهملون على زعزعة الاستقرار السياســــي بالطعن في شرعيـــة الحكومـة واحتوائها على عناصر من العهد القديم وقد كنت أعلم أنهم كانوا يسعون للمصالحة مع العهد السابق.والواضح أن برنامجهم يهدف للسيطرة على الدولة عن طريق تجييش المشاعر الدينية وتوظيف المساجد.أنا في منافسة معهم رهانها الحفاظ على المجتمع التونسي وتعزيز الديموقراطية. بين النهضة وبين بين الحزب الحاكم سابقا أيهما أكثر تأثيرا على خيارات المجتمع وعلى المرحلة الانتقالية ؟ النظام السابق نظام حكم فردي استبدادي ولي وانتهى ولا أتصور أن تعود تونس الى هذا النظام.الحزب الدستوري حقيقة ثقافية واجتماعية ولا أعتقد أن القضاء هو الطرف الذي يمكن أن يتولى مثل هذا الملف،اذا كان هناك من اقترفوا جرائم ازاء الشعب أو تورطوا في الفساد فقد وجب مساءلتهم أمام القضاء والعدالة.لكن الظاهرة السياسية تعالج سياسيا.و كما أني كنت ضد اجتثاث الاسلاميين فأنا ضد اجتثاث الحزب السابق وعلى الشعب أن يختار وأن يقرر مصيرهم من خلف الخلوة ولكن ليس للسلطة التنفيذية أو القضائية أن تحل محل القضاء الا اذا كانت هناك جرائم.و القضاء لا يقضي في أسبوع أو من دون محامين وليست هذه تونس التي أحلم بها،تونس التي أحلم بها تونس القانون وعلى الشعب أن يعطي مختلف المسائل الحجم الذي تستحق.و من يخشى صندوق الاقتراع لا يثق بالشعب وأنا لي ثقة كبيرة في هذا الشعب،التجارب التونسية التي كان فيها الحكم للحديد والنار يجب أن تعلمنا سيادة القانون والشعب والحرية للجميع. و ماذا عن دور الاتحاد التونسي للشغل حتى الان ؟ لعب الاتحاد دورا أساسيا الفراغ السياسي الذي ساد طوال خمسين عاما بوأه لمثل هذه الادوار اختار الاتحاد عدم المشاركة في حكومة الغنوشي ثم اختار العمل على اسقاطها باسناد الحركات المعارضة لها وأبرم اتفاقا سياسيا مع الحكومة الحاليـــة،و هذه الادوار مرشحة الى أن تزول باعتبار أن العمل السياسي مفتوح بمعنى أن الحقل النقابي والمهني يجب ان يختص بالمشمولات المناطة بعهدته والدفاع عن حقوق الطبقات الشغيلة وذلك من القضايا المهنية. من خلال تجربتك في الحكومة هل اطلعت على حقيقة ما جرى في الرابع عشر من جانفي وملابسات هروب الرئيس المخلوع الم يحدث أن وقعت مناقشة الامر مع رئيس الحكومة السابق؟ ابدا،والى حد اليوم أجهل تماما ما جرى يوم 14 جانفي الثابت أن بن علي فقد السلطة وغادر البلاد في ظروف لا يزال يكتنفها الغموض وفي اعتقادي أنه من حق الشعب أن يعرف ما حدث. هل تعتقد أنه بالامكان جلب الرئيس المخلوع ومحاكمته كما هو الحال في مصر ؟ طبيعتي التفاؤل وأتطلع الى المستقبل ولا أريد النظر الى الماضي لا أعتقد أن هناك عقاب أشد مما هو فيه اليوم ولا يمكن أن يكون الانسان خاليا من الاحساس والمشاعر. طيب ما الذي حدث بشأن قناة حنبعل وقد كنت من أعلن عودة بث هذه القناة بعد أن صدر خبر يتهم صاحبها بالخيانة العظمى ؟ شخصيا لا أعرف وأجهل تماما ما حدث وقد كنت في زيارة عائلية عندما علمت بقطع بث القناة وقد اعتبرت أن الامر غير معقول بالمرة.انتقلت الى مقر القناة ولم أكن أعرف مقرها بناء على طلب من رئيس الحكومة الذي يبدو أنه فوجئ بدوره بالامر تماما كما كنت على غير علم بقرار حل الحزب. (المصدر: جريدة « الصباح » (يومية – تونس) الصادرة يوم 14 أفريل 2011)
حاوره عادل الثابتي
يُجمع عديد المتابعين على أن ثورة الكرامة والعدالة الاجتماعية لا تكمن جذورها في السنوات الأخيرة من حكم الدكتاتور بن علي بل لها جذور عميقة جدا وتعكس اختلالات نجد بذورها الأولى في الخمسينات من القرن الماضي. ولفهم هذه الأبعاد حاورنا المؤرخ حسين رؤوف حمزة المختص في تاريخ الحركة الوطنية وخاصة أبعاده الانتربولوجية، فالمؤرخ حسين رؤوف حمزة في كل الدراسات التي نشرها، لم يختزل تاريخ الحركة الوطنية زمن الاستعمار أو في فترة ما بعد الاستقلال في عامل وحيد كما ذهب إلى ذلك عدّة مختصين بل اعتبر أن الأحداث التاريخية هي خلاصة تظافر عدة عوامل منها الآني المباشر ومنها ما نجد صداه في « المدى الطويل » حسب عبارة فرناند بروديل. وفي هذا الجزء الأول من الحوار سنقتصر على خلفيات ثورة الكرامة وتفكيك القوى المناهضة لها ومحاولة استشراف المشهد السياسي التونسي المستقبلي.
1 – الأستاذ رؤوف، كيف ترون الأسباب العميقة لثورة الكرامة والعدالة الاجتماعية؟
بالنسبة إلى الأسباب العميقة أقول إن اللعبة لعبت في خريف شتاء 1955/1956 في حدثين أساسيين. و هذه الثورة تكمن أهميتها في أنها اختزلت بشكل كامل نصف قرن من تاريخ تونس المستقلة وكانت بمثابة الحدث المرتقب بالنسبة لمن تابع ورافق تاريخ البلاد على امتداد خمسين سنة. ولئن كانت هذه الأمور لا تُرَى بوضوح فقد كانت بمثابة البركان الذي يشتغل قبل الانفجار.
إن السبب الرئيسي المؤسس لهذه الأحداث ليست فقط الأسباب الاقتصادية والاجتماعية بل هناك أسباب وجودية تحيل إلى الذاكرة والمخيال وأشياء عديدة أخرى في صميم ضمير التونسي، وهذا يحيل إلى فترة مأساوية في تاريخ تونس، فترة 1955/1956 . فخلال هذه الفترة جدّ حدثان رئيسيان لا يمكن التغاضي عنهما لأنهما بشكل أو بآخر سيهيكلان مجريات تاريخ تونس والعقود اللاحقة. فما هما هذان الحدثان اللذان وقعا في نفس الفترة ؟
وقع الحدث الأول عندما طُلب من الفلاقة تسليم السلاح والرجوع إلى المنازل، باعتبار أنّ مهمتهم انتهت وباعتبار أنهم ليسوا من ذوي الشأن في هذا الموضوع. ونحن نعلم أن هؤلاء المقاومين ينتمون إلى هذه المناطق الداخلية. وأحيانا تمّ الأمر بشكل تعسفي رغم منح بعض الامتيازات للبعض منهم، وهذا خلّف لديهم مرارة. ومن شاهد على شاشى إحدى القنوات التلفزية ذلك التونسي بعد ثلاثة أيام من الثورة يتحدث عن تلك المناطق يكتشف أن لدى أهلها مثل سكان المزونة والرقاب حنقًا كبيرًا. وأنا كمؤرخ فوجئت بتفجّر الذاكرة باعتبار أن هذه الجهات اضطلعت بدور كبير في ثورة 1952/1954. الذاكرة تفجّرت بشكل غير مرتقب لأن الشرخ ما زال قائما. والمعاملة كانت غريبة للثوار، والثوار لم يكونوا سياسيين ولكن هذا لا ينفي أنه كان بإمكانهم أخذ مسؤوليات، إلا أنّه تمّ إبعادهم وإقصاؤهم ونعتهم بجميع النعوت مثل أجلاف وغيرها، ووقع الحديث عن عجزهم عن تسيير أبسط الأمور و تم تقديمهم على أن غايتهم مادية بحتة.. وكلّ هذه النعوت كانت شائعة في الستينات خاصة.
أنا كتبت مقالا عن أغنية الفلاق المهزوم أشرت فيه إلى ثلاث لحظات عاشها هذا المقاوم :
1 – اللحظة السعيدة: عندما كان يُنظر له كبطل ويُشرّف ويُنقل من قرية إلى قرية ومن مدينة إلى مدينة…. 2 – زمن الشك: تمثل في عدم الاكتراث بهؤلاء الثوار وبدأ هؤلاء يشعرون بالألم، فلم تعد لهم مكانة وأصبحوا يتألمون 3 – الزمن الملعون le temps maudit: تمّ فيه تقديم الفلاقة في شكل مهزلة وكأشخاص غير جديين وطفيليين، ونجد هذا أحيانا في الأدب والإنتاجات الثقافية التونسية .
