أثر الذاكرة على نبض الشارع
في أوطان شعوب أمة العرب والمسلمين(2/3)
بقلم:علي شرطاني
وإذا كانت ذاكرة هذه الأمة هي مختلف ثقافات وعادات وتقاليد وعقائد ولغات وتاريخ وتراث مختلف أعراقها وشعوبها وفرقها وطوائفها في إطار تاريخهم المشترك وحضارتهم الإسلامية المشتركة التي كانت الشريعة الإسلامية هي المنظمة لحياتهم في النظام الإسلامي بمختلف مجالاته السياسية والإقتصادية والثقافية والإجتماعية،فان ذاكرة الأمة العربية كأحد الأعراق الرئيسية المكونة للأمة هي عروبتها وثقافتها العربية وعقيدتها الإسلامية ولغتها العربية التي هي لغة القرآن التي لم يكونوا من الأقوام التي اعتنقت الإسلام وأخذتها عنه وتعلمتها منه ولكن الله أنزله بها ربما لأنها اللغة الأكثر اشتقاقا من بين كل اللغات التي جعل الشعوب والقبائل عليها والتي وحدها تتسع له، بما يجعل فهمه وتنزيله أيسر، وإسهاماتها في البناء الحضاري المتميز مع غيرها من الأعراق والشعوب والقبائل المختلفة التي أكرمها الله باعتناق الإسلام الذي كانوا يدعون إليه ويجاهدون في سبيل تبليغه للناس كافة كما أراده الله للناس كافة وأكرمهم الله بذلك وائتمنهم عليه وكانوا أهلا لذلك.ولما كان الأمر كذلك فان كل خروج عن هذا الإطار يكون خروجا عن الجادة وتنكرا من الخلف للسلف ،وخروجا عن نسق تاريخ الأمة وتميزها الحضاري والثقافي العربي الإسلامي، هذا الخروج الذي وصل عند البعض إلى حد الإعلان عن الخروج عن عقيدتها والكفر بثقافتها والتصريح بذلك والإعلان عنه من فرط الوقوع تحت ضغط الغزو الفكري والثقافي .وهذا الخروج وهذا الضياع و الإنصياع لاتخاذ بدائل عن ذلك هو الذي يعني فقدان الأمة لذاكرتها، حتى أن الأمر قد حدى بالعرب أن جعلوا من العروبة بديلا عن الإسلام بعد أن أعطوه معنى باهتا لا علاقة له بمعناه التاريخي، ولا بالمعنى الذي جاءت نصوصه الأصلية محددة له ،وكان ذلك كذلك بسبب الجهل بالإسلام وبسبب التأثر بالمفاهيم التي جاءت الثقافة الغربية حاملة لها للدين من خلال المعاني التي جاء بها في مختلف الأديان والنحل الأخرى،والتي لا تنطبق مطلقا عن الدين الإسلامي وعن المنهج والنظام الإسلامي. وهذا ما كنا وما زلنا نرى ونسمع. وهذا ما يتبادر إلى الذهن وإلى الفهم من خلال الخطاب الذي كان سائدا، والذي مازال يراد له أن يظل سائدا حتى بعد أن ظهر بطلانه وفساده. ولعل هذا مما قد لايستطيع أن يفهمه أو أن يستوعبه أو أن يعترف أو يقبل به الكثير من الناس .ولعل ذلك التوجه الخاطئ كان يجد له مبررا لدى البعض، ولدى رواده والذين عملوا وما زالوا يعملون على التمكين له ،في وجود نسب قليلة موزعة هنا وهناك في مختلف أجزاء الوطن العربي الواحد، التي تم تحويلها بالقوة إلى أوطان وشعوب، من اليهود والمسيحيين وغيرهم من الطوائف وأصحاب النزعات المختلفة العقائد ،من غير أن يعيروا الإهتمام إلى نسب أكبر من الأعراق الأخرى التي كان الإسلام هو القاسم المشترك والأقوى والأمتن بينها، كالأكراد والتركمان والدروز والبربر وغيرهم .
وإذا كانت نسبة المسيحيين في فلسطين مثلا لا تتجاوز على حد بعض الإحصاءات % 7، فان ذلك لا يمكن أن يكون مبررا كافيا لإعتبار فلسطين عربية نزولا عند عروبتهم ،وعلى حساب إسلام الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني، وهي عربية فعلا. ولكن ليست العروبة التي استعير معناها لتكون بديلا عن الإسلام ببرنامج نظام اشتراكي كما أرادها النظام القومي العربي الفاشل عقودا من الزمن، وكما ربما مازال من يريدها أن تظل كذلك ويعمل عليه، ولكن ببرنامج من يطلقون على أنفسهم الليبراليين الجدد وفق املاءات المؤسسات المالية الدولية وتجار السلاح ،ووفق رؤية غربية أمريكية صهيونية جديدة يقتضيها نظام العولمة الذي أخذت أوروبا نفسها تبحث لمكان لنفسها فيه، أو بالعودة للعمل بالتجربة القديمة الفاشلة أو بحيث لا أحد يعلم بماذا من الحماقات المتكررة الكثيرة التي أرهقت النخب الرجعية العميلة العلمانية منها والتقليدية شعوب أمة العرب والمسلمين بها.
ذلك أن هذه النسبة أو غيرها مهما كانت قليلة من المسيحيين واليهود العرب لا تعني أنهم ليسوا أصحاب الأرض وأبناء الوطن وأبناء الأمة العربية الإسلامية ومن غير أن يكون ذلك على حساب هويتهم الأصلية وعلى حساب خصائص مقومات شخصيتهم الوطنية والدينية والتاريخية من حيث أن وجودهم كان سابقا لوجود الإسلام والمسلمين بالمنطقة العربية وبالكثير من أوطان أمة العرب والمسلمين.
فعروبة هؤلاء وغيرهم لايمكن أن تعني أنها ليست إسلامية، لأن إسلامية أي بلد إسلامي كفلسطين تتسع لكل العرب بمختلف عقائدهم وثقافاتهم أولا، وتتجاوز ذلك إلى ما زاد عن ذلك من الأعراق ومن القوميات ومن الطوائف بمختلف أديانهم وعاداتهم وتقاليدهم وثقافاتهم تلك ثانيا .
ففلسطين إسلامية أولا، ثم عربية ثانيا، ثم هي لمن زاد عن العروبة والإسلام ممن ليسوا عربا ولا مسلمين ثالثا. وفي كلمة واحدة أقول، أن هذه الأمة هي أولا وآخرا أمة إسلامية عربية ،باعتبار الأغلبية الإسلامية من مختلف الأعراق والشعوب، وباعتبار اللسان العربي لكل مكونات النسيج السكاني العربي الإسلامي وغيره في المنطقة العربية من العالم الإسلامي.
وهي عربية باعتبار الأغلبية خاصة في « أوطان شعوب » الأمة العربية ،وباعتبار ضرورة اللسان العربي لدى الشعوب والأعراق والقوميات المختلفة الإسلامية الأخرى، باعتبار أن اللغة العربية هي لغة القرآن الذي هو عماد وأصل عقيدتهم وشريعتهم ونظامهم الإسلامي الذي لا يصح إسلامهم إلا به. وليس لأنه لسان الأغلبية العربية من المسلمين والمسيحيين واليهود وغيرهم من المتكلمين باللغة العربية من أصحاب الأصول العربية خاصة في أقطار العالم العربي. فان كل هؤلاء يصبحوا أقلية بالنسبة للمجموع العام للمسلمين في العالم الإسلامي. ذلك أننا لا نستطيع ولا يجوز ولا يحق لنا ،وليس ذلك ممكنا لنا عربيا وإسلاميا، أن ننكر على العرب المسيحيين عروبتهم ولا مسيحيتهم ولا وطنيتهم، كما لا نستطيع أن ننكر على العرب اليهود عربيا وإسلاميا عروبتهم ولا يهوديتهم ولا وطنيتهم حين يكونوا مجرد مواطنين في البلاد الإسلامية كلها عربيا وأعجميا، وحين يكونوا أوفياء لتلك الأوطان التي هي أوطانهم ،باعتبار أن اليهود ليس لهم في الأصل وطن خاص بهم.ولكننا ننكر عليهم ذلك عربيا وإسلاميا على حد سوى ،حين لايكونوا أوفياء لهذه الأوطان ،مثلما هو الشأن بالنسبة للمدعو روجي ببسميت العضو بمجلس المستشارين عن اتحاد الصناعة والتجارة بتونس، التي أصبحت للأسف موطنا للفضائح ومضربا لأمثال السوء في ظل الإستبداد، هذا الشبه الذي كان من المسارعين إلى مستشفى « هداسا » بفلسطين المحتلة لزيارة أريال شارون رئيس وزراء الكيان الصهيوني العنصري المصنف أكبر إرهابي عرفه التاريخ حيث يعالج من جلطة دماغية أنهت حياته السياسية الإجرامية بانتظار انتهاء حياته من عالم الشهادة ليكون مآله جهنم وبئس المصير، أو حين يصبحوا كيانا دوليا مستقلا بالحكم على أي أرض يهجروا ويقتلوا ويبيدوا أصحاب الحق الشرعي فيها. وهو ما يحصل اليوم في فلسطين التي لكل العرب والمسلمين حق فيها، ولها عليهم كلهم واجبات.
إن قضية العروبة المسيحية وقضية إخواننا الأقباط وغيرهم من المسيحيين الذين كان الإسلام والعروبة لاحقين لوجودهم في مصر وفي لبنان وغيرها من الأوطان التي لهم فيها وجودا ما قل منه أو كثر، يجب أن تقدر بقدرها، لأن إعطاء كل هذا الإعتبار لعروبة المسيحيين خاصة في البلاد التي للمسيحيين العرب فيها بعض الثقل السكاني ،دون أن يعنى ذلك أنهم غير جديرين بالإعتبار، بل هم يستحقون كل اعتبار، وليس ذلك تفضل من أحد عليهم بل هم أهل له وذلك حقهم، بما يعني أن يكونوا سببا أو يتخذ من يتخذ مسيحيتهم مبررا كافيا لإنهاء أي دور سياسي للإسلام، وذريعة لإستبداله بالعروبة أو بأي نزعة أو مذهب أو منهج آخر، وحرمان الأغلبية المسلمة في بلاد الإسلام من الدعوة إلى العمل بالنظام الإسلامي.وإذا كان من المتأكد في التاريخ المعاصر أنهم كانوا من رواد النزعة القومية إلى حد تغييب الإسلام الذي ليست العروبة إلا أحد أبعاده باعتبار اللسان العربي له، وباعتبار أن العرب كانوا من أول من احتضنه، وأول من أنتصر له ،وأول من نصره كما كانوا كذلك أول من واجهه ومن مثل أكبر تهديدا له، فأن ذلك من المسائل التي يجب مراجعتها وإعادة النظر فيها، لأنه حتى تلك الفترة لم تكن العروبة تحتمل أن تكون بديلا عن الإسلام، للتلازم الذي كان لا يحتمل التفريق أو الفصل بينهما ،حتى كأنهما واحد أولا. ثم أن العروبة لم تكن تحمل معنى مخالفا للإسلام ثانيا.ثم أن الذي لم يكن صحيحا كذلك أن كبار مهندسي المشروع القومي العربي كانوا من العرب المسيحيين، بل إن كبار مهندسيه كانوا من العرب المسلمين، والذي كان من المفروض أن الذي كان على رأسهم هو أحد الزعماء الروحيين ،وأحد علماء المسلمين الشريف حسين زعيم « الثورة العربية الكبرى »الذي عينه الباب العالي واليا على مكة المكرمة، والذي حشد الحشود العربية ،مستفيدا من ظروف كثيرة داخلية عربية وإسلامية وخارجية غربية استعمارية ،بقيادات عسكرية وبتوجيه من قيادات سياسية استعمارية من أمثال كرومر ولورنس وقلوب وغيرهم لمواجهة الجيش الإسلامي والمقاومة العربية الإسلامية بقيادات تركية وعربية وإسلامية مختلفة ،لإقامة الدولة العربية الكبرى الموحدة التي وعده بها الغزاة الغربيون. لألا يرى بعد ذلك بعض المتابعين للشأن العربي إلا أن العرب المسيحيين كانوا هم الداعم الأساسي للمشروع القومي العربي الفاشل، وهم الذين حافظ لهم الإسلام على هويتهم ووجودهم قرونا من الزمن، وهم الذين ظلوا أوفياء له و معترفين ومقرين له بذلك.فإذا كان هناك من مسؤولية، أو لابد من مسؤولية على هذا الفصام النكد الذي أوجده من أوجده ،أو ساهم في إيجاده من ساهم، فان العرب المسلمين هم الذين عليهم المسؤولية الكاملة في ما حصل.
