7 août 2003

البداية

TUNISNEWS

  4 ème année, N° 1174 du 07.08.2003

 archives : www.tunisnews.net


المجلس الوطني للحريات بـتونس: مـأسـاة عائـلـة غـثـمـثـم  – عندما يُـؤاخـذ المرءُ بجريرة أخيه

أخبار تونس: البنك المركزي التونسي يبرز قدرة الاقتصاد الوطني على تذليل الصعوبات

البعث السورية : العلاقات بين حزب البعث والتجمع الدستوري في ضوء زيارة الرفيق الأحمر الى تونس

صالح كركر: الإصلاح الـسياسي فـي تونس :تغـيـير الدستـور و إقـرار الحـريّات (4 من 4)

إسلام أون لاين : جارودي: صمود المسلمين يُـسـقط أمريكا هشام القروي : عبد الناصر وتونس د. رفيق عبد السلام : في الحاجة إلى إعادة التفكير في مفهوم الغرب «2 من 2» د. أحمد القديدي: بعد خمسة قرون أول أذان يرفع في غرناطة الشرق الأوسط : أكبر مكتبة عربية تراثية على الإنترنت ينساها أبناؤها ويدعمها الغرباء


AFP: Agression d’une vingtaine de femmes à Tunis: deux suspects arrêtés Nouvelles de Tunisie: Le rapport annuel de la Banque centrale met en exergue la capacité de l’économie nationale à surmonter les difficultés conjoncturelles


Pour afficher les caractères arabes  suivre la démarche suivante : Affichage / Codage / Arabe ( Windows )

To read arabic text click on the View then Encoding then Arabic (Windows).

 

المجلس الوطني للحريات بتونس

في إطار الحملة الوطنية من أجل العفو التشريعي العام ، أصدر المجلس الوطني للحريات بتونس في موفى شهر جوان  2003، قائمة تضم 580 آسما لسجناء الرأي الذين لا زالوا قيد الإعتقال في السجون التونسية، تنشرها « تونس نيوز » لقرائها على عدة مرات.

من هم سجناء الرأي؟ (261 – 270)

ملاحظات عن الحالة الاجتماعية أو الصحية …

السجن

الاعتقال

العقوبة

مقر سكن العائلة

الميلاد

الاسم

الترقيم

عامل يومي – له طفل واحد

9 أفريل

1993

11 سنة

الجديدة –  منوبة

عبد الستار القاسمي 

 261

15 سنة 

عبد السلام النقلي

262 

راس الجبل

عبد العزيز العلوي

 263

1987

بنزرت

عبد العزيز قاسم

 264

1996

غار الملح      

عبد الغني بالنور

 265

1999

عبد الفتاح النفزي

 266

1997

عبد القادر الكافي

 267

1991

المؤبد

عبد السلام الأسود

 268

فنّي في رسم الخرائط – العزلة

9 أفريل

1991

34 سنة 

الكبارية تونس

1966

عبد الكريم البعلوش

 269

طالب – العزلة

الهوارب

1991

مؤبد

71742057 المرسى

1962

عبد الكريم الهاروني 

270

 


 

المجلس الوطني للحريات بـتونس   تونس في05/08/2003  

مـأسـاة عائـلـة غـثـمـثـم ( جرجيس) عندما يُـؤاخـذ المرءُ بجريرة أخيه

يرفع المجلس الوطني للحريات بتونس إلى الرأي العام الوقائع المأساوية التالية التي تتعرض لها عائلة السيد محمد بن علي غثمثم القاطنة بجرجيس والمتمثلة في أن أحد أبنائها وُجّـهت له تهمة قتل نفس بشرية عمدا (جريمة قتل الصائغي التي وقعت بجرجيس ) فتم إيقافه لكن الإيقاف لم يقتصر على المتهم من العائلة بهاته الجناية بل أوقفت معه شقيقته المسماة اليامنة بنت محمد غثمثم المولودة سنة 1979 والمصابة بالصرع والحاملة لكلية واحدة وذلك بتهمة إخفاء شقيقها وهي لازالت موقوفة إلى اليوم  ..   يوم 2 ماي 2003 ليلا داهمت قوة كثيرة من الشرطة بيت السيد محمد غثمثم واعتدت على أفراد العائلة بالضرب والسب والشتم والكلام البذيء وقامت بتهشيم عديد الأواني والأمتعة ثم غادرت المكان بدعوى أن إبن العائلة المتهم بجريمة القتل فـرّ من محل الإيقاف.   بعد يومين داهمت الشرطة مرة ثانية مقر العائلة وأخذت شقيقا المتهم السيد لزهر بن محمد غثمثم أعزب عامل يومي من مواليد 1972 و السيد زهير بن محمد غثمثم متزوج، سـبّـاك « Plombier » مولود سنة 1974 .   و قال رئيس مركز شرطة جرجيس المدعو كمال بن بلقاسم العياشي مخاطبا بقية أفراد العائلة : سيبقون عندنا رهائن إلى غاية تسليم شقيقهما نفسه.   يوم 2003.5.15 تم إعتقال الشقيق الثالث للمتهم وهو المدعو علي غثمثم المولود في 12/07/1977 وتم تعليقه وضربه « بالفلقة » على رجليه ووجهـــه وجهازه التناسلي ثم أطلق سراحه ليلا بعد افتكاك هاتفه النقال الذي لم يُـرجع له إلا يوم 05.16.   يوم 30 ماي تم إعتقال إبن خال المتهم بالجناية وهو شاب عمره 17 سنة كان قدم إلى منزل السيد محمد غثمثم في زيارة عائلية و تعرض هو الآخر للتعذيب ثم أطلق سراحه.   يوم 31 ماي 2003 ألقت فرقة حرس الحدود القبض على المتهم بالقتل لما كان يحاول التسلل إلى  التراب الليبي و تم نقله إلى مصالح وزارة الداخلية بالعاصمة . فتوجه الأب السيد محمد غثمثم إلى مركز الشرطة بجرجيس و طالب بإطلاق سراح إبنيه لزهر و زهير المحتجزين كرهائن إلا أن رئيس المركز المذكور المدعو كمال عياشي أسمعه كلاما بذيئا و جارحا قائلا له أنه لن يراهما مستقبلا.   يوم 2003.6.24 تم دعوة السيد محمد غثمثم للحضور بمنطقة شرطة جرجيس أين سُـلّـم بعض الأغراض الشخصية لولديه لزهر و زهير ولم يُـعـلـم بشئ عن مصيرهما فتنقل للنيابة العامة بمدنين التي إكتفت بإشعاره بأن ولديه غير متابعين لديها  ..   وظلت العائلة دون خبر عن ولديها منذ إيقافهما حتى يوم 2003.7.5 تاريخ تلقيها مكالمة هاتفية  أعلمت فيها من طرف أحد السجناء الذي غادر السجن أن ولديها بالسجن المدني 9 أفريل بتونس واحد بالغرفة رقم 5 والثاني بالغرفة رقم 6 ونقل المخاطب للعائلة تفاصيلا وأسرارا شخصية لا يعلمها إلا  الولدين لزهر وزهير وذويهما ..   وعند تحول العائلة إلى سجن 9 أفريل، أعلمت من طرف إدارته بأن لا أثر لولديها بالسجن المذكور  وببحثها لدى محاكم العاصمة لم تجد في دفاترها أثرا لهما ..   إن المجلس الذي ثبتت لديه هاته الوقائع يطالب السلطة بإعلام السيد محمد غثمثم بمصير ولديه كما يناشد السلطات القضائية القيام بدورها الدستوري وفتح بحث في الموضوع وتتبع كل من تثبت إدانته.   ويعتبر أن تجاوز مبدأ المسؤولية الشخصية وتكرار خرقه في بلادنا بدءا بالقضايا السياسية ومنها خاصة قضايا أتباع حركة النهضة وانتهاء بقضايا الحق العام – التي تواتر فيها إلى علم المجلس حالات احتجاز ومضايقة أفراد العائلة للضغط على المجرمين الفارين – أمر غير إنساني ولا تجيزه كل القوانين في العالم ويشكل أمرا بالغ الخطورة على حرية الأفراد ومنظومة الدولة المتحضرة.   الناطق باسم المجلس محمّد نجيب حسني


 
تصحيح

لا يمكنني الاستغراب من وجود اسمي ضمن قائمة  » من هم سجناء الرأي  » على صفحات  » تونس نيوز  » بتاريخ : 5 – 8 –2003 ، في إطار الحملة الوطنيّة التي يتابعها المجلس الوطني للحريات بتونس ، من أجل العفو التشريعي العام . ذلك أنّ حالة الخلط و الضبابيّة و التدليس و التلبيس على النّاس في بلدي ، أفقد القدرة على التمييز بين الأصناف جميعها :   فإن أفلحتَ – بصعوبة كبيرة – في التمييز بين الذكور و الإناث ، فإنّك لن تستطيع التمييز بين الرجال من الذكور و بين فاقدي الرّجولة ، كما أنّك لا تستطيع التمييز بين عبد الله و عبد النّظام القائم ، و لا بين المخلص و المنافق ، و لا بين القريب و البعيد، و لا بين المتأثّر لحالك والعامل على سحق و إبادة كلّ من يتأثّر لحالك ، و لا بين السجين و المسرّح .   و إنّي إذ أؤكّد صحّة ملاحظة هيأة تحرير  » تونس نيوز  » المشيرة إلى وجودي خارج السجن متمتّعا بحقّ اللجوء السياسي لدى من فهموا مقولة ابن خلدون « الظلم مؤذن بخراب العمران  » ، فإنّه لا يفوتني أن أنوّه بأنّ أحد أفراد المجلس الوطني للحرّيات طلب منّي – قبل أيام – التصحيح، و ذلك بعد أن تأكّد لديهم عدم وجودي بالسجن . غير أنّي آثرت الانتظار كي أتمكّن من قراءة القائمة واعتمادها مرجعا لإصدار هذا التصحيح ..   وأختم بتوجيه الشكر لسادتي العاملين في المجلس الوطني للحريات بتونس ، إذ أنّ تربّص  » العاملين في الظلام  » بهم لم يمنعهم من مراجعة خبر رأوا فيه مُجانبة الحقيقة .   عبدالحميد العدّاسي 6 أوت 2003

 

 

 

 

Agression d’une vingtaine de femmes à Tunis: deux suspects arrêtés

 
AFP le  7 août 2003
Deux jeunes gens ont été arrêtés après l’agression d’une jeune fille avec une lame de rasoir et la police s’efforce de déterminer s’ils sont responsables d’une vingtaine de cas d’attaques similaires, apprend-on jeudi de source officielle à Tunis. La jeune fille a été agressée en plein jour à Zahrouni (banlieue est de Tunis) par par deux hommes circulant en vélomoteur. Les forces de sécurité ont aussitôt quadrillé les lieux et les soupçons se sont portés sur un jeune ap prenti coiffeur et un autre jeune homme spécialisé dans la réparation de vélomoteurs, dont les identités n’ont pas été divulguées. Interrogés, les deux suspects ont avoué être les auteurs de l’agression et leur interrogatoire se poursuit pour déterminer s’ils sont également responsables d’autres agressions similaires contre des femmes à Tunis. Une vingtaine de cas ont, en effet, été enregistrés dans les rues de Tunis et de sa banlieue, au cours des derniers jours, certaines victimes ayant indiqué que leur agresseur, un jeune homme juché sur une mobylette et muni d’un couteau, le leur plantait par surprise sur l’une ou l’autre partie du corps avant de s’enfuir. Certaines femmes ont été « sérieusement blessées » aux seins ou aux fesses, avait rapporté la presse tunisienne, ajoutant que les victimes étaient de différents âges et portaient généralement des tee-shirts ou pantalons moulants. Un portrait-robot de l’agresseur avait été élaboré par les enquêteurs à l’aide des témoignages des victimes.


2 slash-attack suspects held

07/08/2003 13:51  – (SA)  

 

Tunis – Police in Tunisia have arrested two men in connection with an assault on a young girl using a razor blade and were seeking to determine whether the suspects also carried out some 20 similar attacks on other women, an official said on Thursday.

The girl was slashed with the razor blade in broad daylight in Zahrouni, a suburb east of Tunis, by two men on a motorbike.

Security forces immediately surrounded the area and a young trainee hairdresser and another young man, a motorbike mechanic, were arrested although their identities are being withheld.

An official said that the two suspects had admitted to the attack during questioning and that police were continuing to question them about the other attacks on women in Tunis.

About 20 cases have been reported over the last days with several victims saying they were attacked by a young man on a moped who stabbed them with a knife before speeding away.

Many of the women sustained serious injuries to their breasts or buttocks, according to Tunisian press reports which say the victims were of various ages and were wearing tight fitting t-shirts or trousers.

The victims have helped investigators put together a photofit of the attackers.

