التقاء الزبونية والدولنة أبّد شخوص الحكم ومنع تغيير النخب الدكتور منصف ونّاس في حوار عن الإخفاق الديمقراطي في الوطن العربي
تونس – خاص – « أقلام أون لاين » حاوره عادل الثابتي
في الوقت الذي شهدت فيه أغلب البلدان التي كانت تعيش تحت أعتا الديكتاتوريات تحوّلا نحو الديمقراطية، فتجاوزت أسبانيا الحقبة الفرانكية المظلمة، وتخلّصت الشيلي من حكم بينوشي الدموي، بل تمّت ملاحقته قضائيا، وانهار الستار الحديدي عن دول المنظومة الاشتراكية، بقيت المنطقة العربية عصيّة عن كل تحوّل نحو الديمقراطية. بل تجرّأ بعض الحكام العرب على الشعوب بالاتجاه نحو توريث الحكم إلى أبنائه. وَوُجِد البعض من داخل النخبة من يدافع عن ذلك، مما حدا ببعض المفكرين والدارسين إلى إطلاق تعبير الإخفاق الديمقراطي في الوطن العربي على الوضع السياسي العربي. هذا الإخفاق الذي تولدت عنه حالة يأس من أيّ إصلاح ديمقراطي يمكن أن يمسّ المنطقة في حاضرها ومستقبلها.
ولمزيد فهم مظاهر هذا الإخفاق والأسباب البنيوية العميقة التي تكمن وراءه، وهل ثمة بصيص من الضوء في آخر هذا النفق المظلم، توجهت « أقلام أون لاين » إلى الدكتور منصف ونّاس أستاذ علم الاجتماع بالجامعة التونسية، الذي اشتغل كثيرا على مسألة الدولة في الوطن العربي، وخاصة في منطقة المغرب العربي، وله العديد من الدراسات التي تخص الديمقراطية والفساد والتنمية، وكان لنا معه الحوار التالي:
* هل هناك فعلا حالة من الإخفاق الديمقراطي في الوطن العربي؟ وما هي أهم تجليات هذا الإخفاق إن وُجِدَ؟
– حتى نكون أكثر دقّة يمكن القول إنّه توجد صعوبات عميقة في مجال التحوّل الديمقراطي في المنطقة العربية، بدليل أن العملية الديمقراطية في هذه المنطقة تُراوِح مكانها منذ أكثر من عقدين من الزمن، أي منذ الثمانينيات من القرن العشرين إلى حد الآن، إذ سجلت بعض الخطوات المعقولة في مجال التحول نحو الديمقراطية، ولكن سرعان ما تم التنازل عنها. وتعود هذه الصعوبات إلى ثقافة سياسية هي بالأساس غير ديمقراطية، إن لم نقل تَسلُّطية، الأمر الذي يفسر جزئيا عدم اعتبار الديمقراطية أولوية رئيسية في سلَُّم أولويات المجتمع.
وبما أن الثقافة السياسية غير ديمقراطية فإن ذلك يفسر عدم تحقيق أي تحوّل فعليّ في المسارات الديمقراطية، بل ثمة أحيانا نوع من التراجع، قياسا بالتعددية الموروثة من الأربعينات والخمسينات، في مجال تكوين الأحزاب وخلق الجمعيات وتوفير منابر للتعبير الحرّ. كما لا يجب أن نُغْفِل الإشارة إلى أنّ المجتمعات المدنية في المنطقة العربية غير فاعلة وناجعة بما فيه الكفاية لتفرض بقوة القانون والمطالبة مبدأ التحول الديمقراطي. فقد ساهمت الثقافة السياسية غير الديمقراطية في توهين المجتمعات المدنية العربية وفي إرباك فاعليها من جهة، وفي محاصرتهم وعزلهم من جهة أخرى. فمثل هذا الالتقاء الغريب بين عنصرين يبدُوَان في الظاهر متنافرين ولكنهما يرمزان إلى أزمة واحدة، وهي أزمة التحوّل الديمقراطي في المنطقة العربية. فالمشكلة أن دول الاستقلال أضعفت نفسها في مواجهة الضغوط الخارجية، وأضعفت المجتمع المدني، الذي كان يمكن أن يكون معاضدا لها أو مُوِجِّها لمعالجة الأخطاء ومشخِّصا لها.
* ما هي إذن العلاقة بين دولة الاستقلال ومسألة الإخفاق الديمقراطي؟ ولماذا فشلت النخب الحديثة التي مسكت بزمام الحكم بعد خروج المستعمر، والتي تكونّت في جامعات العالم الديمقراطي، وتشبعت بمبادئ الحداثة في ترسيخ نظام سياسي شبيه بالنظام الذي درست في جامعاته؟ هل يعود ذلك إلى أن قيم الديمقراطية والحداثة هي قيم غريبة عن البنى الفكرية والذهنية العربية، أم يرجع الأمر إلى عوامل أخرى؟
– لا بد أن نشير إجابة عن هذا السؤال إلى مستويين اثنين نراهما على درجة من التكامل:
المستوى الأول هو أنه لا بد أن نشير منذ البدء إلى أن المشروع الاستقلالي في المنطقة العربية غالبا ما أنبنى على مبدأ واحد فقط وهو مبدأ استبدال الحكم الأجنبي بحكم وطني. أي استبدال حاكم غريب بحاكم من أهل البلد. كما تمّ في السياق ذاته اختزال الوطنية في هذا البعد فقط أي اعتماد الوطني بدل الأجنبي. أما المستوى الثاني فيتمثّل في التعامل مع جهاز الدولة الناشئ تعاملا تَمَلُّكيا استفراديا، وإقصاء كل من يريد المشاركة أو التعبير، حتى لا نتحدث عن المنافسة، فأصبحت الدولة بمقتضى ذلك دولة الأقليّة، ولا تعبر عن الأغلبية. كما تمّ الحرص على أن تكون الدولة بمختلف أجهزتها الناطق الوحيد باسم المجتمع، أي ما يسمى في العلوم السياسية بظاهرة الدَوْلَنة Etatisation)) أي الاستفراد بحق التعبير، وإلغاء الأصوات الأخرى، وكبت الحريات. ومن أجل تعميق ظاهرة الدولنة هذه فإن النخب المتملكة لجهاز الدولة تعاملت مع المجتمع تعاملا زبونيا، بمعنى تغليب الولاء على الكفاءة، وتقسيم الغنيمة وفق مبدأ المبايعة والولاء.
إذن التقاء الزبونية والدولنة ولّد كثيرا من المشاكل من حيث تأبيد شخوص الحكم، وعدم تغيير النخب، وعدم الاستماع إلى الصوت المختلف. فأصبحت الحكومات في بعض الحالات معبِّرة عن جهة دون غيرها، أو عن قبيلة بعينها، أو امتدادا لإحدى الأسر.