إن وجود العرب المسيحيين كأحد مكونات شعوب الأمة العربية الإسلامية لا يقوم مبررا لتحييد الأديان وإنهاء الصفة أو الصبغة الدينية على النظام السياسي لشعوب الأمة ذات الأغلبية الساحقة من المسلمين من مختلف القوميات والأعراق واللغات، والبحث عن بديل شرقي أو غربي له والقبول به، مما انتهى بالأمور إلى ما انتهت إليه اليوم. ولا أحد يعلم إلى أين تتجه الأمور والأوضاع تحديدا بالأمة. والى ما يمكن أن تنتهي إليه لا قدر الله. وإن كان من المعلوم لدينا معشر المسلمين أن المستقبل وعلى المستوى المتوسط وليس البعيد سيكون لهذا الدين إن شاء الله أحب من أحب أو أبى من أبى ورغم الداء والأعداء.
ذلك أنه لا يجب أن ننظر إلى إخواننا العرب المسيحيين على أنهم عرب فقط ولكن ـ وهذا من الهام جدا ـ بل علينا أن ننظر إليهم على أنهم مسيحيون كذلك ،خاصة في ما يتعلق بقضية الأمة كلها ،التي هي القضية الفلسطينية وقضية شعبنا العربي المسلم والمسيحي في فلسطين التي لا يفرق فيها الإجرام الصهيوني اليهودي بين المؤيد أو المهادن له والمعادي والمقاوم له في عمليات القتل والتدمير والإبادة الجماعية التي يتعرض لها بين عربي و عربي، و بين عربي وغير عربي، ولا بين مسلم ومسيحي.
ولكن والحال هذه، أفلا نستطيع النظر إلى المسيحيين بصرف النظر عن تقسيماتهم الطائفية وانقساماتهم الكنسية على أنهم هم الذين انتهوا في أحرج فترة من فترات تاريخ الإسلام والمسيحية، خاصة في ما يخص القضية الفلسطينية إلى تبرئة اليهود سنة 1986 من دم السيد المسيح ،واعتذار الكنيسة الكاثوليكية لهم، مع فسح المجال لتدفق التعويضات لهم عما صوره اليهود ببارعة فائقة على أنها محرقة حقيقية قد كانوا هدفا لها في الحرب العالمية الثانية على يد النازيين في ألمانيا، وأصبح ذلك مصدر ابتزاز منهم للغرب سياسيا واقتصاديا واستراتيجيا ،في الوقت الذي مازال اليهود محافظين على حقدهم عليهم وكراهيتهم لهم؟.
أن الذي يجب أن يكون مؤكدا أن المسيحيين العرب وغير العرب ذوات الأصول المشرقية والمغربية وفي العالم الإسلامي عموما، وكذلك اليهود إلى غاية ما قبل نشأة الحركة الصهيونية العنصرية الإستعمارية قد عانوا مما عانى منه المسلمون العرب وغير ا لعرب سواء في التاريخ القديم من الحملات الصليبية التي كان ينظمها ويقوم بها المسيحيون الغربيون ضد العالم الإسلامي الذي كان يتمتع بقصب السبق الحضاري ويمسك بزمام المبادرة الحضارية، أو في فترة التاريخ الإستعماري المباشر والإجتياح الغربي لباقي أنحاء العالم الذي كان ينظر إليها على أنها على حال من السكونية والبدائية والتخلف يقتضي منه التدخل لإخراجها منها حسب زعمه، أو في فترة الإستعمار غير المباشر التي تلت انسحابه العسكري من المستعمرات ومن مناطق النفوذ تلك، والتي مازال المسيحيون المشارقة وفي فلسطين تحديدا يعيشون فيها نفس المعانات التي مازال يعاني منها بقية العرب والمسلمين، سواء من السياسات الغربية المعادية للعالم العربي والإسلامي عموما، أو من التدخل العسكري الممكن القيام به في كل مرة لسبب أو لآخر، ولغاية أو لأخرى وبذريعة أو بأخرى، أو من خلال دولة الكيان الصهيوني الموغلة والمسرفة في القتل والتدمير في المنطقة.
أفلا يحق لكل المتضررين من السياسات الغربية المسيحية سواء كانوا عربا أو غير عرب أو كانوا مسلمين أو غير مسلمين أن ينظروا إلى المسيحيين الغربيين ،بدون أن يكون في ذلك إساءة للمسيحيين من الأصول المشرقية أو المغربية عربية كانت أو غير عربية في العالم الإسلامي أو في المنطقة العربية، أو يكون مثيرا لحفيظتهم ،على أن المسيحيين في العالم الغربي هم الذين عليهم المسؤولية المباشرة في زرع دولة للكيان الصهيوني اليهودي في قلب العالم الإسلامي في أرض الإسراء والمعراج وفي أرض كنيسة المهد والقيامة والمسجد الأقصى الشريف ،وغير ذلك من المعالم التاريخية المقدسة، ومازالوا يواصلون العناية بشجرته الخبيثة ريا وسمادا وأدوية حتى تظل مواصلة لنموها ونظارتها وازدهارها إمعانا في التنكيل بالعرب والمسلمين والإذلال والإهانة لهم ،ولمزيد ابتزازهم واستنزافهم؟
أولا يحق لنا كعرب ومسلمين على الأقل أن ننظر إلى العالم المسيحي على أنه الداعم الأساسي إلى اليوم للكيان الصهيوني في حرب الإبادة التي يقودها ضدنا في فلسطين كما تقودها قواته المتحالفة بقيادة الأمبراطورية الأمريكية في العراق وفي أفغانستان وبتركيز خاص دائما على كل ما هو عربي إسلامي، وفي الحرب النفسية والمعنوية بكل عنصرية واستعلاء من خلال هذا التضامن الواسع مع صحافته التي تشن حملة منظمة للإساءة للمسلمين وحدهم هذه المرة عن طريق نشر رسوم كاريكاتورية مسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم، لما يعلم له هؤلاء هناك من مكانة ومن قداسة عند المسلمين كافة، والتأييد التام والمطلق لها بذريعة قداسة حرية الصحافة عندهم. هذه الحرية التي لا يحدها إلا مجرد التشكيك في المحرقة التي لايعني أن الغرب لم يقم بها بهذه العنصرية وبهذه البربرية وبهذا الإستعلاء والروح والسلوك غير الحضاريين الذين كان عليهما، والذين يزدادان وضوحا عنده، ولكن ليس على أساس المزاعم اليهودية، ولا على أساس القراءة اليهودية للحادثة، بحيث أنه لم يكن من ضحاياها إلا اليهود وبالملايين.ألم يكن ما قامت به حركة الإستعمار الغربي ذات الأصول اليهودية المسيحية من إبادة للعنصر لبشري في الأماكن والمواطن والأوطان التي حلت بها عساكرها الغازية وجحافل جيوشها وقواتها التدميرية ونهب للثروات والخامات على امتداد عقودا من الزمن ومازالت أشد وأنكى.أليس ما يقوم به الكيان الصهيوني إلى اليوم من حرب إبادة ومجازر متعددة ومتواصلة ضد الشعب الفلسطيني وفرض تهجير قسري عليه يفوق بكثير ما يزعم اليهود أنهم تعرضوا له من حملة إبادة جماعية ضدهم ومما يطلقون عليه معاداة السامية في العالم.
ليس كل هذا الذي يحدث إلا حربا عدوانية واضحة على هوية الأمة ومقدساتها وكل مقومات شخصيتها، لإضعاف معنوياتها بعدما رأى الغرب المسيحي الصليبي ،وتبين له من خلال الأحداث ،ومن خلال الفعل وردة الفعل ،أن استعادة قطاعات كبيرة من أبناء شعوب هذه الأمة لذاكرتها من خلال ما ألحقتها به الجبهة العلمانية الداخلية العبثية اللقيطة والتقليدية العدمية من مظالم وخسارة وفساد واستبداد ،ومن خلال الإعتداءات المتواصلة للتحالف الصليبي الصهيوني اليهودي وعملائه على الأمة، وتكونت بذلك مراكز قوة جادة وفاعلة ،أصبح يعتقد جازما أنها تمثل خطرا حقيقيا على مصالحه في أوطانها ،وعلى استقراره في أوطانه، وإنها جادة في العمل على دفع مظالمه عنها وتحقيق الحرية والإستقلال الذين لا يريدهما لنا.وليس هذا إلا من قبيل التخبط الذي دخل فيه الغرب، والذي لم يزد ذاكرة أبناء شعوب الأمة إلا يقظة وحياة واتقادا، والذي لم يزدهم إلا يقينا على أن خلاصهم في التمسك بهوية الأمة بكل مقوماتها دينا ولغة وأعراقا متزايدة بتزايد المؤمنين بالإسلام والداخلين فيه والمعتنقين والراجعين له ،وتاريخا وثقافة وتراثا وحضارة، وتلك ذاكرتها التي كانت أساس وحدتها قرونا من الزمن، وستظل العامل الأساسي لوحدتها، وستظل فاقدة لوحدتها ما دامت فاقدة لهويتها، وستظل فاقدة لذاكرتها ما دامت فاقدة أو شبه فاقدة لهويتها الإسلامية، وذلك ما هو اليوم من المخاطر التي بدأت تتخطاها في وضع صعب و شائك ومعقد للغاية.
إن الإنحراف العقائدي، والإستهانة بالإنضباط الشعائري التعبدي والأخلاقي والتربوي لصالح العلمانية المهيمنة، والتي فرضت ومازالت تفرض بالقوة على الشعوب والأمم، والإنحراف التشريعي القانوني الفقهي عن الشريعة الإسلامية لصالح اللائكية الوضعية التي لا يمكن أن تكون إلا ملبية لمطالب ورغبات المشرعين ،ومحققة لغاياتهم الفئوية والطبقية والطائفية وغرها وأهدافهم الإقتصادية والسياسية والإجتماعية النفعية الأنانية بالدرجة الأولى، وبذلك لايمكن للنظام الوضعي العلماني إلا أن يكون نظاما طبقيا وفئويا باعتباره لا يستند إلى مرجعية ذات أصول وضوابط وثوابت محايدة ولا محددة ولا هي محل إجماع ،والتي لا يمكن أن تكون كذلك إلا حين لا يكون مصدرها عقل الإنسان الذي هو في النهاية مجموع عقول كل أصحاب العقول من بني آدم، و إلا أن يكون مصدرها العقل الكلي المطلق المبدع.
والإنحراف الثقافي والسياسي عن الإسلام والتعريب لصالح العلمانية واللائكية والتغريب ،والإنحراف الإقتصادي عن العدل وعن إعطاء كل ذي حق حقه ،وعن المحاسبة على قاعدة من أين لك هذا ،ولكي لا يكون المال دولة بين الأغنياء من الناس فقط…إلى ترك حياة الشعوب والمجتمعات تقوم على قاعدة دعه يفعل دعه يمر ،وجعلها تحت هيمنة رأس المال الحر وفسح المجال للأفراد والفئات والمجموعات للإستثراء بكل الوسائل، والغاية تبرر الوسيلة، أو إلى ظلم الناس من أصحاب الثروات والأموال بمصادرة ممتلكاتهم وإلغاء حقهم الطبيعي في الملكية والتملك ،باسم العدل الإجتماعي وإنهاء استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، وكأن حياة الشعوب والأمم لايمكن أن تنتظم إلا على هذين الخيارين أو المذهبين الإقتصاديين.
والإنحراف الإجتماعي عن علاقات الأخوة والتحابب والرحمة والمودة والتعاون والتكافل والتضامن، والحياة الإجتماعية المفتوحة على الجيرة والقرابة وصلة الرحم ،والحفاظ على الأسرة والعائلة والحياة الجماعية…إلى نمط حياتي مغلق لا يعترف أفراده بغير العلاقات المادية ،ويؤكد على الذات والفردية والأنانية والنفعية ،على قاعدة الغاية تبرر الوسيلة مطلقا ،ولا معنى فيه للأسرة ولا للعائلة ولا للحياة الجماعية ولا لعلاقات الجوار والقرابة وصلة الرحم، أو إلى نمط حياتي متذرر ينظر إلى الأسرة على أنها مثلها مثل الدولة مؤسسة استغلالية لا يتحقق العدل والمساواة وإنهاء الإستغلال إلا بحلها ،بل وحتى الدعوة إلى إنهاء الحياة الزوجية المنظمة بين الرجال والنساء لتكون كأي علاقة بين أي ذكر وأنثى…
إن كل انحراف من هذه الإنحرافات وغيرها هو ابتعاد عن الفطرة وإضاعة للهوية ، وفقدان للذاتية ومنزلق إلى هاوية الإنصهار والذوبان والإندماج في الآخر لغير ضرورة ولغير غاية وهدف باتجاه الإنقراض والفناء. وهي انحرافات ومنزلقات نحو فقدان الذاكرة. ومن فقد ذاكرته فقد فقد هويته. ومن فقد هويته فقد فقد ذاكرته لما بين هذه وتلك من تلازم.