( Source: http://www.news24.com )


 

FLASH INFOS
 
 

CAPES : Nouvelles disciplines concernées

Les trois disciplines théâtre, russe et chinois, sont désormais concernées par le concours d’aptitude au professorat de l’enseignement secondaire. Pour les épreuves écrites d’admissibilité les candidats sont appelés à rédiger une dissertation portant sur l’une des questions du programme pour le théâtre et passer les épreuves de littérature ou civilisation et langue pour le russe et le chinois.   (Source : le portail www.bab-el-web.com, d’aprés Le Temps du 7 août 2003)  

Italie : Festival international du couscous

Le premier festival international du couscous se tiendra du 23 au 28 septembre prochain en Sicile (Italie) dans le cadre de la 6ème édition du festival méditerranéen de la culture, de la cuisine et du vin. Cette manifestation qui sera marquée par la participation du chef cuisinier tunisien Rafik Tlatli réunira des cuisiniers du Brésil, d’Angleterre, de France, du Maroc, de Mauritanie, d’Ethiopie, de Palestine, du Sénégal, de Côte d’ivoire et de Turquie. Chacun d’entre eux est appelé à mettre en valeur son savoir-faire en matière de couscous.   (Source : le portail www.bab-el-web.com, d’aprés Le Temps du 7 août 2003)  

Kairoun : Des difficultés à écouler la production de miel

Le miel coule à flots à Djebel Ousslet et environs et les apiculteurs s’y comptent par milliers. Le miel devient de plus en plus « le pétrole jaune » de la région et les jeunes s’y intéressent de plus en plus. Certains d’entre eux bénéficient des dons de l’Etat et de petits crédits de la BTS. Seulement, il y a un gros hic : Il devient de plus en plus difficile d’écouler la production. Du coup, les prix baissent. Pourtant les responsables du secteur qui ont réussi jusqu’à maintenant à relancer la production, peuvent venir en aide aux gens du métier pour leur montrer la voie la meilleure pour vendre à des prix convenables.   (Source : le portail www.bab-el-web.com, d’aprés Le Temps du 7 août 2003)  

Infrastructure routière 2003 : Quatre nouveaux échangeurs dans le Grand Tunis

Le premier sera édifié au niveau du croisement de la Soukra et plus précisément entre la GP8 (route de Bizerte) et la GP 10 (la route menant de l’Ariana via la Soukra ). Le deuxième échangeur sera quant à lui érigé au niveau de l’intersection de Borj Louzir également sur la nationale 8. Le coût global de cette première partie du projet est estimé à 24 millions de dinars et les travaux dureront 24 mois. Les études sont achevées. Reste certaines formalités administratives qui donnent lieu par la suite au lancement des appels d’offres. Le troisième échangeur sera construit au niveau du croisement Boulevard 7 novembre et la X4 du côté de la clinique Taoufik et du ministère des Affaires étrangères. Le quatrième sera instauré au niveau de la X 20 et l’avenue Othmane Ibn Afane.   (Source : le portail www.bab-el-web.com, d’aprés Le Temps du 7 août 2003)  

Le chiffre du jour : 276

Les préparatifs de la Journée de partenariat inter-régional qui aura lieu, le 21 octobre prochain, à Gabès, vont bon train. Quelque 109 opportunités d’investissement ont été identifiées à partir d’idées de projets objet actuellement d’études technico-économiques. Ces projets sont lancés dans les secteurs de l’agro-alimentaire, l’industrie de la céramique et des matériaux de construction, l’industrie mécanique et électrique, l’industrie chimique, le textile, le cuir et chaussures, les services et activités agricoles. Le coût global de l’ensemble des projets s’élève à 276 MD.   (Source : le portail www.bab-el-web.com, d’aprés Le Quotidien du 7 août 2003)  

Monoprix se propose d’acquérir un bloc de 9,9 millions de dinars de Touta

La société de distribution alimentaire « Monoprix » a proposé l’acquisition d’un bloc de 87,89% du capital de la Société Générale des Supermarchés « Touta » à près de 9,9 millions de dinars, selon une source bien informée à la Bourse de Tunis. La transaction aura lieu ce vendredi sur le marché hors-cote de la Bourse de Tunis, marché réservé aux sociétés faisant appel public à l’épargne (APE) et qui ne sont pas admises à la cote de la bourse, nous a expliqué la même source en ajoutant que « le principe des transactions sur ce marché se base sur la négociation et non pas sur le gré à gré ».   (Source : le portail www.bab-el-web.com, d’aprés Le Temps du 7 août 2003)

 
 

Tunisia’s July inflation rate at 2.68 pct yr/yr

 

TUNIS, Aug 7 (Reuters) – Tunisia’s inflation rate was 2.68 percent year-on-year in July, up from 2.40 percent the previous month, the National Statistics Institute said on Thursday.

The consumer price index, the North African country’s headline consumer inflation gauge, increased 0.37 percent in July on a monthly basis over the previous month.

The government envisages a 2.5 percent inflation rate for the full year of 2003, down from 2.8 percent in the previous year but higher than the 1.9 percent rate posted for 2001.

((Reporting by Lamine Ghanmi, +216-71 787538 fax +216-71 787454;

Reuters Messaging:lamine.ghanmi. reuters.com@reuters.net;

 email: tunis.newsroom@reuters.com ))

 

REUTERS

 

 

Le rapport annuel de la Banque centrale de Tunisie met en exergue la capacité de l’économie nationale à surmonter les difficultés conjoncturelles

07/08/2003– Le récent rapport annuel de la Banque centrale de Tunisie (BCT) qui vient d’être présenté au Chef de l’Etat, met en exergue la capacité à surmonter les difficultés conjoncturelles dont fait désormais preuve l’économie tunisienne. La Tunisie a ainsi pu, selon ce rapport, malgré des facteurs défavorables qui ont marqué l’année 2002, en particulier la conjoncture internationale difficile, les effets de quatre années successives de sécheresse et le ralentissement économique en particulier dans l’Union européenne, réaliser une croissance réelle de 1,7%, taux qui demeure supérieur au croît démographique et assure ainsi l’accroissement du revenu par habitant, et ce tout en préservant ses grands équilibres interne et externe. De même, la politique monétaire a permis de maîtriser le taux d’inflation qui s’est située à 2,8% en dépit des effets de la sécheresse sur les prix des produits alimentaires. Pour sa part, le secteur bancaire qui a connu en 2002 un fléchissement de son activité, reflétant le niveau de croissance économique, a pu toutefois préserver ses fondamentaux. Les établissements de crédit ont en effet adopté une attitude à la fois responsable, en poursuivant leur soutien aux entreprises, et prudente en consentant un effort particulier pour la constitution de provisions afin de couvrir leurs risques. Le rapport montre également que sur le plan extérieur, le déficit de la balance courante s’est limité à 3,5% du PIB contre 4,3% l’année précédente par suite, notamment, de l’importante contraction du déficit commercial et l’amélioration de la balance des revenus des facteurs. Ce niveau de déficit courant traduit une performance d’autant plus remarquable que son financement a été intégralement couvert par les flux des investissements directs étrangers. Le secteur touristique a pu, lui aussi, malgré les contre-coups de la conjoncture et grâce au soutien des autorités et aux efforts déployés par la profession, circonscrire les effets des événements du 11 septembre dans des limites gérables. Le document révèle par ailleurs que d’autres activités de service se présentent comme de nouveaux créneaux générateurs de ressources en devises et méritent d’être promues telles que les nouvelles technologies de l’information et de la communication, l’enseignement supérieur et la santé. Quant aux transferts des Tunisiens résidents à l’étranger, ils ont continué à progresser à un rythme soutenu, représentent plus de la moitié des recettes touristiques. Pour les stimuler davantage, des produits d’épargne ciblés devraient être développés notamment dans les domaines de la création de projets d’investissement, de l’assurance-vie et de la retraite complémentaire. Le même rapport montre que le parcours de l’économie nationale en 2002 témoigne de l’affermissement de sa capacité à surmonter les difficultés conjoncturelles grâce à la pertinence des réformes engagées et à une gestion macro-économique adaptée. L’adoption de normes et la diffusion des statistiques et de l’information, en vue de garantir une plus large transparence de la situation et des prévisions de l’économie, a permis d’en assurer le suivi et d’apporter le soutien approprié aux secteurs clés, ce qui a valu au pays d’être retenu, en 2002 et pour la première fois, dans le classement mondial sur la compétitivité établi par le forum économique de Davos. Cependant, souligne le rapport, le secteur privé doit être plus entreprenant pour attirer le capital étranger et insuffler à l’investissement une nouvelle dynamique qui privilégie l’innovation, la qualité et la valeur ajoutée. Il doit également oeuvrer, notamment, à respecter les règles de transparence et de bonne gouvernance pour développer un partenariat fructueux et durable. Au niveau de la sphère financière, l’application du dispositif réglementaire, institutionnel et logistique, profondément remanie au cours des dernières années, a révélé des insuffisances qui affectent l’information financière dans sa fiabilité et sa lisibilité. Cela a contribué à la baisse de l’activité du marché boursier et a occasionné un repli du taux de l’épargne. C’est pourquoi la transparence est désormais au coeur de la problématique du développement de l’épargne financière et de toute politique visant à surmonter les difficultés qui entravent une plus grande contribution du marché financier. Dans le même ordre d’idées, le rapport insiste sur la nécessité de mettre en place une base de données ouverte au public et pouvant être consultée à distance, ce qui constitue un instrument fort utile pour le développement du marché financier, pour autant qu’elle soit exhaustive et actuelle. La transparence requiert, par ailleurs, une révalorisation de la fonction d’audit à travers le renforcement de l’indépendance des auditeurs externes et des comités d’audit interne mais, également, une représentation de l’ensemble des intérêts sociaux, le petit actionnariat en particulier.

 

 

(Source : www.infotunisie.com, le 7 août 2003)


 

 

البنك المركزي التونسي يبرز قدرة الاقتصاد الوطني على تذليل الصعوبات

 

توفقت تونس خلال سنة 2002 إلى تسجيل نسبة نمو إيجابية بلغت 7ر1 بالمائة في محيط عالمي تراجع فيه نسق النمو نتيجة العديد من العوامل غير الملائمة على المستوى الدولي تعلقت بالمناخ الجيوسياسي الدولي والتباطؤ الاقتصادي مع تواصل حالة الجفاف على المستوى الوطني لأربع سنوات متتالية وفق ما جاء به التقرير السنوي الرابع والأربعين لمعهد الإصدار الذي تم تقديمه لرئيس الدولة.

وقد تمكن الاقتصاد التونسي من المحافظة على التوازنات الكبرى الداخلية والخارجية مع تراجع العجز الجاري. كما ساهمت السياسة النقدية المنتهجة في تحقيق هذه النتائج حيث مكنت من التحكم في التضخم المالي الذي بلغ 8ر2 بالمائة رغم تأثير الجفاف على أسعار المواد الغذائية ومن تمويل الاقتصاد بشكل ملائم لنسق النمو ولتوازن الجهاز المالي. استطاع القطاع المصرفي الذي شهد نشاطه خلال سنة 2002 تراجعا يعكس مستوى النمو الاقتصادي أن يحافظ على سلامة أسسه المالية. فقد اعتمدت مؤسسات القرض تمشيا مسؤولا من خلال مواصلة دعمها للمؤسسات وحذرا ببذل مجهود خاص لتغطية مخاطرها عبر تكوين مدخرات.

وأبرز التقرير أن عجز الميزان الجاري قد انحصر في مستوى 5ر3 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي مقابل 3ر4 بالمائة خلال سنة 2001 على اثر التقلص الهام في العجز التجاري وتحسن ميزان مداخيل العوامل بالأساس. ويعكس هذا المستوى للعجز الجاري أداء جيدا لا سيما وأن تمويله تم بالكامل بفضل دفوقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة.

 

وعلى مستوى الخدمات المصدرة أشار التقرير إلى أن القطاع السياحي استطاع احتواء تداعيات أحداث 11 سبتمبر في حدود أمكن التعامل معها بفضل دعم السلطات العمومية والمجهودات التي بذلها المهنيون. ودعا ذات المصدر إلى اتخاذ التدابير الاستراتيجية للحد من حساسية هذا القطاع إزاء تقلبات الظرف وضمان مستوى امثل لنشاطه نظرا لدوره الأساسي في الإسهامات الصافية من العملة الأجنبية واحداثات الشغل. و أوضح تقرير معهد الإصدار أن بعض الأنشطة الخدماتية الأخرى كالتكنولوجيات الجديدة للإعلام والاتصال والتعليم العالي والصحة تستدعي مجهودات مركزة للنهوض بها باعتبارها مجالات تتميز بقدرتها على استقطاب الموارد من العملة الأجنبية.

 

ويشير تقرير معهد الإصدار على صعيد آخر إلى تواصل تقدم تحويلات التونسيين المقيمين بالخارج بنسق مطرد إذ مثلت اكثر من نصف المقابيض السياحية مما يستدعي مزيد حفزها بتطوير آليات ادخار منتقاة وخاصة في مجال إحداث مشاريع الاستثمار والتامين على الحياة والتقاعد التكميلي . وقد تميز مسار الاقتصاد الوطني لسنة 2002 بقدرته على تذليل الصعوبات الظرفية بفضل سداد الإصلاحات المتخذة وادارة الاقتصاد الكلي الملائمة وهو ما يؤكده تحسن الترقيم السيادي سنة 2003 . و أفاد نفس التقرير أن اعتماد معايير نشر المعلومات والإحصائيات ومبادئها بهدف إضفاء شفافية اكبر على وضع الاقتصاد والتوقعات المتعلقة به سمح بمتابعة أدائه و إعطاء الدعم المناسب لقطاعاته الأساسية وهو ما مكن من إدراج تونس سنة 2002 و لأول مرة ضمن الترتيب العالمي للمنتدى الاقتصادي بدافوس حول القدرة التنافسية.

 

ودعا التقرير إلى مساهمة اكبر للقطاع الخاص لتجسيم خيار اقتصاد السوق ذلك أن القطاع الخاص مطالب بمزيد من الانفتاح لتعبئة الادخار المحلي من السوق المالية حتى تبلغ مساهمته في النمو في المخطط العاشر المستوى المرجو.

 

و لإضفاء مزيد من الديناميكية الجديدة على الاستثمار الذي يعطي الأولوية للابتكار والجودة والقيمة المضافة فان القطاع الخاص مدعو إلى مزيد من الجرأة للاشتراك مع رأس المال الأجنبي من خلال مزيد العمل على احترام قواعد الشفافية والتسيير الرشيد وهما عاملان أساسيان لتنمية شراكة مثمرة ومستديمة.

 

وعلى صعيد القطاع المالي افرز تطبيق المنظومة القانونية و المؤسساتيةو اللوجستية التي شهدت تحويرات عميقة خلال السنوات الأخيرة نقائص تؤثر في وثوق المعلومة المالية ووضوحها وهو ما ساهم في انخفاض نشاط سوق البورصة وتسبب في تراجع نسبة الادخار. و أكد التقرير على ضرورة إدراج عنصر الشفافية ضمن أولويات إشكالية تنمية الادخار المالي لتخطي العقبات التي تعوق مساهمة السوق المالية بصفة اكبر في هذا المجال. و أفاد أن تركيز قاعدة بيانات مفتوحة للعموم يمكن الاطلاع عليها عن بعد تعتبر أداة ذات فائدة كبرى لتطوير السوق المالية على أن تكون هذه القاعدة شاملة و محينة. ومن جهة أخرى ابرز التقرير أن الشفافية تستدعي إعطاء وظيفة التدقيق مكانة افضل وذلك بدعم استقلالية المدققين الخارجيين وهيئات التدقيق الداخلي كما تقتضي تمثيل كل فئات المساهمين في هياكل المؤسسات وخاصة الصغار منهم.