إن مثل هذه البيئة السياسية لا يمكن بحال من الأحوال أن تعتبر الديمقراطية أولوية بالنسبة إليها، ولا يمكن أن تحرص على تحوّل ديمقراطي، حتى وإن كان تحوّلا بطيئا وتدريجيا، ويستغرق عقودا من الزمن، وتلك هي واحدة من المعضلات العويصة في المنطقة العربية. ذلك أنّ مرحلة الاستقلالات وفّرت البيئة الضرورية لتشكُّل فئات وشرائح اجتماعية مستفيدة من الوضع السياسي، ومستفيدة كذلك من الأوضاع الاقتصادية والتنموية، وحريصة على إبقاء البحيرة راكدة، حفاظا على مصالحها من كلّ شكل من أشكال المساءلة والملاحقة والمراقبة.
* ولكن دكتور منصف إذا كان هذا هو حال النخب، التي توّلت الحكم إثر خروج المستعمر، فماذا عن التيارات الفكرية والسياسية الكبرى في الوطن العربي
– العروبية والإسلامية منها بالخصوص – والتي وصل بعضها إلى الحكم في بعض الأقطار العربية؟ كيف كانت علاقتها بالمسألة الديمقراطية؟ وإلى أي حد ساهمت في الوصول إلى حالة الإخفاق الديمقراطي التي نحن بصددها؟
– لا يجب أن نُخفي أن التيارات العروبية والإسلاموية لم تكن تعتبر التحوّل الديمقراطي أولوية الأولويات بالنسبة إليها، وهذا يعود في تقديرنا إلى عامل سابق كنا أشرنا إليه وهو عامل الثقافة السياسية، التي تعتبر بأن تَمَلُّكَ جهاز الدولة يكفي لوحده لتغيير الواقع المجتمعي برمّته. ولكن تجارب كثيرة هنا وهناك أثبتت بأن امتلاك جهاز الدولة شرط ولكنه غير كاف إطلاقا لإيجاد التغيير الممكن.
كما يتوجَّب أن نشير إلى أن هذه التيارات انشغلت أساسا بالحفاظ على جهاز الدولة، الأمر الذي أدّى بها إلى مواجهات كثيرة. وغالبا ما كانت عنيفة مع تيارات مُجَايِلَةٍ لها، وتعيش معها في نفس الفترة، وتقاسمها الرغبة في التغيير. فمثل هذا الصراع السياسي لم يُمْهِلْ قوى كثيرة الوقت الكافي لتحديث مجتمعاتها، وإنجاز مشروع حضاري حقيقي، وبالتالي تحقيق التحول الديمقراطي المنشود. فبدل أن تجلس القوى السياسية إلى بعضها البعض وتتحاور فكريا وسياسيا، وتحاول أن تؤسس أرضية مشتركة، وأن تُغلِّب نقاط الالتقاء والتكامل على نقاط الاختلاف والفرقة، فإنّها انشغلت على امتداد عقود طويلة بإدارة الصراع السياسي، الذي أدى في بعض الأحيان إلى تناحر دموي، وإلى صراع مفتوح على السلطة ومن أجلها. فكانت النتيجة الكبرى هي تآكل المشروعية التاريخية والسياسية للدولة، وانغلاق الفئات الحاكمة على نفسها دون تقديم مشروع حقيقي، ودونما تعميم لخيرات التنمية على كل أفراد المجتمعات. فالإخفاق الديمقراطي هو ثلاثي الأضلاع:
1 – الإخفاق في التوصل إلى بناء سياسي توافقي يجمع كل المكوِّنات والفاعلين داخل المجتمع. 2 – الإخفاق لأسباب بنيوية عميقة في توزيع الثروة على كل مكونات المجتمع بشكل شبه عادل. 3 – الإخفاق في إنجاز التحوّل الديمقراطي حتى في حدّه الأدنى، بحكم أن الثقافة السياسية السائدة تسلُّطية واستفراديّة، يغيب فيها مبدأ الاختلاف واحترام الآخر.
* انشغلت النخب الحاكمة في الحفاظ على مملكاتها وجمهورياتها، ولكن هذا وحده لا يفسر حالة الإخفاق الديمقراطي. فماذا عن دور النخب المثقفة؟ أي إسهام قدمته في سبيل ترسيخ الديمقراطية، خاصة إذا ما قارنا الحالة العربية بمثال إسبانيا والشيلي. ففرانكو بذل كل الجهد للمحافظة على « دولته »، وكذلك فعل بينوشي، ولكنهما لم ينجحا أمام إصرار النخب والمجتمع على التغيّير؟
* يبدو لي أنه من الصعوبة أن نفصل النخب عن مجتمعاتها، ذلك أن المجتمعات لم تكن ضاغطة بما فيه الكفاية، ولم تتمكن من إيجاد الصيغ والقنوات والمؤسسات، التي تسمح لها بالتعبير، بما يفسر ظاهرة الدولنة من جهة، وعدم رغبة النظم الحاكمة في تقديم أي تنازل من جهة أخرى.
فالملاحظ أنّ النخب العربية إمّا أنها سايرت مختلف التجارب، وإمّا أنّها فضّلت الصمت المطبق، في حين لم تقاوم إلا أجزاء بسيطة ومحدودة من النخبة العربية. ولعل هذا ما يفسر هُزال مردود هذه النخب، وعدم قدرتها على التأثير في مسار مجتمعاتها. ولكن مثل هذا المردود لا يقدر على مجابهة بيئة سياسية متسلِّطة واستفرادية ولا تنظر إلى النخب إلا من زاوية الولاء والمبايعة والتزكية. وتلك هي واحدة من أمهات المشاكل في المنطقة العربية، التي تكاد تكون اليوم هي المنطقة الوحيدة في العالم، التي لا تتوفر على عقد سياسي واجتماعي بين الحاكم والمحكوم. ولا تتوفّر على الحد الأدنى من مستلزمات الحوار بين الدولة والمجتمع. ولذلك فالسلطات السياسية أضعفت نفسها، وأضعفت النخب معها في نفس الوقت، وكأنّ الأمر يتعلق بتهرئة متبادلة.
* هل يعني هذا أن الجامعات العربية العديدة قد عجزت عن إنجاب مثقفين عضويّين يستميتون في الدفاع عن مطامح مجتمعاتهم في الديمقراطية وينيرون لأوسع الجماهير طريق الحريّة؟
– لا.. لا أشاطرك الرأي في هذا، ففي المنطقة العربية أمثلة عديدة على المثقفين العضويين، ولكن المشكلة تكمُن في أنّ البيئة السياسية والاجتماعية والثقافية بيئة متكلِّسة لا تقدر النخب – على محدودية – أفرادها أن تُغيّرها. فالتغيير هو عمل جماعي وجماهيري تساهم فيه النخبة، دون أن تكون الفاعل الوحيد في إنجازه.