ذلك أن الشعوب الفاقدة للذاكرة ،والتي تصبح بمقتضى ذلك مغيبة للهوية الحقيقية الصادقة ،لا يمكنها مطلقا أن تنجح في القيام بالمهمات الكبرى والصعبة وانجازها، والتي يأتي على رأسها التحرر من الإحتلال أو الإستبداد أولا، ثم كسب معركة التنمية والبناء والتشييد والتطور والحداثة التي جعلها « الحداثيون » همهم الذي أصموا الخاص والعام بصراخهم من أجلها ،وهم الأبعد ما يكونوا عنها ،ولم يستطيعوا أن يسلكوا لها طريقا، والإنتهاء إلى تحقيق الإستقلال الذاتي ومجتمع الوفرة والعزة والكرامة.
إن الذي بدا واضحا أن هذه الأمة مازالت فاقدة للذاكرة في قطاعات واسعة من أبناء شعوبها بفعل عوامل ثلاثة كانت تمثل معاول هدم تتالت عليها عقودا كثيرة من الزمن ،والتي كان أولها الإنحطاط والإستبداد العثماني عقودا قبل بداية مرحلة غزو الفرنجة للعالم و لبلاد العرب والمسلمين و واقتسامها.
وكان ثانيها حركة الإستعمار التي جاءت عاملة على هدم كل ما هو مغاير ومخالف لمشروعها الحضاري.وأما ثالثها فكان نظام الدولة العلمانية الحديثة الذي أريد له أن يكون استمرارا للوجود الإستعماري الغربي، بما يضمن استمرار تحقق مصالحه ووجوده غير المباشر، وهو الذي بالرغم مما كان فيه من بعض الإيجابيات، إلا أنه لم يكن النظام المناسب لتحقيق طموحات أبناء شعوب الأمة في التحرر والإستقلال والوحدة والرفاه والعزة.
وأحسب أنها اليوم في طريقها إلى استعادة ذاكرتها وهويتها بفعل الصدمات القوية التي تلقتها ومازالت تتلقاها كل يوم تقريبا وعلى مدى عقود طويلة، بل على مدى أكثر من قرن من الزمن.
ولكن الذي نستطيع أن نؤكده كذلك أيضا، أنها مازالت تعاني من سياسة الشد والجذب بين القوى المخلصة لها والمنتصرة لهويتها الحقيقية ولإستعادة ذاكرتها التي يمكن أن تستعيد بها مكانتها وقيمتها وهيبتها التي فقدتها ،والتي لا يمكن أن تستعيدها إلا على ذلك الأساس،وبين قوى الإستعلاء والإستكبار العالمي والمتحالفين معها ممن من المفروض أنهم أبناءها من المنتصرين للعلمنة والتغريب، والمناهضين للأسلمة والتعريب، بل ومنهم من يتجاوز ذلك إلى معاداتهما ومعاداة من يدعو اليهما، ومن لا قناعة له بغيرهما في أي مكان من العالم ،والجادين لإستعارة ذاكرة وهوية الأمم الأخرى لها باسم العالمية وباسم الثقافة الإنسانية وباسم العولمة وباسم الحداثة وغير ذلك من الشعارات الممجوجة التي قد مضى من الوقت على الأمة ما يكفي للقول أنه لا طائل من ورائها.ولعل المخلصين من هؤلاء لا يعلمون أن ذاكرة أمة لا تصلح لأن تكون ذاكرة لأمة أخرى بالغة ما بلغت من العالمية ومن الإنسانية ومن درجات التقدم والرقي والحداثة. وأن الذاكرة لا تستعار ولا تكترى ولا تشترى ولا تباع كذلك ولا تصنع.وأحسب أن هؤلاء المخلصين قادرون أن يعلموا أن الذاكرة هي تراكم ثقافي معرفي وروحي عقائدي وتاريخي حضاري، وإذا كان هذا ما تختلف فيه الأمم من أمة إلى أمة والشعوب من شعب إلى شعب، فكيف يمكن أن تنقل ذاكرة أمة لأمة أخرى أو ذاكرة شعب لشعب آخر، بقطع النظر عما يمكن أن يكون هناك من القواسم المشتركة التي يمكن أن تحقق التعايش والتعاون والتكامل بين هذا الشعب وذاك ،وبين هذه الأمة وتلك ،وما يمكن أن يتحقق لهذه الجهة أو تلك من مكاسب ومنافع ،وما يمكن أن يجنبها ذلك من خسائر وأضرار.
والذي نستطيع أن نؤكده أن أي مجهود يتجاهل الهوية الحقيقية للأمة وينصرف إلى إحداث أي بديل عنها أو يجعل أصحابه الإقليمية والتجزئة ملاذا لهم تحت عنوان القطرية و الوطنية ويتجهون إلى البحث عن أصل وهوية لذلك بعيدا عن أصل وهوية الكل ذات الهوية الواحدة والمرجعية الواحدة والإمتداد الجغرافي الواحد…ويستثني جهلا أو تجاهلا ذاكرتها ،ويتجه إلى إحداث أي ذاكرة لها بديلا عنها ،هو مجهود ضائع ليس لأي كان أي مصلحة فيه.وليس الوضع الذي تعيشه الأمة اليوم منا ببعيد بفعل هذه العقلية وهذه التوجهات وهذه المحاولات ومثل هذه القناعات. ولقد بدا واضحا أن هذا الضياع وهذا التفكك وهذا الإنحدار الذي ألقت فيه النخب العلمانية العبثية والتقليدية العدمية بشعوب الأمة من حيث أنها تزعم أنها إنما كانت دائما تريد أن تصعد بها ،قد الحق بها خسائر كثيرة و أضرار كبيرة. وهي تعلم اليوم ومدركة حجم تلك الخسائر وتلك الأضرار.ولكن مواقعها ومصالحها العائلية والأسرية والقبلية والفئوية والنخبوية والحزبية…ما زالت تحول دونها ودون مراجعة ذلك والتراجع عنه.والذي يزيد الأمر خطورة وتعقيدا، أن هذا المجهود والوقت الضائعين عن شعوب الأمة هو مجهود كل أبناء هذه الأمة نفسها ،والذي ليس لها أي مصلحة فيه فقط ،ولكن الأخطر من ذلك أنه يصب بما لا يخفى على أحد في مصلحة أعدائها، ويوفر لهم أرباحا ومنافع كبيرة ،ويتحقق لهم به مصالح كثيرة تزيدهم تفوقا عليها ،ولا شيء يحصل لهم من كل ذلك بغير ذلك.
فليس العرب المسلمون مستهدفين من طرف الغرب الصليبي الصهيوني من أجل عرقهم أو لدمهم العربي، ولكنهم يستهدفون فيهم إسلامهم وتاريخه وأمجاده وإنتاجه الحضاري ،لأنه أصل وأس هويتهم التي لا هوية لهم بدونها ،وروحهم المعنوية التي لا معنى ولا معنويات لهم بدونها ،وذاكرتهم التي لا ذاكرة لهم بدونها. أما العرب وغيرهم من غير المسلمين فإنما يستهدفون فيهم علاقتهم التاريخية والحضارية الدائمة بالإسلام والمسلمين، والذين أصبحوا شركاء لهم في الهوية والذاكرة والهوية والوطن مع توفر كل الظروف المناسبة لهم للمحافظة على خصوصياتهم عبر تاريخهم الطويل مع المسلمين وفي حضارة الإسلام التي هي حضارتهم التي هم شركاء مع المسلمين فيها.
ومنذ أن أنهى العرب التلازم الذي كان قائما بين العروبة والإسلام ،وبعد أن انتهوا إلى عملية الفصل بينهما، وقد أعانهم على ذلك قوم آخرون في ظروف عربية وإسلامية استثنائية، وفي ظرف دولي جديد ،كان العرب والمسلمون أكثر الأطراف فيه ضياعا ،بل لم يكونوا طرفا فيه أصلا ،وكانوا إحدى مواده الأساسية وهم في حالة اضطراب وفوضى وارتباك ،وفي حالة غيبوبة كانت الفرص فيها متاحة لكل من هب ودب أن يكون له فيها دور ورأي. وأصبحت العروبة رديفا للإسلام حتى تم طرحها بديلا عنه في إطار السائد من المناهج السياسية في العالم منذ ذلك الوقت حتى اليوم ،حتى أصبح أعداء الأمة من اليهود الصهاينة ومن الصليبيين الجدد يستهدفون العرب لأن العروبة عندهم بقيت ومازالت دائما تعني الإسلام، ولأنه لا معنى لها عندهم بدونه ،وهو في الحقيقة المعنى الصحيح .وهو الأمر الذي فقده العرب والمسلمون وحادوا عنه عن قصد وعن غير قصد، عن فهم وعن غير فهم ،عن إدراك وعن غير إدراك. وكانت تلك أول ضربة توجه لهوية الأمة الكاملة ولذاكرتها التي وان كانت حتى ذلك الحين تعاني من بعض الضعف بفعل تفشي ظاهرة الجهل والأمية في صفوف أبناء الأمة، إلا أنها لم تمت و لم يتم الإجهاز عنها في مستوى النظام السياسي والبرامج التربوية والإعلامية والثقافية والأخلاقية إلا من طرف النخب المتغربة في نظام الدولة العلمانية الحديثة وفي صفوفها ،وفي نظام الدولة التقليدية التي جمدتها ،فلا هي أتمت الإجهاز عليها ولا هي أحيتها .ولذلك لم يكن موقف النظامين مختلفا كثيرا من الحركة الإسلامية المعاصرة التي كانت حركة إحياء لما قتلته الدولة العلمانية الحديثة ،وإيقاظ واستنهاض وبدرجات مختلفة ومتفاوتة بين مكوناتها لما جعله عليها نظام الدولة التقليدية من جمود.
ولقد كانت المنطقة العربية من العالم الإسلامي الأكثر تضررا والأكثر ضررا من ذلك الفصل والتفريق الذي ابتدعه النخبة التقليدية والمتغربة بين العروبة والإسلام بعد إنهاء ذلك التلازم الذي كان قائما بينهما، محملين الإسلام مسؤولية مظالم نظام الخلافة العثماني للعرب وللمسلمين ،خاصة في المنطقة العربية.هذه المنطقة التي حلت فيها بفعل ذلك الفصل وفك الإرتباط بين العروبة والإسلام ثنائية وازدواجية لم يكن مثلها موجودا في ما تبقى من أوطان شعوب الأمة الإسلامية.فبعد أن كان العرب يعتبرون أنفسهم الأولى والأحق بالخلافة في ما مضى من تاريخ الأمة ،ويصارعون الموالي من أجل ذلك منذ وقت مبكر من تاريخ نظام الخلافة الإسلامية حتى سقوط الخلافة العباسية ببغداد، وليتواصل بعد ذلك وبدرجات متفاوتة في ظل الخلافة العثمانية ،حتى تحول الصراع بينهم وعندهم بين العروبة والإسلام، وكان ذلك من بين العوامل الرئيسية التي كان لها دور أساسي في ضعف الذاكرة وموتها، لأن إحياء العروبة بمعزل عن الإسلام كان قتلا له ولها. وإذا كانت ذاكرة الأمة هي إسلامها عقيدة وشريعة ولغة وتاريخا وحضارة، فإن قتل الإسلام وإلغائه هو الإلغاء والقتل الحقيقي للذاكرة وللعروبة والإسلام معا وهو إلغاء وقتل للذات وإلغاء وقتل للأمة . وكان ذلك لفائدة العروبة والعلمانية التين لا علاقة لهما بذاكرة الأمة، ولا يصلحان أن يكونا بديلا عن الإسلام، أو أن يوجدا ذاكرة بديلة عن الذاكرة الإسلامية التي هي ذاكرة الأمة كلها.وإذا كانت هذه معاناة شعوب المنطقة العربية، ولهذه الأسباب، فان معاناة باقي شعوب الأمة تبقى أقل، باعتبار أن المنازع القومية، ولئن كانت حاضرة، إلا أنها لم تطرح بديلا عن الإسلام. وإذا كان الصراع قد ظل متواصلا بين الإسلام والعلمانية في الإطار القومي، إلا أنه لم يكن صراعا بين القومية والإسلام.وإذا كان قد تم فصل الإسلام عن الحياة في إدارة الشأن العام، فانه لم يفصل عن القوميات ولم يتم طرحها بديلا عنه. ولذاك ظلت ذاكرتها وان أصابها الفتور والضعف تنبض بالحياة رغم محاولات القتل المتعمد والممنهج التي ظلت وما زالت مستمرة ،خاصة في أوطان الشعوب التي وقعت تحت طائلة الإحتلال السوفياتي والأقليات الإسلامية في البلدان ذات الأنظمة الشيوعية الشمولية.