 

(المصدر: موقع « أخبار تونس » الرسمي بتاريخ 7 أوت 2003) 

 
 


 العلاقات بين حزب البعث والتجمع الدستوري في ضوء زيارة الرفيق الأحمر الى تونس

‏ إعداد :كفاح الأحمر‏   زار الرفيق عبد الله الأحمر الأمين العام المساعد لحزب البعث العربي الاشتراكي على رأس وفد حزبي الجمهورية التونسية تلبية لدعوة من حزب التجمع الدستوري الديمقراطي خلال الفترة ما بين 27 و31 تموز الماضي، حيث شارك في مؤتمر حزب التجمع، وأجرى لقاءات واتصالات مع قيادة التجمع ومع أحزاب عربية شقيقة وأجنبية صديقة شاركت في المؤتمر.‏   وقد ألقى الرفيق الأمين العام المساعد كلمة الحزب في المؤتمر، أكد فيها ضرورة حشد الطاقات العربية لمواجهة التحديات الراهنة ودعا الى تفعيل التضامن الذي يعزز قوة العرب ولا يسمح للاعداء بهزيمتهم…وقد نقل في كلمته تحيات السيد الرئيس بشار الأسد الى المشاركين في المؤتمر.‏   كما تحدث عن العلاقات الوطيدة بين حزب البعث العربي الاشتراكي والتجمع الدستوري الديمقراطي وبين البلدين الشقيقين.‏   وتحدث عن أهمية الزيارة التي قام بها الرئيس الأسد الى تونس ودورها في تعزيز العلاقات الأخوية بين التنظيمين السياسيين والبلدين الشقيقين على جميع الأصعدة..كما تطرق الى الأوضاع السياسية الراهنة في المنطقة ولاسيما العدوان الاسرائيلي على الشعب الفلسطيني ومعاناة شعب العراق في ظل الاحتلال مؤكداً ثوابت الموقف القومي السوري منها.‏   وكان الرئيس التونسي زين العابدين بن علي رئيس التجمع الدستوري الديمقراطي، قد افتتح أعمال المؤتمر بكلمة شاملة تحدث فيها عن العناوين العريضة لمسيرة تونس طموحها والدور الذي يضطلع به التجمع الدستوري الديمقراطي في تطوير الدولة والمجتمع وتحقيق طموحات الشعب التونسي.‏   وتونس البلد العربي الشقيق يشهد نهضة شاملة، عمرانية وسياحية وثقافية واجتماعية واقتصادية..وهناك توجه مركز حول تعزيز الهياكل الارتكازية في السياحة وإقامة مدن سياحية كبرى. تهدف لاستقطاب «7» ملايين سائح في العام 2006.‏   كما أن تونس قطعت خطوات في تطورها، وخاصة في قضية تحرر المرأة، فلقد اتخذت تشريعات وقوانين عدة تحقق حق المرأة الدستوري بالمساواة مع الرجل .. كما تولي أهمية للشباب والمغتربين من أبنائها في الخارج.‏   ومن أهم التشريعات الجديدة الداعمة للمرأة حق المرأة التونسية المتزوجة بغير تونسي إعطاء جنسيتها لأبنائها.‏ وحققت تونس قفزات في النمو الاقتصادي، وتشير احصائياتها الى أن وتيرة النمو بلغت «5.5» سنوياً.‏   والتجمع الدستوري الديمقراطي أقدم الأحزاب في تونس هو الحزب الحاكم وتميز أداؤه بعد تسلم زين العابدين الحكم في 7 نوفمبر 1987 حيث عقد أربعة مؤتمرات كان آخرها مؤتمر الطموح 2003 الذي شارك بها الوفد الحزبي مع «82» وفداً من أحزاب عربية وأوروبية وآسيوية وأفريقية ومن أمريكا اللاتينية، واختتم أعماله بالتمسك بمشروع التغيير الذي يجري تونس7 نوفمبر، ويتركز على العناية بالشباب والمرأة واستقطاب الكفاءات، ومواصلة الجهد لتدعيم الخطوات التي تمت والاستناد عليها لتطويرها لإرساء جمهورية الغد واستكمال تنفيذ البرنامج المستقبلي لرئيس البلاد.‏   كما جدد المؤتمر دعم تونس لصمود الشعب الفلسطيني من اجل استرجاع حقوقه المشروعة وإقامة دولته المستقلة وعاصمتها القدس الشريف وتكريس السلام العادل والشامل في المنطقة . وبالنسبة للعراق، أكد المؤتمر ضرورة الحفاظ على سيادة العراق ووحدته الترابية وضمان استقراره، وشدد المؤتمر على ضرورة التعاون مع بلدان حوض المتوسط والاتحاد الاوروبي ومع الاتحاد المغاربي وتعزيز التضامن العربي.‏   وعلى هامش المؤتمر أجرى الوفد الحزبي سلسلة لقاءات واتصالات مع احزاب شقيقة وصديقة بحث خلالها العلاقات الحزبية ودورها في تعزيز العلاقات بين سورية وبلدان هذه الاحزاب وحول ضرورة استنهاض شعبيته في مواجهة الهيمنة والسيطرة وصيانة الاستقلال الوطني واحترام خيار كل شعب بطريقة تطوره ومشاركة حزبنا في مؤتمر حزب التجمع الشقيق والاتصالات التي اجراها خلال ذلك، محطة مفيدة تسهم في تعزيز علاقات حزبنا مع الاحزاب العربية والاحزاب الاخرى من بلدان العالم وكذلك تطوير علاقات سورية مع هذه البلدان، بما يعزز التقارب والتفاهم مع مواقفنا الحزبية الدولية.‏   (المصدر: صحيفة البعث السورية الصادرة يوم 5 أوت 2003)

 


 

البرنامج السياسي( 4 من 4):

بقلم:  صالح كركر

        

الإصــلاح الـسياســي فــي تــونــس :

 

تغـيـيـر الدستـور و إقـرار الحـريّات (4 من 4)

 
 
 

     

خـامـسا ـ حـرّية الـتّـنـظّم السـّياسـي :

منذ بداية التّاريخ لم يحصل حول أيّة قضيّة من قضايا البشريّة من الإختلافات و القلاقل و النّزاعات و الحروب و سفك الدّماء أكثر ممّا حصل حول مسألة الحكم. و حتّى وقت قريب كان الحكم، في جزء كبير من المعمورة، يعود إلى المتغلّب. بل حتّى في وقتنا الحالي لا يزال الحكم فيه يعود إلى المتغلّب في جزء كبير من المناطق المتخلّفة في العالم. و خير دليل، على سبيل المثال، على ما ذهبنا إليه، عدد الإنقلابات العسكريّة التي حصلت طيلة النصف قرن الأخير في القارّة السّمراء، و كذلك في منطقة الشرق الأوسط، أو في أميركا اللاتينية، بسبب الصّراع و التّكالب على الحكم، و سعي الأقوى، و لا أقول الأفضل أو الأكفأ، للتّغلّب على الإضعف و افتكاك السلطة منه و احتكارها لنفسه. و نحن في تونس نعيش منذ 1987 حكم المتغلب و ليس حكم الأفضل و لا حكم من اختاره الشعب لحكمه.                                    

   و منذ بداية القرن الثّامن عشر بدأ هذا التقليد يغيب، في بعض المناطق من العالم، مثل أميركا الشّماليّة وأوروبة، ويحلّ محلّه أسلوب اختيار الحاكم من قبل الشعب بالأساليب السلميّة المتمثلة في الإنتخاب. و يعود ذلك إلى أنّ الإنسان قد تهذّب، نوعا ما، في تلك البلدان ونضجت مداركه الذهنيّة، و أخذ عـقـله بمقاليد أمره، بعد أن كانت بيد عواطفه و حماسته وعضلاته، واستفاد من التّحضّر الذي حصل له  فترك استعمال القوّة جانبا في الوصول إلى الحكم، و استبدله بالأساليب السلميّة المتمثّلة في وضع البرامج للوصول إلى الحكم و تنفيذه و إقناع النّاس بها و كسب الأنصار لها، ثمّ خوض المعارك الإنتخابيّة عبر صناديق الإقتراع.

و ممّا أعان على ذلك، تطوّر الفكر السّياسي و القانون الدستوري بشكل ملحوظ في تلك الديار. فقد تبلورت بواسطة ذلك أشكالا جديدة في النّظم السيّاسيّة لم تكن معروفة قبل ذلك، كما تبلورت لأول مرة المسألة الديمقراطية و ما تعنيه من اعـتماد فكرة تكوين الأحزاب السّياسيّة وانتهاج الأسلوب الإنتخابي من أجل السعي إلى الحكم. كما ظهرت أيضا لأول مرة فكرة تقسيم السلطة إلى ثلاث سلط، والفصل بينها من أجل منع احتكارها في يد واحدة فينقلب الحكم بذلك إلى حكم دكتاتوريّ.

كما وضعـت خيارات عدّة في أنواع الحكم، منها النّظام الجمهوري الرّئاسي والنّظام الجمهوري البرلماني والنّظام الملكي الدستوري البرلماني، مع قاسم أساسي مشترك بينها يتمثّل في اعتماد الشعب كمصدر وحيد للسلطة، ينوّب عنه، عبر صناديق الإقتراع، من يراه صالحا لممارستها. و ليست هذه هيّ الأشكال الوحيدة التي يمكن أن تقـوم عليها النّظم السّياسيّة، و لكن هذه هيّ الأشكال الوحيدة النّاجحة التي تفـتّق عليها إلى حدّ الآن العقل البشري. و التّي استقرّ عليها الوضع السّياسي الغـربي منذ مدّة طويلة نسبيّا وبني على أساسها هذا تقـدّمه الذي نشاهده اليوم. وهذا لا يمنع طبعا من اكتشاف الإنسان لأشكال أخرى لنظم سياسيّة جديدة ناجحة. خاصّة بعد ما أصبحت نقائص الدّيمقراطيّة تتضخّم و تزداد يوما بعد يوم.

أمّا بلادنا تونس فقد عاشت، كما هـوّ معلوم لمدّة قرون طويلة، نظام الملكيّة المطلقة، مثلها مثل بقـيّة الدّول العـربيّة والإسلامية عموما، حتّى وقعـت بين مخالب الإستعـمار الذّي بقي فيها ثلاثة أرباع القـرن ثمّ غادرها دون أن يترك فيها شيئا من تقاليده الدّيمقراطيّة. و قد نصّب عليها، عند ذهابة، تحت ذريعة ما قام به من نضال و قـدّمه من تضحيّات، زعـيم الحركة الوطنية. و هذا الأخير بدون أدنى شكّ، كانت له شخصية قوية تجلب له الإحترام، و كذلك كان له حظ وافر من الفطنة، كما كانت له قدراته المتميزة في مجال المناورة السياسية. لكـنه مع الأسف الشديد كانت له أيضا، و في نفس الوقت، زلاّته القاتلة، نذكر منها، الغرور و الإعجاب المفرط بالنفـس و الاستبداد و احتقار الشعـب و القفـز على معـتقداته  و ثقافته، والإنبهار الأعـمى بكلّ ما عند الغرب و الاحتقار الكبير لكل ما هو عربي و إسلامي و الاشمئز منه.

وقد تركه كل ذلك يمسك الحكم بيد من حديد، ولم يترك من السلطة شيئا لغيره يشاركه فيها، مستعينا في ذلك بحزبه وما وضعه هذا الأخير من شبكة جهنّميّة من الخلايا و الشّعـب، الدستورية و المهنية، ضاربة في طول البلاد و عرضها، بعد أن منع بكلّ قسوة قيام أحزاب أخرى إلى جانبه. كما استعان أيضا على حماية حكمه و تجذيره بجهاز أمنيّ رهيب. و قد وضع لنفسه نظاما سياسيّا على مقاساته الشخصيّة. و قد تميّز هذا النّظام بالحداثة والعصرنة في ظاهره، إلاّ أنّ حقـيقـته كانت إستبداديّة قراوسطيّة ضاربة جذورها في الإنحـطاط و التّأخّر والتّسلّط و الشمولية. فـلم يقـم نظامه على التعدّديّة السّياسيّة، ولا على الفصل بين السّلطات، ولا على اعتبار الشعب و تمكينه من انتخابات حقـيقـيّة.

لقد عاش بورقيبة في السلطة، في ظلّ النّظام الجمهوري المغشوش الذي ليس له من الجمهورية إلا الإسم، حاكما مطلقا مدى الحياة، لا يحتاج إلى ثقة الشعـب و لا إلى انتخابه و ليست له ثقة فيه مطلقا و لا يكن له أدنى احترام. فكانت و لا تزال جمهوريّة بورقيبة مهزلة من نوع خاصّ، ليس لها من معاني الجمهوريّة و مقوماتها ومزاياها إلاّ الإسم. و كان هوّ الدّولة و هوّ القانون و هوّ السّلطات الثّلاث في آن واحد. و كان لا يتورع عن القول بأنه هو القانون و هو الدولة. لقد كان النّظام السّياسي الذي وضعه بورقيبة نظاما فريدا من نوعه لو لم يكن استبداديّا فاسدا.

   لقـد عـمر بورقيبة في الحكم طويلا، بفضل ذلك و بفـضل الظروف المناسبة التي مرت بها المنطقة و العالم، ثم أجبر على مغادرته في ظروف، يعلمها الجميع، ليس هنا محلّ سردها و شرحها، و كان خلفه، الذي هوّ ليس شيئا آخر سوى أنّه نتاج طبيعي لاستبداده. فجاء هذا الأخير عسكرياّ فظّا جاهلا وضيع الفهم و العلم و التربية و النسب، نقيضا في مؤهلاته وطبيعة شخصيته لبورقيبة، فلم يكن له من خيار آخر في مسك السلطة و الحفاظ عليها بين مخالبه إلاّ أن يوغل في التّجبّر والإستبداد و زرع  الرعـب في نفوس الشعب وإرهابه بشتى وسائل الارهاب.

وقد قاد الشعب، ولا يزال، كما كانت تقاد قطعان العبيد في الإمبراطوريّات الغابرة. فلم يترك للشعب من خيّار إلاّ الموافقة والنّفاق، أو الصمت الكامل في السرّ والعلن واعـتزال السّياسة وأهلها، أو الملاحـقة والإعتقال والتعذيب ثمّ السجن في أبشع الظّروف وأحطّها لكرامة الإنسان، بل و حتّى الإغتيال و القـتل البطيء. و لم تعرف تونس مع من خلف بورقيبة حرّيات ولا تعدّديّة سياسـيّة ولا حتى أبسط هامش لكرامة الشعب و اعتباره، و عوملت البلاد و شعـبها بما لم تعامل به في أحلك فـترات تاريخها، فتصرّف فيها هذا الحاكم الأرعـن بما كان يتصرّف به السيّد الإقـطاعي في القرون الوسطى في إقـطاعيّته و مع أقنانه، حاكما مطلقا لا معقب لحكمه. وممّا زاد الطّين بلّة أنّ منحدره كان من الرّعاع الذين يحطّون من قيمة الحكم و لا يشرّفونه، ممّا جرّأ عليه أراذل القوم مثله و أقلّ منه، وأصبح أراذل الناس في البلاد و أقله كفاءة و احطهم خلقا و أدناهم نسبا يطمحون هم بدورهم لحكم البلاد !!!