* إضافة إلى كل العوامل التي تحدثت عنها دكتور منصف كمعيقات للتحول الديمقراطي المأمول في الوطن العربي، نلاحظ منذ سنوات قليلة دخول فاعل جديد يربط البعض بينه وبين استمرار حالة الإخفاق الديمقراطي، ألا وهو عامل الفساد. هذا الفاعل الجديد يعتبر عديد الدارسين أنّه لا يمكن أن ينتعش إلا في ظلِّ أوضاع الاستبداد. إلى أي مدى يمكن أن يُعَطِّل الفساد عملية الانتقال الديمقراطي في منطقتنا؟
– يمكن أن نعرّف الفساد على أنّه إنتاج داخلي وخارجي يؤدي دورا سالبا في إفساد التنمية والحيلولة دون إنجاز التحول الديمقراطي. فليس خافيا على أحد أن المنطقة العربية تكاد تكون الوحيدة في العالم، التي تستهلك صفقات السلاح المغشوش، والأمثلة كثيرة على ذلك، منها على سبيل الذكر صفقة اليمامة بين المملكة العربية السعودية وبريطانيا، التي تكلفت ما يزيد عن 75 مليار دولارا.
وهي أيضا المنطقة الوحيدة في العالم التي تشهد التنمية الكسيحة والفاشلة. وهي حالة تتطلب نظما من طينة خاصة، ونخبا خاضعة ومتقبلة لمثل هذا الوضع الدولي الظالم. والبيئة الدولية تساعد على تعميم الفساد، وعلى إفساد النخب، وجعلها غير قادرة على المقاومة. ولكن لا يجب أن ننكر من جهة أخرى أن البيئة الداخلية متقبلة لمثل هذه الأوضاع، ومساعِدة على إعادة إنتاجها، ومساهِمَةٍ في تنميَّتِها.
فالالتقاء بين الضغط الخارجي والاستجابة الداخلية أدى إلى خلق شرائح جديدة مرتبطة بالرأسمال العالمي وبالسوق الاقتصادية العالمية وبانتشار الفساد. ولذلك فهي تقاوِم كل تحوّل ديمقراطي، وتحول دون إنجاز أي تحسين في الأداء السياسي، وتسعى إلى الإبقاء على البحيرة راكدة، وتعمِد إلى تعطيل مؤسسات وهياكل الرقابة، من أجل الحيلولة دون اكتشاف التجاوزات الممارسة بحق المال العام. فالفساد هو فاعل مهم في الداخل والخارج، ويمكن أن يصل إلى مرحلة ارتهان القرار السياسي، وإلغاء المطالب الديمقراطية، والحيلولة دون تحقيق أي تقدم في اتجاه البناء الديمقراطي. ويمكن أن نشير في هذا المثال إلى النخب الإسبانية التي لم تقاوم استبداد فرانكو فقط وإنّما قاومت، بالمقدار والحرص نفسه، الفساد الذي يترافق غالبا مع حالات الاستبداد.
* أمام حالة اليأس من تحقيق التحوّل الديمقراطي بأيد عربية، والعجز التام للنخب عن تحقيق أي اختراق ديمقراطي للمنظومة الاستبدادية العربية، توهّم بعض هذه النخب حلّ « الديمقراطية المستوردة »، فهل ثمة فعلا ممكنات « لإنقاذ ديمقراطي خارجي »؟
– إنّ المراهنة على الأجنبي من أجل تحقيق الديمقراطية مراهنة خاسرة، كما أثبتت ذلك تجارب عديدة ومتكررة. ولذلك نقولها دونما لبس إن الغرب ليس حريصا على الديمقراطية في المنطقة العربية، إذا كانت هذه الديمقراطية ستؤدي إلى المساس بمصالحه، وبأمن إسرائيل، وبتدفق الطاقة إليه بكل ليونة ويسر. وبهذا نفسِّر هذا الاستيراد الفاشل للتكنولوجيا والعجز عن توطينها، وعدم تمَكُّنِ المنطقة العربية من التقدم اقتصاديا وتنمويا. ولذلك فجزء من الغرب متورِّط في إنتاج العجز العربي وتأبيده. ولكن ثمة غرب آخر حريص على حقوق المنطقة العربية والدفاع عنها وعن حقّها في الحياة والكرامة، بدليل الهبّة الأوروبية الغربيّة في وجه الحرب الهمجية على غزّة. ومن ثمّ يتَوَجَّب أن نُفرِّق بين هذين المستويين، حتى لا نقع في التعميم والتبسيط المخلَّيْن بالموضوعية.
فالمعضلة الكبرى هي أن المنطقة العربية غير محصّنة، ولا تتوفر على آليات الدفاع عن نفسها، وغير قادرة فعلا على المواجهة، وعلى التعامل تعاملا نديّا مع الدوّل الغربيّة. فإذا ما أخذنا مثال فرنسا فإننا نلاحظ تناقضا غريبا في أدائها السياسي. فهي من جهة تريد تبييض جرائم إسرائيل وتدافع عنها حتى لا تقع تحت طائلة القانون الدولي. ولكنّها في مقابل ذلك تفتخر بتاريخها الاستعماري في الجزائر، وتُصِّرُ على عدم الاعتذار عن الحقبة المظلمة، وتلك خاصيّة من خصائص الوضع الدولي الراهن.
* أمام تضافر العوامل الداخلية والخارجية لتأبيد حالة الإخفاق الديمقراطي، أليس هناك من ضوء في آخر النفق العربي المظلم؟ ألا يمكن أي تولد رحم العجز ممكنات تحقيق الانجاز الديمقراطي بدل الإخفاق..؟
– هناك عاملان يتكاملان إلى حدّ كبير يمكنهما وضع حد لحالة اليأس هذه. يتمثل العامل الأول في ضرورة استمرار النخب، بكل هوياتها والفاعلين في المجتمع المدني، في الضغط من أجل تيْسير التحوّل الديمقراطي، ومن أجل فرض صيغة تعاقدية جديدة مع السلطات القائمة، لا تكون استفرادية أو تسلطية. بل تنبني على عنصري الحوار والاتفاق على المصلحة المشتركة. ولذلك فالنظم القائمة مطالبة بتقديم تنازلات ذات بال لمصلحتها أولا، ولمصلحة شعوبها، ومن أجل تأسيس الحدّ الأدنى من الشروط للمستقبل، الذي هو مشترك بينها وبين والمجتمعات.
وأما العامل الثاني فيتمثل في مزيد تدعيم روح المقاومة عند هذه الأمة في مواجهة الضغوط الدولية، وفي مقدمتها الضغوط الإسرائيلية. إن المقاربة التي تكون أكثر تلاؤما مع مشاكل المنطقة العربيّة هي هذه المقاربة، التي تجمع بين البعدين والمستويين. وهذا أمر مهم إذا كنّا نريد أن نغادر الأزمة، وأن نتهيأ تدريجيا لإعداد المستقبل، فالمستقبل هو في النهاية حصيلة ما استثمرناه في الحاضر.