لقد ساهمت مع الأستاذ عدنان منصر خلال التسعينات في دراسة هذا الموضوع فسافرنا إلى الجنوب وإلى هذه المداشر كالحامة والرقاب ووجدنا أن الشعور بالإقصاء كان قويا. إنها مناطق بعدما اضطلعت بدورها في المقاومة لُفِظت من الجسد الوطني وأصبح يُنظر إليها كفروع أو هوامش succursales . ودخل زمن الضياع و »الحقرة » و »قطاع 08″ وهذا الشعور مهمّ جدا ونجد صداه لدى هؤلاء الناس ونجد صداه لدى هؤلاء الشباب. سمعت امرأة عجوزًا تتحدث عن إهمال مقبرة المزونة التي تؤوي فيما تؤوي رفاة شهداء مقاومة الاستعمار، هذه المنطقة التي قدّمت عديد الشهداء، وهذا خلّف أمورا خطيرة جدّا لدى هؤلاء الشباب. وهذا لم ينقرض لا مع بورقيبة ولا مع بن علي بل استفحل في السبعينات. فبعد فترة إسناد الامتيازات لمناضلين حتى من الشمال (محمد الحبيب)… فإنّ هؤلاء المناضلين عندما تولوا مسؤوليات في الجنوب والوسط عرفوا كيف يتعاملون مع هؤلاء، لكن هذا الجيل أُبعِد عن الساحة وجاء الجيل المصيبة، الجيل الذي رجع من الجامعات الفرنسية وهو جيل ضال محشوا بالشهادات ولم يكن له حسٌّ وطني رغم أنهم عايشوا آباءهم بل كانوا يعتبرون أنفسهم، بمقتضى ثقافتهم، أرفع من هؤلاء الناس ولم يعودوا معنيين بهذه الأمور. وعندما تولوا المسؤولية بداية من السبعينات تعاملوا باستعلاء مع هؤلاء ونعتونهم بشتى النعوت التي تحدثنا عنها، لأنّ هذا شعورهم في غالب الحالات .هذه أسباب وجودية عميقة لأنّ الذاكرة تظهر مجدّدا ولا مجال للنسيان .
أما الحدث الثاني الذي عاشته البلاد فهو غلق جامع الزيتونة، ويهمنا هذا الحدث بشكل خاص نظرا لأهمية التعليم الزيتوني، فهو تعليم قاعدي وأساسي لأنّ جلّ أبناء هذه الجهات الداخلية يلتحقون بجامع الزيتونة منذ العشرينات. ونحن نعلم استقرار بعض الجاليات من الجنوب الشرقي ونفزاوة وسليانة في العاصمة. وكل هؤلاء يلتحقون بالتعليم الزيتوني لأنّ إمكانياتهم لا تسمح بالتعليم الصادقي.
هذا الحدث الثاني الذي تمّ بعد أيام من إبعاد الفلاقة هو الذي يطرح مشكلا آخر سنتعرض له لاحقا دون طرح فصل الدين عن الدولة، ودون طرح مسألة الشرعية الدينية والمؤسسة الدينية إذ هذا هو موضوع آخر. وحدث نفس الشيء مع الزيتونيين مثلما وقع مع الفلاقة أي محاولة الإقصاء والتقزيم والاستهتار والاستهزاء وأصبحوا محلّ سخرية واعتبارهم أناسا يفعلون أشياء مهينة- وهناك أدبيات كاملة في الخمسينات والستينات خاصة بالزواتنة، وهي روايات الغاية منها تشويه سمعة هؤلاء واعتبارهم من سفلة الناس دون اعتبار ما قدّموه من إضافة للفكر التونسي والفكر الإسلامي. كل هذا تمّ تغييبه وأصبح ينظر إليهم كأناس منبوذين خارج الزمن وخارج التاريخ، وبالتالي لم يعد لهم أي مكان في هذا البلد.
إنّ هذا هو ما تمَّ فعلاً بالنسبة للزيتونة وخلّف شروخا وجراحا كبيرة في نفوس ومشاعر الناس، لأنّ الزيتونيين كانوا من جميع العائلات، فكل عائلة لها ابن درس في الزيتونة.
وهذا أثّر في هذه المناطق، مناطق اندلاع الثورة، أكثر من غيرها من مناطق البلاد، ونفس الشيء فعلوه المسؤولون الذين زادوا في حدّة هذه المشاعر بالإقصاء. إن أخطر تهميش هو هذا التهميش الذي ينبني على معطيات وجودية تأخذ بعدا اجتماعيا بعد ذلك،وهذا يزيد في حدّتها. فوجئ بعض التونسيين بالأوضاع التي كانت عليها هذه المناطق، لكن الذين زاروا هذه المناطق قبل الأحداث يعلمون النقص الذي كانت عليه هذه المناطق، نقص الاستثمارات الحكومية وهذا واضح. وما أردت قوله هو أنّ هناك جملة عوامل أي تشكيلة أو مجموعة خلقت عقلية ناقمة. فالناس أصبحوا غرباء في بلادهم ومحلّ احتقار ولم يلقوا اعتبارا لتاريخهم، وحاضرهم يثبت هذا الواقع.
صحيح أن هناك بعض الاستثمارات في بعض الولايات لكن يبقى الأساس هو هذه المشاعر التي تغذّيها هذه الذاكرة والحاضر كان يذكر بها، وهناك علاقة بين الحاضر والماضي، فالماضي يحيل إلى الحاضر. 2 – كيف تفسرون انطلاق الثورة من جهتي سيدي بوزيد والقصرين؟ أية عوامل جعلت الثورة تنطلق من هاتين المنطقتين؟ هل هناك قابلية للانتفاض في هذه المناطق أكثر من الجهات الجهات الأخرى
معلوم أنّ هناك فضاءات قابلة للثورة والانتفاضة. وأحيلك إلى مقالي: .l’espace séditieuxوهناك تقاليد تاريخية. ونرجع أيضا الذاكرة والحكايات التي تنتقل من جيل إلى جيل. هناك نفسية معينة و شخصية معينة أقل قابلية للظلم والاستبداد والرضوخ، وهذا واضح سواء في الفضاء الريفي والقبلي أوالفضاء المديني. وهذه الفضاءات تشمل تونس المنتفضة séditieuse. وقد تميزت هذه الجهات بذلك منذ القرن الثامن عشر ، جهات تتصف بالقابلية للثورة وكان ذلك خاصة في القرن 19. و أنت تعرف ثورة بن غذاهم وثورات الجنوب الشرقي، وهذا أكيد ومرتبط بالسؤال الأوّل أي إنّ الذاكرة تغذّي الفكرة. وهذه الجهات كانت لها مكانة في محطات عديدة من تاريخ تونس سواء في مقاومة الظلم البايَوي( ظلم الباي) أو الاستعمار…
والذاكرة عميقة جدا في هذه المناطق. فعندما تذهب إلى الحامة يذكر الدغباجي وبن قمحة وبن سديرة وغيرهم من الأسماء التي يتداولها الناس، وهنا تكمن أهمية التراث الشفوي.
ابرازات
*هذه الثورة تكمن أهميتها في أنها اختزلت بشكل كامل نصف قرن من تاريخ تونس المستقلة وكانت بمثابة الحدث المرتقب بالنسبة لمن تابع ورافق تاريخ البلاد على امتداد خمسين سنة.
* إن السبب الرئيسي المؤسس لهذه الأحداث ليست فقط الأسباب الاقتصادية والاجتماعية بل هناك أسباب وجودية تحيل إلى الذاكرة والمخيال وأشياء عديدة أخرى في صميم ضمير التونسي، وهذا يحيل إلى فترة مأساوية في تاريخ تونس، فترة 1955/1956
** معلوم أنّ هناك فضاءات قابلة للثورة والانتفاضة. وأحيلك إلى مقالي: .l’espace séditieuxوهناك تقاليد تاريخية. ونرجع أيضا الذاكرة والحكايات التي تنتقل من جيل إلى جيل. هناك نفسية معينة وشخصية معينة أقل قابلية للظلم والاستبداد والرضوخ، وهذا واضح سواء في الفضاء الريفي والقبلي أو الفضاء المديني. وهذه الفضاءات تشمل تونس المنتفضة séditieuse.
3 – ما هي القوى الاجتماعية التي حركت فعليا الثورة؟ ما رأيك في القول بأهمية المهمشين في إحداث التغيير الاجتماعي؟ هاربرت ماركيز تحدث عن هذا- كيف ترى المسألة في الحالة التونسية؟
المهمشون طبعا، ولو أنّ البوعزيزي ليس مهمشا بالمعنى الكامل إذ قد كان له شغل، بعض هذه التسميات ربما تقلقني، و أعتقد أنّ ردّ فعل البوعزيزي يندرج ضمن الكرامة وهو شعور إنساني، ردّ فعل أمام عملية إهانة له وهذا أمر مهم.
نعم هم مهمّشون كأشخاص، أي الشباب العاطل عن العمل، خاصة في مناطق لا تتوفر فيها إمكانيات موازية للعمل. شباب عاطل عن العمل، وهو شباب ينتمي إلى مناطق مهمّشة، والبعد الجهوي هام جدا في هذه الأحداث لأنه مع الأسف بعد خمسين سنة من الاستقلال كنّا نظن غير ذلك. عندما نستحضر اللحمة الوطنية التي تشكّلت وكانت موجودة في ثورة 52 / 1955 نرى أنّها قرّبت بين الجهات لأنّ العديد من أهالي السواحل لجأوا إلى المناطق الداخلية والعديد من المقاومين نقلوا لأسباب نضالية وأمنية إلى الساحل و الوطن القبلي لحمايتهم، ربما يبدو الأمر غريبا، فالوحدة وجدت لكن قضي عليها.