   وقد تسبّب ذلك في صدمة نفسيّة للشعب، و كوّن له عقدا و مركّبات، و أصبح يشعـر بالدّنيّة و الهوان، خاصة عندما ينظر إلى بقـيّة الشّعوب من حوله. و فقـد، بكلّ مرارة و حسرة، روح العزّة و الرفعة، و انحطّت معـناويّاته إلى الحظيظ. فكره السّياسة والسّياسيين و هجرهم، و ولّى لهم ظهره، و هام على وجهه يبكي حظّه و يسلّي نفسه بالجري وراء المادة و تكديس الثروة واقتناء كل الكماليات و بكلّ وسائل اللّهو، حتّى الخطيرة و المحطّة منها، مثل الإدمان على المسكرات و تعاطي المخدّرات مرورا بتعاطي الفواحش حتى في صورها الشاذة، حتّى ينسى نفسه و همومه، و كذلك ملازمة الملاهي بكلّ أنواعها و تعاطي الفواحش والرّذائل. أما شريحة الشباب من المجتمع فتزاحمت على مغادرة البلاد بأي ثمن و مهما كانت المخاطر و الأهوال. كلّ ذلك من أجل أن يشغل هذا الشعب نفسه عن السياسة و السياسيين، و حتى يتجنّب مظالم واستبداد هذا الحاكم الأرعن و الفاسد، و ينسى المصائب التّي ألمّت به.

و قد لحق البلاد و شعبها، جرّاء ذلك، ضرر بليغ، قد يؤدّي بالجميع إذا لم يقع الإسراع بمدّ يد النّجدة من أجل وضع حدّ لهذا الوضع المأسوي قبل فوات الأوان إلى كارثة لا تحمد عواقبها. و أوّل الخطوات في هذا الاتّجاه تتمثّل في تجميع الطّاقات و تكثيف الجهود من أجل القضاء على أصل الدّاء، أي القـضاء على نظام الحكم القائم، حتّى لا يتفاقم المرض أكثر، و ذلك قبل الشّروع في إعادة بناء ما تهدّم. و لا نحسب ذلك حاصلا إلاّ بتكتّل كل القـوى الحية للشعـب، نابذة وراءها خلافاتها الهامشيّة، غير آبهة بما يمكن أن يلحقها من أضرار جسام و تضحيّات، من أجل تضييق الخناق على الحاكم الأرعن المستبدّ و بطانته الفاسدة، و إرغامهم، تحت الإكراه، و أمام إرادة الشعب و تصميمه، على الذّهاب. أ مّا إعادة البناء بعد ذلك، فما نحن بصدد كتابته هوّ مشروع، من بين مشاريع أخرى قد تبرز إلى الوجود و تتعدّد، يمكن أن يقوم هذا البناء على أساسه. و هنا نعود إلى وضع لبنات هذا المشروع، و منها إرساء حرّية التّنظّم السّياسي، أو بعبارة أخرى إيجاد التّعدّديّة الحزبيّة الحقيقيّة.

من المعلوم أنّ تونس لم تعـرف، طيلة تاريخها، تعـدّديّة حزبيّة حقيقيّة، بالمفهوم الحديث، أبدا. و قد آن الأوان لها أن تعانق هذه المسألة و تتبنى التعددية الحزبية الحقـيقـية و تعيش بكلّ جدّ و شفافيّة تجربتها. و لسنا ممّن يرى في التّعدّديّة الحزبيّة بدعة أو أمرا منافيّا لخصوصيّاتنا ومقـوّماتنا الثّقافيّة و الحضاريّة. فهذه المسألة من مسائل الوسائل، و الوسائل عموما لم ترد في حقّها نصوص قـطعـيّة بالوجوب أم بالمنع، وهي من قبيل ما أطلقه حديث رسول الله صلّى الله عليه و سلّم « أنتم أدرى بشؤون دنياكم »، فالأصل في الوسائل الإباحة ما لم تتعارض مع نـصّ قـطعيّ أو مع مقصد شرعيّ، أو ما لم يتبيّن فسادها و ضررها، لأنّ الشرع جاء لجلب المصالح ودرء المفاسد. وحسب عـلمنا لم تتأكّد إلى حدّ اليوم مفـسدة ناتجة عن اعـتماد تعدّد الأحزاب. زد على ذلك فإنّ مفهوم تعدّد الأحزاب، في روحه العامّة، كان قد عرف في تاريخنا، إلاّ أنّه لم يعرف بهذه التّسميّة وإنّما بتسميّات أخرى مثل الفـرق ، أو المذاهب الفـقهيّة، أو المذاهب الفكريّة، وما إلى ذلك. و نحسب أنّ توجّس البعـض من فكرة الأحزاب ليس قائما على دليل، بقـدر ما هوّ قائم على اعتبار أنّ الفكرة واردة من الغرب ليس إلاّ. و حسب رأي هؤلاء أت كل ما يأتي من الغرب يجب تركه. و هذا الكلام غلط، لم يقل به عقل و لا نقل. بل إن الحكمة هي ضالة المومن أنا وجدها التقطها وهو أحق الناس بها.

وإن الذين يقولون إن ّ كلّ ما هـوّ وارد من الغرب مرفوض هم مغالون و واهمون، بل هم جهلة بمسائل العقل و النقل على السواء.  و ليس هذا سوى مبالغة في الحساسيّة ضدّ الغرب و ضدّ كلّ ما يأتي من قبله، وليس هذا بالموقف السّليم الذّي يعـين أصحابه على التّقـدّم. فالحكمة ضالّة المؤمن أين وجدها أخذها وهو أحق الناس بها، كما ذكرنا ذلك آنفا، وعمل بها دون تردّد و لا مركّبات. و قد كان الغـرب نفسه قد أخذ عـنّا و عن غيرنا الكثير عند انطلاقـته، و قبل أن يعرف ما عـرفه من تقدّم مذهل. وقد سبق لحضارتنا الإسلامية نفسها أن أخذت عن الحضارات الأخري مثل الحضارة اليونانية.

أمّا من جهة المعقول، فنحن نرى أن تعدّد الأحزاب مسألة تتمشّى مع طبيعة البشر. فهؤلاء، رغم القاسم الكبير المشترك الذي يوحد بينهم، هم بفطرتهم مختلفـون في أشياء كثيرة، فهم مختلفون في الرأي و التّصوّر و التقـدير و الحسّ و الشّعـور و الميزاج وغيره. على هذا الأساس يصبح من الطّبيعي أن يبحث الإنسان عـمّن يقترب منه في الفكرة أو في الميزاج أو في الأهداف أو في غير ذلك من الأشياء، فيطلب صحبته أو مشاركته أو التّكتّل معه لتحقـيق الهدف أو الأهداف التي يشترك فيها معه. و الناس مختلفـون بطبعهم في أسلوب تسيير شؤون المجموعة و تحقـيق مصالحها. على هذا الأساس قامت الأحزاب السّياسيّة كـتكـتّلات بين جموع من الأفراد، تقترب فيما بينها في القناعات و الرؤى و وجهات النظر،  من أجل التنسيق بين أعـضائها و توحيد جهودهم، بغاية التّسابق السلمي على الحكم على أساس برامج و رؤى مختلفة بينها.

وقـد جنّبت  فكرة تبنّي أسلوب الأحزاب السّيّاسيّة، في التّسابق على الحكم، الشّعوب التّي اعتمدتها، شرورا كثيرة، كانت غـالبا ما تقع فيها لمّا كان الأسلوب المعـتمد للوصول إلى الحكم هوّ أسلوب استعـمال القوّة و التّغلّب. و بالتّالي فقد حقّق هذا الأسلوب مصلحة كبيرة و درأ مفسدة خطيرة. و لم نعثر لحكّام الجور و الإستبداد من حجّة مقنعة لمنع التّعدّد الحقيقي للأحزاب إلاّ تشبّثهم بالسلطة و عدم سماحهم بتواجد من يسعى إلى مزاحمتهم فيها.

وعلى هذا الأساس فنحن نقترح، و نحسب أنّ عموم الشعب لا يطمح إلاّ إلى ذلك، أن تطوي تونس، بعد زوال هذا الحـاكم الإستبدادي، هذه الصفحة القاتمة و تفتح صفحة جديدة مشرقة تنير وجه تونس و ترفع لها رأسها بين البلدان و تعينها عـلى إرساء قواعد القـيم السامية بين أفرادها و على تحقـيق نهضتها و رقيها. صفحة تعتمد إرساء الحرّيات والتّعدّديّة السّياسيّة الفعليّة وتعيد الشرعـيّة وأحقّيّة التقـرير والإختيار للشعب، صاحبها الحقيقي.

ولا نرى أن يكون لحريّة التّنظّم السّياسي، التي ترغب فيها كلّ القوى الحيّة في البلاد،  شروط مسبقة، و إلاّ فإ نّها لم تعد حرّية. و الشعـب هوّ الذي يضع لها شروطها بمنحه الثّقة لأصحاب الأحزاب أو بحجبها عنهم. و ليس لأيّ كان أن يكون له هذا الحقّ، و لو كان رئيس البلاد أو وزارة داخليّته أو حتى المجلس التشريعي. وما وضع من شروط، إلى حدّ الآن، لإجازة الأحزاب من مثل استبعاد الإعتبار الدّيني، أو العـرقي، أو الجهوي، فإنّه لا اعتبار لها لأ نّها لا تعـتمد لا على منقول و لا على معـقـول، و لم يستفتى فيها الشعـب يوما بكلّ حريّة و لم يقل فيها كلمته. و لم يكن لها من مبـرّر، عندما وضعت من قبل السلطة الفاسدة الجائرة إلاّ استثناء المنافسين الجدّيين من المشاركة في لعـبة التّسابق على الحكم.

فالأحزاب الدّينيّة منتشرة في العالم من إسرائيل إلى الهند، و من إيطاليا إلى ألمانيا، في الحكم، متفرّدة به أو مشاركة فيه، و في المعارضة، دون أن يتسبّب ذلك في أيّ ضرر في تلك البلدان. كذلك الأحزاب العـرقـيّة و الجهويّة. و نحن نقول إنّ رأي الفرد مهما كانت قـيمته و مكانته، و لو كان رئيسا، و كذلك رأي المجموعة الحاكمة، لا قـيمة له بالمقارنة لاختيار الشعب وتقـريره، عبر الإستفـتاء. و عموما فإن أقوال حكّام الجور و الإستبداد و من معهم من أعوان و مستشارين و مقرّبين، في مسألة تعدّد الأحزاب والشّروط التّي يجب، حسب رأيهم، أن  تبنى عليها، هيّ أقوال سفهاء لا يعتدّ بها. ولا يحـقّ لأيّ كان، باستثناء الشعـب طبعا، مهما كانت حجّته، أن يمنع غـيره من حـرّية التّنظّم السّياسي على أيّ أساس أراد. إذ أنّ ذلك هـوّ من قبيل الوصاية على الشعب، وهو محـطّ بكرامته وعـزّته ولا يقبل به.

ونحن نـقـرّر من جانبنا و نعلن موقفنا أنّ حرّية التّنظّم السياسي حقّ مؤكّد، لكلّ مواطن، لا يحتمل الشّروط والإستثناءات. والمشكلة، حسب رأينا، ليست متأتّية من جهة حكّام الجور و الاستبداد فحسب، و إنّما هيّ متأتّية أيضا من جهة بعض الجهات السياسيّة و الإيديولوجيّة المعارضة. و حجّتهم الحقيقيّة تعانق، في النّهاية، حجّة حكّام الجور و الإستبداد، وهي استبعاد المنافس الخطير. فهل يعني هذا أنّ الإستبداد قد فرّخ بعد في المجتمع، وتعدّى النخبة الحاكمة إلى بعض أطراف النخبة المعارضة؟ و إذا تأكّدت هذه المسألة فيصبح الأمر معها خطيرا، يعـسر معه قيام تعدّديّة سياسـيّة فعليّة، معبّرة عن إرادة الشعب وطموحاته.

يبدو أن جزءا لا بأس به من اليسار في تونس بقى متمركزا على مواقف اليسار التي عرف بها في النصف الأول من القرن العـشرين و لم تعرف عقولهم أي تطور و لا افـتاح. فهؤلاء لا يزالون متمسكين عملا و مواقف بمقولة ماركس معـلمهم الأول، الدين أفيون الشعوب و إن الله قد مات و إن لم يمت فاقتلوه. و بذلك فهم لا يزالون يحملون حقدا دفينا على الإسلام و الثقافة الإسلامية عموما في البلاد، و على الإسلاميين، خصومهم السياسيون و الإيديولوجيون على وجه الخصوص. و بالرغم من أن الدنيا برمتها و على مر كل تاريخها، لم تعرف دكتاتورية و لا شمولية و لا وحشية، أشد مما عرفتها في ظل النظم الماركسية بدون استثناء، فإن اليساريين المغالين في تونس أعلنوا من جهة واحدة أنهم أصبحوا مثالا رائعا في الديمقراطية و التمسك بالحريات و في الدفاع عن حقـوق الإنسان و في الانفتاح و الحداثة، إلا أنهم سرعان ما يتناقضوا مع أنفسهم و يقرروا ثانية من طرف واحد و بدون أي دليل و لا حجة أنه يجب طرد الإسلاميين من اللعبة الديمقراطية لأنهم أعداء للديمقراطية و لأنهم ظلاميون قراوسطيون متزمتون !!! من أخبرهم بذلك و ما دليلهم عليه؟ لا شيء بطبيعة الحال سوى مقولة ستالين، أحد أهم رموزهم في الديمقراطية و الحريات و احترام حقوق الإنسان، أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس !!! و لم أر أحدا أشد عداء للإسلام و للثقافة الإسلامية و لمن ينتسبون إلى ذلك، من يهود أو نصارى أو كفرة من أقوام أخرى، منهم أبدا. و هؤلاء اليساريين بحكم عدائهم الإيديولوجي و ضعف قاعدتهم الشعبية ليس لهم من سبيل إلا العمالة للنظام القمعي القائم و كذلك العمالة للقوى الخارجية ليستمدوا منها شرعية يائسة لهم، بعد أن يئسوا من الحصول عليها من الشعب التونسي العربي الإسلامي، و كذلك ليس لهم من سبيل إلا الاعتراض الدائم على الإسلاميين. فهل سينتبه هؤلاء القوم يوما و ينزعوا من قلوبهم الحقد و الغل على ذاتهم و بني جلدتهم و يفقهوا طبيعة مجتمعهم و يقبلوا بالتصرف الهادئ الموضوعي ؟؟

إنّ الـتّعـصّب للذّات و احتكار الصّفة أو المجال و سياسة الإقـصاء هيّ من بنات الاستبداد و الدكتاتوريّة حتّى و لو جاءت من جهات معارضة. إنّ التّواجد على السّاحة السّياسيّة و المشاركة في حفـل الـتّعدّديّة الفعليّة تبتدئ بالحرص على ضمانة مشاركة الآخر، حتّى و لو كنا في تناقض كامل أو في اختلاف كبير معه، على مستوى المبادئ و التّصوّرات و الأفـكار و البرامج.