وسيظل العرب والمسلمون فاقدين للذاكرة والهوية طالما ظلوا محافظين على الإعتقاد بأنه يمكن أن تكون هناك عروبة بدون الإسلام وبعيدا عنه، وأنه يمكن أن يكون هناك إسلام بعيدا عن العروبة ومنفصلا عنها، وان كان يمكن أن يكون ذلك صحيحا وممكنا في كل البلاد الإسلامية، إلا أن ذلك ما لا يصح في المنطقة العربية وفي أوطان شعوب الأمة العربية من العالم الإسلامي.
وإذا كانت العروبة بفعل عوامل تاريخية، وبفعل عملية الفصل عن الإسلام التي أجريت عليها، قد أصبحت شيئا آخر واكتسبت معنى آخر غير المعنى الذي أكسبها إياها الإسلام ،فان هذا المعنى قد جاء خارج ذاكرة الأمة، وهو عامل من عوامل قتل هذه الذاكرة التي بموتها تموت الشعوب والأمم. ولتحقيق هذا الهدف أثبتت الولايات المتحد الأمريكية في خطتها لفرض الديمقراطية التي تريدها في منطقة الشرق الأوسط الكبير أن يكون برنامجها الثقافي يستند إلى الثقافة الجاهلية والأدب الجاهلي والتأكيد عليهما على حساب الثقافة الإسلامية والأدب الإسلامي والقيم الإسلامية ،في استهداف لذاكرة الأمة ولروحها المعنوية العالية التي لا تستمدها إلا من الإسلام.ولعل قيادات البيت الأبيض من المحافظين أي الصليبيين الجدد نسوا أو لم يعلنوا أو جهلوا أو تجاهلوا أن هذا الأدب نفسه هو من مكونات الثقافة العربية الإسلامية، وأنه كان يزود عرب الجزيرة العربية بروح معنوية عالية ،وهو الذي دخلوا به الإسلام ،وهو الذي أبقى الإسلام على الكثير منه وأقره وأضاف إليه ما يستحقه من قيم ومبادئ وأخلاق وشرائع وحكم أصبحت من قيم الإسلام وآدابه ومبادئه ومما تنتظم عليه العلاقات الإجتماعية والإقتصادية والسياسية.ولعل الطاقم الصليبي الحاكم في البيت الأبيض لا يعلم أن حركة الإحياء الإسلامي الحديثة التي تقلقه وتؤرقه وتقض مضجعه ،قد كان من الأسباب الرئيسية المباشرة لانبعاثها ،هو الإنحراف عن المنهج الإسلامي في الحكم وفي مناهج التعليم والإعلام والتربية والعلاقات الإجتماعية ،بالإتجاه الذي تدعو إليه هذه الإدارة وتعمل بكل الوسائل على فرضه بالقوة مثلما سبق لحركة الإستعمار أن فرضت المناهج العلمانية المختلفة عن شعوب الأمة بالقوة، وألغت مثلما تعمل هذه الإدارة اليوم على إلغاء المناهج الإسلامية بالقوة كذلك.
ولذلك فإن زعماء البيت الأبيض من الصليبيين الجدد لم يأتوا في الحقيقة بجديد. ولكن الذي يجب أن يعلموه أنهم إنما قد أذكوا النار بزيادة صب الزيت عليها ،لأن المسلمين ليسوا في النهاية في حاجة أكيدة لتعلم دينهم وفهمه والنهل من ثقافته من خلال المناهج الرسمية للتعليم ،ولكنهم يستطيعون بحكم الطبيعة غير الكهنوتية لهذا الدين أن ينهلوا من مصادره مباشرة ومن تأملات واجتهادات علمائه ومفكريه قديما وحديثا.
وإذا كان الإسلام قد أعطي له معنى آخر، وأصبح لا علاقة له بالعروبة في « أوطان شعوب الأمة العربية »فان ذلك المعنى ليس معناه الحقيقي، ويكون بذلك من المعاني المزيفة التي لا علاقة لها بذاكرة الأمة وبهويتها، ولا يصبح بذلك إسلام الهوية والذاكرة الذي لا حياة لشعوب الأمة إلا به. وفعلا فقد تم تحويل معناه ومفهومه في الثقافة العلمانية الهجينة العبثية والتقليدية العدمية إلى ذلك المعنى المبتذل الذي لا قيمة ولا معنى له. وهي القيمة والمعنى الذين أصبح يستمدها من القيم والمعاني التي أصبحت تعطيها إياه النخب العلمانية اللائكية، في تقاسم للأدوار بين من هم منهم داخل السلطة وبين من هم خارجها منهم، في محاولة جادة ومتواصلة لإخراجه عن معانيه ومفاهيمه الأصلية الواردة في كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم .وليأخذ المعاني الواردة للدين في أدبيات الغرب وفكره وفلسفته وثقافته ،بما يجعل قول العلمانيين والتغريبيين بالنظام العلماني والعمل به بديلا صحيحا عن النظام الإسلامي في محله.بل بما يجعل القول بالنظام الإسلامي والدعوة إلى العمل به غير دقيق وغير صحيح، وليس في إطاره التاريخي ولا الحضاري.ولا تتحقق به الحداثة والنهضة والديمقراطية والعدالة والمساواة وحقوق الإنسان…
وبقلب هذه المفاهيم والمعاني، أحيل الإسلام بفعل هذه النخب من خلال مواقع ودوائر أخذ القرار إلى معاني أصبحوا لا يقبلون ولا يريدون لأحد أن يقبل بأي معنى للإسلام غيرها ،والتي يقتضي منها أن يكون مجرد اعتقاد باهت ميت لا أثر له في حياة الناس، إذا ما استثنينا بعض المظاهر وبعض المشاهد وبعض المؤسسات التي لا تترك كبير أثر في تفكير الناس وسلوكهم، والناس أحرار في أن يأتوا من هذا الدين ما استطاعوا وما أرادوا وما شاؤوا أن يأتوا به منه، ولهم أن يتخلوا عما أرادوا وما استطاعوا بل وما شاؤوا أن يتخلوا عنه منه. هكذا أصبح العرب والمسلمون يفهمون الإسلام.بل هكذا أريد لهم أن يفهموه .وهو المفهوم الذي أصبح سائدا والذي أريد له أن يسود في ظل نظام الدولة العلمانية الحديثة الذي حرص الغزاة الإستعماريون الصليبيون أن يتركوه قائما في الأوطان التي كان لهم عليها نفوذ ،وكانت لهم عليها سيطرة كاملة.ذلك النظام الذي كان قد مثل ثورة، وأحدث نقلة نوعية في الأنظمة القبلية البدائية في قبائل إفريقيا وفي إفريقيا الجنوبية وفي جنوب ووسط آسيا ،بل وفي النظام القبلي البربري والإقطاعي والكنسي في أوروبا نفسها، ولكنه النظام الذي مثل انتكاسة في التاريخ السياسي للأمة وطعنة في ظهرها، بالعمل على تقويض كل أسس النظام الإسلامي الذي مهما كانت درجة الإنحطاط التي كان عليها هو نظام سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي قائم بذاته، وكان قابلا للتطور باستيعاب المستحدثات والمستجدات والإضافات التي وفد بها علينا الغرب الصليبي الغازي، مع المحافظة على خصوصيات مجتمعات شعوب أمة العرب والمسلمين. وذلك ما اتجه إليه رواد الحركة الإصلاحية العربية الإسلامية الأصيلة منذ البداية، لولا أن الغزاة وأعوانهم من أبناء الأمة من الذين زعموا أنهم قد أشربوا في قلوبهم الثقافة الغربية والحداثة والحضارة الغربية ،قد قطعوا الطريق أمامهم ،وأرادوها هرقلية كسروية بما يرضي عنهم الغرب ،وبما يجعله مطمئنا كل الإطمئنان على استمرار إدارة أعماله ،واستمرار تحقيق مصالحه على نحو أفضل مما يمكن أن تكون عليه في ظل وجوده العسكري والإقتصادي والثقافي والإعلامي المباشرة على أوطان الشعوب المستضعفة في مشارق الأرض ومغاربها.
ومن خلال هذا النظام الشامل المتكامل الذي فرضته قوات الإحتلال والغزاة، أعطي للإسلام في حين غفلة من أهله الذين كانوا يغطون في سبات الغفلة والإنحطاط معنى غير المعنى الوارد في نصوصه الأصلية، وغير المعنى الذي هو عماد النظام الإسلامي الذي هو النظام الطبيعي لأمة العرب والمسلمين، والنظام الأصلح للعالمين. وهو المنهج الذي أرسل به الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم ليظهره على الدين كله رحمة للعالمين ورحمة بالعالمين: قال تعالى « إنا أرسلناك رحمة للعالمين« . وهو الذي أورد في كتابه العزيز كذلك قوله « قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا« .وهكذا أصبح المسلمون يفهمون هذا المعنى الإستعماري للإسلام الذي هو معنى دخيل عنه، ولا صلة ولا علاقة له به. وهو المعنى الذي أعطاه الغرب للدين المسيحي الكنسي الذي كان معاديا للعقل والمعرفة والعلوم التي أوصلها لهم الفاتحون من العرب والمسلمين الذين كانوا قد جمعوا علوم ومعارف كل أو جل الإنتاج العقلي الإنساني الوثني الإغريقي والروماني والفارسي والهندي والصيني ومن قبلهم العبراني والآشوري والفنيقي وغيرها من حضارات وثقافات ومناهج وعلوم ومعارف كل الأمم والشعوب الغابرة المندثرة والمنقرضة، وتلك التي طالتها وتعايشت معها وصارعتها حركة الفتح الإسلامي التحررية .
وهكذا أصبح العرب والمسلمون يفهمون هذا الفهم الإستعماري العلماني للإسلام، وهو المعنى الذي أصبح سائدا، والذي يراد له أن يظل سائدا في ظل الدولة العلمانية اللائكية الحديثة المشروع الإستعماري للغرب الصليبي في بلاد العرب والمسلمين.
وهو المعنى الذي جاءت به لنا رياح الثقافة الغربية ونحن عن ذلك غافلون. وهي الثقافة التي خاضت قبل أن تفرض علينا بقوة السلاح معركة دامية مع الدين الكنسي المسيحي الذي كان نظام الكنيسة من خلال أسفاره المحرفة، ومن خلال طبيعته التحريفية، ومن خلال فهم رجال الدين هناك من البابوات والقساوسة والكرادلة والبطاركة والمطارنة له، ومن خلال إبلاغهم ذلك المعنى للناس، وهو المعنى الذي لا يراعي إلا مصالح الكنيسة وسلطتها الدينية والزمنية التي ليس لها فيها الحق بموجب نصوص الإنجيل بل الأناجيل وإلا نفوذها والحفاظ على سلطان وسلطة رجال الدين فيها، وإحكام سيطرتهم على الأوضاع في مواجهة قناعة الملوك وحرصهم على استعادة حقهم في تولي السلطة الزمنية التي تجيزها لهم الكتب المقدسة على النحو التي هي عليه، وعلى النحو الذي يعلمه ويفهمه رجال الدين هؤلاء أنفسهم ولا يسلمون به لأصحابه، ولا يعترفون لهم به على حد ما يؤكده الدارسون والباحثون والمفكرون والفلاسفة والمؤرخون الذين عاشوا هذه الظروف، وكانوا طرفا رئيسيا في إدارة هذه المعركة من أجل الإنتصار للعقل وللعلم وللحرية والعدل والمساواة والحق، ومن أجل الدين نفسه، تقريبا كما نخوضها نحن اليوم ضد العلمانية كموروث ثقافي ونظام سياسي واجتماعي وإداري واقتصادي وتشريعي استعماري، وضد التقاليد المحسوبة على الإسلام في الأنظمة العربية التقليدية ،لإعادة الأمور إلى نصابها بإعطاء ما لقيصر لقيصر وما لله لله كما يقولون وكما يؤكدون على موافقة ذلك لما هو وارد في الأناجيل التي بين أيديهم والجاري بها العمل في أوطان شعوبهم والتي هم مؤمنون بها.