* لننظر دكتور إلى التجربة التونسية، فالبلاد شهدت تجارب إصلاحية حتى قبل انتصاب الاستعمار (خير الدين التونسي…) وتنامت فيها هذه الأفكار مع تيارات الشباب التونسي والحزب الحر الدستوري التونسي بفرعيه القديم والجديد، والتيار اليساري المتمثل في الحزب الشيوعي التونسي، ولكنّ آباء دولة الاستقلال عجزوا عن تحقيق الديمقراطية، رغم النجاحات النسبية في الجوانب الاقتصادية والاجتماعية، إذ بقي الجانب السياسي مشوبا بسيطرة الحزب الواحد والفكر الواحد، وكان تاريخ دولة الاستقلال في جانب كبير منه هو تاريخ المحاكمات السياسية لخصومها السياسيين من اليوسفيين والبرسبكتيفيين والشيوعيين والإسلاميين والنقابيين وحتى بعض الليبراليين.. وعوض أن يحاورَ السياسيُّ السياسيَّ لم تجد المعارضات من مُحَاوِرٍ سوى أجهزة الأمن.. هل لكم أن توضحوا لنا العوامل التي أدّت إلى مثل هذه الوضعية؟ وهل ثمة ممكنات اليوم للخروج من هذا الوضع؟
– حتى نكون أكثر دقّة لابد أن نعود قليلا إلى التاريخ. فلم يكن بورقيبة ديمقراطيا مثلما قلناه نحن في ندوات علمية ونشرناه في مؤلفات. ولم يكن يعتبر الديمقراطية أولوية بالنسبة إلى مشروعه التحديثي. هو كان يعتبر أن توفير الخدمات الضرورية من تدريس وتطبيب وتغذية وتثقيف غاية الديمقراطية، ومنتهى ما يمكن أن تصل إليه. فكانت النتيجة أن ترافق التحديث الاجتماعي والثقافي في تونس – على أهميته وإيجابيته – مع ظواهر سلبية مثل الدولنة والمحسوبية والزبونية، وتغليب الولاء على الكفاءة، وتقديم الجهة على المصلحة الخاصة.
فالمؤسف هو أنّ المشروع التحديثي الذي كان واعدا بمختلف مستوياته، أفضى إلى حالة من الانغلاق السياسي، ومن انسداد الأفق الديمقراطي. ولكن حتى نكون موضوعيين، يكون مفيدا أن نشير إلى أن تونس تتوفر على نخبة فكرية وسياسية على درجة من النضج والعمق والتميز قياسا بنخب أخرى. كما إنّها تتوفر على موارد بشرية وسياسية، تجعلها قادرة على النجاح في تحقيق التحوّل الديمقراطي، فلا تتوفر تونس على معارضات مسلّحة، ولا على توترات عرقية وطائفية ودينية تساهم في خلق المشاكل. فالمجتمع التونسي منسجم ثقافيا واجتماعيا وديمغرافيا، ويقدر على الوصول إلى ديمقراطية توافقية تفيد الحاكم والمحكوم، وتحصِّن البلاد في وجه التأثيرات الخارجية والتدخلات الأجنبية، من خلال آليات بسيطة مثل: توسيع المشاركة، ومأسسة الاختلاف وجعله ظاهرة طبيعية ومستساغة في المجتمع. فالديمقراطية التونسية قادرة أن تكون مثالا يُحْتَذَى به في محيطها القريب والبعيد، فيكفي أن تبدأ بخطوات بسيطة، ولكن تكون واثقة لتصل إلى مطامح المجتمع في ديمقراطية حقيقيّة.
(المصدر:مجلة أقلام أولاين الإلكترونية(تصدر مرة كل شهرين- لندن)العدد الخامس والعشرون – السنة السابعة: ماي – جوان 2010)
العوائق أمام الديمقراطية في الوطن العربي بين الثقافة والسياسة
نور الدين العويديدي
يجمع الرأي العام العربي على الحاجة الملحة للديمقراطية. وكثير من النخب تراها السبيل الوحيد للخلاص من حالة الانحطاط العربية المهينة والمهيمنة، ومن حالة الضعف التي تكاد تجعل العرب، رغم إمكانياتهم الكبيرة مساحة وسكانا وثروات وتاريخ وحضارة، في آخر سلم الأمم.. فلِمً تتعسر الديمقراطية العربية رغم كثرة المطالبين بها، ورغم الإجماع الواسع عليها، باعتبارها النظام الذي يحتاجه العرب في هذه اللحظة الزمنية الفارقة من تاريخهم؟ وما العوائق التي تحول بين العرب والديمقراطية؟
مقاربات لفهم الأزمة
يتحدث الكثير من الكتاب والمحللين عن الحالة العربية في علاقتها بالديمقراطية باعتبارها استثناء. ويرجع البعض هذا الاستثناء إلى الثقافة العربية الإسلامية عامة والثقافة السياسية خاصة في المنطقة. ويرى هؤلاء أن الثقافة العربية الإسلامية ثقافة سلطوية أحادية، غير قادرة على هضم مقولات الديمقراطية واستنباتها في بيئة العرب ومجتمعاتهم.
آخرون يتحدثون عن تركيبة المجتمعات العربية القائمة على القبيلة والعشيرة والطائفة، ومركزية البعد الديني، ويرون في ذلك عائقا حقيقيا أمام التحول الديمقراطي، باعتبار أن الديمقراطية لا يمكن لها أن تنشأ وتستقر إلا في بيئة تقوم على الفرد المواطن الحر، الذي يختار عن وعي ورشد. وطالما أن ذلك غير متوفر في الوطن العربي، المتخم بالدين والقبلية، كما يقولون، فإن ذلك يجعل الديمقراطية بلا أسس صلبة تقف عليها، ولذلك تنتكس أي تجربة ديمقراطية عربية سريعا، ويعود الاستبداد لملء المساحة التي ظُن لفترة أن بوسع الديمقراطية أن تبني فيها بيتها.
هناك باحثون أكثر جدية يتحدثون عن أن سر الاستثناء العربي في موضوع الديمقراطية راجع لتاريخ العرب الحديث، وهو تاريخ قام على التجزئة وعلى زرع كيان أجنبي في قلبه هو إسرائيل، فضلا عن التدخل الخارجي في الشأن العربي كبيره وصغيره.
هؤلاء يرون أن الاستقلالات العربية ليست سوى استقلالات شكلية، وأن الاستعمار الأجنبي قد انتقل من استعمار تقليدي قائم على حضور الجيوش الأجنبية بشكل مباشر، إلى استعمار جديد يتم عبر إقامة علاقات في السياسة والاقتصاد والمبادلات التجارية والثقافة والإعلام، وفي كل شيء تقريبا، تؤدي في محصلاتها إلى خلق تبعية عميقة مستدامة بين الدول العربية لقوى الهيمنة الغربية، بحيث تتم هندسة الأوضاع العربية باستمرار، بما يؤدي إلى ترسيخ التبعية، وتقييد الأنظمة القائمة باتفاقيات سرية وعلنية، لا تؤدي إلا إلى تشغيل آليات التدمير الذاتي، ومنع التقدم نحو الديمقراطية.
وإذا حدث أن أراد حاكم ما التوجه نحو الخيار الديمقراطي (الرئيس الجزائري السابق الشاذلي بن جديد مثلا)، أو فرضت حركية المجتمع وتدافع قواه التوجه نحو الخيار الديمقراطي (تجربة السلطة الفلسطينية وفوز حركة حماس)، فإن آليات التعويق الكامنة سرعان ما تشتغل لإحباط هذا التوجه وتدميره قبل أن يتحول إلى نموذج جاذب.