إنّنا في تونس، رغم المرونة التّي يتّصف بها شعبنا، و درجة الوعي العامّ والـتّـسيّس التي بـلغها، نـحـتاج إ لى مزيد الإقـتناع والتـّدرّب الـعملي على قبول الآخر والإعتراف به و تحمّله والتّعامل معه، مثلما هوّ الحال في المجتمعات المتحضّرة. لقـد آن الأوان اليوم، في تونس، للحواجز أن ترفع، فـيـلتقي الإسلامي مع العـلماني أو الماركسي و يتحاور الجميع فيما بينهم، وينسّقوا بينهم بل ويتحالفـوا بغاية العمل من أجل مصلحة البلاد والشعـب. كما آن الأوان أيضا للإحتكارات أن تزول، ولا تبقى أ يّة وصاية على أيّ مجال من المجالات أو قضيّة من القـضايا من طرف أيّ كان. فمسألة حـقـوق الإنسان على سبيل المثال معنيّ بها كلّ أفراد المجتمع، أو على الأقـلّ كلّ من يريد العناية بها والنّضال من أجلها، وليست هيّ من خصوصيّات فـئة معيّنة كـلّـفـت بها نفسها، ورفعت التكليف بها عن غيرها.

وما قـلناه عن حقـوق الإنسان يمكن أن نقول مثله عن مسألة الـدّ يمقراطيّة و الحـرّيات العامّة، وكذلك عـن مسألة   العـمّال والطّبقات الفـقـيرة وحقـوقهم النقابية والإجتماعـيّة، ومثله نقـوله أيضا عن مسألة الإسلام ومقوّمات الهويّة، و غـير ذلك من المسائل. و في العموم فإنّ كلّ القـضايا في تونس تهمّ كلّ أبنائها و ليست هيّ حـكر على البعض منهم. والأفـضليّة في ذلك لا تحصل بمجرّد الإنتساب والإدّعاء أوالإحتكار و إ نّما بالتّفاني و بذ ل الجهد وصدق النّضال.

إنّ الـتّعدّديّة السـّياسيّة لا يمكن أن تقـوم في تونس، و يكون لها حظّ وافر في النّجاح، إلاّ إذا شعـر كلّ فرد في البلاد أنّ الحقـوق السّياسيّة التي يريدها لنفسه هيّ نفسها التي يجب أن تكون لغـيره. و نحن نعجب من بعـض أبناء جـلدتنا و إخواننا في المواطنة، من ذوي التّوجّهات اليساريّة، لمّا يشترطوا و يؤكّدوا على ضرورة استثناء الإسلاميين من العمل السّياسي و استبعادهم عنه. ونتساءل، بمناسبة رفعهم لهذا الخطاب الخاطئ، هل هم مقتنعون حقّا بالحرّيات و الدّيمقراطيّة، أم هل أنّ الحنين لا يزال يجذبهم إلى ما عرف به اليسار من نظم دكتاتوريّة وشموليّة، وهل أنّهم واعون بطبيعة هويّة البلاد و بطبيعة ثقافة شعبها و معتقداته، أم أنّ مسألة الشعب و كلّ ما يتعلّق به لا يهمهمّ و ليس له في نظرهم طبعا أدنى اعتبار؟

والأهمّ من كلّ ذلك هـوّ ضرورة الإعـتبار بما حصل من تجربة في البلاد. فـبرقيبة و لئن لم يكن د يـمقـراطيّا في العموم، و رفض للشعب حقّ المعارضة له، مهما كان لونها، من التواجد القانوني، إلاّ أنّ رفـضه للإسلام و للمعارضة الإسلاميّة كان أشدّ. و لمّا تمسّك هؤلاء بحقّهم في التّواجد لاحقهم و ا ضطهدهم و حاكمهم و أ لـقى بهم في السّجون. و رغم ذلك فإنه لم يحلّ المشكـلة و بقـيت البلاد بسبب ذلك مرتعا للتّوتّرا ت و الـتّشنّج. أمّا هذا ا لـغـبي الذي خـلـفه فقد سار فـيما سار فيه مضيفا إلى ذلك مسحة دكتاتورية متوحّشة. فأثخن في الإسلاميين بالملاحقات و الإعتقالات و التعذيب و التقتيل و السّجون والتشريد و ا لمنافي، إلا أ نّه رغم ذلك لم يحلّ المشكلة أيضا، بل لم يزد إلاّ في تعقيدها و إلحاحا. فمتى سيقـتنع القـوم بأن المعاداة و الإعتراض للفكرة و للمعـتقـد لا تكون بالمنع خاصة إذا كان ذلك المنع بأسلوب عـنيف، إ نما الفكرة تناقش بالفكرة النقيضة و التصور يناقش بالتصور المقابل…    

وهؤلاء الذين لا يزالون لم يفهموا شيئا من التّاريح، ويواصلون رفع خطاب استثناء الإسلاميين من ا لـلـعـبة السّياسيّة أ و استثناء غـيرهم أيضا، هم في الأصل لا يسيؤون إلى هؤلاء فحسب، و إ نّما يسيئون إلى الديمقراطيّة، و يحاربون إمكانيّة قـيامها في البلاد. و هم في الحقيقة شعـروا بذلك أم لم يشعـروا ليسوا بأفضل قـناعات من بورقيبة و الجنرال المتحجر الذي خلفه. والإسلاميون سوف لن يقـبلوا أبدا باستثنائهم من ا للـعبة ا لـسّياسيّة كما فعلوا في الماضي، و ماذا سيفعل دعاة الإستثناء وقتها بالإسلاميين؟ سيضطهدونهم و يلـقون بهم في السّجون من جديد، كما فعل بهم بيرقيبة و خلفه، و هل ستنجح مع ذلك الديمقراطيّة في البلاد ؟ إنّ الذين يرفعـون شعار استثناء الإسلاميين، أ و غيرهم، بحجّة أ نّهم غـير ديمقراطيين أو بغـير ذلك من الحجج، هم أنفسهم غير ديمقراطيين، لأنّ سياسة الإستـثناء و الإقـصاء هيّ أ بشع صوّر الدكـتاتوريّة، و ليس فيها ما يربط أصحابها بالدّيمقراطيّة. فالإقـصاء و الاستثناء هما حلـيفـا الدكتاتورية بل و هما منها، و ليست لهما أية علاقة بالديمقراطيية. فكل استئصالي هو دكتاتوري و كـل إقـصائي هو دكتاتوري مهما ادعى لـنفـسه من مشاعر طيبة تجاه الديمقراطية.   

 و نحن نتساءل أيضا هل أنّ طبيعة هذا النوع من الناس تغـيّرت بمثل ما تغـيّرت به طبيعة الأوضاع في العالم، أم أنّهم، من دون كلّ النّاس في البلاد، لم يتغيّروا، و بقي الطبع فيهم متغلّبا على التّطبّع؟ و لم أ ذ كـر ما أسلفـت ذكره لاشتراء الخصومة و الجدل مع هؤلاء الإخوة في المواطنة، فـذلك ما أدعو بكلّ إلحاح إلى تجنّبه و نبذه، و إ نّما ذ كرته لإلـفت نظرهم و نصحهم حتّى ينتبهوا لما يجب عليهم أن يغيّروه في أنفسهم من أجل تحقـيق التّعايش السلمي بين مخـتـلف الأطراف في البلاد وإ رساء تجربة ناجحة في الحرّيات والدّيمقراطيّة فيها.

ونجمل القـول في هذه المسألة و نؤكـد أن مسألة ا لد يمقراطية و التعـدد ية في المجتمع تعتبر وحدة لا تقبل التجزئة، إ ما أن تطبق على الجميع و يحـترمها الجميع فتنجح، و إ ما أن تجزأ فـيستثنى من لعبتها البعض، و عندها فلا يمكنها أن تنجح أبدا. فلا تجتمع التعددية مع الإستثناء كما لا تجتمع الديمقراطية مع المنع و الإكراه.

هذه هيّ رؤيتنا في مسألة الحرّيّات السّياسيّة و تعدّد الأحزاب. و نحن نراها ممّا هـوّ الأصل فيه الإباحة. وإدخال التقنين عـليها و وضع ا لشروط للدخول في لعـبتها يميت معنى الحريّة فيها.

   بعد هذا ا لتحديد الواضح لموقـفـنا من هذه المسألة لا بد من تحديد خيارنا نحن داخلها، أي ماهي طبيعة الحزب الذي نقره و نراه قادرا على تحقـيق ما اقترحناه في هذا المشروع على الساحة السياسية في البلاد؟

 

ســادسا ـ نوعـية الحزب الذي نرى أنفسنا نناضل ضمن صفوفه

   لقـد عـبّرنا عـن رأيـنا، حول هذه المسألة، في عـديـد المناسبات. فإن كـنّا لا ننكر من حيث المبدأ على الأقـل، على أساس ما ذكرنا من مبادئ حول حـرّية التفكير و حرّية التنظّم السّياسي، على من يريد تأسيس حزب سياسيّ تحت واجهة و برامج إسلاميّة متميّزة، فنحن لاعـتبارات عـدّة، سبق لنا أن ذكرناها في مناسبات مختـلفة،  ليس هذا خيارنا لأننا لسنا نراه مناسبا لمصلحة البلاد و لا هو قابل للتحـقـيق في هذه المرحلة التاريخية على الأقـل. و ذلك رغـم قـناعـتنا الرّاسخة بشموليّة الإسلام، وأ نّ هذا الأخير له بعده السّياسيّ والإجتماعيّ والإقتصادي وحتّى القانوني والإداري، وهي أهمّ الأبعاد التّي يقـوم عليها الحكم. إلاّ أنّه لا يكفي، حسب رأينا طـبعا، أن يكون الإسلام دينا شموليّا، بمعنى أنه يشمل كـل جوانب الحياة، وأن تكون له كل تلك الأبعاد، و أن يكون هناك عدد غـفـير من النّاس متفـقـين على ذلك و مجتمعـين حوله، حتّى يمكن  أن تقـوم دولة على أساسه. فـإلى جانب الشّموليّة، التّي هيّ من طبيعة الإسلام التّي لا ينكرها إلاّ جاهل أو جاحد، يجب أن تتوفّر العديد من الشّروط الضّروريّة والمتأكّدة الأخرى، ذكرناها في مناسبات عدّة أخـرى، و ليس هنا مجال إعادة ذكرها، و التّي لا نحسبها متوفّرة في هذا الظرف ولا هي قابلة للتحقـيـق في مستقـبل معـقـول.

   على هذا الأساس فـنحن حبّذنا التيسير على المجتمع، و البناء على أ ساس ما هـوّ قادر عليه الآن و  مستعـدّ إ لى تحـمّله و التّحمّس له، كما حبذنا التجميع بدلا عن التفـريق و الوا قعـية بدلا عن المثالية و القـفـز علـى الوا قع. كما راعينا في ذلك ا لـمعـطيات الدّوليّة وا لـمحلّية القائمة. فاقـترحـنا تأسيس حزب، يقوم على أساس العـقـل في بـحـثه وحواره و تـقريره، مراعـيّا لـثقافة المجتمع و مقـوّمات هويّته، يعـمل على إرساء دولة عصريّة حقيقـيّة تقـوم على أساس احترام كرامة المواطن و الرفع من شأنه و اعتباره، وعلى مبدإ الحرّيات في شتّى المجالات و خاصّة في المجال السّياسي، و التعدّديّة السّياسيّة و ما تستوجبه من ديمقراطيّة، و على الفصل التّام بين السّلطات، و على المؤسّسات القوية و المستقـلة عن الدولة، و على ا لـقانون العادل و سيادته على الجميع و احترام تطبيقه. كلّ ذلك في إطار الإحترام الكامل لمقـوّمات الهويّة و الإعـتزاز بالـذّا ت.

لا بـد أن نلاحـظ في بدا يـة الحديث عـن ا لـحزب الذي نعـتز تأسـيـسه أ نـه سـوف لن يكـون حزبا تقليديا عـلى غـرار الأحزاب الـتي تعـتمد آ لـة التنظيم الضخمة التي سرعان ما تـتحول إ لـى غـاية في حـد ذا تـها أي إلـى وزر ثـقـيل و عـائـق و مكـبل. إن الحزب الذي نتخيله هو حزب دور التنـظيم فـيه محدود للغاية، فلا خلايا فوقية و لا تحتية قاعـدية. هـو حـزب و ليس حزبا، هـو تيار فكـري أكـثر منه حـزب يعـمل عـلى تكـديس الأشخاص و المـؤيد يـن، هـو ساحة مناشط مختلفة تجـمع بينها قـناعات و رؤى متقاربة، وهـو ساحة حوار وا سـع و معـمق و الـتقاء بين الأفراد و المجموعات عـلى مستوى الفكرة و الاهـتـمامات. وهـو مؤسـسة لإنتاج الفكرة و تـصديرها للخـلق و لاستيعاب فكرة الآخر و تـطويرها. فـحزبنا سيكون بإذن الله تيارا فكريا هادفا و ليس صدف أجوف.            

   إنّ ا لـدولة التي يـدعـو هذا ا لـحزب لإقامتها هيّ دولة يتصالح فـيها الشعب مع ذا ته و يربط فيها مع العـزّة و الكرا مة والـثّـقة في النفـس و مع ا لـقـيّم الحضاريّة ا لـسّاميّة التي ننتمي إ لـيها، و التي متى تـشبّع بها شعـب، فإنّه سوف لن يتأخّر طويلا في تحقيق الـتّـقـدّم و ا لـرّقيّ.