وإذا كانت الثقافة الغربية المعاصرة قد أعادت من خلال ذلك الصراع الذي دام قرونا بين الجمود والحركة، وبين الثبات والتطور، وبين التقدم والتأخر ،وبين العلم والجهل ،وبين الظلام والنور، وبين العقل والنقل المحرف ، الذي يحاول البعض أن يؤكد على وجه الحصر على أنه لم يكن إلا صراعا بين الدين والعقل، وهو الصراع الذي سقط فيه الدين وظهر فيه العقل ،وخرج منه الدين مهزوما والعقل منتصرا. وهو وإن كان في ذلك بعض الوجاهة، ووجه من أوجه الصواب، إلا أن ذلك ليس بذلك الشمول والإطلاق، لأن ما ينطبق على الديانات الموضوعة والديانات المحرفة لا ينطبق على الإسلام مثلا، وهو الذي جاء جامعا بين الدين والحياة، وبين الدنيا والآخرة ،وهو الذي جاء جامعا بين العقل والنقل والموضوع في صورة تكامل جدلي لا قيمة للواحد من هذه العناصر بدون الآخرين. بحيث لا قيمة ولا معنى للنص بدون العقل والموضوع فهما وتأويلا وتنزيلا ، ولا قيمة للعقل بدون النقل ترشيدا وتوجيها وتثبيتا على الحق والصواب لفهم الواقع وإصلاحه وتطويره لإقامة الحق والعدل والمساواة ،ولا قيمة للحياة بدون العقل والنقل تنظيما وضبطا حفاظا على النسل والدين والعقل والنفس والمال .وهو الذي كان إلى جانب كونه دينا، قد كان منهج حياة باعتباره ليس دينا موضوعا ولا خرافة ولا أسطورة منتحلة .وهو الدين السماوي الوحيد الذي سلم من التحريف. وهو الدين الخاتم الذي جاء مختزلا لكل الرسالات التي جاء بها الرسل من قبل بعثة النبي الخاتم صلى الله عليه وسلم ومهيمنا عليها. وليس للأديان السابقة له حجة عليه. ولا يمكن أن يكون لها مطعن فيه. بل كان فيها من الأدلة ما يؤكد على حتمية وجوده وعلى ضرورة مبعث صاحبه، بورود اسمه والصفات والعلامات الدالة عليه فيها. وهو الذي جاء مقيما الحجة عليها، ومصححا لما أفسد المفسدون فيها، ومكملا للنقص الذي جاءت عليه، والذي أراده الله لحكمة يعلمها، ويعلمها ويستطيع علمها وإدراكها الباحثون والعلماء المحققون، ليكون بذلك الصورة الكاملة للدين الكامل من حيث هو عقيدة وشريعة ومنهج حياة. وهو الذي أخذه الثقاة من الرجال والنساء بعضهم عن بعض مرفوعا للنبي صلى الله عليه وسلم تابع عن تابع تأكيدا وتنفيذا لوعد الله وهو الذي وعده الحق بأن يظل حافظا له. وهو الذي تكفل بذلك في قوله تعالى: »إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ».
(يتبع)
بقلم:علي شرطاني
قفصة تونس
المتنورون في تونس و الحداثة المغشوشة
باسم الله الرحمان الرحيم
بقلم محمد الفاضل
و بدلاً من أن نرى ما يمكن أن تستثمره تلك الأنتاليجنسيا المتحالفة مع نظام الأميّة من راهنية فلسفة ابن رشد في تطوير حياة التونسيين المعاصرة و تأسيس لمقدمات الحداثة، صارت المحنة الرشدية واقعاً تونسياً منذ تسعينات القرن الماضي إلى هذه اللحظة. فحين يُعاقب مختار اليحياوي قاضي قضاة البلاد التونسية لدفاعه عن استقلالية القضاء و المحاماة فقد عَاقـَبَ يعقوب المنصور قبله ابن رشد قاضي قضاة قرطبة. و حين يَُزَجُ بمحمد عبو لرأي أفصح عنه على رؤوس الملأ و تُحَاصَرُ أمنياً مؤسسات المجتمع المدني فقد قضى قبلها ابن رشد بضع سنين في العزلة منبوذاً لمقالات للعقل و الحكمة و الحق و الحقيقة أسس بها لغيرنا. لقد صارت محنة القاضي مختار اليحياوي و المحامي محمد عبو و محنة المجتمع المدني عامة بجمعياته و منظماته المناضلة اليوم عنواناً لمحنة العقلانية السياسية في تونس كما صارت محنة البروفسور منصف بن سالم و مائات من الجامعيين و الكتاب عنوانا لمحنة العقلانية العلمية فيها.
في النصف الأول من التسعينات و في ما كانت الموجة الثانية للهجمة الأمنية على الحركة الإسلامية لا تزال نشطة كانت الأنتليجنسيا قد قفزت بخطوتين إلى الأمام: بخطوة أولى نحو لحظة التغيير من حركة السابع من نوفمبر ومن ثم بخطوة ثانية نحو بعض المقاعد المتقدمة من سدة الحكم، متجاوزة كل التناقضات الإيديولوجية المفترضة و منزلقة عن كل التصنيفات الطبقية التي موقعت نفسها، فيما إدّعت لعقود، أنها أكثر خاناتها طلائعية، و قطعت فجأة مع كل الإلتزامات الأخلاقية و الحقوقية التي صنعت فيها و بها أمجادها، تجتهد في ترشيد العهد الجديد بوضع معالم طريق مواجهة الظلامية الإسلامية في تونس. و فيما كانت تضع كل أرصدتها العلمية و السياسية و الاقتصادية في مزادات السابع من نوفمبر و تنخرط في نظام السوق قبل إفتتاحه، و فيما لا تزال الدولة بحزبها و مؤسساتها و أجهزتها الأمنية، تشن حملات تمشيط، مدينة بعد مدينة بحثاً عن الكتاب الإسلامي و تـعْـقل ملايين الكتب [1] من المكتبات الخاصة و تجرم تداولها و تعتقل عشرات الآلاف من أصحابها، كانت تلك الأنتاليجنسيا تجعل من لحظتها تلك منعطفاً حاسماً من أجل الحداثة و تفتتح عهداً تأسس لنفسها فيه مع الأمّية السياسية، و تعقد مع السلطة تحالفاً لن ينفرط عقده لاحقاً إلا حين تتراجع أسهم نظام السابع من نوفمبر و تكسد بضاعته. و بعد أن عاثوا في البلاد فساداً و إفساداً، كان و لايزال يُعتـقد، أن تلك المعركة تخاض من أجل عيون الحداثة، و أن عصر التنوير يجب أن يدشن بلحظة القطيعة الشاملة مع « الظلامية الإسلامية ».
لقد ظلت النخب الجامعية في تونس طيلة الخمسين عاماً الماضية تنشط أكاديمياً و ثقافياً بعيداً عن اليومي من الحياة الاجتماعية و السياسية بالبلاد، بل و في بعض المراحل السياسية بعيداً عن نشاط و هموم الحركة الطلابية بالجامعة التونسية ذاتها، و عن هموم الحركة العمالية أيضاَ، و مع أنها خرّجت أجيالاً من الكفاءات العلمية العالية فإنّها لم تستطع أن تنقل خبراتها العلمية و كفاءاتها الأكاديمية من دائرة الاهتمامات الجامعية المتخصصة إلى ساحات الفعل المجتمعي و السياسي. فقد ظلت الخبرة و المعرفة التي أفادها الإنتاج الجامعي حكراً على استثمارات الدولة أساساً دون المجتمع المدني، كما ظلت بحوثها رهينة سياسات الدولة بدلا من أن تكون رائدة الحياة الفكرية والسياسية و المجتمعية بل و رضيت بوعي منها أن تلعب باسم الأكاديمية ظهيرالخطاب السياسي الرسمي.
ولئن كانت النخب الجامعية على وجه الخصوص محدود إنخراطها في حركة المجتمع السياسي بين (1956-1987) من مواقع المواجهة ضد الدولة الرأسمالية البورقيبية التابعة و هو موقف لا يبرره بحسب أدبياتها الأصيلة غير طبيعة سلوك البورجوازية الصغيرة ذي النفس النضالي المحدود، فإن إنخراط تلك النخبة في المرحلة اللاحقة في أجهزة الدولة الأمنية لبن علي منذ 1987 و إلى غاية اليوم تكشف عمق المرض الطفولي الذي أصاب تلك النخبة من البورجوزية الصغيرة لا سيما بعد أن اختارت دونما مراجعات أن تلعب داخل مؤسسات الدولة الأمنية و من مواقع متقدمة، دور(المثقف العضوي) على طريقتها.
كانت الجامعة التونسية قد عرفت منذ نشأتها، صراعاً حقيقياً قلّ أن نجد له نظير في الجامعات العربية، بكليات الآداب و العلوم الإنسانية، ينهض على أساس منه إنكار فريق من نخب تلك الجامعة وجود فلسفة إسلامية، فيما يكابد الفريق المقابل من أجل الإعتراف بوجودها. و أياً كان الأمر، فقد ظل هذا السجال يجري على نحو لم يخرج فيه عن الطبيعة الحيوية التي كانت دوما تعرفها الساحة الجامعية خاصة و الساحة الثقافية في تونس عامة، لا سيما و أن الحركة الإسلامية، مع تناميها، مثلت أحد الأطراف الأساسية في معادلة الصراع الإيديولوجي في الشارع السياسي في تونس.
كانت خطابات الفلسفة و العلوم الإنسانية و الحضارة في الجامعة التونسية بما هي خطابات يحتكر، بعض رموزها المناهضة للفلسفة الإسلامية، منبر العقلانية، قد أعلنت إنخرطها مع مؤسسات الدولة، الأمنية والحزبية في جبهة موحدة ضد الظلامية، و انخرط الرعيل الأول من « التقدميين و مريديهم » منذ 1987 في لجنة الفكر بالتجمع الدستوري الديمقراطي أو/و في المواقع الأكثر تقدماً بمؤسسات الدولة ينصحون لها، و يرسمون لها مناهج تطبيقية للتنوير [2]، مؤكدين أن تجفيف ينابيع فكر التيارات الدينية جزء أساسي من المهمة. و أن تعديل الموقف لصالح الإعتراف بالفلسفة الإسلامية و إستثمار بعض إمكانياتها التحررية في المرحلة الراهنة، ليس سوى تكتيك يندرج ضمن موجبات تفصيح معركة طلائع التنوير، لا سيما و أنها ظلت عاجزة أمام قطاع واسع من جمهور المثقفين على التخلص من مشاعر اليتم الحضاري كلما كانت اللحظة التاريخية تضعها في مواجهة الإسلام الاحتجاجي.
وفي السياق السياسي من معركة تلك النخبة من أجل حداثة مدفوعة الأجر، اُستُـدْعيَ ابن رشد في التسعينات إلى برامج التعليم والمنتديات و الملتقيات الفكرية و الفلسفية و إلى الدراسات الأكاديمية و غير الأكاديمية و إلى دور السينما [3] و إلى أعمدة الصحف التونسية الصفراء ليكون رجل المرحلة و لتقاد الحملة ضد الإسلاميين تحت لوائه و لــيُجبر هو نفسه على الاصطفاف خلف الأجهزة الأمنية و لتصطف تلك النخبة الحداثوية بيتمه، خلف الرجل، تشهد له بالعقل و التنوير. و ليعاد توصيف المعركة مع الإسلاميين في التسعينات على أنها ذات الخصومة التي كانت بين أبي حامد الغزالي [4] و أبي الوليد إبن رشد [5] يعاودها الأحفاد اليوم. و أن معركتهم هذه ليست منزوعة من سياقها الحضاري و أن هذه النخبة، من موقع تحالفها مع السابع من نوفمبر، إنما تتابع مطمئنة اليوم معركتها ضد ظلامية العصر، كان أباً لها (إبن رشد) قد دشنها من أجل تهافت « ظلامية » أبي حامد الغزالي [6].
و لقد إستحكم المنظور الإستشراقي للفلسفة الإسلامية لدى هذه النخبة ما أنتج قراءة انتقائية لإبن رشد لا ترى في فلسفته من راهنية إلا بمقدار ما تحمله معركة التسعينات ضد الإسلاميين من دواعي تفصيح تلك النخبة لمعركتها و تأصيل خطابها من داخل الفلسفة الإسلامية بصورة لن تكون الهوية إلا واحدة من الإمكانيات التي تطمح هذه النخبة إلى إستعادتها في حدود الحاجات التي تمليها المرحلة.
كانت سنة 1995 قد وافقت الذكرى المائوية الثامنة (1195) لمحنة ابن رشد و كانت الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية قد نظّمت ملتقاها في سنتها تلك تحت شعار كان مسكون بالسياسة أكثر من سكنى الفلسفة: إبن رشد اليوم، و لم يكن (علي الشنوفي) رئيس الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية وقتها ليخفي ما اكتشفته تلك النخبة، و هو يُعدد هواجس اختيار إبن رشد لربطه بعصرنا : ( أن فلسفة ابن رشد رغم اندراجها في زمن غير زماننا، يمكن أن تساعدنا على فهم بعض قضايانا الراهنة، ففلسفة ابن رشد إلى جانب فعلها النظري الخالص، أدت دوراً تنويرياً، ما زال قادراً على دعم تطلعاتنا إلى فكر نقدي يتصدى إلى مظاهر الزيف التي اكتسحت مجالات واقعنا و ثقافتنا….فقد عَرف ابن رشد مضار مزج الدين بالسلطة أي مضار الخطاب اللاهوتي-السياسي، رغم كل الجهود التي سخرها إقرار التعايش السلمي بين النزعات الفكرية المختلفة…..إن التأمل في كل هذه الإمكانيات الفكرية التي فتحها ابن رشد يجعلنا نعتقد أن المرحلة الحضارية التي نعيشها قد تكون هي المرحلة التي تبرز راهنية هذه الفلسفة و ضرورة استعادتها، و لكنها إستعادة لن تكون لها قيمة إلا إذا فهمت في حدود ضرورة استرداد فيلسوف قرطبة و مراكش كرمز خاصة ( رغم) أن فلسفته قادرة على أن تساهم بشكل جدي في إنارة الكثير من قضايانا الراهنة) [7].