مناقشة سريعة للمقاربة الثقافية
تسفّه التجربة الهندية مقولات الثقافة والتركيبة الاجتماعية باعتبارها العائق الذي يحول بيننا وبين الديمقراطية. فمما لا شك فيه أن الديمقراطية في الهند لم تجد في البيئة الثقافية الهندية ما تعتمد عليه لترسخ جذورها هناك. فالثقافة في الهند ثقافات، وكثير منها مغرق في « البدائية » وفي الروح السحرية وعبادة الآلهة المتعددة والمتناقضة، وهي أبعد ما تكون عن صناعة الإنسان الفرد الحر الذي يختار عن روية ورشد.
وكذلك فإن تركيبة المجتمع الهندي أشد تعقيدا وتناقضا من تركيبات مجتمعاتنا العربية. فهو مجتمع متعدد دينيا وطائفيا وطبقيا وعرقيا. وهو يتكون من 4 طبقات اجتماعية، تأسس الاختلاف بينها على امتداد آلاف السنين على أسس دينية وثقافية واجتماعية راسخة ومتينة، وهذه الطبقات هي:
(1) البراهمة Brahman: وهم رجال الدين والكهنة ومهمتهم إدارة شؤون المعابد والآلهة وسن القوانين والإشراف على التعليم والتربية وأداء جميع المراسيم الدينية وطقوسها في المعابد وفي خارجها، وأصبح هؤلاء فوق جميع الطبقات والمختصين بإله الآلهة وخالق الكون (براهما)، واعتقدوا بأنهم خلقوا من رأسه. (2) كاشـاتريا Kshatriya: وهم الفرسـان وقـواد الجيـش والأشراف، وخلقـوا من يـدي الإلـه (براهما). (3) فايشا Vaisya: وهم التجار والمزارعون وأصحاب المهن، وخلقوا من فخذه. (4) شودرا Syudra: وهم المنبوذون، أصحاب المهن الحقيرة، مثل: الكنس والنظافة، وغسل الملابس، وتنظيف الجلود، لأنهم من الجنس الأسود، وخلقوا من رجل الإله.
الحالة الهندية حجة قاسمة لظهر القائلين بالعائق الثقافي والديني وعائق التركيبة القبلية للديمقراطية في الوطن العربي. وفي الواقع فرغم هذا التعدد القديم في التركيبة الاجتماعية الهندية، ورغم الفقر المعشش في الكثير من الطبقات الهندية الفقيرة، التي تمثل أغلبية الهنود، فإن ما سمح للهند بأن تنجح في تجربتها الديمقراطية هو أنها لم يقع تقسيمها وتشتيتها على عشرات الدول القطرية المتنازعة على الحدود والشرعية والنفوذ، بأسها بينها شديد، وإنما هي أمة قوية مستقرة. وقد استطاعت أن تستغل الظروف التاريخية لتثبت استقلالها عن النفوذ الغربي، بحكم قوتها وكبر حجمها وابتعادها جغرافيا مسافة كافية عن مركز القوة والهيمنة الغربي، وكذلك توافق نخبها السياسية على الخيار الديمقراطي، وصبرها عليه، بما جعل تقاليده تترسخ تدريجيا في الحياة العامة للهنود، رغم ما بينهم من تناقضات حادة.. وهي تناقضات عمل النظام الجديد على نزع فتيل اشتعالها، وتقليل الاحتكاكات بينها، بما يدفع إلى التخفيف منها، في اتجاه تذويبها.. كل ذلك سمح للهند بأن تكون أكبر ديمقراطية في العالم.
منهجية هندية وأخرى عربية مسلمة
فيما نهجت تركيا الاتاتوركية وإيران الشاهنشاهية وتونس البورقيبية منهجا قائما على تعسف الدولة على المجتمع لتغييره ولو بالقوة، عمدت الهند إلى منهج الصبر والتدرج على شعبها.
فقد منع أتاتورك شعبه بقوة الدولة من لغتهم القديمة، وأدخل أبجدية جديدة عليها، ومنع هو والشاه شعبيهما من ارتداء الملابس التقليدية، وأمرا بوضع القبعة على كل رأس، ومنع الشاه النساء من ارتداء العبايات، وأطلق الشرطة في الشوارع يمزقون عباءة أي امرأة. وعندما احتج الناس وتجمعوا في المساجد، أرسل المدفعية لنسف هذه المساجد (1). في حين أرسل بورقيبة شرطته إلى الشوارع لمنع النساء المحجبات من ارتداء الحجاب، واعتقلت الدولة عشرات آلاف المصلين. ودمر حافظ الأسد مدينة بأكملها في صراعه مع قطاع من مجتمعه. وفعل الحسن الثاني ما يشبه ذلك. أما القذافي فكان يشنق معارضيه في الساحات العامة، ويصفهم بالكلاب الضالة.
في مقابل كل ذلك العسف الدولتي في العالم العربي والإسلامي، فإن الهند قد اتخذت خيارا مغايرا، يرفض استخدام الدولة لأجهزتها القمعية لتغيير المجتمع، وقد نجحت الهند بصبرها وتأني نخبها وعدم استعجالهم في تغيير المجتمع عبر العنف، في الوصول إلى ديمقراطية ناجحة ومستقرة.
وفي هذا السياق، وعلى النقيض من رأي بورقيبة وأتاتورك ورضا بهلوي، تقول الزعيمة الهندية الراحلة أنديرا غاندي: « إن الناس أنفسهم هم الذين يجب أن يقرروا سرعة التغيير الذي يريدونه، ولا يمكن أن تتحدد السرعة بأمر من الحكومة. حتى عندما يكون الوعي عند الجماهير منخفضا، فليس هناك من وسيلة سوى الصبر والإقناع »..
وتضيف الزعيمة الهندية الراحلة قائلة « حدث في الهند عندما بنت الحكومة سدا كبيرا للتحكم في الفيضانات وتوليد الكهرباء، أن ذهب بعض أفراد من المعارضة وأقنعوا أهل القرى المجاورة أن السد سلب المياه روحها، فغدت عديمة البركة لا تصلح للزراعة.. لم أصدق أن أحدا يمكن أن يصدق خرافة كهذه. إلا أنني فوجئت خلال جولتي في المنطقة بعدد كبير من المواطنين يسألونني: لماذا سلبتم المياه روحها؟ ولماذا تركتم المياه بلا بركة؟.. ماذا بوسع المرء أن يعمل؟ ولا وسيلة له سوى الصبر والإقناع » (2). وبهذا الصبر والإقناع نجحت الهند في بناء نموذج ديمقراطي راسخ ومستقر.
الحالة العربية
أما بالنسبة للحالة العربية فبالرغم من الانسجام النسبي للنسيج الاجتماعي في الكثير من الدول العربية، قياسا بالهند، وبالرغم من المستوى الثقافي والروحي الأرقى نسبيا من الحالة الهندية، فإن لجوء نخب الحكم ما بعد الاستقلال إلى التعويل على الأجهزة القهرية للدولة لفرض التغيير الاجتماعي، قد جعل « الدولة ضد الأمة »(3) وحقن الدولة منذ أيامها الأولى بجرثومة الاستبداد، التي نمت وكبرت وجعلت المطلب الديمقراطي متعذرا.