   إنّ الحزب الذي نريده ليس حزبا إ سـلاميّا يريد مسك الحكم باسم الإسلام و تطبيق ا لـشريعة و لـكـنّه حزب يشترك مع الحزب الإسلامي في حـبّه و احترا مه للإسلام و عـدم معادا ته له و في تـمسّكه بقـيّمه ا لـسّاميّة و في الحماس له و العـناية به من جهة أ نّـه دين ا لـشّعـب و معـتـقـده و كذلك من جهة أ نّـه يمثل مقـوما من أ بـرز مقوّمات هويّة المجتمع و العـناية بنشر ثقافته و قـيمه الأخلاقـية ا لـسامـية بين أ فـراد ا لـمجتمع. وهو أيضا ليس حـزبا قوميّا يغالي في الـتّـعصّب إلى ا لـعـرق و الأرض، و إ نّـما يشترك معه في حبّه للوطن و الوفاء له والحرص الـكامل الصّادق على مصالحه الكبرى وعدم التفريط في شيء منها و يؤكد على ضرورة الإقتراب و التعاون والتنسيق مع أشقائنا في الوطن العربي و يدفع إلى عمل مندمج جاد معهم.

وهو أيضا ليس حزبا علمانيّا ينبذ الأديان و يحقد عليها، و إ نّـما يشاركه اعـتماده للعقـل و تنويهه به و اعـتماده دون سواه في تسيير شؤون الدولة و المجموعة، و ينذه الجمود و التقليد و يسعى للتجديد و العـصرنة و الإبداع في إطار مقوماتنا الحضارية. و يشاركه ا لـقـناعة في الفصل بين مؤسسات الدولة و الدين.  كما أ نـه ليس حزبا يساريا إلا أ نـه يشترك مع الأحزاب اليسارية في الإنتصار إلى قـضايا المستضعـفين في البلاد و في العالم و يسعى إلى إقامة ا لـعدا لـة الإجتماعـية بين كل أفراد المجتمع. كما أنه ليس حزبا ليبيراليا على النمط الغربي، يـقـوم على مبدإ هيمنة رأس المال والعمل من أجل إرضاء أربابه و ا لـترفـيع ا لـمتوا صل من ربحيتهم، إلا أنه يشترك مع هذا الحزب في مبدإ إحترام الحريات وتوفـيرها و ا لـتشجيع عـلى المبادرة الخاصة و روح التجديد و الإبداع في شتى المجالات. فالحزب الذي نريده هوّ حزب الوسط، حزب وطنيّ حقـيقيّ بكلّ ما تعنيه كلمة الوطنيّة من معنى و أبعاد حقـيقـيّة.

أمّا من جهة البرنامج التفـصيلي الذي يمكن أن يقـوم عليه هذا الحزب فمشروعه الأوّلي يمكن أن يكـون ما نحن بصدد رسمه، أو ما يستـقـرّ عليه رأي مؤسّسيه.

ولا نرى من ا لـمفيد أن يقـوم هذا الحزب على إيدديولوجيا، إقـتناعا منّا بأنّ عصر الإيديولوجيّات ولّى و انتهى، ثمّ لأنّ  الإيديولوجيا تـفـرّق و تغذّي الحزازات و نحن نريده حزبا تجميعيّا، و ليس تجمّـعـيّا بطبيعة الحال، يؤلّـف بين المواطنين و يقـرّب الشّقّة بينهم و يزيل الحزازات و الضّغائن من بين أ فـرا د و شرائح المجتمع. كما نريده حزب ا لـحوا ر و ا لـتّشاور و القرارات الدّيمقراطيّة، و ليس حزب ا لـزّعـيم ا لـملهم الذّي يقـرّر و الجماهير التي تصفّـق و تـتّـبع كـقـطعان الأغـنام، و تنفـذ ما قرر لها فهمته ووا فـقـت عليه أم لم تفهمه ولم توا فـق عليه.

ولا نحسب أنّ حزبا، إذا فشل أن يكون د يـمقـرا طـيّا في داخله، يمكـنه أن يطبّق الدّيمقراطيّة في البلاد إذا ما تولّى الحكم فيها. و ممّا يؤسف له أنّ الأحزاب السّياسيّة التي وجدت في تونس، إ لـى حدّ الآن، لم تطبّق الدّيمقراطيّة داخلها كما ينبغي بقـدر ما اكـتفـت من الديمقراطية برفع شعاراتها و بالإشهار لها و مطالبة ا لـسلطة القائمة بها، وهو ما يشكّـك كثيرا في قدرتها على تطبيق الدّيمقراطيّة في البلاد غدا لو قـدّ ر لها أ ن تصل إلى الحكم. إلاّ أنّ الأمل يبقى قويّا في الأجيال الصّاعدة من الشّباب و في قدرتها على تجاوز هذه المعـضلة و في قـدرتها على ا لـربط مع تقاليد د يـمقراطيّة جديدة في هذا المجال و في تطوير أحزابها و في تغيير العـقـلـيّات السّائدة فـيها. ذلك لأن التجربة الديمقراطية لا حظ لها في النجاح في البلاد ككل ما لم تنجح كل الأحزاب المشاركة في لعبتها في تطبيقها بشكل شفاف في داخل صفـوفها.      

كما نريده أيضا أن يكون  حزبا تجديديّا، بكلّ ما تعنيه ا لـكـلـمة من معنى، قاطعا تماما مع الجمود و التقليد، يلاحق كـلّ المستجدّات في جميع المجالات في العالم، و يعـمل على تطويعها لوا قـع البلاد، ثمّ اعتمادها من أجل مدّ ا لـمجتمع بإمكانيّات حديثة أكثر جدوى تمكّنه من كسب نفس قويّ لتحقـيق مزيد ا لـتّـقـدّم و الرّقيّ. نريده حزبا يعـطي للـعـقـل و للعـلم و للمعـرفة مكانة عاليّة في سـلّم الإهتمامات.

كذلك نريده أن يكون حزب الشّفافية الكاملة و الإستقامة المثلى. إنّنا لا نريده أن يكون حزب الفـساد و قـضاء المصالح ا لـشخصيّة، و إ نّـما نريده أن يكـون حزب ا لـمصلحة الواحدة لكنّها المصلحة ا لـوطنيّة. فلا بدّ أن تترك  كلّ المصالح جانبا، من أجـل تحقـيق مصلحة واحدة هيّ المصلحة الوطنيّة. و من يأنس في نفسه ضعفا من هذا ا لـجانب أو يشعر أنّ هـمّته متعـلّـقة بحبّ الدنيا و تكديس الثّروات، فلا يمكـنه أن يجد مكانه   في حزبنا هذا، و يمكـنه أن  يبحث عن ذلك في غـيره من الأحزا ب. و لا يمكن أبدا لحزب قائم على ا لـفـساد و ا بتزا ز الأموال العامّة و قـضاء ا لـمصالح ا لـشخصيّة و غيرها، أن يكون قادرا عن الـتّـخـلّي عـمّا تعـوّد عـليه و التّحوّل إ لـى مقاوم صادق للفـساد إذا ما تولّى الحكم، في يوم من الأيّام في البلاد.

إنّ الفـساد مرض عـضال، متى أصاب جسم المجتمع أ نـهكه و أ قـعده. و إذا كان هذا ا لـمرض مضرّا بكلّ المجتمعات متى أصيبت به، فإنّ ضرره بالمجتمعات الـفـقـيرة أخـطر و أشدّ، و ذلك لضعف إمكانيّاتها، مثلها في ذلك مثل الأجساد، كلّما كانت أشدّ هـزا ل و ضعف كـلّما كان تأثير المرض عليها أقوى و أخطر. لذلك فإنّ التّصدّي للفـساد في البلاد و مقاومته بشدّة، هوّ واجب وطنيّ ملحّ، لا يمكن لاقـتصاد البلاد أن ينهض إلاّ به. و نؤكّد على أن يكون ذلك من القواسم المشتركة في برامج مختلف الأحزاب السّياسيّة القائمة، أ و التي يمكن أن تقـوم، في البلاد، كما يجب أن تؤكد كل الأحزاب على تربية أعضائها على الإستقامة و التعـفـف عن ابتزاز الأموال العامة.

ومن سلبيّات العمل الحزبي التّعصّب و الغلوّ في التّحزّب. غلوّا يتحوّل معها الحزب من موقع الوسيلة، الذي يجب أن يكون عليه، إلى موقع الغاية، أي أن يصبح الحزب في نظر أعـضائه غاية في حد ذا تـه، بعـد أن كان وسيلة لتأطير النّاس و تكوينهم و تنوير أذهانهم و توظيفهم من أجل وصول حزبهم إلى الحكم. و التّعصّب الحزبي هوّ من معيقات الدّيمقراطيّة، و السلم الإجتماعي، لأنّ التّعصّب غالبا ما يقود إلى العنف في عمليّة حسم الخلافات، وهو أيضا من معيقات التّآلف الوطني و الحوار الـمـجـتمعي. و تزداد خطورة التّعصّب الحزبي عندما يصل الحزب المعـني إلى الحكم، عندها تصبح البلاد مهدّدة من جديد بالإستبداد و الدكتاتوريّة، لأنّ الحكم مع التّعـصّب يمنع الحرّيات و خاصّة منها حرّية الرأي و يولّد الجبر والإكراه.

والتّعصّب الحزبي غالبا ما يكون ناتجا عن جمود الأذهان و ضعف التكوين و ضيق الأفق و ضحالة البرامج و ضعف الحجّة. ولا يمكن مقاومة هذه المعـضلة إلاّ بالقـضاء على هذه السلبيّات و تجذير تربيّة الأعـضاء على احترام الآخر و الإعتراف به والقبول بالتّعاون و التنسيق معه، متى كان ذلك ضروريّا، و كذلك بإعـطاء الأولوية إلى التكوين الذهني و توسيع الأفـق، إذ أنه ليس هناك أفضل من التكوين المعـرفي في القـضاء على التعصب. و إذا كان هناك من خـطر على إنجاح تجربة إرساء الحرّيات والدّيمقراطية في تونس فمن جهة الغلوّ في التّعصّب الحزبي. وهو ما يجعل من واجب الجميع الحذر منه و العـمل بكلّ جدّ على معالجته.

وممّا يزيد من ضرورة التأكيد على هذه ا لـمسألة، أنّ البلاد لم تعرف تعدّديّة سياسيّة فعليّة حقـيقـيّة أبدا، و لم تعـرف قانونيّا إلاّ حزبا واحدا متعصّبا إلى النخاع، إ لـى حدّ الـفـاشيّة، رفض و ضرب بكلّ شراسة كلّ المحاولات التي أرادت أن تـقـوم من حوله منذ نعومة أظافره خلال العهد الاستعـماري. كما عرفـت البلاد تيّارين فكريين سياسيين، إسلاميّ و ماركسيّ، اتّصفا بشيء من التّعصّب، و التّنافر بينهما. كلّ ذلك قـد لا يسهّل، في البدا يـة على الأقـلّ، على نبذ التّعصّب الحزبي، و القبول بالآخر، و التّعايش السلمي بين كلّ الأطراف.

 و يقود التّعصّب الحزبي، إذا ما تحوّل الحزب المعنيّ إلى الحكم، إلى اعتبار الدولة و مؤسّساتها أجزاء من الحزب أو تابعة له، و كذلك إلى اعتبار الحزب هوّ الدولة. و هذا ما عانت منه تونس و ذا قـت منه الأمرّين منذ بدا يـة الإستقلال. و هذا اعتبار في منتهى الدّ قّة و الحساسيّة و الأهـمّيّة و الخطورة، لا بدّ لكلّ الأحزاب القائمة أو تلك التي يمكن أن تقـوم، أن تنتبه له و تربّي أعـضاءها على قـدرة التمييز و التفريق بين الحزب و الدّولة، إذا ما أصبح الحزب في الحكم. ذلك لأنّه لا يخفى على أحد، بمقتضى المعقول ثمّ التجربة المرّة التي حصلت في البلاد، ما تحدثه عـمليّة الخلط، الواعـيّة أو غير الواعـيّة، بين الدّولة و مؤسّساتها من ناحيّة و الحزب الحاكم فيها من ناحيّة ثانيّة، من أثر سيّء شديد الضّرر على جميع المستويات.

و ممّا عـمّت به البلوى، لدى عموم الأحـزا ب السّياسيّة التي قامت في تونس إ لـى حدّ الآن، تـتـفـيهها لأعضائها و تغييبها لهم و اتّخاذها لقراراتها في دوائر عليا لتنظيماتها، دون استشارتهم، ثمّ تنزيـل تلك القـرارا ت بعد ذلك لعموم أعـضائها كأوامر للتنفيذ، وهو ما ينمّ على طبيعة دكتاتوريّة تجب مقاومتها و القـضاء عليها و استبدالها بأساليب أكـثر ديـمقراطيّة. إنّ الأحزاب ا لـسّياسيّة الناّجحة، و التي يمكن التعويل عليها في إرساء دعائم الدّيمقراطيّة في البلاد، هيّ تلك الأحزاب التي تحترم أعضاءها و تعيرهم كبير العناية وتراهن على تكوينهم و إنارة أذهانهم ورفع مستوياتهم و معناويّاتهم وكسبهم الثّقة في أنفسهم، وتشعرهم بدون مراوغة بمكانتهم في أحزابهم وإنارتهم بالمعطيات المناسبة و تشريكهم بشكل جدّي في اتّخاذ قراراتها. ولا يتسنّى ذلك إلاّ بإرساء الحوار و تجذيره وتعميقه وتعميمه، و ذلك حول كلّ قـضايا الحزب والبلاد، قبل اتّخاذ القـرارات في حقها. حتّى إذا ما اتّخذت تلك القـرارات، يشعـر الـعضو أ نّه قد ساهم، من جهته بقـدر مستطاعه، في اتّخاذها. و عند تنفيذها يكون أكـثر حماس لها لأنّه يكون وقتها أكثر إ لـمام بها بسبب مساهمته في الحوار حولها قبل اتّخاذها.