أنا لدي صورة أحتفظ بها في البيت هي صورة وفد الأمة الذي ذهب إلى الباي وهو متكوّن من الشخصيات الممثلة لعديد المدن والقرى التونسية عند إعلان الدستور.
وهذه هذه الوحدة اندثرت وفعل الفاعلون كل ما في وسعهم بتصرفاتهم لخلق هذا النفور الذي أصبح اليوم، مع الأسف، واقعا ولا بدّ أن نعترف به، وهو ظاهرة تهدّد المجتمع التونسي واستفحلت منذ سنوات. ظاهرة الجهوية مسألة خطيرة ربما نواجهها في السنوات المقبلة، وأحداث قصر هلال تدل على هذا[مواجهات بين أولاد عيار المستقرين في المدينة منذ سنوات وأهالي قصر هلال الأصليين وقد وقعت في بداية شهر مارس 2011]. و لا بدّ من التأكيد والإلحاح على إحياء الذاكرة الوطنية : الوطن واللحمة الوطنية وفكرة الجمهورية وليس العدالة فقط بين الناس، بل بين الجهات لبناء اقتصاد البلاد ومستقبلها. وإذا لم تتوفر الوحدة الوطنية بالمفهوم الصحيح فنخشى أن تنقسم البلاد. إن العمل الذي تمّ لتقسيم البلاد خطير، لذا أكدت بشيء من الحدّة على دور المسؤولين الذين تولوا المسؤولية، وتحدثت عن جيل ما بعد الاستقلال. علاقة غالبية هؤلاء ربما غلبت عليها الامتيازات.
إنّ المسؤولين في الجهات في السبعينات والثمانينات لم يكن لهم الإحساس الوطني بل كانوا يتعاملون مع الجهات بقوالب وكليشيهات معهودة، وقد سمعت هذا من بعض المسؤولين وأساسا من زملائي عن تجارب قاموا بها في هذه المناطق، ورؤيتهم لهذه المناطق. وكنت أستغرب وأتساءل كيف لمسؤول أن يكون بمثل هذه العقلية . نحن نعاني وسنعاني، والنخب التونسية غرقت في هذا المجال. ربما قلَّت هذه الظاهرة في فترة وظهرت ديناميكية توحيدية زمن الكفاح، لكن مع الأسف بعد ذلك لم تقم النخب بهذا. وهذا تفجّر اليوم كالبركان الذي اشتغل لمدة خمسين سنة : عوامل غياب العدل بين الجهات والفوارق الجهوية وهذه السلوكات وهذا التفكير العقيم هو ما فجّر الثورة وفجّر كل المشاكل التي كانت مكتومة أي فجّرت المسكوت عنه.
في بعض الملتقيات التي تمّت في العقدين الأخيرين في فضاءات علمية كان هناك حديث في ملتقى حول بورقيبة، وسبق أن أشرت إلى إحياء الجهوية في الفكر البورقيبي ، فهو قد آمن بالوحدة في البداية ثم في السبعينات استغل النعرة الجهوية لأسباب سياسيوية على حساب البلاد. وزملاء بورقيبة كانوا مُلقّحين ضد هذا المرض، ولكن العديد من أتباعه لم يحتفظوا بالوطنية وأصبحوا جهويين. وبعض وزراء بورقيبة كانوا يتحدثون في الموضوع جهويا ويقرأون الأحداث جهويا. لقد كانت أحداث بداية السبعينات، عندما فوّت الحزب الدستوري فرصة تاريخية ، فرصة مؤتمر المنستير الذي يمثل منعرجًا شبيهًا بما جرى في تركيا في الخمسينات عندما أحدثت أقطاب، وكان هناك تنوع داخل التيار الكمالي. إنّ تطوّر هذا الحزب ، الحزب الاشتراكي الدستوري، تمّ من منطلقات جهوية أساسا ونعت البعض بأنهم جرابة وصفاقسية وتوانسة، ومن كل هذا كانت دواخل البلاد تابعة .
الجهوية انتشرت وأدى ذلك إلى اندثار مفهوم الوحدة الوطنية ودخلنا في تصفية الحسابات باسم الجهوية، لأنّ البعض رأى أنها أفضل طريق لتصفية الخصوم وانتشرت كانتشار النار في الهشيم على المستوى الوطني.
الجهوية اليوم هي أكبر خطر يهدّد البلاد، ولا تساعد على تجاوز المشاكل الاقتصادية والاجتماعية التي هي حرجة، وربما تزيد في امتداد هذه المشاعر وتزيد من تفاقم الأوضاع.
4- كيف ترون مسار هذه الثورة؟ وهل نحن بعيدون عن أية أخطار محدقة بها؟
بالنسبة للمسار لست مرتاحا، فهو مسار متذبذب تعيشه تونس بعد مهزلة حكومة محمّد الغنّوشي وما ساد من ألاعيب وأكاذيب ومحاولات للالتفاف والتطويق تحت ضغوط أو تدخلات لا نعلم إلى حدّ اليوم أبعادها ولا نعلم كل جوانبها. ولست مرتاحا بخصوص تشكيل الحكومة الأولى وحتى الثانية، وتجربة محمّد الغنوشي كانت فاشلة وبائسة. واستغربت كثيرا لِمَا حدث بعد استقالة محمّد الغنوشي، وكيف أنّ بعض الناس شكر الرجل على ما قدّمه وإن كان لا أحد يشكك في قدراته التسييرية، لكن يغضبني كثيرا القول إنه رجل عظيم. أي عظمة؟ هل مازال التونسيون لم يشعروا بعد أنّ زمن المماليك، الوزراء المخصيين، قد ولّى ولم يعد. لقد عجز الغنوشي قبل وبعد 14 جانفي، وهذا كان كان له تأثير على مسار البلاد. الغنوشي ليست له الجرأة كسياسي بأن يرفض، والسياسي الذي لا يفعل ذلك هو سياسي مخصي .
إنّ ما جرى من تسميات في الوزارات لإبهار الرأي العام بوزراء لهم ولاءان، ولاء لتونس وولاء لفرنسا، واستغربت كيف يحدث هذا في تونس، واستغربت أن تقع تسمية وزراء جاؤوا من فرنسا وادعاء قدرتهم على حلّ مشاكل البلاد. وأستغرب إبقاء الباجي قايد السبسي على هؤلاء. والولاء المزدوج كان يرفضه بورقيبة في مواقع السيادة. هناك قوانين منعت في الجيش ووزارة الخارجية أن يكون التونسي متزوجا بامرأة أجنبية .
إنّ الادعاء بأنّ ذلك هو مواجهة بلاد في حالة ثورة والأخطار الخارجية، ربما يندرج ضمن رب عذر أقبح من ذنب. فعندما توجد الإرادة السياسية يكون الرجل قادرا على تمرير كلمته ولا يقبل شروط دولة أجنبية. أمور كهذه كانت ممكنة في عهد الصادق باي ولكنها اليوم غير ممكنة وغير مقبولة إذا كان هناك حس وطني لدى التونسيين. ولكن هذا لا يعني عدم توظيف هؤلاء القادمين من الخارج في مواقع أخرى غير مواقع السيادة. والرأي العام لا بدّ أن يقول كلمته، فلا يمكن أن تكون ضابطا فرنسيا وضابطا تونسيا في نفس الوقت. وسمعت مؤخرًا أنّه تمت تسمية النوري الجويني مستشارا لدى الوزير الأوّل مما يدلّ على أنّه ليس هناك احترام للرأي العام بل هناك تلاعب بالرأي العام. 5- وماذا عن دخول بعض أحزاب المعارضة إلى الحكومة المُعيَّنة إثر 14 جانفي؟
هؤلاء لا يمثلون المعارضة، هم أحزاب خسروا لعب ورقة لديهم للاعتبارات السياسوية، وراهنوا على أمور، وأحسب ذلك عن قلة التجربة السياسية عكس ما يتصورون. وحسابات المجلس التأسيسي كحسابات التجار الصغار، فليس أكيدًا أنها ستتحقق لأنّ القانون الانتخابي أحدث عديد المفاجآت. ففي انتخابات فرنسا سنة 1951 وضعوا قانونا انتخابيا خاصّا يختلف عن قانون انتخابات فرنسا في 1945 – 1949. كان الشغل الشاغل للطبقة الحاكمة الفرنسية هو محاولة استبعاد الديغوليين فوضعوا قانونا معقدا صاغه كبار فقهاء القانون، وكانوا متأكدين من نجاح النظام لكنه أعطى عكس النتائج. وزاد من حدّة الضغط الديغولي، هذه الحسابات السياسية مخجلة لا تليق بالبلد. وهذه اللجنة التي كوّنت حدّدت لها مسؤولية واضحة هي تهيئة قانون انتخابي وهي تتكوّن من شخصيات حزبية وشخصيات وطنية- مثل عارضات الأزياء، الكل فيها يعتبر نفسه من نخبة البلاد – أسماء ليست لها علاقة بالقانون ولا القانون الانتخابي بينما شخصيات كالصادق بلعيد وقيس سعيد لهما كفاءة مبعدان. هل هذا معقول؟ كل هذا لإرضاء نرجسية أحد أعضاء اللجنة وهو غير مختص في القانون الدستوري، هذا فيه كثير من المحسوبية، وهذه أمور لا تبشر بخير.