كذلك فإن وجود إسرائيل في المنطقة وترسيخ التجزئة وتحولها إلى آلة تدمير وإضعاف مستمرة للوضع العربي، وكذلك قوة التأثير الغربي المباشر وغير المباشر على أوضاع البلاد العربية، قد عطلت المطلب الديمقراطي، وجعلت الاختلافات المذهبية والعرقية التي في الجسم العربي، والتي كان يمكن أن تكون نقاط قوة وثراء، بمثابة سكاكين تدمي الخاصرة العربية باستمرار، كما هو حاصل الآن في العراق.
وفي الواقع فإنه لا توجد مجتمعات منسجمة تامة الانسجام، فكل المجتمعات تقريبا متنوعة متعددة التركيبات دينية أو طائفية أو عرقية، وهذه التعددية يمكن لها أن تكون مصدر غنى أو مصدر تخريب وتدمير، ويتم ذلك بحسب الظروف التاريخية العامة، ومدى استقلال المجتمعات عن التدخلات الخارجية السلبية في شؤونها الداخلية، ومدى وعي نظم الحكم والنخبة التي تقود المجتمع، ومدى صبرها في معالجة ما تواجهه من مشكلات.
وبالنسبة للوضع العربي فبالإضافة للتدخل الخارجي القائم على تدعيم أنظمة الاستبداد، باعتبارها الجهة الأكثر تبعية وولاء، والأكثر ضمانا للمصالح غير الشرعية للغرب في بلادنا، بما يجعل الديمقراطية متعذرة أو صعبة التحقق، باعتبار أن الديمقراطية تغير الأوضاع لصالح الشعوب لا لصالح القوى الخارجية، ما جعل الغرب معاديا لها على الدوام، ولذلك ترى الحاكم العربي مطلق اليدين في مجتمعه، مدعوما في وجه شعبه، إذا لاح أن الشعب بوسعه مغالبة سلطته الاستبدادية والتغلب عليها.
كذلك فإن عجز النخب العربية عن التوحد والإجماع على المطلب الديمقراطي، وتغليبها الصراع الأيديولوجي: تقليدي حديث، أو إسلامي علماني، بدلا من الصراع مع الاستبداد بأي لون تلون، زاد في إضعاف مناعة المجتمع أمام التدخل الخارجي وأمام استبداد السلطات، التي صار بوسعها أن تستخدم النخب بعضها ضد بعض، وتشغلها بصراعاتها الهامشية عن تغيير الأوضاع العربية، بما يقود إلى الديمقراطية والوحدة.
ولذلك فإننا بالرغم من الإجماع الكامل على إلحاحية المطلب الديمقراطي في الوطن العربي، فإن هذا المطلب لم يتحقق، ولعله لن يتحقق حتى تتوحد النخب من مختلف التيارات والقوى السياسية في وجه أنظمة الاستبداد، وحتى تخف قبضة الغرب الماسكة بنا أو تترهل.
ولا يبدو أن هذا سيتحقق في المدى القريب، وهو لن يتحقق حتى تنجح شعوبنا بطرق مختلفة، وربما بأساليب متباينة، في اضطرار الغرب لرفع يده عن منطقتنا، ووقف دعمه لأنظمة الفساد والاستبداد، المكبلة لمجتمعاتنا، والمانعة للتنمية وللديمقراطية على السواء. 1- كتاب التنمية.. الأسئلة الكبرى لغازي القصيبي ص 27 و28 2- نفس المصدر 3- عنوان كتاب للباحث السوري برهان غليون
(المصدر:مجلة أقلام أولاين الإلكترونية(تصدر مرة كل شهرين- لندن)العدد الخامس والعشرون – السنة السابعة: ماي – جوان 2010)
دور النخبة في التغيير الديمقراطي .. غياب أم تغييب؟
محمد فوراتي
ربما ليس هناك منطقة في العالم تحتاج إلى التغيير أكثر من المنطقة العربية، هذه المنطقة التي رغم تعدد دولها وحالاتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية، إلا أنها ظلت، بشكل متساو تقريبا، ترفل في نعيم التخلف والشقاء والضعف والهوان رغم ما مرّ بها من تجارب ومحن. كما ظلت حالة الاستبداد لصيقة بهذه الأمة منذ عقود من الزمن، عجزت الحركات الإصلاحية والسياسية وجهود المفكرين والمصلحين عن حلحلتها عن هذا الواقع، بل إن الأمر خلال السنوات الأخيرة ازداد سوء وفسادا، حتى شمل أو كاد كلّ قطاعات المجتمع، وأصبحت تصنف بعض الدول العربية في آخر السلّم العالمي فسادا واستبدادا وأمية. ورغم مسؤولية الجميع عن هذا الواقع البائس، إلا أن انسحاب النخب العربية وركونها عن القيام بدورها الطلائعي في تغيير المجتمع، وتخليصه من شرك الانحطاط والاستبداد والتخلف بدا الأكثر إيلاما ووقعا. كما أصبح انسحاب النخبة أو تخديرها وتغييبها عن ساحة الفعل أمرا في غاية الخطورة على مستقبل شعوب المنطقة ومستقبل الأمة الحضاري.
من هي النخبة؟
جاء في لسان العرب: انتخب الشيء اختاره، والنُّخْبَةُ ما اختاره، منه. ونُخْبةُ القَوم ونُخَبَتُهم: خِـيارُهم. قال الأَصمعي: يقال هم نُخَبة القوم، بضم النون وفتح الخاءِ. وورد في مقاييس اللغة لصاحبه أحمد ابن فارس: النخبة: خيارُ الشَّيء ونُخبَتُه.
وبغض النظر عن الاختلافات المعقدة في تعريف الفكر المعاصر لمفهوم النخبة ودورها في الحياة العامّة، فإن هناك شبه اتفاق بين الدارسين، على كون النخبة، هي من حيث المبدأ: طبقة أو فئة اجتماعيّة بامتياز. وهي طبقة من المتفوّقين في مجالاتهم، أو أصحاب المواهب والملكات، والقادرين على التأثير في مجتمعاتهم.. ومن الضروري، ولعله واحد من شروط تعريفها: أن تحظى النخبة بتأييد جماهيري واسع. وبغير ذلك فإن المفهوم قد يكون وهميّا وغير حقيقي. ولكن التأييد الجماهيري في الحالة العربية يحتاج إلى نقاش.
وفي نصّ من الأدب الجاهليّ للشاعر الأفوه الأودي، قال في أبياته الشهيرة مشيرا إلى هذه الفئة من المجتمع:
لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم **** ولا سراة إذا جهّالهم سادوا تهدي الأمور بأهل الرأي ما صلحت **** وإن توالت فبالأشرار تنقاد إذا تولى سراة الناس أمرهم **** نما على ذاك أمر القوم فازدادوا
وما نقصده هنا بالنخبة العربية المعنية بالتغيير هم الكتاب والشعراء والصحفيون وأساتذة الجامعات والمحامين والأطباء والمهندسين، وبشكل أوسع كل « المثقفين » والمهتمين بقضية التغيير. ولم أورد كلمة السياسيين لأني أعتقد أن السواد الأعظم من السياسيين في الكثير من الأحزاب السياسية العربية وخاصة الأحزاب الحاكمة هم أتباع وليسوا فاعلين، وهم أداة في يد تلك الأحزاب لا أكثر ولا أقل، ولكن يمكن القول إن قسما هاما من السياسيين يدخل ضمن النخبة العربية المعنية بقضية التغيير الديمقراطي.