و الواقع أن ابن رشد لم يُستَدْعَى من الماضي، بهذه المناسبة، من أجل شيء، إلا بغاية المشاركة في معارك الحاضر تحت بريق العقلانية ضد الدين و السياسة في آن معاً. إذ لم يُستــدْعى ابن رشد على امتداد سنوات التسعين و لا قبلها بوصفه شارحاً لأرسطوطاليس و لا دُعيَ ليدخل علينا بوصفه واضعاً لكتاب « بداية المجتهد ونهاية المقتصد » الذي كان عمدة في الدراسات الفقهية و الأصولية، و مرجعاً لتنظيم الحياة العملية التي ميّزت منذ عهد المنصور الموحدي حياة المغاربة و لا بوصفه قاضي قضاة قرطبة و لا بوصفه طبيباً أو فلكياً أو فيزيائياً. لقد اُستحضر ابن رشد لسببين، أولهما الإحتجاج بمحنته [8] في القرن الثاني عشر على الظلامية الإسلامية التي بدأت تتنامى منذ الثلث الأخيرة من القرن العشرين، لذلك اختارت الجمعية الفلسفية التونسية محنة إبن رشد (1195) توقيت الاحتفاء بالمئوية الثامنة (1995) لذكراها، و لم تختر مولده أو وفاته توقيتاً للذكرى كما هي العادة في الاحتفاء بعظماء التاريخ و لا إختارت تاريخ تصنيفه شروحات أرسطو أو تاريخ و ضعه كتاب تهافت التهافت أو فصل المقال مثلاً. ثانيهما أن الملتقى اقتصرت مباحثه على المسائل العقائدية-السياسية، حصراً دون التعرض إلى غيرها من المباحث الفلسفية التي عجت بها شروحه و مصنفاته [9].
لذلك فإنإبن رشد اليوم لن يكون قادراً، بحسبهم، على أن يوفر لهذا العصر، أكثر مما يمكن أن تقدم مباحثه العقائدية و السياسية، في سياق مواجهة إبي حامد الغزالي (أبو الإسلاميين اليوم) [10]، و ضمن رؤية تجعل من القطع بدل الإتصال، بين الحكمة و الشريعة أصلاً تأويلياً و فصلاً للمقال. و هي قراءة لا تخلو من معايب جمة ليس أقلها أنها تماثل مماثلة غير علمية بين التجربة التاريخية للإسلام السياسي و العقدي و بين التجربة الدينية المسيحية في التاريخ السياسي لأوروبا القديمة و هي أيضاً قراءة، مع كونها مدفوع لها سابقاً من الإستشراق و من النخب التغريبية العربية منذ أول القرن الماضي و حاضراً من الفرانكفونية [11]، فإنها لاتزال تتحذلق بلَيّ النصوص و اجتزائها دون أن تحضى مع ذلك بإجماع يحسم الباب و ينهي القول في المسألة.
و إذ تقدم هذه النخبة قراءتها تلك، فإنها لن ترى، من أجل معارك التنوير المزعومة، من مانع أن تخذل العقلانية كلما كان لزاماً عليها قياس الشاهد على الغائب و إستدعاء الماضي من أجل الإستنصار به، غير آبهة لسقوطها في منهج أشعري لم تكن منذ بعض الوقت تتردد في أن تحمل عليه. و هي برغم جُـبة الفلسفة الإسلامية التي تتزييَ بها تفصح بمنطق المصادرة على المطلوب في بحوثها عن انحيازها اللامشروط إلى حضارة الغرب العلماني، و بينما يؤكد فلاسفة التنوير أن العقل أعدل قسمة بين الناس جميعاً، تذهب هذه النخبة إلى أن عقل التنوير بمركزيته الأوروبية هو أفضل عقل يمكن أن يتقاسمه الناس جميعاً. و هو ما حدا أيضاً بتلك النخبة أن تخرج عن سكينتها لتشجب بصوتها تارة و بصوت ذيولها تارة أخرى حين وَزعت إحدى فروع الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية في ذات السنة و لنفس المناسبة، روزنامة سنة 1995 من الحجم الصغير، رُسم على خلفيتها صورة لتمثال إبن رشد مكتوب في أعلاها: (العرب أعقل الأمم) [12] و قد استنكرت تلك النخبة فوراً نسبة صيغة التفضيل للفعل الثلاثي عَـقَـلَ إلى العرب حصراً، معتبرة أن مثل هذه المغالاة في وصف العقل عند العرب لا تستقيم لها حجة ولا تبررها إلا شوفينية متطرفة.
لقد شاءت تلك النخبة أن تعيد إحياء خصومة إبن رشد الأمس، بدعوى الدفاع عن العقل و الفلسفة ضد خطاب الغزالي، لتجعل من خصومتها هي، استمرارا لتلك التي جرت بين الرجلين، دفاعاً عن العقلانية و الحداثة ضد الإسلاميين اليوم، و هي تفعل ذلك غير آبهة إلى حقيقة أن المغاربة لم يكونوا إلى حدود عصر إبن رشد قد تعرفوا على علوم المنطق إلا من مصنفات الغزالي [13] و أن الغزالي ذاته حين صنف المستصفى من علم الأصول، و قد وضع الكتاب و هو في مرحلة التصوف، إفتتح مقدمته بالقول أن علوم المنطق (هي مقدمة العلوم كلها و من لا يحيط بها فلا ثقة له بعلومه أصلاً) [14]. و أن أبو الوليد إبن رشد كان يرى في الغزالي منذ (المختصر في المنطق) وهو من باكورة أعماله، إماماً من أئمة النظر و حجة في الأصوليات [15] رغم ما بلغه الخلاف معه في مصنفاته اللاحقة من حدة بالغة لم يكن إبن رشد يخفيها دفاعاً عن الحكمة لكن من غير أن تتعدى حدود التبجيل و التقدير الذين ظل يخص بهما الغزالي منذ باكورة أعماله إلى غاية( فصل المقال). لذلك فإن وضع الغزالي في مواجهة إبن رشد، مواجهة النقيض لنقيضه، محاولة غير منصفة نظرياً، فضلاً عن كونها مغرضة و مفضوح انتماءها و ولاءها. كما لا يستقيم موضوعياً وضع التقابل الذي يراد للرجلين أن يكونا عليه و الحال أنه مثل ما تعرضت مصنفات إبن رشد للحرق في(1195م) كانت قبلها مصنفات الغزالي قد تعرضت للمصير نفسه (1107م) حين أصدر قاضي قرطبة و زملائه، على أيام علي ابن يوسف ابن تاشفين حاكم دولة المرابطين، فتوى تتهم الغزالي بالابتداع فأمر بإحراق كتاب إحياء علوم الدين في قرطبة أمام الناس و نودي فيهم على إمتداد المملكة، بقتل من يقرأه [16].
و لو جوّزنا لأنفسنا قياس الشاهد على الغائب، على نحو ما جوّز أولائك لأنفسهم لقلنا: أن المئوية الثامنة لمحنة إبن رشد سنة (1195) و التي تم إحياء ذكراها في تونس سنة (1995) و كان يراد الإحتجاجة بها حينها على ما يوصف بالظلامية الإسلامية، كانت توافق في واقع الأمر محنة الإسلاميين في تونس بين السجون و التشريد التي دشنت لما سيعرف لاحقاً بمحنة المجتمع التونسي برمته و مكوناته المجتمعية الأصيلة و العريقة. و إذا كان إبن رشد قد اُمتُحنَ من قبل أبي يعقوب المنصور بالإبعاد عن القصر لمدة لم تزد عن السنتين ليعيد إليه التبجيل و الإعتبار بعد ذلك فإن نظام بن علي قد حكم على الإسلاميين في تونس بالمؤبدات و الموت البطيء، و عمم اللعنة لتشمل ذويهم و لتمتد إلى جميع أفراد المجتمع التونسي فلا تستثني أحداً و لتطول محنتهم إلى ما يزيد عن العقد و نصف العقد، في وقت لم يكن في بلاط النظام التونسي وقتها غير فقهاء التنوير من رموز يسار عَقدَي الستين و السبعين، قبل أن يميلوا على شعبهم ميلة واحدة.
و لو جاز لنا قياس الشاهد على الغائب لقلنا أن الحملة الأمنية في تونس على الكتاب الإسلامي في التسعينات من أجل إعدام كتب الإخوان المسلمون: حسن البنا و أبو الأعلى المودودي و حسن الهضيبي و السيد قطب و محمد قطب و سعيد حواء و فتحي يكن و مصطفى السباعي و عماد الدين خليل و ويوسف القرضاوي و كتب الغزالي ذاتها… و ما إستمرت عليه أجهزة الأمن في السنوات الأخيرة من الألفية الجديدة من تعقب لمصنفات إبن تيمية وأبن القيم الجوزية و كتب علماء المدرسة السلفية و معاقبة من يحوزها، كانت أكثر شدة و شراسة من الفتوى التي أصدرها قضاة الدولة المرابطية بحرق كتاب الإحياء و معاقبة قرائه.
و لو جاز لنا قياس الشاهد على الغائب لقلنا أيضاً أن أبو يعقوب يوسف حاكم الدولة الموحدية حين أمر بحرق كتب إبن رشد، كان يحاول إسترضاء الفقهاء من أجل أن يستجمع للدولة قواها و يوحد صفها، في مواجهة قوات ألفونس الثامن ملك قشتالة في معركة جرت عند الأرك، بينما نظام بن علي و فقهاءه من نخبة البلاد لا يزالون منذ التسعينات يغييرون برامج التعليم و يجتهدون لتجفيف ينابيع الفكر و المعرفة لنيل رضا الولايات المتحدة الأمريكية من أجل طمس الهوية العربية الإسلامية للتونسيين و تجهيلهم تحت عناوين مواجهة التطرف الديني في التسعينات و مكافحة الإرهاب في فاتحة الألفية الميلادية الثالثة.
وإذا كان يعقوب المنصور قد خص كتب فلسفة ابن رشد وحدها بقرار الحرق دون الكتب الطبية و الرياضية و الفلكية فربما يشفع له أنه استثنى الكتب العلمية من الحرق و يشفع لدولة الموحدين أيضاً أن بلاطها أجَلّ العلم و أهله و أمر بشرح أرسطوطاليس [17] و هيأ بصورة ما لإنبعاث المدرسة الرشدية اللاتينية لاحقاً التي ستنهض بدور حاسم في نهضة أوروبا و حركة تنويرها. فيما سيقوم بلاط نظام ابن عليّ بالانقضاض على الدور الريادي و المستقل الذي ظلت الجامعة التونسية تخدم من خلاله التنمية العلمية التي كانت تُعَدُ من مكتسبات المجتمع التونسي حصراً. و لقد شكلت النخبة المتحالفة مع نظام الأميّة لبن علي ضرباً من الرشدية السياسية لم يكن مضمونها يزيد عن كونه مشروعاً إستئصالياً للحركة الإسلامية بالدرجة الأولى ثم سيتعداه لاحقاً إلى ضرب التدين الفردي بما يشتمل عليه الإسلام من قيم روحية و اجتماعية ظلت لقرون تنسج للمجتمع التونسي روابطه و تمسك بتوازن مكوناته.
لكن لو تجاوزنا مثل تلك القياسات الأشعرية التي لم تعد ممكناتها العقلية تلبي حجم المشكلات الأساسية التي يعانيها الفكر السياسي اليوم، كما أنها أيضاً ممكنات لن تسمح اليوم لأحد بأكثر من إسترضاء نزوعات شخصية أو حزبية ضيقة يطَمْئنُُ بزيفها الفرقاء من خنادقهم المتقابلة إلى أن أسلحتَهم الإيديولوجية لم يُصبْها الصدأ بَعدُ. فلو تجاوزنا إذاً هذه القياسات الفارغة فستضعنا رغبة استرداد فيلسوف قرطبة كرمز، أمام تنوير خانت النخبة مقدماته بل سيضعنا استرداد فيلسوف قرطبة كرمز أمام مفارقات تجربة حداثوية قادتها الأنتليجنسيا التونسية تحت حراب أجهزة الأمن السياسي، فأجهضت مخاضات عشريات راكم التونسيون خلالها ثمار نبوغهم المدني والسياسي.