أنا باركت وساندت تسمية الباجي قايد السبسي وكنت أودّ تسمية أحمد المستيري، وتوسّمت في السبسي الخير وإذا بي ألاحظ أنه دخل باب المزايدات والبيع والشراء واختزال تونس في مثلث قمرت المرسى المنار. هذا غير مقبول من رجل دولة تشبّع بالروح البورقيبية، وتونس لا يمكن أن تُختزل في نخبة مفتعلة نصّبت نفسها وصيّة على البلاد وثقافتها. 6 – هل هناك قوى تسعى إلى تهميش أصحاب الثورة؟
هذا حاصل منذ الأيام الأولى، ولو كانت هناك رغبة في احترام حق الشعب واحترام نقابيين مثل محمد شعبان في صفاقس وعدنان الحاجي… لتمّ تعيين بعض ممثلي الجهات هؤلاء وزراء. ففي وزارة الاستقلال هناك معلم، تمنيت لو تمّ ذلك ولو رمزيا. إنهم بعيدون كل البعد بل نواصل في نفس الخط ونعتبر أنّ تونس هي السواحل!!
أنا لا أعيب على بن علي ولا على الغنوشي أن يفكرا هكذا، ولكن أعيب ذلك على الباجي قايد السبسي، وهو من البورقبيين، والفكر البورقيبي فيه نقائص ولكن فيه احترام الشعب والوطن.
بورقيبة لم يكن في سنواته الأولى غير منفتح، بل تهمه تونس كلها، أما الآن فالقائمات أصبحت قائمات عائلات وكذلك الأمر في عالم الفن والشعر والمسرح، بينما شخصيات كالصادق بلعيد وأهل الاختصاص يُقصون بشكل كلي ومتواصلا. فما معنى هذا؟ هل هذا يبشّر بالخير؟
7– كيف ترون الجدل الدائر بين أفكار مثل العلمانية واللائكية والهوية العربية الإسلامية؟ وإلى ماذا يمكن أن يفضي مثل هذا الجدل؟
هذا مشكل يفتح على عديد الأبواب ويطرح قضية اليسار في تونس وتاريخه وثوابته ومقوماته، هذا مشكل. والمشكل الثاني هو مشكل القضية الإسلامية في تونس. وقبل كل شيء لا بدّ من التفاهم حول المصطلحات. هناك تداول مفاهيم لمصطلحات غريبة، و هناك خلط حول مصطلحات متشابهة لكن فيها فوارق مثل العلمانية و الدنيوية sécularisation : معناها فقط أنه في الحياة اليومية البشر في موقعه الاجتماعي لا يمكن أن يتعامل مع المشاكل اليومية بمنطق ديني بحت وحين يقع التباعد يقع دون تخالف، وهو مصطلح أنقلوسكسوني، ونحن نعيش هيمنة الفكر الفرنسي. ففي تونس sécularisation تعني laïcisme بينما في الموسوعة الأنفليزية مصطلح sécularisation يشكل تاريخا كاملا يعني أن الناس رغم تدينهم فإنهم يعتمدون في حياتهم اليومية طرقا للوصول إلى حلول لمشاكلهم دون العودة إلى النص الديني.
وهناك محاولات للخلط بين اللائكية scientisme والعلمية التي تعني التقدم وتقترب منها فكرة أنّ العلوم قادرة لوحدها على حلّ المشاكل، وهي تختلف عن العقلانية التي فيها فكرة أنّ الإنسان لا يمكن له حلّ كل المشاكل لأنّ هناك دائما هامشا من اللامعقول.
والعلمية scientisme تحيل إلى المادية التاريخية أي إن العلم له قدرة كافية على حل مشاكل للعالم.
الجمعيات اللائكية الأولى كانت تسمى الفكر الحرّ « libre pensée ». إنّ العلم يمكن أن يكون بديلا للدين وهو ما نظّر له أوغيست كونت Auguste conte وهذا قريب من اللائكية.
إنّ الطرح المُقدم الآن طرح مغلوط، الدين والدولة لما لا المجتمع والدولة، المجتمع مستقل عن الدولة وله هياكل اقتصادية و له مؤسسات ثقافية نقابية. اليوم نتحدّث عن فصل الدين عن الدولة وقضيّة المساجد وتسيسها مطروحة. بين الدولة وهؤلاء لا يوجد شيء، كانت هناك إدارة الشؤون الدينية وتتبع الوزارة الأولى، وكانت وزارة الإشراف ولم يكن في إمكانها فرض قرارها على المؤسسة الدينية المتمثلة في مجمع جامع الزيتونة.
القضاء الشرعي رفضته المؤسسة الدينية رغم أنّ الوزارة طالبت به زمن فرنسا. وكان هناك هامش للحرية.
اليوم عندما تريد تقنين وضع المساجد من المفروض أن توجد مؤسسة دينية لها شرعية- كيف تمكّن الآن إعادة المؤسسة الدينية بعد حلّها، سامح الله بورقيبة. اليوم هناك الدولة. والتقنين يعني تولي الدولة من جديد الدولة الشأن الديني. والناس يطالبون بالفصل بين الدين والدولة في حين أنّ المؤسسة الدينية خاضعة للدولة و اليوم ليس هناك مؤسسة دينية.
إنّ قضية الفصل بين الدين والدولة معقّدة وتحيل إلى عدّة مشاكل والنقاش لم يتبلور كما يجب.
إذا أردنا أن يكون المجتمع مدنيا فعلا فلنعمل حتى تكون مختلف مكوناته دينية ثقافية مؤسساتها بمثابة محاور. إنّ حذف الزيتونة كان له تأثير كبير على الساحة الدينية في تونس، وتونس تجنّبت المنزلقات التي عرفتها الجزائر لأن الزيتونة كان لها دور ترشيدي.
8 – ما هي القوى التي تشكّل خطورة على الثورة، خاصة وأن البعض يتحدث عن ضرورة سنّ « قانون عدم الجدارة الوطنية » (loi d’indignité nationale)؟ وكيف سيتشكّل المشهد السياسي المستقبلي؟
في خصوص التعامل مع القوى السياسية السابقة ومنع الدستوريين من العمل السياسي، أقول إنّ هناك مجموعة لا بدّ أن يتم إبعادها لأنها خالفت الدستور، وهم كل من ناشد بن علي للترشح لانتخابات 2014 الرئاسية وهم بذلك خالفوا القانون وكان بإمكانهم إعادة صياغة الدستور ولكن ليس لهم الحق بمطالبة بن علي بالترشح مخالفين نص الدستور.
والدائرة السياسية كانت هي نفسها الدائرة الإدارية، وهؤلاء وجب إبعادهم 5 سنوات، هذا بالإضافة إلى كل من ارتكب جرائم وسرقات من المسؤولين. وهناك أناس لم يكونوا يعملون مباشرة في دائرة الدولة وكانوا في الاتحاد التونسي للصناعة والتجارة والصناعات التقليدية ولم يتأكد أنهم ناشدوا و هم غير متقبّلين للتوجّه الحالي، ويُمكن أن يُكوِّنوا حزبا ويجب الحرص على إيجاد آلية لتمويل الحملة الانتخابية لأنّ هؤلاء سيرجعون عبر المال.
أنا لست مقتنعا أن هذا الشق قادر على لملمت صفوفه لأن عديد الطموحات الشخصية تشقّهم وتفاهمهم صعب وربما يحالون على أحزاب كانت تتعامل مع بن علي هذا على مستوى الزمن القصير 5 و6 سنوات. أما في الزمن الطويل فسترجع ثلاث قوى مهمّة في تونس لأنها تمثل الإرث الذاكرة:
-الاتحاد العام التونسي للشغل – الزيتونيون (الإسلاميون اليوم) الدستوريون (ليس التجمع الدستوري الديمقراطي)
وسيكونون من جيل اليوم وهم من الشباب وسيحاولون إحياء الفكر البورقيبي والوطني بمفهومه الشامل (الثعالبي الدستوري البورقيبي )وأتمنى ذلك وربما هذا حلم. هذا هو تاريخ تونس.
بعض هذه الأقطاب موجود ويَقوى وبعضها اندثر منذ 30 أو 20 سنة. وهي موجودة في مكان ما من ذاكرة الناس، لأن السياسة ذاكرة تخترق العائلات وغير مستبعد أن ترجع للساحة كما شاهدنا ذلك في بلدان شرق أوروبا.
هؤلاء سيعودون لأنّ هناك طلبًا اجتماعيًا كامنًا، لهذا قد يتشكل قطب رابع ماركسي، لا أرى كيف يمكن أن يتشكل. لأسباب تاريخية لا يوجد تيار ماركسي، فالحزب الشيوعي مستقبله وراءه لكن هناك حزب العمال الشيوعي التونسي. هل هذا الحزب سيكون قادرا على نحت هذا القطب الرابع؟ هناك أحزاب أقصى اليسار قد تنجح في التحوّل إلى قطب إذا ما حاول حمة الهمامي استيعاب الواقع وقام بثورته أما نجيب الشابي فإن مستقبله وراءه.