مهمة النخبة
إن من أولويات النخبة المثقفة في مجتمع ما هي صناعة الأفكار، وحراسة المكتسبات من الضياع، ومحاربة الفساد، والدفاع عن المصلحة العامة للناس، وكشف الأخطار المحدقة بالأوطان. وفي حالتنا العربية يحتاج المجتمع إلى دور حقيقي للنخبة المثقفة للمساعدة في الخروج من حالة التخلف والاستبداد، وتحقيق مجتمع العدالة والديمقراطية وحرية الرأي والتعبير والمساواة.
كما إن الدور الإستراتيجي، الذي ينبغي أن تقوم به النخبة في مجتمعنا، هو خلق الوعي، وتعميم المعرفة في الوسط الاجتماعي، لأنه لا يمكن للمجتمع أن يمارس دوره، ويقوم بواجباته، ويتجاوز عقباته، وينتصر على مشاكله إلا بالوعي، فهو البوابة الحيوية لكل ذلك.
ولا يمكن هنا أن يكون المثقف الحقيقي معزولا عن المجتمع، أو أن تكون خياراته الفكرية وتطلعاته ضد المجتمع، الذي يعيش فيه، فلابدّ من ألفة ما، والتقاء على أرضية مشتركة، فالمجتمع الذي يعيش التنافر والتباعد مع نخبه، ولا يستفيد من وعيها ومعرفتها، في إطار تصحيح أوضاعه، وتقويم الاعوجاج الموجود فيه يعد مجتمعا متخلفا. أما المجتمع الذي يتكامل في الأعمال والأنشطة مع نخبه، ويستفيد من وعيها ومعرفتها في تحسين أوضاعه، وتطوير أحواله، فيعد مجتمعا صالحا و متقدما.
احتواء النخبة؟
بفضل دولة الاستقلال في الكثير من الدول العربية، ومنها بلدنا تونس، وبفضل مشروع التعليم المجاني والإجباري أصبح للمجتمع نخبة مثقفة ومتعلمة تشمل الطلبة والمدرسين والمحامين والأطباء وغيرهم، ولكنها مع تواصل زمن دولة الاستبداد لأكثر من نصف قرن أو أكثر دّجنت هذه النخبة حتى احتوتها الأنظمة الحاكمة أو كادت، لولا بعض الأسماء التي ناضلت من أجل استقلاليتها، ودفعت مقابل ذلك أثمانا باهظة.
مئات من أساتذة الجامعات والمحامين وعشرات الكتاب والصحفيين والشعراء والنقابيين وغيرهم، أصبحوا أداة طيعة في يد النظام السائد، بل أصبحت تسود بينهم عقلية التسابق لإبراز الولاء، وطعن بعضهم بعضا على أرضية جهوية، أو منفعية، أو مصلحة شخصية. اتحادات الكتاب وقوافل الشعراء والصحفيين والمتخصصين في عدة مجالات، وجمعيات ومنظمات بالمئات أصبحت تستمدّ وجودها من رضاء الحاكم والتقرب منه، بقطع النظر عن صلاح ما يقدمونه للمجتمع، وما ينتجونه من إبداع أو منفعة للناس.
لقد أفرغت الهيئات والاتحادات الثقافية والمسرحية والسينمائية والعلمية والجامعية من مضمونها، وأصبح أغلبها عٌشا للفساد والاختلاس والمتاجرة، ووكرا للتآمر والتخطيط للمعارك الشخصية و »التكمبين »، فسادت البغضاء والمعارك والحروب بين أهل الثقافة، وفاحت رائحتها على أعمدة الصحف، ولكنها معارك مخزية من أجل مكسب أو منصب أو صفقة أو شراء ودّ هذا الوزير أو هذا المدير.
مثقف أم موظف؟
والمؤسف حقا أن بعض من ساروا على درب صادق، وتعلمنا منهم بعض المبادئ، وقرأنا في كتبهم وقصائدهم ومقالاتهم قليلا من الوفاء للقيم والأهداف النبيلة، نجدهم في لحظة يتحولون ويلتحقون بصف « التائبين » من تهمة الفكر والالتزام بقضايا الشعب، ليصبحوا موظفين منغمسين في الواقع برداءته، مبررين أخطاء السياسيين، وفساد المتنفذين. وإذا لم يفعلوا ذلك فإنك لا يمكن أن تنتظر منهم كلمة حق، وإذا تحدثت معهم عن إحدى القضايا الحارقة التي تشغل الناس، تجدهم يلوذون بالصمت، وكأنهم بلا ألسنة.
أحد « المثقفين » ممن كنت أكن له الكثير من الاحترام، وكان يعلّم الناس كيف يكونوا أصحاب مبادئ، وكنا نستمتع بخطبه حول ضرورة الإصلاح والتغيير والوطنية ومحاربة الفساد، و »تحصين المجتمع من الأخطار والأخطاء »، وبعد أن غابت أخباره عني مدة ليست بالطويلة، التقيته يوما وكان قد التحق بركب « الموظفين »، وبدت عليه علامات الثراء والسلطة، فسلم علي أولا بأطراف أصابعه، بعد أن كنا نلتقي بالأحضان ونحتسي القهوة والشاي في مكان جميل لا ينسى في المدينة العتيقة بالعاصمة، جلس معي بعض الدقائق على مضض وهو يلتفت يمنة ويسرة، وكأنّ على رأسه الطير، فسألته عن الأجواء الجديدة، وكيف « يتعايش » مع بعض « الموظفين » أمثاله، ممن كان يبدي كرهه واحتقاره لهم، فأشار علي بالصمت، وتكلم هامسا عن الواقعية وضرورة الانخراط في العمل الجماعي لتغيير ما يمكن تغييره من الداخل، بدلا من أن نجلس على الربوة ننتقد الجميع ولا نفعل شيئا. وقال مازحا: « الجميع مستفيد، وجاء دورنا لكي نستفيد ».
افترقنا ولم نلتق بعدها، ولكن أخباره لم تنقطع. فقد أنغمس تماما في مهمته الجديدة، وقادته الواقعية إلى عقد الكثير من الصفقات، والدخول في العديد من المنعرجات، حتى أصبح حديث تلامذته عنه، كحديثه يوما ما عن « أشباه المثقفين » كما كان هو نفسه يصفهم.
لقد استقال الكثير من المثقفين من القيام بدورهم في الحياة العامة، وسكتت ألسنتهم، وجفت أقلامهم، وتحول الكثير منهم إلى موظفين، يظهرون فقط في المناسبات والاحتفالات العامة، وهم يبتسمون لعدسات المصورين. أما البعض ممن كان معدنهم صافيا وصعب عليهم لعب دور « الموظف » فيفضل الواحد منهم العودة إلى بيته معلنا مقاطعته التامة للشأن العام.