إن أولى المهمات التي كان يمكن أن تنهض تلك الأنتاليجنسيا بالاضطلاع بها في حدود صلوحياتها لو أنها قدّرت جيداً راهنية فلسفة ابن رشد اليوم و لو أنها فعلاً عزمت على أن تلعب دوراً طلائعياً من أجل إرساء مقدمات للتنوير، أنها و من مواقعها المتقدمة في مؤسسات دولة السابع من نوفمبر، كان في مستطاعها أن تجتهد لأجل توفير آلية تمويل عمليات نشر رسائل البحث و الدراسات الجامعية المعمقة و تدفع بها أولاً من رفوفها إلى سوق الكتاب لتجعلها في متناول كل قارىء، فلقد كان بإمكان النخب الجامعية التونسية أن تقود حركة للتنوير فعلاً لو أنها أسست للعقلانية آليات تمويل و مؤسسات بحثية و مراكز دراسات و منتديات حوار مستقلة و جعلت من نفسها قطباً معرفياً تنهل من أبحاثها المؤسسات الرسمية و غير الرسمية و المتخصصين من الباحثين وغير المتخصصين و طلبة الجامعة وطلبة الثانويات، و تهيأت تلك المؤسسات والمراكز و المنتديات المستقلة لتكون مرشدة لكل طالب علم من عموم القراء و المثقفين و المعلمين و أستاذة الثانويات و أساتذة الجامعات و الباحثين في علم الإجتماع و علم النفس و العلوم السياسية و القانونية و تتصدر منابر الفكر و منتديات السياسة فتكون لرجل السياسة، أكان في الحكم أم في المعارضة، مراجعاً و لتعمل على أن تُلهم المنظمات و جمعيات المجتمع المدني ما يصلح أن يقوم مقام برامج عملها و ما على أساس منه تتفاضل الأولويات الواجب الإشتغال عليها بقصد تخليص المجتمع من رسوبياته المعيقة للتطور. وهي حين تفعل ذلك فإنما لترسخ بذلك تقليداً جديداً بتعميم المعرفة العلمية و ضرب نهج الإحتكار الذي صار من أسوء عادات النخبة التونسية. و لو أن عزم تلك النخبة على دفع حركة التنوير صادقٌ لكانت شجّعت الأبحاث الأكاديمية باتجاه ما ظل مسكوت عنه من الظواهر الاجتماعية و النفسية و السياسية التي عرفها المجتمع التونسي خلال تحولاته المتعاقبة خلال العقود الخمس الأخيرة و لجعلت من الإشكاليات ذات العلاقة بالتاريخ السياسي التونسي المعاصر، خلال فترة الحماية الفرنسية و بعده، إحدى أهم همومها التاريخية و لقطعت على حزب الدولة سبيل إحتكاره لتاريخ الحركة الوطنية التونسية و لجعلت من القضايا الميدانية ذات الجذور القانونية و الحقوقية أولى مشاغلها من أجل التنمية المدنية و السياسية في تونس.
لقد روّجت تلك النخبة في حينها أن استئصال الحركة الإسلامية، يمكنه أن يؤدي إلى تنقية المناخات المتوترة التي خلقتها أجواء المنافسة السياسية يوم كانت فيها الحركة طرفاً أساسياً في الساحة، و اعتذر النظام حينها و فقهاءه لتأجيله ما وعد به من حريات بسبب انشغله بتسييج معركته مع الإسلاميين، ثم اعتذر بعد ذلك بانشغاله بالتنمية كشرط أساسي لإنجاز حياة ديمقرطية موعودة، ثم اعتذر بـأحداث 11 سبتمبر التي وفرت له مبررات جديدة لتأجيل كل شيىء غير الجاهزية الأمنية و هو اليوم بعد 18 أكتوبر2005 غير معني بتقديم الإعتذارات لأن المعارضة الوطنية التي كان يوّجه إليها خطابه في الداخل صارت، بحسبه، مطعون في وطنيتها لإستقوائها بالخارج….!! و صار يمكنه أن يلفت عناية من في الخارج ممن عبّر عن قلقه بإزاء حالة حقوق الإنسان في تونس إلى ما ترتكبه راعية تلك الحقوق و حاملة تلك القيم (الولايات المتحدة الأمريكية أساساً و الدول المتحالفة معها في حربها على العراق) من تدخلها غير المشروع في شؤون الأخرين و انتهاك حقوق دول ذات سيادة ناهيك عن الإبادة العسكرية الجماعية للمدنيين العرقيين و فضائح التعذيب في أبوغريب. و عليه فقد كان النظام التونسي يجدد خطابه كلما تجددت مبررات استمرار تعطيل الحياة السياسية الرشيدة، و كلما وفرت له الأجواء السياسية الخارجية ما يستعين به مبرراً على استمرار حالة الطوارئ الأمنية على المجتمع التونسي ( الاحتراب الداخلي في الجزائر، التنمية الاقتصادية و مشروع الشراكة الأوروبية، مكافحة الإرهاب الدولي المناهض لقيم الديمقراطية، المعارضة الوطنية التونسية بعد 18 أكتوبر و ادعائه عليها بالإستقواء بالخارج على وطنها……… و هكذا).
كان يمكن لمشاريع التنوير في تونس أن تأسس للعقلانية و العقلانيـة النقدية لو أنها كانت فعلاً طموحاً صادقاً، كما كان يمكن أن نرى في توقيت قياسي ثمار ذلك التأسيس في مؤسسات الدولة و هيآت المجتمع المدني و مكوناته. فالعقلانية التي يمكن أن تنهض بإرسائها النخبة بما هي شرط أساسي من شروط أي حركة تنويرية و بما هي أيضاً شرط من شروط الصحة لحياة أي مجتمع مدني و بما هي بالنتيجة رافعة لكل عقلانية سياسية، كان يمكن أن نرى ثمارها في فصل السلطات التشريعية و القضائية و التنفيذية، لكن حين يُمتحن التونسيون بسطو نظام ابن عليّ على السلطات الثلاثة و تُحوّل وجهتها بفعل إكراهات الأجهزة الأمنية و بمباركة تلك الأنتليجنسيا البائسة فيُنتهك دستور البلاد و تعطل مرجعيته و حين يتحول القضاء أداة لتصفية حسابات نظام ابن علي مع خصومه السياسيين من الإسلاميين و غير الإسلاميين و حين تستعين تلك النخبة بأجهزة الأمن بتخصصاتها لتصنع رأياً عاماً يسكنه الخوف و التسليم فيما ستستمر تلك الأجهزة مستعينة بالصحافة في كيل التهم الباطلة و صناعة الأفلام المسيئة لعرض و شرف الأحرار من التونسيين و التونسيات ممن لا تزال روح الممانعة فيهم تكسر الصمت و حين تتحول المؤسسات الجامعية عن وظائفها العلمية لتعيد إنتاج جيل بدون علم و لا رأي و لا خُلق و لا طموح و حين يُقطع القطر التونسي عن انتمائه العربي و الإسلامي و حين تتحول الحركة الصهيونية العالمية إلى سند أساسي للسياسات التونسية في الداخل و الخارج فإن كل السقوط الذي آلت و ستؤول إليه البلاد لن يكون له من معنى غير الرغبة المبيتة في ضرب العقلانية في تعدد تمظهراتها بما هي شرط التنوير.
لقد كانت العقلانية النقدية هدفاً يوم أريد للجامعة التونسية و مشاغلها العلمية أن تكون غير معنية بالظواهر الاجتماعية و النفسية و السياسية و القانونية المستحدثة التي عادة ما تصاحب نمو كل مجتمع في جميع مراحله الطبيعية، و تركت مشكلاته مبهمة بغير إحاطة علمية لأصولها و منابتها و مستقبلياتها.
و كانت العقلانية السياسية هدفاً يوم قامت الأجهزة الأمنية بالسطو على مؤسسات الدولة و بدل الفصل بين السلطات الثلاث باتت تلك السلطات في قبضة نظام الأمية السياسية و عصاباته و جيىء إلى الأحزاب الوطنية المعارضة فاُريد استئصالها(حركة النهضة الإسلامية) أو تفخيخها من الداخل(حركة الديمقراطيين الاشتراكيين) أو محاصرتها و تضيق الخناق عليها(حزب العمال الشيوعي التونسي و الحزب الديمقراطي التقدمي)…
و كانت العقلانية العلمية هدفاً يوم اُكره المختصون على نموذج إصلاح للتعليم كانت معلومة وقتها نتائجه فكان أن آل التعليم التونسي اليوم إلى وضع كارثي لم يعد يخف على أحد شناعة نتائجه.
و بدلاً من أن نرى ما يمكن أن تستثمره تلك الأنتاليجنسيا المتحالفة مع نظام الأميّة من راهنية فلسفة ابن رشد في تطوير حياة التونسيين المعاصرة و تأسيس لمقدمات الحداثة، صارت المحنة الرشدية واقعاً تونسياً منذ تسعينات القرن الماضي إلى هذه اللحظة. فحين يُعاقب مختار اليحياوي قاضي قضاة البلاد التونسية لدفاعه عن استقلالية القضاء و المحاماة فقد عَاقـَبَ يعقوب المنصور قبله ابن رشد قاضي قضاة قرطبة. و حين يَُزَجُ بمحمد عبو لرأي أفصح عنه على رؤوس الملأ و تُحَاصَرُ أمنياً مؤسسات المجتمع المدني فقد قضى قبلها ابن رشد بضع سنين في العزلة منبوذاً لمقالات للعقل و الحكمة و الحق و الحقيقة أسس بها لغيرنا. لقد صارت محنة القاضي مختار اليحياوي و المحامي محمد عبو و محنة المجتمع المدني عامة بجمعياته و منظماته المناضلة اليوم عنواناً لمحنة العقلانية السياسية في تونس كما صارت محنة البروفسور منصف بن سالم و مائات من الجامعيين و الكتاب عنواناً لمحنة العقلانية العلمية فيها.
لقد كشفت السنون العجاف التي هَـيْمن الاستبداد فيها على مقدرات الدولة و المجتمع في تونس أن النخب الجامعية(الآداب و الفلسفة و العلوم الإنسانية و العلوم السياسية و الحقوقية..بصورة حصرية) التي إنخرطت في حزب الأفاريات [18] و تطوعت في صفوف نظام الأمّية السياسية لم تكن مسؤولة فقط عن مواقفها السياسية الخاطئة بل مسؤولة أيضاً على إجرامها في حق المجتمع التونسي و فئاته. فالدركات السحيقة التي بلغتها البلاد من الحيف السياسي و الاقتصادي و التفاهة الأخلاقية و المعرفية و الثقافية إنما تتحمل تلك النخبة مسؤولية تبريرها. فقد أبانت محنة المجتمع التونسي، إن قُرأَتْ بعقلانية تجريبية، أن نظرية استئصال الحركة الإسلامية، بوصفها مقدمة للتنوير، كانت بلاريب نظريةً لا تاريخية [19]، كما أبانت ذات المحنة أن التنوير خارج الوفاق الوطني، يظل فعلا ظالما و مشروعاً لحداثة مغدورة في المقدمات و النتائج و يضع هذا التنوير في المحصلة على ذات الدرجة من التساوي للظلامية، ليس بوصفه وعياً زائفاً وحسب، بل أيضاً بصفته الترسانة النظرية للاستبداد./.
[1] في أولى سنوات التسعين من القرن الماضي شنت الدولة الأمنية في تونس حملة تمشيط حقيقية على الكتاب الإسلامي في المدن التونسية، مدينة بعد مدينة وقد رافق هذا التمشيط حملة دعاية استعانت الأجهزة الأمنية فيها بكوادر التجمع الدستوري الديمقراطي و قواعدها من أبناء الشوارع و مليشياته، الشيء الذي أثار في قلوب المواطنين الفزع والرعب وحمل الإسلاميين جميعهم على إعدام كتبهم حرقاً أو غرقاً في الأودية والبحار أو طمراً تحت التراب ومَنْ شقّ عليه إعدام مكتبته الثمينة بكتبها الفريدة أقام عليها جداراً ظلت لأكثر من عشر سنوات، لا هي ترى نور الشمس ولا العقول ترى نورها، ولم يفرج عن بعضها إلا السنين الأخيرة.لكن يجب أن نشير على سبيل المقارنة للأهداف والوسائل التي تفتتح طريق العبور إلى الحداثة المغشوشة حيث في أفريل من سنة2003 أي في الأيام الأولى من الحرب على العراق، وبحسب ما يذكر تقرير الأمم المتحدة فإن 10ملايين كتاب أحرق في بغداد،ولم يكن ذلك في واقع الأمر إلا من أجل أن يتمتع العراق بقيم الديمقراطية والحداثة.