بالنسبة للتكتل الديمقراطي من أجل العمل والحريات ، أنا أصوّت له. وهو حزب قريب من الاتحاد العام التونسي للشغل، الذي هو منزل يجمع أفراد العائلة، وهو أقرب للعلاقة بين مصطفى بن جعفر والاتحاد وتتجاوز إلى قريبه الناصر بن جعفر الذي كان قطبا دستوريا في باب سويقة وممثلا في المكتب التنفيذي الجهوي بتونس على امتداد الفترة الاستعمارية.
إنّ فكرة بعث حزب عمّالي مع الإبقاء على الاتحاد العام التونسي للشغل هي فكرة حشاد في المؤتمر الخامس للاتحاد في 1951، فقد كان حشاد يرى المستقبل، وكان يعلم جيّدا أنّه في حالة انفراد الحزب الدستوري بالشأن الوطني فإنّ الاتحاد سيدفع الثمن، و أحمد بن صالح أخذ الفكرة سنة 1957 في إطار آخر وبمفاهيم أخرى.
إنّ فكرة الحزب العمالي فكرة جيّدة لو وجدت في الاتحاد قيادة رشيدة تتبنّاها، فالاتحاد يمثل قطبا يجمع تيارات ليبرالية اشتراكية وذات صبغة اجتماعية. وقد تجسِّد هذه الفكرة عامل تقارب مع فصائل أخرى، لكن الاتحاد له أسباب داخلية أجهلها تمنعه الآن من ذلك، هذه الصبغة غير ممكنة الآن. وهذه فكرة جيّدة لإيجاد قطبين، فالإسلاميون يمثلون 20 %أو 30 % من الناخبين، وهو حلّ جيد لتكريس مبدأ التداول على السلطة. و القطب العمالي بإمكانه استقطاب القوى اليسارية والليبرالية المسؤولية، وهذا جيد أيضا بالنسبة لخيار التداول على الحكم. مواطنون عدد 146 بتاريخ 13 أفريل 2011
بقلم المنذر صفر كاتب و ناشط حقوقي 14/04/ 20011 ان مواصلة الممارسات القمعية البوليسية والقضائية التي عهدناها عن النظام السابق/الحالي ما زالت ترهب المواطنين، وخاصة من بينهم الشباب الاحتجاجي الثوري، من دون ان تثير اي رد فعل من طرف الاحزاب ولا من طرف المجتمع المدني و حتي من طرف هيئة حماية الثورة ! الاعتقالات مازالت، والتعذيب مازال، و المحاكمات تشمل المتضاهرين وحتي صغار السن منهم. ان هذه الافتزازات التي لم تلقي الا التجاهل و غض الطرف من الجميع هي في الحقيقة خطر و تهديد لكل فرد منا و لمجتمعنا كله علي المدي القريب وعلي المدي البعيد. كلنا معرضون الآن لهذه الانتهاكات و كلنا معرضون كذلك لصمتنا البعض علي البعض. ولكن هذا الخطر ينبئنا علي مخاطر اكبر لمستقبل المسار السياسي الحالي: كيف يمكن ان نستثيق هذا النظام في وعده باحترام اللّعبة الانتخابية التي فرضها علي الحركة الثورية و في صدق نيته في التخلي عن الحكم لصالح من تفرزه هذه الانتخابية؟
كيف يمكن ان نصدق هذا النظام وهو يواصل عبَثَه بالشعب و تعنيفه و ظلمه في محاكمات جائرة معتادة من قدم الزمن؟
كيف يمكن ان نصدق هذا النظام وهو يستهدف الشباب الثوري و يعتقله و يعذبه ويحاكمه بنفس المحاكمات الجائرة؟
فكيف يمكن ان نصدق هذا النظام في وعده بالتخلي عن الحكم وهو لم يتب عن وحشيته القديمة، بل يواصل في ممارستها كما لو شيئ لم يحدث في البلاد، بل وكما انه يقول للجميع و علي الملاء : تعيو وتقبضوا، آشكون فيكم البريمة؟
نعم ان رسالته واضحة: انتخابات او لا، انَا هو صاحب القرار لاني صاحب العصى التي اواصل الآن ضربكم و تخويفكم بها، فهل منكم من يتكلم ؟ فلم يتكلم احد.
تعددت الأحزاب و الحزب واحد .. بالإندماج تعالت الأصوات و الصوت واحد .. بالإحتجاج لا نريد هذا و لا هذا فكلهم لقطاء لقصرِ قرطاج ألإصلاح غايتهم أم محاجرهم على كرسي لفّه الإعوجاج عجبت و لا يعجبون .. سخرت و يضحكون .. أخيرا تمخض رحمك الطيب بعد عقم طويل وجع و طلق أوجع من الوجع نفسه عن خمسين حزبا توأما .. . أدفعة واحدة أصبح لنا خمسون أبا و قد كنا بالأمس القريب أشبه بالأيتام على مأدبة اللئام .. أدفعة واحدة مدت الأيادي إلى الزاد و لم تكن يد الشعب إليها أعجل .. أسدلت الأحزاب و شمّر منها فارط متمهل و استلت أقلامها تُبرأ نفسها ، ماضيها و حاضرها .. يتكلمون عنا بغير لغتنا و كأننا عمي صُم بُكم و إلينا لا يُرجعون .. .. الأمّ تنزف حد الاحتضار و الآباء الخمسون حول عرشها يرقبون و قد بلغت قلوبهم حناجرهم يكتفون بدفع نظارتهم السميكة سمك السنون التي قعرتها من كثرت النظر و الانتظار .. الكل يتمنى لو كان هو الوليد .. مساكين نحن و هم .. سمعنا عنهم و خبرناهم .. و سمعوا عنا و لم يختبرونا بعد عراة حفاة يتطاولون علينا .. يقتحمون غرف نومنا و يتبجحون بالخطابات و الشعارات .. لا نملك إلا التأفف و الضجر .. إلى متى يا رب و أنت أرحم من أن تجمع علينا حَشفًا و سُوء كَيْل ..
أكان أفلاطون على حق عندما استخلص ما مفاده أن جميع الحكم الموجودة الآن و بلا استثناء أنظمة فاسدة ، فدساتيرها لا يمكن إصلاحها جميعا إلا بمعجزة .. الأحزاب أول شيئ تفعله عند وصولها إلى سدّة الحكم تنسى ما عارضت من أجله ، تسعى لاستنساخ طاغية جديد .. بإهاب جديد حُلّة مُزيقياء أو لا مانع من إهاب حرباء .. و إلا كيف نفسر الإستباق المحموم نحو الكرسي و انتهاج التفريخ السرطاني للأحزاب ؟
ما لا يختلف فيه اثنان حتى و لو كانا مجنونان أن الأحزاب لم تولد للكرسي بقدر ما كانت مهمتها الأساسية السُموّ بالشعب أوّلا و الرقي بفكره قبل كل شيئ قبل حتى إعمار الدولة نفسها بعد ذلك بنسبة ضئيلة نتحدث عن الكرسي ..
من من الآباء الخمسين قام بما تحدثنا عنه ؟؟ أي أب من الأحزاب انشاء مكتبة ..؟ أي من الأحزاب أنشأ مدرسة ..؟ أي من الأحزاب أنشأ مشفى ..؟ أي من الأحزاب تواضع و سأل الناس عن أحزانهم .. ؟ عجيب و غريب و مريب .. عجيب أمر الأحزاب و قد مدت يدها لتأخذ قبل أن تعطي .. و غريب أمر الأحزاب و قد ظنت أننا يتامى و أحلت لنفسها كفالتنا .. و مريب أمر الأحزاب قيامها و نشأتها بين عشية و ضحاها .. هذا أمر دُبّر بليل .. و من المؤكد أن الصُبح قريب .. توأم روحي دار الكتب الوطنية
منذ أن بدأت أعي ما حولي ما ينفكّ يزداد عجبي……كل ما يحيط بي عجيب و غريب.. أنا دائما متعجّب مما أسمع و أرى… لا شكّ أن هناك كثيرين مثلي من « الكائنات المتعجّبة » مما يجود به علينا هذا الزمن الموحش…ربما ليس من العجيب أن نتعجّب و لكن العجيب حقا أن لا نفعل و هذه الحياة من حولنا حبلى بما تشيب له الولدان.