ولولا قلة من النشطاء والمثقفين في كل دولة من وطننا العربي لقلنا إن « النخبة » دجنت بالكامل، ووقع تخديرها، ولكنها قلة مغلوبة على أمرها محاصرة، رغم أن صوتها بقي يمثل الأمل في المستقبل.
فكيف تمكنت « آلة الواقع » من احتواء كل هذا « الكم » من المثقفين، وكيف حولتهم إلى مجرد رقم تتباهى به في المناسبات؟ ولماذا تقبل النخبة في وطننا العربي وتخضع لسياسة التدجين والانخراط في مشاريع الاستبداد والفساد؟
من المؤكد أن الإجابة على هذا السؤال تتطلب الكثير من البحث، وفهم نفسية الشعوب العربية، ومختلف الظروف المحلية والدولية والإرث التاريخي، ولكن الحقيقة أن هذه النخبة، أو على الأقل الجزء الأوسع منها أصبحت مسؤولة عن هذا الواقع، بل أصبحت إحدى العقبات أمام التغيير الديمقراطي وإصلاح المجتمع.
إذ ليس هناك حاكم مستبد أو فاسد أو فاشل دون أن يكون حوله مثقفون و »بطانة » ونخبة يسهلون عليه فساده، ويبررون أخطاءه، ويستفيدون من مدحه والتقرب منه، ويوفرون البيئة المناسبة لمزيد من الفساد والسقوط. وليس هناك حاكم صالح نافع لشعبه، عادل وحكيم، دون أن يكون في دولته مثقفون ونخبة مشغولة بهمّ الوطن وبصلاحه وبتطويره، يرفضون التآمر على الوطن والشعب، ويعبرون عن آرائهم ومشاريعهم بكل حرية وجرأة.
أمراض النخبة
كثيرة هي أمراض النخبة المثقفة، وإن كان بعضها من أمراض المجتمع، الذي تعيش فيه، ولكن المثقف هو الأب أو القائد الروحي، هو المثال الأعلى إن شئنا، ولذلك فمسؤوليته أمام الرأي العام كبيرة، وكل سلبياته تظهر مضخمة في أعين الناس.
أما بخصوص إشكالية التغيير فإن ركون المثقف واستسلامه للواقع دون العمل على تغييره، أو تورط بعض المثقفين في ماكينة الفساد، يعتبر أكثر الأمراض شيوعا، وهو الأخطر على الإطلاق، لأنه يعطي المبرر لعامة الناس لسلوك نفس الطريق مادام القائد والمثال الأعلى باع ثقافته وعلمه ومعرفته مقابل بعض الامتيازات، أو بعض المنح والهدايا، أو مقابل منصب أو راتب.
أما المرض الثاني فهو العزلة عن الواقع وعن الناس، فكم من مثقف أو عالم أو مختص في مجال ما لا علاقة له بالناس وهمومهم، وبالوطن وتطلعاته، وبالتغيير وهمومه، يسجن نفسه بين الكتب أو في معمله أو في مكتبه حتى آخر أيام حياته فلا يفيد المجتمع، ولا يستفيد هو من الحراك الذي يحدث في مجتمعه.
ومما يقوي انعزال فئة من المثقفين غرورها بالعلم النظري، واقتناعها بأنها تعرف كل شيء عن المجتمع، وأنها في غنى عن أي اتصال أو تجربة إضافية. فتجد الواحد منهم على مقدرة نظرية وعلمية كبيرة، ولكن غروره أعماه، فلم يُقدّم للمجتمع إلا صورة مشوهة للمثقف.
هناك أيضا عند بعض النخب العربية طغيان زائد للثقافة الأجنبية تتجاوز الاحتياجات الحقيقية، وتتحول إلى تضخم في الاستهلاك لمجرد الاستهلاك، وتؤدي إلى احتقار للهوية العربية الإسلامية، وللغة العربية، وللمجتمع الذي ولد فيه، فيصبح دون شعور منه بوقا لثقافة أخرى ولمجتمع آخر، وتنتهي به المسيرة غريبا حائرا، بينه وبين مجتمعه كره دفين، أو احتقار وازدراء.
كما توجد لدى البعض ممن ألّفوا الكتب وحبروا المقالات وخطبوا الخطب الطويلة كبرياء مرضية على الناس، لا يعرفون لتواضع العلماء طريقا، ولا تقودهم كبرياؤهم إلى الإحساس بآلام الناس ومعاناتهم اليومية، فتنتهي بهم كبرياؤهم في عزلة وهمية واحتقار للمجتمع.
وهذا يولد احتقارا معكوسا من عامة الشعب للنخبة. أنظر مثلا سخرية الشباب من استعلاء المثقفين وتسميتهم « بثقفوت »، (وهذاكا إنسان » ثقفوت »)، ويقصد بها في الغالب من يعيشون في برجهم العاجي، ولا يحسنون التعامل مع الناس ومشاكلهم، ولا يحسون بنبض المجتمع، بل ومن يرتزقون بـ »ثقافتهم » أو « علمهم ». بل إن بعض العامة وخاصة من الشباب أصبحت عندهم قناعة بأنهم يفهمون الدنيا أكثر من هؤلاء « المثقفين ».
يقول المفكر علي حرب متحدثا عن العزلة التي انتهى إليها المثقف العربي: « وهكذا يجد المثقف نفسه اليوم أشبه بالمحاصر، وليس السبب في ذلك محاصرة الأنظمة له، ولا الحركات الأصولية.. كما يتوهم بعض المثقفين. بالعكس، ما يفسر وضعية الحصار هو نرجسية المثقف وتعامله مع نفسه على نحو نخبوي اصطفائي، أي اعتقاده بأنه يمثل عقل الأمة، أو ضمير المجتمع، أو حارس الوعي. إنه صار في المؤخرة بقدر ما اعتقد أنه يقود الأمة، وتهمش دوره بقدر ما توهم أنه هو الذي يحرر المجتمع من الجهل والتخلف. وهذا هو ثمن النخبوية: عزلة المثقف عن الناس الذين يدعي قودهم على دروب الحرية أو في معارج التقدم. ولا عجب فمن يغرق في أوهامه ينفي نفسه عن العالم، ومن يقع أسير أفكاره تحاصره الوقائع ». (أوهام النخبة ص 80 )
في الحقيقة هذه الإشكالية متشعبة وتحتاج إلى الكثير من الحوار والجدل لأنه لا خلاص لمجتمعاتنا العربية دون نهوض حقيقي للنخبة، لتقوم بدورها المنوط بها، ولن تقوم هذه النخبة بدورها الحقيقي دون الالتحام بالناس، وتحقيق استقلاليتها عن الحكومات، وبذلك تخلص نفسها من الدرك الذي انتهت إليه، وتساهم في تخليص المجتمع من شرك الاستبداد والتخلف. (المصدر:مجلة أقلام أولاين الإلكترونية(تصدر مرة كل شهرين- لندن)العدد الخامس والعشرون – السنة السابعة: ماي – جوان 2010)