وهذا التصور كما نرى يمثّل عـقليّة جديدة كاملة في فـن تعاطي السياسة ، لا يمكن أن تحصل إلاّ بعـقـد العـزم و توفير التربيّة و التكوين المعينة على إيجادها. و الحزب السّياسي يجب أن يكون، قبل كلّ شيء، مدرسة للـتّرقّي بالأعـضاء و مجال تكوين لهم و تأهيل إلى تحمّل الحكم و النّجاح فيه قبل أن يكون وسيلة متسرعة في الوصول إلى الحكم. و الحزب الذي لا ينجح في إرساء دعائم الحوار الصّحيح و الدّيمقراطيّة الحقة بين صفـوفه و تربيّة أعضائه عليها، لا نحسب أنّه سيكون قادرا على النّجاح في إرسائها في المجتمع ككلّ، و معاملته على أساسها يوم يصل إلى الحكم.

وفي العموم فإنّ مجرّد مطالبة الأحزاب القائمة للحاكم، إذا كان صالحا و متفهّما لذلك، بإقرار الحرّيات و الدّيمقراطيّة، ثمّ قبول الحاكم بتلك المطالب و أ قـرّها، لا يكفي. إ نّـما الأهمّ من ذلك، و بالإضافة إليه، أن تكون ممارسات هذه الأحزاب في داخلها، تجاه أعـضائها، و في خارجها، مع عموم الشعـب، محـترمة للحرّيات و للدّيمقراطيّة و متشبّعة بروحها. أمّا إذا كانت هيّ نفسها مخلّة بها، فإنّه وقتها لا يمكنها أن تقوم حتّى و لو أقرّها الحاكم. فإقرار الحرّيات و التّعدّديّة السياسيّة الحقـيقـيّة و الدّ يـمـقـرا طـيّة، ليس من مسؤوليّة الحاكم وحده وإنّما هيّ مسؤوليّة جماعـيّة، يجب أن تتظافر فيها جهود الجميع، جماعات وأ فـراد، في المجتمع التّونسي. و هكذا فـإنّ إقـرار الحرّيات و الـدّ يـمقراطيّة شيء، والنّجاح في ممارستها والإتستفادة الكاملة منها على أرض الواقع شيء آخر. والمصلحة لا تحصل إلاّ باجتماع الإثنين.

 

سابـعا ـ حـرّيـة العـمـل الـنّـقّـا بـي :

للعـمل النّقّابي تاريخه المشرق في تونس. فـقـد برز على السّاحة العمّاليّة منذ سنوات العشرينات من القرن العشرين. وقد تركّز بشكل نهائيّ، و على أساس وطنيّ صرف و استقلاليّة كاملة عن العمل النّـقّـابي بفرنسا الدولة المستـعمرة لتونس أنـذاك، على إ ثـر تأسيس الإتّحاد العامّ التّونسي للشغل على يدي الزّعـيم ا لـملهم فرحات حـشّاد، رحمه الله تعالى، سنة 1946. ومنذ ذلك التّاريخ استقرّ العمل النّقّابي في تونس، و لم يتوقّف عن التّوسّع و التّجذّر. ولم يكـتف ا لـعـمل الـنّقّابي منذ انطلاقـته تلك بمجرّد ا لـدّ فـاع على حـقـوق منخرطيه من الـعـمّال، و إ نّـما جعـل من أ ولـى اهتماماته تصعيد النضال من أجل تحرير البلاد من قبضة المستعمر الفرنسي، إدراكا من زعيمه الفـذّ ومن النخبة ا لـقـياد يّـة التي كوّنها من حوله، أنّ هذه الحقـوق ا لـعـمالية سوف لن تـفـتـكّ و تكسب كاملة في ظلّ الحضور الإستعماري في البلاد، مهما بلغه النّضال النقابي من أجلها من زخم و تجذّر و ا تّـساع.

 وأدرك بحـسه الوطني المرهف أن النضال الحقـيقي يجب أن يجعـل هدفه الأوّل القضاء المبرم على أصل الدّاء، و الـعّائـق لكلّ ترقّي نحو الأفضل في البلاد، و الذي كان يتمثّل أنذاك في الحضور الإستعماري نفسه في البلاد. فأدرك بفطنته المرهفة أنّه ما لا يتمّ الواجب إلاّ به فهو واجب. فتوجّه بالعمل النّقّابي إ لـى مواجهة المستعمر و إجباره على مغادرة البلاد. و قد حـقّـق الإتّحاد العام التونسي للشغل أروع الأمثلة في النّضال والفداء و البطولة في تلك المواجهة. و قـد تركها صفحة مشرقة من صفحات تاريخ بلادنا، النّضاليّة   المشرقة، تعود إليها وتتزوّد منها كلّ الأجيال في بلادنا على مرّ التّاريخ. و لم يـقـدر ا لـمستعـمر الغاشم تحمّـل هذا الـنّـضال ا لـمركّـز طويلا د ون أن يعمد إلى المكر و المكيدة و ا لـغـد ر و يتخلّص من قوّته الدّافعة و عـقـله المدبر والمخطّط. فعمد، بوسطة منظّمته الإرهابيّة، اليد الحمراء، و مستعينا بخيانة بعض الجهات المدّعيّة للوطنيّة، الغيورة من حشّاد، رحمه الله تعالى، و المتضايقة منه، إلى اقـتراف إجرامه الآثم و اغتالته.

ولئن مات حشّاد فأنّ الإتّحاد، الذّي أسّسه حشّاد على نهجه وروحه و أ فـكاره، لم يمت و واصل النّضال حتّى تحرّرت البلاد. و دعك من هراء أولائك الذين زوّروا التّاريخ، و نسبوا كلّ النّضال الذي حصل من أجل تحرير البلاد إلى أنفسهم وإلى حزبهم، معتّمين تعتيما كاملا على نضال غيرهم ممّن أ بـلوا في ذلك البلاء الحسن. بينما الحقـيقة كانت غير ذلك تماما، فالإتحاد العام للشغل منذ قيامه لعب دورا رياد يـا فريدا من نوعه في الحركة التحريرية التي عرفتها البلاد و قادت إ لـى تحريرها، و كذلك أ طـرا ف عدة أخرى من ا لـمجتمع المدني أنذاك، مثل جمعية صوت الطالب الزيتوني و جمعية الشبان المسلمين و كذلك الحزب الدستوري الذي ا نـفـصل عـنه بورقيبة سنة 1934 غيرها من التيارات، إلا أن بورقيبة تصرف بتصرف ا لـمتغلب، فهمش كل الأطرا ف الأخرى التي ساهمت في تحرير البلاد و عتم عنها و زور التاريخ، حتى داخل حزبه، و نسب كل ما حصل إلى نفسه و إ لـى التيار الذي التف حوله داخل الحزب. 

وبعـد الإستقلال، تضايـقـت الدّولة ا لـفتيّة التي أسّسها بورقـيبة ، مثلها مثل المستعمر من قـبلها، من الإتّحاد العام التونسي للشغـل، و حاولت جاهدة عديد المرا ت وضع يدها عليه و منع استقلاليّته. إلاّ أ نّـه صمد و قاوم دفاعا عن استقلاليّته، ممّا دفع بتلك الدّولة، في أكثر من مناسبة، إلى عزل قيادته الشرعـيّة و تنصيب قـيادة عـميلة لها عليه، لا تعمر طويلا حتّى تـلـفضها القواعد النّقّابيّة و تختار لنفـسها قـيادة شرعـيّة جديدة بديلة عـنها. و لئن كان تاريخ الإتّحاد مليئا بالمحن و بالمتاعب والمؤامرات وا لـتّضحيّات، إلاّ أ نّـه رغم ذلك لم يعرف، طيلة حياته منذ تأسيسه، فـترة أحلك و أشدّ من الفـترة التّي عقبت سقوط بورقيبة من الحكم. فالجنرال بن عـلي كان و لا يزال ا لـعدو ا لـلدود للإتحاد منذ كان مديرا للأمن، و لا ننسى أ نـه هو الذي قاد عـملية إخماد الإنتفاضة العـمالية التي حصلت في 26 جانفي 1978 في بركة من الدماء لم تعرف مثلها تونس ا لـمستقـلة أبدا، راح ضحيتها عديد المئات من الأبرياء.

أما بعد انقلاب السّابع من نوفـمبر 1987 فقـد سدّ الحاكم الجديد و عدو الإتحاد ا لـقديم كـلّ المنافذ أمام ا لـعـمل النّقّابي الحقـيقي وا لـمستقـل. فقد نصّب على رأس المنظّمة قيادة تافهة ضعيفة و منحرفة مواليّة له و متنكّرة لمصالح العمّال، فأطردت و جمّدت وأرهبت العديد من القـيادات و الكوا در ا لـنقّابيّة المتمسّكين باستقلاليّة المنظّمة والمعارضين لقـيادتها ا لـعـميلة المنصّبة و لممارساتها الدكتاتوريّة و لتهميشها لمؤسّسات الإتّحاد مثل ا لـهيئة الإداريّة و المجلس الوطني و لسوء تصرّفها في أموال و ممتلكات الإتّحاد ولإثرائها الفاحش غير ا لـشرعي، و كذلك للسلطة التي نصّبتها.

هذا بالإضافة إلى عديد العـناصر القـياديّة الذين غادروا المنظّمة بسبب المحاكمات  التي شملتهم في قضايا الإسلاميين، وقضي عليهم فيها بسنوات مطوّلة من السّجن. كما عـطّل ا نـعـقاد اجتماعات مؤسّسات ا لـمنظّمة، مثل ا لـمجلس الوطني والهيئة الإداريّة. كذلك المكتب التنفيذي، تباعدت دوريّة ا نـعـقاد جلساته التي أصبحت تدار بخشونة و دكتاتوريّة، لم يتعوّد الإتّحاد على مثلها من قبل. و قد أصبح الأمين العامّ للإتّحاد، معـتمدا على حماية ودعم السلطة السّياسيّة له، يقرّر بمفرده ما يراعي مصالحها، وليس مصالح العـمّال، من قرارا ت غـير مكترث باحتجاجات ا لـمكتب التنفيذي، رغـم أ نـه هو الذي اخـتار أعـضاءه ضمن قائمته ا لـمغلقة إبان المؤتمر الموجه الذي أفـرزه. و من جهة ا لـسلطة و في نفـس الوقـت فقد تكفّل أعوان ما يسمّى بوزارة الدّاخليّة بفـرض الأمن الذي تحبّه هيّ و حليفتها، القـيادة العميلة  المنصّبة على رأس الإتّحاد. فمنعوا الإضرا بـات، وهو حقّ مؤكّد معترف به عالميّا للعمّال، و المظاهرات و كلّ أشكال التّحرّك الأخرى، بشكل لم يحصل مثله طيلة العهد البورقيبي.

وتتالت المؤتمرات، الواحد بعد الآخر، مسفرة على نفس النّتائج ا لـمقـرّرة لها مسبّقا من قبل السلطة السّياسيّة المستبدّة، مجدّدة ثقتها في حليفها و خادمها إسماعيل السحباني . وكلّما قامت معارضة أخمدت في مهدها بالتهديد، أو بالطّرد و التجميد، من جهة القـيادة المنصّبة، و بالإعتقالات و الملاحقات و الضرب و ا لـتعذيب و المحاكمات من جهة السلطة السّياسيّة و يدها الضّاربة من البوليس. رغم ذلك الإرهاب المفروض، فإنّ الإحتجاجات بدأت، في المدّة الأخيرة ترتفع، من كلّ الجهات. و لا نحسب، على ضوء المستجدّات على مستوى السّاحة النّقّابيّة، بشكل خاصّ، و على مستوى البلاد عـموما، أنّ السلطة ستبقى قادرة، لوقت طويل آخر، على موا صلة وضع يدها على المنظّمة النقّابيّة و حرمانها من استقلاليتها و نشاطها النقابي و السياسي الوطني الحر. كما أننا أيضا لا نحسب أنها ستبقى قادرة على إحكام قبضتها الحديديّة، كما تعوّدت عليه إ لـى حدّ الآن، عـلى البلاد. و لم تستطع ا لـسلطة ا لـمنحرفة ا لـوصول إليه بفـرض ا لـرعـب استطاعـت ا لـوصل إليه بفـضل عملائها الـمندسين في صفـوف الاتحاد. فـلما احترق عميلها الأول إسماعيل ا لسحباني بفرط ما قام به من سرقات من أموا ل الإتحاد فقد وجدت في عميلها عبد السلام جرا د بديلا مناسبا عن السابق الذي أدخل السجن لبضعة أشهر للتغطيوة ثم عفي عـنه و أخرج من السجن ليتمتع بالثروات الطائلة التي نهبها من ممتلكات الإتحاد.         

إنّ استقلاليّة المنظّمة النّقّلبية لم تكن، في يوم من الأيّام منذ تأسيسها منّة من أحد. إ نّـما كانت دا ئـما ثمرة لنضال قواعـدها وكوادرها الباسلة و صمودها و تضحيّاتها. واستقلاليّتها لا تستفيد منها هي وحدها، و إ نّـما المستفيد الأ وّل منها هيّ البلاد برمّتها. فعلى ضوء ما سبق للبلاد و للإتّحاد من تجربة في هذا المجال، كـلّما كانت استقلاليّة الإتّحاد قائمة كلّما كان طغيان السّلطة أقلّ ووضع الحرّيّات عموما في البلاد أفضل، و كلّما كان الوضع الماديّ للعمّال أفضل أيضا. فالمنظّمة العـمّاليّة كانت دائما الطّرف الأساسي الذي يحدّ من طغيان السلطة و يرجّح ا لـكـفّة ضدّها إلى جانب ا لـشعـب. و لهذا السّبب بالذّات فإنّ السلطة السّياسيّة في تونس لم تقبل أبد، في أيّ وقت من الأوقات، باتّحاد عمّاليّ قويّ و مستقل يقاسمها النّفوذ في البلاد و يحدّ من طغيانها و استبدادها.

واضطهاد السلطة للإتّحاد لم يخدم في أيّ يوم من الأيّام مصلحة البلاد و لا مصلحة اقتصادها و لا مصلحة العـماّل، كما تدّعي السلطة دائما، بقدر ما كان يحصل دا ئـما من أجل تحـقـيق مصلحتها ضدّ مصلحة العمّال و البلاد عموما. ذلك لأنّ الـسلطة في تونس دأبت على رفض و اضطهاد و مقاومة كلّ من يريد أن يكون له أيّ نصيب من السلطة أو الـنّفوذ، مهما كان محدودا، في البلاد.