تعجّبت كثيرا و لا أزال من أمة هزّتها « الرسوم الكاريكاتورية » (لشخص الرسول عليه السلام) و لم تهزّها « الديكتاتورية » الجاثمة فوق صدورنا منذ دهور..تعجّبت من اختلافنا في كل جزئية إلا فرض الإستبداد من المحيط إلى الخليج حتى غدت أوطاننا « سجونا متلاصقة »..تعجّبت من أمّة تثور من أجل إطلاق تسمية « مكّة » على حانة بإسبانيا و لا تثور من أجل القدس الشريف الذي يوشك أن يصبح أثرا بعد عين جراء الحفريات و الاعتداءات…تعجّبت أيضا شديد العجب من الشعب التونسي الذي تحكمه عصابة فلا يستعين بالإرادة ليقتلعها من جذورها و لكنه يستعين بالصبر ليعيش بذلّ تحت كنفها…تعجّبت من شعب تسرق خيراته أمام عينيه فيضحك لأن له خيرا منها في « الجنة »..تعجّبت من شعب يلقي بنفسه في غيابات « البحر » (عسى أن تلتقطه أوروبا) على أن يواجه من يحول بينه و بين حياة كريمة..تعجّبت من شعب مفتّحة عيونه على « حكم » مباراة و مغمّضة على « الحاكم بأمره ».. تعجّبت من شعب تناشد منه الأجنة في بطون الأمهات الرئيس أن يترشّح و يعيد الترشّح لانتخابات بلا معنى و لا لون و لا طعم…تعجّبت من رجال « أمن » رؤيتهم تبعث فيك « الخوف »…تعجّبت من تتبّع وزارة الداخلية للسياسيين و الحقوقيين أكثر من بحثها عن المجرمين (أم ترى كانت السياسة إجراما في نظر بن علي؟)تعجّبت من وسائل إتصال لا تتصل بالشعب بقدر إتصالها بعطايا الحاكم الذي تدور في فلكه و فلك نظامه…تعجّبت من شعب يخاف من رئيس هو نفسه يخاف من زوجته…تعجّبت من صبر الشعب التونسي و من جلده و قدرته على احتمال هذه الأسطوانة الممجوجة التي تعاد برتابة منذ 23 سنة..آن اليوم للشعب أن يقول كفى..سنة 2011 لن نحتفل بالذكرى الرابعة و العشرين « للتحوّل » و لكن بالذكرى الأولى للحريّة.. إنتفضت تونس في يومها المشهود الرابع عشر من جانفي لتحيل بن علي من كرسي الرئاسة إلى كرسي الاتهام…الحقيقة أنني كالعادة تعجّبت من ثورة المسحوقين هذه..تعجّبت من قوم جعلوا الحرية غايتهم و الإحتجاج السلمي سبيلهم و رحيل بن علي و عصابته مطلبهم..تعجّبت من شباب رفعوا رؤوسهم عاليا ذات يوم لا ينسى أمام الوزارة التي لطالما نكّست رؤوسنا..تعجّبت من جبن بن علي و من نظامه الورقي و من حزبه الذي يعدّ مليون و نصف منخرط و لكنهم في النائبات قليل…تعجّبت من طالبي الحريّة و قد وقفوا وقفة عزّ ضد الإستبداد بالكلمات لا باللكمات و بالحروف لا بالكلاشنكوف و بالحناجر لا بالخناجر..تعجّبت من شباب لم تفلح هدايا بن علي المسمومة يوم 13 جانفي في ثنيه عن مواصلة نضاله..تعجّبت من شباب لم يأبهوا بتخفيض أسعار المواد الأساسية لأن مطلبهم هو الحرية و لا « بتحرير الإعلام » (المزيّف) لأن مطلبهم كان « تحرير الوطن » و لا ب »مواطن الشغل » لأن مطلبهم كان « المواطنة » قبل « الشغل » أو الكرامة قبل الخبز.. سعدت بملحمة الحرية التي سطّرها الشعب التونسي و كاد لأول مرة شعوري بالعجب أن يزول..لماذا أعجب و قد أراد الشعب الحياة فأستجاب له القدر و تونس عادت إلى الطريق الصحيح …قلت كدت لأنني سرعان ما عدت إلى التعجّب..فيوم 14 جانفي 2011 و على الساعة الثامنة مساءا تقريبا بتوقيت تونس أجهضت « الثورة » بمسرحية سخيفة من الوزير الأول محمد الغنوشي و تلاعب بالفصول الدستورية يذكرنا بالتأكيد بتلاعب الرئيس المخلوع بالدستور بأكمله لا بمجرد فصول فيه..إشتدّ عجبي أكثر من ذي قبل…تعجّبت لماذا كتب علينا أن نعيش ثورة « عرجاء »؟ تعجّبت من كذب محمد الغنوشي و إدعاءه تفويض الرئيس له و قلت في صالح من هذا الكذب؟ تعجّبت لما رأيت رؤوس النظام السابق هي من تتولى القيادة بعد رحيل بن علي كأننا في إنقلاب و ليس في ثورة..تعجّبت من الفوضى التي عمّت البلاد رغم أن النجاح الوحيد لبن علي كان زرع « شرطي » في نفس كل مواطن كأنّ وزارة الداخلية تعيش في دواخلنا..تعجّبت من البيروقراطية التي طبعت الثورة من مجالس و لجان و هيئات لحماية الثورة من الفاسدين فإذا بها تنقلب إلى حماية الفاسدين من الثورة..تعجّبت من وزارة الداخلية و قد خذلتنا مرتين بأن أرهبتنا و قمعتنا في زمن المخلوع و بأن تركتنا وجها لوجه مع الإجرام و الفوضى في زمن الثورة…..تعجّبت من طرح قضية اللائكية و الإسلام وهو نقاش بيزنطي لا ينتهي (و الأفضل أن يظل حبيس الأسوار الأكاديمية يناقشه الباحثون فيما بينهم لأن هذا الموضوع إذا أطل برأسه إلى الشارع قسّمه و نحن بحاجة إلى الوحدة لا إلى الفرقة)..تعجبت من الإعلام الذي لا يزال يعيش عصره البنفسجي القاتم..تعجّبت من خلو السجون من نزلائها الحقيقيين وهم أباطرة الفساد و الرشوة و أوتاد النظام البائد..تعجّبت من كثرة الأحزاب و صراعها الحاد في ما بينها و حبر وثائقها التأسيسية لم يجف بعد..تعجبت من قياديي « الحزب المخلوع » يستنسخون من تجمعهم البائد نسخا مشوهة جديدة..تعجبت من رؤوس الأموال كيف كانت ذيولا للنظام بالأمس و أشباحا لا ترى اليوم…
تعجبت و تعجبت و كل يوم يزداد عجبي…و كذا هي بلدي لا تنقضي عجائبها في زمن الإستبداد كما في زمن الثورة و الحرية…
! أي بنيّ إنّي شعرت بقلق شديد و أرق بعد مكالمتك الهاتفية التّي ذكرت فيها أنّك لم تعد ترغب في إرتياد المسجد بمدينة الأنوار باريس أيّام الجمعة ، و إنّي أحترم قرارك هذا بعد ما ذكرته لي من تعدّ على حريّتك و على إختيارك في الملبس حيث تكرّرت مطالبة بعض المصليّن لك بشيء من الإحراج بضرورة إرتداء قميص ، و إنّ سبب أرفي و قلقي و إنزعاجي ليس قرارك و أنت تعلم علم اليقين أنّي أريدك حرّا و ربيّتك على حريّة الإختيار و القرار ، و لكن سبب إنشغالي هو هذا التعدّي الذّي أتاه بعض ما يسمّون أنفسهم بالدّعاة ، هؤلاء الذّين ينفرّون و لا يرغّبون ، هؤلاء الذين نصبّوا أنفسهم أوصياء على خلق الله ، كذلك ما أحسست به من خلال نبرات صوتك من حزن عميق و شجن حين قلت أنّ هذا الموقف تعرّضت له في كلّ مرّة هممت فيها بمغادرة المسجد من قبل العديد و بشيء من الغلظة و قلةّ الأدب و الإحترام٠ أي بنيّ ! لا تحزن فإنّ هؤلاء تربّوا على الإنغلاق و لا يقبلون بالإنفتاح و التحرّر فلا تعر إهتماما لمهاتراتهم و سخافاتهم و أبق كما عهدتك وفيّا لمبادئك متوكّلا على الله ، فكلّ إناء بما فيه يرشح . و أعلم أنّنا في تونس بدأنا نسمع أخبارا مختلفة عن مثل هذه التصرّفات بعد ثورة 14 جانفي 2011 من هذه الحكايات المتداولة اليوم وقوف مثل هؤلاء الأشخاص أمام محطات وسائل النقل العمومي و بأيديهم أغطية رأس عارضينها على الفتيات طالبين منهّن أن » يسترن أنفسهنٌ » على حد تعبيرهم و قد يصل بهم الحد إلى فرض تسلم هذه الأغطية ٠ و فئة أخرى إنتهكوا حرمات بيوت الله لينزلوا إماما من فوق المنبر و ينصبون آخر و يثبتون ثالثاً . كما يعمد آخرون إلى أن يقدّموا موعد صلاة الجمعة عنوة و بصورة فردية دون أخذ رأي بقية المصلّين معهم٠٠٠ فلا تأس بنّي و لا تكترث بما يأتونه و تذكّر دوما أنّك ضيف على بلد له عاداته و تقاليده و قوانينه و نواميسه و اسع إلى التحصيل باجتهاد و جدّ و كدٌّ٠٠٠ أي ولدي ! لا تنهزم بسهولة يجب أن نتصدّى لمثل هؤلاء و أن نحمي حريّتنا من هذا الدّاء و من عبثهم و هذا الإستبداد الفكري المقيت و إنّ ما يقومون به لا يمتّ بصلة إلى القيم الأخلاقيّة و الدّينيّة ، فهل تجد في القرآن و السنّة مايدعو إلى هذا القميص ؟ متى كانت الفضاضة و التشدّد أسلوبا للدّعوة ألم يقل ربّ العزّة » فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فضا غليظ القلب لانفضوا من حولك فأعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله … » و هو القائل كذلك » ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ٠٠٠ صدق الله العظيم٠ مع حبّي و شوقي٠
علي مطــيــر٠
د.خالد شوكات* ثمة بشر يموتون جسدا و ذكرا، وثمة بشر يموتون لكن ذكرهم يبقى ما بقي البشر، بل إن ذكرهم و دورهم في الحياة ربما زاد بعد موتهم وفاق كل تصور. و اعتقد شخصيا أن الزعيم الحبيب بورقيبة هو من هذه الفئة التي لا تموت ذكرا، و سنرى جميعا، كتونسيين على الأقل، أنه كلما احتاجت تونس إليه سيلبي نداءها، فقد كانت في يوم ما حلما يراوده، و أصبحت مع الاستقلال سنة 1956 حقيقة، و أضحت سنة 2011 ناصعة البياض.