[2] نتحدث هنا عن السادة: محمد الشرفي وحمادي بن جاب الله وعلي الشنوفي وعبد السلام المسدي وعبد المجيد الشرفي وعبد الباقي الهرماسي وزهير الذوادي وعبد الحميد لرقش والصادق شعبان… وآخرون ونحن إذ نشير إليهم بالإسم فإننا نعلم أن أدوارهم في سياق جبهة التحالف مع النظام وحزبه في تلك المرحلة، مع أنها كانت معلنة من قبلهم ولم يواري أحد منهم حينها ما كان يضطلع به من مهمات في نطاق ذلك التحالف إلا أنه يمكننا القول أنه على مستوى الأداء، كانت الجهود بينهم متفاوتة.
[3] تم توزيع شريط: المصير في دور السينما التونسية كما إشتغلت الدعاية له وتثمين جهود إنتاجه وتحليل معانيه البليغة في الصحف التونسية، لكونه شريط سنمائي يروي محنة إبن رشد دون أي أدنى توثيق علمي لمادته التاريخية ومراجعة لوقائعه وهولا يعتمد إلا على قراءة انطباعية ومزاج مخرجه يوسف شاهين وعلى نص سناريست فرنسي الجنسية وقد صُور الإسلام فيه مساوياً للإرهاب وإبن رشد مساوياً للعقل المضطهد.
[4] هو محمد بن محمد بن محمد بن أحمد الغزالي المعروف بأبي حامد، ولد بمدينة طوس من خرسان في سنة 1058م، عاش في كنف أحد المتصوفين تابع تعليمه في طوس وجرجان ونيسابور حيث تتلمذ على إمام الحرمين أبو المعالي الجويني وبعد موت الجويني تعرف الغزالي على الملك السلجوقي وزير الدولة ومؤسس المدرسة النظامية في بغداد والتحق بالبلاط خرج سنة478هـ ثم عينه النظّام أستاذاً في جامعة بغداد وداوم فيها على التدريس بين (484_488هـ)، خرج من بغداد وإستقر لفترة بالشام فألف فيها كتابه الأشهر إحياء علوم الدين..قضى القسم الأخير من حياته في العبادة والزهد إلى أن وافته المنية سنة( 505هـ).من أهم مؤلفاته الإحياء والمستصفى من علم الأصول، مقاصد الفلاسفة، تهافت الفلاسفة، معيار العلم، محك النظر، المنقذ من الضلال، إلجام العوام عن علم الكلام…. وفي علاقته بدولة المرابطين يمكن أن نضيف إلى ترجمته أنه حين أدرك الضعف ملوك الطوائف بالأندلس وعجزوا على حماية دويلاتهم أمام تهديدات جيوش ألفونس جاء قضاة تلك الدويلات، إلى يوسف ابن تاشفين أمير دولة المرابطين يستنجدونه ويشكون إليه عجز ملوكهم، فإستصدر من قاضي غرناطة وقاضي مالقة فتوى تطعن في أهلية أولائك الملوك وشرعية قيامهم على ممالكهم، كما طلب الفتوى أيضاً من أكثر فقهاء الشرق الإسلامي علماً و شهرة فأيدوه وكان من بين أكثرهم شهرة وقتها الإمام أبي حامد الغزالي.
[5] هو أبو الوليد محمد بن أحمد بن محمد بن رشد، شارح لمصنفات أرسطو، إشتهر في العالم اللاتيني باسم[AVERROES ]، وباسم [الشارح] أيضاً وهو عالم متبحر في العلوم الشرعية والعلوم العقلية: مثل الفيزياء، والطب والفلك كما في أصول الفقه والفلسفة. ولد بقرطبة في1126م وتوفي بمراكش في 1198م ينتمي إلى عائلة أندلسية مجيدة.كان جده فقيهاً مالكياً وقاض وإمام بجامع الأعظم بقرطبة.كما كان أباه أيضاً قاض والتراجم تأكد في مجملها على التكوين الشرعي العميق والمتوسع الذي تأهل به إبن رشد في المراحل الأولى من تحصيله.قدمه إبن طفيل إلى الأمير الموحدي أبو يعقوب يوسف ( 1163-1184)، فكُلف بشرح مصنفات أرسطوطاليس وإجلاء ما أغمض من عباراتها. تولى القضاء في أشبيلية سنة(1169) ثم بقرطبة في(1171م)، ولما صار أبو يعقوب خليفة اتخذه لنفسه طبيباً سنة(1182) ثم تولى القضاء مجدداً في قرطبة مسقط رأسه و في منصب أبيه وجده.
[6] صنف إبن رشد كتابه تهافت التهافت ليرد فيه على النقد الذي وجهه الغزالي لأطروحات الفلاسفة الإسلاميين ابن سينا والفارابي في كتابه تهافت الفلاسفة
[7] من كلمة الافتتاح علي الشنوفي رئيس الجمعية التونسية للدراسات الفلسفية في ملتقي إبن رشد اليوم للأيام 19_20_21مارس1995عن المجلة التونسية للدراسات الفلسفية: عدد19سنة1998.
[8] خلال حكم يعقوب المنصور(1184_1199) ظل ابن رشد يحض بالتبجيل عند الأمير لكن بين سنتي(1195_1197) نال ابن رشد غضب أبي يوسف يعقوب المنصور الموحدي فأبعده من القصر ونفاه إلى مدينة أليسانة اليهودية بالقرب من قرطبة والواقع أن عدة روايات تتحدث عن هذه الحادثة فمنها ما يرد الأمر إلى:أن أبي يوسف يعقوب المنصور وقف من العلوم الفقهية والكلامية والفلسفية موقفاً صارماً وهو بذلك يتراجع عن الموقف الذي إتخذه والده مع ابن رشد حين دعاه إلى شرح مصنفات أرسطو.ومن تلك الروايات أيضاً القول أن الإشاعات التي صارت بين العامة والتي تشير إلى أن أبي يوسف يعقوب المنصور يشتغل بالعلوم العقلية ، فاتجه إلى اظهار محاربته للفلسفة وأصدر أمراً بإحراق كتبها الموجودة في الخزانات ،وقد كان ذلك كما ذهب أغلب المؤرخين رغبة من الخليفة في إسترضاء الفقهاء من أجل استجماع القوة اللازمة لمواجهة النصارى في الشمال، ذلك أن الفقهاء في تلك المرحلة مثلوا قوة سياسية ضاغطة على الخليفة.
[9] من أهم مصنفات إبن رشد من غير شروحات أرسطوطاليس نذكر: بداية المجتهد ونهاية المقتصد وكتاب مناهج الأدلة في عقائد الملة وتهافت التهافت وفصل المقال فيما بين الحكمة والشريعة من اتصال.
[10] الغزالي أبو الإسلاميين وابن رشد أبو العلمانيين هكذا أصّلت في تاريخ الفلسفة الإسلامية للعلمانيين، الحملة الدعائية المرفقة بالهجمة الأمنية على الإسلاميين في منتصف عشرية التسعينات من القرن الماضي، ومنحتهم بمناسبة حملة الاستئصال تلك، جذوراً لم يكونوا قبل اليوم يدّعونها لأنفسهم، ولا تمسكوا بالانتساب إليها بعد انقضاء الحملة.
[11] في الجامعة التونسية لا يرى بعض المثقفين الصغار من مريدي النخبة المتحالفة مع نظام السابع من نوفمبر، مانعاً أن يعيد كتابة مداخلته من اللغة العربية الى اللغة الفرنسية مقابل إكراميات يغدقها المركز الثقافي الفرنسي عليه، وقد يرتفع الأجر إن تعلق الأمر بتحويرات في المضمون. هذا ويشجع كل من المركز الثقافي الفرنسي والمعهد الفرنسي للتعاون( institut français de coopération) بصورة علنية كل نشاط علمي أوثقافي يُعرض باللغة الفرنسية بصورة كلية أو جزئية.
[12] أنظر الصورة في الأعلى وهي صورة تمثال إبن رشد بقرطبة اختيرت لتكون خلفية روزنامة سنة 1995 وقد كتب في أعلاها عبارة (العرب أعقل الأمم) وهي عبارة منسوبة لإبن المقفع وردت في كتاب العقد الفريد لإبن عبد ربه _ج/1.والذين أعدوا هذه الروزنامة وصمموا خلفيتها يعتقدون أن الإشتغال على توظيف رمزية ابن رشد في وقت انغلق فيه الطوق الأمني على جميع مناشط الحياة في تونس وفي أعقاب زلزال حرب الخليج الثانية وتدمير العراق وفي سياق الهرولة العربية نحو التطبيع مع الكيان الإسرائيلي ومراتونات المفاوضات المنفردة تحت مظلة اتفاقية أسلو، قد يكون مفيداً ، فبنظر العروبيين والإسلاميين وكثير من الوطنيين من غير العروبيين والإسلاميين، يبدو أن إبن رشد كان يمكنه في تلك اللحظة أن يلعب أيضاً دوراً مضاداً للحلول الأمنية التي اختارت الأنظمة العربية أن تنهجها ضد الحركات الإسلامية كما يمكن لإبن رشد اليوم أن يلعب أيضاً برمزيته دوراً مضاداً للتغريب والتطبيع مع الكيان الإسرائيلي ومناهضة مشاريع العولمة التي دخلت فوراً بعد حرب الخليج الثانية طور التنفيذ.وقد لخصت عبارة العرب أعقل الأمم كل المعاني والقضايا التي تمثل خطاً فاصلاً بين العلمانيين الليبراليين الجدد والذين يتموقعون على جبهة العمل العربي والإسلامي.
[13] مصنفات الغزالي المنطقية هي: معيار العلم، محك النظر، ومقدمة كتاب المستصفى من علم الأصول..
[14] المستصفى من علم الأصول للإمام أبي حامد الغزالي ج/1ـ صفحة 10
[15] المختصر في المنطق: لإبن رشد
[16] لما آل حكم الدولة المرابطية بعد وفاة يوسف إبن تشفين سنة (1106) إلى إبنه، عسر عليه إحكام السيطرة على أطرافها المترامية لقلة التماسك في التنظيم الداخلي للدولة، فصار مرد الأمر فيها للفقهاء الذين تنازعهم الخلاف الفقهي والمذهبي، لكن مع انتشار كتاب إحياء علوم الدين للإمام الغزالي في الأندلس أثار لدى هؤلاء الفقهاء المعارضة فأصدر قضاة قرطبة فتوى اتهموا فيها الغزالي بالإبتداع والهرطقة فاُحرق كتابه في قرطبة على مرأى من الناس وفرضت عقوبة القتل على كل من يقرأه.
[17] كانت شروح إبن رشد لمصنفات أرسطو قد أنجزت بطلب من الخليفة الموحدي أبي يعقوب يوسف قبل أن يصبح خليفة على البلاد.
[18] حزب الأفاريات هو التجمع الدستوري الديمقراطي على حد التشخيص الكلينيكي للدكتور منصف المرزقي.
[19] يكتب برهان بسيس في ختام مقاله في جريدة الصباح بتاريخ27أفريل2006 ناصحاً واضعي استراتيجيات نظام ابن علي، بعد أن ألمح إلى فشل السياسات التعليمية و الإعلامية إلى أنه « علينا فعلاً التفكير« ، و الواقع أن مثل هذه النصيحة حين تأتي متأخرة بنحو خمسة عشر سنة، فإنها لا تعني أكثر من أن العقل السياسي الذي أدار سياسات الدولة كان في غيبوبة بفعل شهوة السلطة و أن النخبة التي رسمت استراتيجيات الدولة و كانت وراء النتائج الشنيعة التي أفرزها المجتمع التونسي في السنوات الأخيرة على مستوى أنماط الفكر و السلوك لجيل تربى على نهجها ليست إلا نخبة ظلامية الفكر إنتهازية الأخلاق و أن العقل عند تلك النخبة لم يبلغ بَعدُ لحظة التفكير و لا التفكير عندهم بلغ لحظة الفعل..!!.و برهان بسيس الذي إعتادت السلطة أن تدفع به للواجهة الإعلامية ليحيك حجة يداري بها سوءة النظام كلما عجز النظام على الدفاع عن نفسه إنما يمنحنا بهذه الإشارة البليغة من لدنه الحجة البالغة إلى أن لحظة موت النظام وشيكة لأن وحده الذي يفكر، موجود(أنا أفكر إذن أنا موجود) و طالما أن عزائم النظام على التفكير فعلاً قد خارت فلاريب أن ساعته قد حضرت، و أقلها إحتضاره بالمعنى السياسي.
(المصدر: موقع « نواة » بتاريخ 15 ماي 2006)