عدد كبير من الذين يهاجمون بورقيبة، ربما لا يعلمون أنهم « بورقيبيون » أيضا، سواء أقروا بهذه الحقيقة أو لم يقروا، ومن هؤلاء « الإسلاميون » الذين صرح قادتهم، بل شيخهم الأكبر، أنهم لا يريدون نقض مجلة الأحوال الشخصية، و أنهم يرون فيها « اجتهادا إسلاميا »، وما كان « بورقيبة » إلا صاحب هذا الاجتهاد، واجتهادات أخرى كثيرة، كانت أحادا لكنها كانت سباقة و عظيمة في دفعها المسلمين، والتونسيين في مقدمتهم، إلى مساحات جديدة للإصلاح والتحديث والتجديد. هناك من لا يعرف سر « تقدمية » أطروحات الحركة الإسلامية التونسية قياسا إلى غيرها عربيا وإسلاميا، وربما راوغ الإسلاميون التونسيون أنفسهم في الإجابة هربا من الصدع بحقيقة تزعجهم، أن الملعب الفكري و السياسي في تونس لم يكن من صنعهم، و أنهم لما وجدوا أنفسهم لاعبين فيه، اضطروا ربما إلى التكيف مع قواعد اللعب على أرضه، و كان الملعب كما قواعد اللعب من صنع الزعيم بورقيبة، الذي لم يكن « علمانيا » كما يزعمون، بل « مفكرا إصلاحيا مسلما » عرف أن الله « يزع بالسلطان ما لا يزع بالقرءان »، والتزم بفتوى شرعية في كل خطوة خطاها في الفقه و الحكم والجهاد الأكبر.
في رسالة كانت نشرتها جريدة « الموقف » أيام المعارضة، خطها الأستاذ أحمد المستيري ردا على جريدة جزائرية اتهمت الزعيم التونسي سنة 1966 بأنه ليس إلا نسخة عربية للزعيم التركي مصطفى كمال، بين الوزير التونسي الفرق بين « الأتاتوركية » و « البورقيبية »، فالأولى حرب على الدين، أما الثانية فتوظيف للدين في معركة التنمية وإيمان بدور عظيم للإسلام في مسيرة الإصلاح والتحديث والبناء.
و قد أثبت الصديق الصحفي لطفي حجي في كتابه ذائع الصيت عن الزعيم التونسي، أن الحبيب بورقيبة رحمه الله، كان أول شخصية دولية تثير أزمة كبيرة في عقر دار الأتاتوركية، عندما انتقد من على منصة البرلمان التركي أواسط السبعينيات إلغاء أتاتورك للخلافة باعتبارها رمزا لوحدة العالم الإسلامي، و قال أنه كان عليه أن يكتفي فقط بإلغاء السلطنة.
في فيلمه الملحمي حول الحركة الوطنية التونسية، ربما لم تسعف أجواء النظام السابق المخرج الكبير فاضل الجزيري أن يتكلم في « ثلاثون » بمباشرة أكثر عن حلم « الثلاثي » أبو القاسم الشابي والطاهر الحداد و الحبيب بورقيبة، حول تونس المستقلة المتقدمة العادلة..وقد كان بورقيبة أمينا على عهد رفيقيه اللذين لم يمهلهما الموت ليروا حلمهما يتحقق، إذ وافتهما المنية على التوالي سنتي 1934 و 1935، فواصل رحلة الكفاح الوطني المحفوف بمخاطر الموت، و لم تفتر عزيمته أو يضعف إيمانه بنظرية الشابي « إرادة الحياة »، كما لم ينس وصية الحداد « خيرا بالمرأة التونسية »، وقد دفع الرجل حياته ثمنا لانعتاقها من ربقة المجتمع المتخلف وتحريرا لها من أوضاع الفقر والخصاصة و التقاليد البالية، التي ليس للدين الحنيف صلة بها.
بعض من يهاجمون بورقيبة من منطلق إسلامي، لا يتعففون عن تزوير التاريخ، من قبيل إقامة العداوة بين بورقيبة والثعالبي، و هم يغالطون الشبيبة التونسية، التي ربما لا تعلم أن بورقيبة عاد إلى أرض الوطن من فرنسا عندما كان الثعالبي منفيا خارجها، وأنه حقق حركته التصحيحية بتأسيس الحزب الدستوري الجديد، ولم يكن الثعالبي حينها زعيما للقديم، بل إن ثمة من يهمش حقيقة أن الثعالبي، تماما كما بورقيبة، كان مرمى سهام المحافظين من علماء الزيتونة، وأن كلاهما لاقى الهجوم والتحريض جراء نزعته التجديدية البينة.
و أذكر أيضا أنني سألت المؤرخ التونسي الكبير الدكتور عبد الجليل التميمي مستنكرا، عندما انتقد في برنامج تلفزيوني جمعني به، الزعيم بورقيبة لأنه لم يكن ديمقراطيا، بتذكيره بأن معارضيه خلال الخمسينيات والستينيات لم يكونوا ديمقراطيين أيضا، وأن مشاريعهم السياسية التي كانوا يمنون بها التونسيين لم تكن سوى نسخ رديئة من سير ستالين أو عبد الناصر، و إن كل تونسي حر ليحمد الله ألف مرة أن مخططات هؤلاء لم تنجح و أن تونس بقيت ليبرالية تحديثية ما كتب الله لها أن تبقى.
و في سياق مشابه، فإنني لا أتردد في القول بأن خلاف الزعيم بورقيبة مع الزعيم صالح بن يوسف، لم يكن مثلما يريد البعض تصويره، خلافا بين الحق والباطل، أو خلافا بين المبادئ والخيانة، فقد كانا ينتميان إلى المدرسة الفكرية والسياسية نفسها، و كان صراعهما الرئيس على السلطة، فليس لأن أحدهما انتصر والآخر انهزم، يصبح أحدهما ملاكا والثاني شيطانا.
إن قوة البورقيبية تكمن في أنها دونا عن سواها من الأفكار « اليسارية » و »الإسلامية » و »القومية العربية »، قد آمنت بوجود وطن يسمى « تونس » و تونسيين » يمكن اعتبارهم « أمة »، فإذا ما عدل أصحاب هذه الأفكار بوصلاتهم و تخلوا « حقا » أو « تكتيكا » عن أحلامهم الكبرى خارج الحدود التونسية، فإن ذلك لا يمنحهم الحق أبدا في التنكر للحقيقة الوطنية الكبرى، حقيقة أن بورقيبة هو أبرز من آمن ب »تونس أولا » ووضع حجر الأساس للدولة التونسية الحديثة التي لا بد أن نفخر بها جميعا و نحفظ القواعد التي أقيمت عليها كلية، فلا تنحرف يمنة أو يسرة فنضل و نزل وتذهب ريحنا.
و الآن عندما تصبح الديمقراطية مطلبا تونسيا جامعا، فإنها يجب أن تكون « استكمالا » للاستقلال و مراكمة لإنجازات الدولة المستقلة واعترافا بفضل المؤسسين، لا أن تكون « هدما » لصرح الوطنية و تشكيكا في الذات الوطنية و نكرانا لإسهام العظماء.
* كاتب وإعلامي تونسي
من المفارقات الغريبة ومما كان من أهم خصوصيات ثورة الشعب التونسي أنها الثورة التي انطلقت من أسفل الهرم وما كان لها أن تحقق النجاح وتنتهي إلى ما انتهت إليه من نتائج إيجابية لولا التحام الطبقة السياسية والحقوقية والإجتماعية والإعلامية الوطنية المعارضة والجادة بها منذ انطلاقتها. ويكفي أنها كانت مصدر إلهام لشعوب المنطقة وكسرت حاجز الخوف والتردد واليأس لديها من التمرد على الحكام المستبدين والإطاحة بهم. فلم يمهل الشعب المصري النظام الفاسد المصري بعدها إلا قليلا حتى أطاح به في ثورة سلمية رائعة يوم 11 / 02 / 2011 أطلق عليها الشعب المصري ثورة 25 جانفي يناير 2011 تاريخ إعلان قيامها، وبعد 06 أيام من الإطاحة بالمجرم حسني مبارك فجر الشعب الليبي البطل ثورته يوم 17 / 02 / 2011 على المجرم معمر القذافي أكبر سفاح عربي في المنطقة العربية والعالم الإسلامي، وهو الذي يقدم اليوم الآلاف من الشهداء والآلاف من الجرحى من أجل الحرية والتحرر ولا يبالي، حتى يحقق أهدافه كاملة في الإستقلال والإنعتاق وتقرير المصير. وعلى خط ثورة الحرية والكرامة في تونس مازال الشعب اليمني والبحريني والعراقي والعماني والأردني والسوري ينتفض، بين مطالب بالإصلاح وبإصلاح حقيقي والإطاحة بالنظام السياسي وإسقاطه. وما من نظام سياسي في المنطقة إلا وهو مرشح للثورة عليه والإطاحة به..
لئن كان الحديث عن طبيعة هذه الثورة طويلا، إلا أن المتطفلين عليها والإنتهازيين، بل وحتى أعداءها الذين من المفروض أنها جاءت للإطاحة بهم كانوا إلى حد الآن هم الأقدر بفعل التدخل الخارجي والطابور الخامس الداخلي الذي تمثله الكثير من قوى الردة والجذب إلى الخلف على الإستفادة منها، وحصلت منها على نتائج إيجابية عاجلة ومبكرة. فقد كان مما يؤسف له، أن تكون بقايا نظام كبير الفاسدين بن علي تلهج ألسنتهم باسم الثورة من أمثال الفاسدين الآتية أسمائهم كالمدعو زهير المظفر ومحمد الغنوشي وفؤاد المبزع ورضا الملولي وأحمد الإينوبلي وأحمد بن إبراهيم والصغير أولاد أحمد وبوجمعة اليحياوي وإبراهيم حفايظية.. وغيرهم من الإنتهازيين والمتطفلين والمرجفين ومن لا حياء ولا رجولة لهم كثير. وقد كان من المخجل كذلك أن يهرع أولئك الذين منهم من لا علاقة لهم بالثورة، وإذا كان لهم من دور فيها فإنه ضعيف جدا وأقل مما يكون الحديث عنه بحكم انحصارهم قاعديا، وبحكم قربهم، مهما بعدوا من نظام كبير الفاسدين بن علي، الذي كان في الحقيقة نظامهم أكثر مما هو نظامه إلا من رحم ربك، وإضافة إلى أنه إذا كان لفئة الشباب من الشعب التونسي الدور الأكبر في تفجيرها، فإنه لا دور أو على الأقل لا كبير دور لأبنائهم في ذلك، باعتبار أن المعلوم أن أبناء الكثير منهم على الأقل هم من العاملين أو المتابعين تعليمهم بالخارج، إلى تشكيل ما يسمى بجبهة 14 جانفي ركوبا كالعادة وبكل وقاحة وبانتهازية مفرطة للحدث، وجعل هذا العنوان الذي هو عنوان للشعب التونسي كله كبيره وصغيره جليله وحقيره، بعيده وقريبه مريضه ومعافيه، حيه وميته عنوانا لهم، تعبيرا منهم عن حماقة سياسية وغباء مازالوا عليه، أو استخفافا منهم بالشعب التونسي واستعلاء عليه كالعادة، وإهانة واستغباء له أو كل ذلك؟ وهو الذي برهن بما لا يدعو للشك أنه ليس مثلما كانوا يعتقدون، ومثلما كانوا يصورونه وكانوا يقدمونه ويعتبرونه ويتحدثون عنه، ومثلما كانوا يريدون له أن يكون ..
المهم أنه لا معنى لكل ذلك عندي إلا اعترافا من هذه المكونات المجهرية السياسية بإفلاسها السياسي والثقافي والأخلاقي، ولتكون بذلك قد التحقت ببقايا النظام الفاسد الذي لم تكن في الحقيقة بعيدة عنه خاصة في السنوات الأربعة الأولى على الأقل من وجوده، والذي مازال الشعب التونسي يواصل الإطاحة به حجرا حجرا ومازال يضطره إلى التنازل والإنسحاب من موقع إلى موقع، ومن موقف إلى موقف حتى يتحقق له ما يريد، وحتى لا تسرق منه ثورته ولا يتم الإلتفاف عنها من أي كان من الإنتهازيين واللصوص والسراق من المعادين لها، من أولئك الذين لم يكن يخطرا لهم ببال يوما أن يكون قادرا على الإطاحة بأكبر نظام بوليسي كانت الكثير من مكونات الحركة العلمانية اللائكية خاصة لا تريد له أن يسقط، وكان كل الذي تريده منه بعض التنازلات وبعض الإصلاحات…لأن كل الذي كانت شاكرة له وكانت شريكا له فيه حملته الإستئصالية على الحركة الإسلامية.
ففي الوقت الذي كان فيه شباب الثورة ورجالها ونسائها مستمرون في الضغط على بقايا النظام الفاسد وعلى بقايا الدكتاتور، كان المتورطون معه ممن كانوا من مكوناته ومن الشركاء معه في جرائم الإستئصال والتهميش والإقصاء والتعذيب والقتل والتهجير والسجن وقطع الأرزاق والفساد المالي والإداري والسياسي والقضائي والإعلامي والأخلاقي، والأقل دورا في الثورة، ومن لم يكن لهم دور في ذلك أصلا منهمكون ومستمرون في تقديم مطالب الحصول على تأشيرات تكوين أحزاب سياسية، وهم من لم ينتظروا إلا قليلا حتى تم لهم ذلك بدون مشقة ولا عناء ولا طول انتظار. وبدون خجل ولا حياء وبكل انتهازية وكالعادة سرعان ما تم دعوة أحزاب الموالاة والمعاضدة لكبير المجرمين بن علي التي كانت طرفا في المشكلة ولم تكن يوما طرفا في الحل لتتصدر منابر الإعلام الرسمي لتبدأ جني ثمار عهد جديد وثمار ثورة لم تكن طرفا فيها بل كانت عليها، بعد أن تمتعت بكل ما توفر لها من متعة ومن امتيازات ومن مكاسب من مثل حزب حركة التجديد (الحزب الشيوعي التونسي سابقا ) والحزب الديمقراطي الوحدوي وحركة الديمقراطيين الإشتراكيين والحزب الإجتماعي التحرري ما عدى حزب الوحدة الشعبية الذي مازال مختفيا عن المشهد الإعلامي منذ سقوط كبير المجرمين بن علي، وقد كان التجمع المستفيد الأكبر من الثورة إلى الآن، وليس التجمع عندي إلا تجمع الإنتهازيين والمفسدين في كل المنظومة الحزبية والشخصيات المستقلة التي أحاط بها كبير المجرمين بن علي نفسه، والذين أوهم بهم نفسه وأوهم بهم الداخل والخارج بإقامة مشهد ديمقراطي مغشوش لا علاقة له بالديمقراطية ولا بالحكم الرشيد. وليس ما يسمى التجمع الدستوري الديمقراطي الذي لا علاقة له في الحقيقة بالدستور ولا بالديمقراطية إلا تجمع تلك الأحزاب وتلك الشخصيات الفاسدة المستعلية على الشعب والمعادية له، بل يمكن أن يتسع هذا المعنى ليكون دالا على كل مكونات النظام السابق الذي كان يتسع بعد الشخصيات والأحزاب إلى أطراف مهنية ونقابية واجتماعية وجمعياتية إنسانية وحقوقية وقضائية وإعلامية..كالرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان والمركزية النقابية ممثلة في الإتحاد العام التونسي للشغل والإتحاد العام لطلبة تونس وغير ذك من الإتحادات والمنظمات والهيئات والأجهزة التي اصطفت منذ البداية وراء كبير المجرمين بن علي لتكون جميعا أكبر نظام عصابات عرفه التاريخ المعاصر. والذي بدا واضحا أن كانت كل هذه الأطراف بين محاول إجهاض الثورة ومجيرا لها لنفسه، ليكون الشعب في النهاية هو الخاسر الأكبر، ولألا يكون للثورة معنى ولا يتحقق له منها ما يريد من حرية وكرامة وديمقراطية ومساواة وعدالة اجتماعية..ولكن عبثا تحاول كل هذه الأطراف والمكونات مهما كانت درجة انتهازيتها وخطورة مخططاتها ومتانة تحالفاتها أن يكون لها ما تريد. وأنه يجب أن تعلم أنه سوف لن يكون للشعب إلا كل ما يريد لأن إرادته من إرادة الله وإرادة الله لا تقهر. وأن ما من الله به عليه فلن يستطيع أي كان مهما أوتي من القوة ومن القدرات ومن العدة والعتاد ومن الإمكانيات أن ينتزعه منه » والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون ». علي شرطاني
العدد35 _ حصاد شهر ربيع الثاني 1432
السلام عليكم و رحمة الله و بركاته يسر موقع الشيخ عبد الرحمن خليف_ رحمه الله _ أن يزف بشرى وصول الطبعة الثانية من كتاب » مشاهد الناس عند الموت » بعد انتظار أكثر من عشر سنين ؛ و بهذه المناسبة نشكر كل من ساهم في إنجاز هذا العمل من تونس أو من خارجها و ندعو الله العلي القدير أن يمن عليهم من فضله الواسع و أن يُديم عليهم نعمه الظاهرة و الباطنة . و الكتاب متوفر لدى معرض الكتاب الدائم بحي محمد علي بالقيروان و للاستفسار يرجى الاتصال بالرقم الهاتفي : 77226076 .
و السلام عليكم و رحمة الله و بركاته .