ونحسب أ نّـه قد آن الأوان اليوم  لمسألة حـرّية و استقلاليّة ا لعـمل النّقّابي أن تخرج من منطقة الصّراع و أسلوب التّدافع بغاية التّغـلّب، إلى ساحتها الطّبيعـيّة، ساحة الحـقـوق و الحرية لصالح الإتحاد. أي أن يمنح العمل النّقّابي حقّه الطّبيعي في العمل الحرّ على السّاحة مستقلاّ استقلالا كاملا عن السلطة السّياسيّة القائمة. بدلا من أن يتغالب ا لـطّرفان، السلطة و الإتّحاد، على السيطرة على الساحة النقابية.

لقـد تعوّدت السلطة في تونس، منذ أمد بعيد، على التّذرّع بالحفاظ على المصلحة الوطنيّة و سلامة الإقـتصاد الوطني في مضايـقـتها للمنظّمة العـمّاليّة و تدجينها لها، معتبرة أنّ قـيادة الإ تّحاد و كوادره و عموم العـمّال لا يقـدّرون ذلك حقّ التقـدير أو أن مصلحة الإقتصاد الوطني تكمن في مصلحة رأسلمال و لا تكمن في مصلحة العامل. وهذا ا دّعـاء باطل تماما، تدّعـيه للتغطيّة عن هـمّها الوحيد، ا لـتّمسّك بالحكم و استبعاد المزاحمين لها فـيه أو من تراهم كذلك، أو حتّى من ترى منهم أنّ لهم قوّة و مصدا قـيّة و نفوذا في المجتمع مثل الإتّحاد العامّ التّونسي للشغـل. أمّا إذا كانت تقول ذلك اقـتناعا، فهي أيضا مخطئة فـيما ذهبت إليه، و أنّ ذلك لا يعدو أن يكون تعبيرا عـن عـقليّة الوصاية على البلاد و على كلّ ما يتعـلّق بمصالحها، و كأنّها هيّ ا لـوحيدة القادرة على تقدير ا لـمصلحة و ا لـسّهرعلى تحقيقها. وهي عـقليّة محـطّة بكرا مـة و قدرة و وطنيّة، ليس الإتّحاد فحسب، و إ نّـما ا لـشعـب أيضا و كلّ قواه الحيّة و نخبه المثـقـفة و المقتدرة.

ولا بـدّ من وضع حدّ لهذه العـقـليّة الوصائية الخسيسة، و رفع اليد عن البلاد و الشعب. و الجميع في البلاد رشّد وطنيون حرصون على المصلحة العليا لبلادهم و مجتمعهم، ما لم يثبت ا لـعكس بمثل ما ثبت من جهة السلطة الفاسدة و الخائـنة. و ليت ا لـنخبة الحاكمة اليوم: على وجه الخصوص، هي من طينتهم وبمستوي اقتدارهم و كفاءاتهم. كما أنه لم يثبت أبدا أنّ مصلحة البلاد و اقتصادها تكمن في غمط العمّال حقوقهم من أجل تمكين الأثرياء من مزيد التكديس للثّروات، على حساب ضعاف الحال، بحجة التّرفـيع من قـدرتهم على تمويل تنميّة البلاد. إنّ للعـمّال حقـوقا وعليهم واجـبات، و كذلك أرباب العـمل لهم حقـوق وعليهم واجبات، والجميع مسؤول راشد يحسن تقدير مصلحته و مصلحة ا لـبلاد من الموقع الذي هوّ فيه، و سنّة ا لـتّدا فـع ا لـسلمي ا لـمسؤول هيّ التي تمكّن من التّدرّج إلى الوصول إلى نقـطة الـتّـوا زن الاجتماعي. تلك هيّ في نظرنا التي تمثّل مصلحة البلاد ا لـعليا.

ومهما يكن من أمر فنحن لسنا من بين من يرون أنّ تحقـيق التّنميّة وازدهار الإقتصاد لا يمكن أن يحصل إلاّ بشدّ الأحزمة والتقطير على العمّال و ضعاف الحال من أجل تمكين أرباب العمل من تحقـيق ا لـمزيد من الأرباح. و إذا كانت التنميّة لا يمكن أن تحصل، كما يزعمون، إلاّ بغـمط ا لـعـمّال و ضعاف ا لـحال حقـوقهم، فنحن لسنا في حاجة إليها. أمّا تلك التي نحتاجها فهي التي تقـوم على قيمة العدل عـموما، و على ا لـعـدل الإجتماعي بشكل خاصّ. إن الإقتصاد الذي نريده هو ذلك الإقتصاد الذي يجعل غايته الأولى الإنسان، و ليس ذلك الذي يجعله وسيلته.

على هذا الأساس فنحن نعتبر حرّية ا لـعمل النقّابي، في إ طـار الاستقلاليّة ا لـكاملة عـن السلطة، حقّا مؤكّدا و ليس منة. ولا يتـمّ ا لـسلم و العـدل الإجتماعـيّان إلاّ على أساسه. وهو من مقـتضيات إرساء الحرّيات و الدّ يـمقراطيّة في البلاد و تجذيرها. وهو السّدّ ا لـمانع أمام زحف العـولمة الجارف و إمكانيّة تفكيكها  لاقتصاد البلاد إذا لم تجد أمامها ردّة فعل قويّة تصرفها عـنه و تدا فع باستماتة على اقتصاد البلاد و مصالح عموم الشعب.

و حرّيّة العمل النّقّابي، في إطار الاستقلاليّة التّامة عن السلطة، يحدّ من ا تّـساع رقعة الفـوارق الإجتماعـيّة و يمنع من استغلال النّفـوذ في المؤسّسة الإقتصاديّة و انتشار ا لـفـساد فيها بما يقوم به من رقابة مستمرة على ا لـمسيرين. وهو أيضا قـلعة منيعة، ضدّ تضخّم السلطة و استبدا دها. و العمل النقابي الحر من شأنه أن يرجّح الكفّة دائما لصالح الشعب ضدّ تجاوزات السلطة. و لا ننسى أنّ أ فـضل النّظم السّياسيّة هوّ ذلك الذي تكون فـيه سلطة الدولة محدودة، بحيث يكون المجتمع قائما بنفـسه عـلى نفـسه، بواسطة مؤسّساته و جمعيّاته الأهليّة، و الإتحاد هو من أبرزها و أهمها، على قسط وافر من حاجيّاته و مصالحه. و أسوأها على الإطلاق هـوّ ذلك النّظام ا لـذي يحـتكر فيه الحاكم كلّ ا لـسّلطات أو معظمها في المجتمع، ذلك لأن احتكار السلطة هو المنبع الأساسي للجور و الدكتاتورية.

و يعتبر العمل النقّابي الحرّ كبرى أخوات التّعدّديّة السياسيّة و صمّام الأمان لاستقرارها ضدّ تقلّبات الحكم و احتمالات انحداره في مستنقع الدكتاتوريّة. و قيام حزب عمّاليّ في البلاد لا يمكن أن يزيد الحرّيات و الحوار بين مختلف شرائح المجتمع والتّعدّديّة السّياسيّة والدّيمقراطيّة إلاّ تجذّرا و اتّساعا و استقرارا. و منع قيام مثل هذا الحزب إلى حدّ الآن ليس له من تفسير إلاّ استماتة هذه السلطة المستبدّة في التّشبّث بالحكم و منع قيام المزاحم الجادّ لها فيه.

إنّ مشارب العمّال و قناعاتهم هيّ بطبيعتها مختلفة. و التّعدّديّة الفكرية في السّاحة العـمّاليّة هيّ مسألة طبيعيّة، تفـرض نفسها. و الحوار، في مثل هذا الوضع، لا بدّ منه لبلورة الرّؤى و الموا قـف و التقريب بين مختلف وجهات النّظر. والقرارات على الساحة العمالية لذلك السبب لا يمكن أن تتّخذ، في الحالات الطّبيعيّة، إلاّ بأسلوب ديمقراطيّ، و لولا انتهاج الأسلوب اليمقراطي ما كان الإتّحاد يستطيع المحافظة على توازنه و استقلاليّته و استقراره. فالإتّحاد، على هذا الأساس، مدرسة مثلى لتدريب النّاس على الحوار و على احترامه، و كذلك على احترام قواعد اللعبة الدّيمقراطيّة وأسلوبها في اتّخاذ القرارات. وإن كان هناك في البلاد طرف أكثر استعداد لإنجاح تجربة ديمقراطيّة فهو الإتّحاد العامّ التّنسي للشغل.

وحرّية العمل النّقابي يجب أن لا تقتصر على السّاحة العـمّاليّة فقط، بل يجب أن تتعدّاها إلى مختلف السّاحات المهنيّة، مثل المحامين و المهندسين و الأطبّاء و غيرهم. كما يجب أن تشمل، على وجه الخصوص، السّاحة الطلاّبيّة. ولسنا نعتبر أنّ للنّشاط النّقابي على مختلف هذه السّحات قيمة تذكر ما لم يكن مستقلاّ استقلالا كاملا عن نفوذ الدّولة و إرادتها الهيمنيّة. فلا فائدة ترتجى من وراء هذا النّشاط إذا كان أصحابه يتلقّون الأوامر من الدّولة. فذلك يبلّد العقول و يجمّدها و يصرفها عن الإبداع. بينما استقلاليّة هذا النّشاط، مثل استقلاليّة سائر المجتمع الأهلي، و تذرّر السلطة في المجتمع، يمثّل عاملا من أهمّ عوامل الأبداع وإحداث الحيويّة الذهنيّة و العمليّة في المجتمع، هذا فضلا عما يحدثه من توازن متين في المجتمه.

هذه هي بإجمال رؤيتنا في هذه المسألة الهامة، مسألة تغيير الدستور و إقرار الحريات و تجذيرها و إصلاح النظام السياسي.

 

                                                                   صـــالح كــركــر

                                                          28 ـ 07 ـ 2003

 

 

تـقـرأ في العـدد القادم من المناضل إن شاء الله تعالى الـفصل المـتعلق بالإصـلاح الإقـتصادي من برنـامـجنا الـسياسي و الاجـتماعي.


 

جارودي: صمود المسلمين يُـسـقط أمريكا

 

باريس – هادي يحمد – إسلام أون لاين.نت/ 6-8-2003    دعا الفيلسوف الفرنسي المسلم البارز روجيه جارودي المسلمين إلى الصمود في وجه « الهجمة الأمريكية » على العالمين العربي والإسلامي، معتبرا أن أمريكا ستصبح « إمبراطورية آيلة للسقوط » بفضل هذا الصمود، كما دعا جارودي إلى « تحالف إسلامي مسيحي » للتصدي للولايات المتحدة وحليفتها إسرائيل، محذرا من أن الهدف التالي لأمريكا بعد أفغانستان والعراق هو إيران.   وقال جارودي في الجزء الأول من حوار خاص مع شبكة « إسلام أون لاين.نت » الأربعاء 6-8-2003: « ما من شك أن هناك إستراتيجية أمريكية واضحة للسيطرة على العالمين العربي والإسلامي سياسيا واقتصاديا انطلقت منذ مدة، وكانت أفغانستان والعراق بواكرها الأولى ».   وأشار إلى أنه « بعد غزو العراق واحتلاله من قبل القوات الأمريكية والبريطانية من الواضح أن الهدف التالي سيكون إيران »، وشدد على أن « صمود العالم الإسلامي والعربي أصبح ضرورة للتعجيل بسقوط الإمبراطورية الأمريكية الآيلة للسقوط » أصلا.   على طلبة إيران الاختيار!   وكشف في حديثه أنه بسبب هذه المخططات « استجبت لدعوة الحكومة الإيرانية عندما طلبت مني كتابة رسائل ومقالات إلى الطلبة المتظاهرين في طهران؛ فقلت للطلبة: عليكم أن تختاروا بين احتلال أمريكي على الأبواب أو حكومة وطنية إيرانية غير مثالية، وترتكب الكثير من الأخطاء، ولكن يمكن إصلاحها ».   ورأى أنه في مواجهة المخططات الأمريكية في الوقت الراهن على الأقل « ليس للعالم العربي والإسلامي من سلاح إلا سلاح المقاطعة التي يمكن أن تكون فاعلة في التأثير على الولايات المتحدة اقتصاديا وسياسيا، وبالتالي إضعاف إسرائيل؛ لأنها كيان لا يمكن أن يصمد دون دعم أمريكي ».   دعوة لتحالف إسلامي مسيحي   من جهة أخرى دعا جارودي إلى تحالف بين العالم الإسلامي والعالم المسيحي في وجه الغطرسة الأمريكية، وقال: « إن كتابي القادم الذي يحمل عنوان: الإسلام والحداثة يجيب على سؤال مهم، وهو: هل يمكن أن يكون الإسلام بديلا عن النظام العالمي الجديد الذي تحاول الولايات المتحدة إخضاع الناس والدول له؟ ». وأضاف جارودي: « طبعا يمكن أن يكون الإسلام بديلا عالميا؛ لأنه لا يتعارض مع نصف سكان المعمورة من المسيحيين ».    وقال جارودي: « أنا كمثال للمواطن الغربي ما زلت أحمل المسيح في قلبي، على الرغم من أني صرت الآن مسلما. فالإسلام قدم لي صورة المسيح كما أريدها وكما أحبها ».   « أمراض عارضة »    وحول تنامي التيارات الإسلامية المتشددة التي تستعمل العنف قال جارودي: « اعتبرت في كتبي أن مثل هذه الفرق هي من أمراض الإسلام. ولكنها أمراض عارضة ».   وأضاف جارودي: « المشكلة أن ما يقود إلى تنامي هذه التيارات المتشددة هي الهوة الموجودة حاليا بين الحكومات العربية والشعوب نتيجة غياب الديمقراطية ».   وقال جارودي: « بالمقابل فإننا نشهد أيضا موجة من الإسلام الواعي والمسئول الذي يمثل الإسلام المعتدل والمتوازن، ومن أكبر رموزه الشيخ يوسف القرضاوي والشيخ راشد الغنوشي والشيخ البوطي، وغيرهم كثير ممن فهموا حقيقة الإسلام، ويحاولون تقديمها للناس وللحكام ».   وردا على سؤال يتعلق بضرورة إصلاح المناهج التعليمية في الدول الإسلامية قال جارودي: « طبعا الإصلاح مرمى نبيل. ولكن ذلك يجب ألا يكون ضمن شروط وأهداف أمريكية »، مضيفا: « إن هناك مصلحين عديدين في التاريخ الإسلامي الحديث ممن يمكن أن يمثلوا نماذج في الطرق المعتمدة في هذا المجال ».   وقال جارودي: « إن المدارس التي أقامها ابن باديس في الجزائر تعبر عن هذه الروح الإصلاحية التي تجاوزت التعليم الديني التقليدي الذي اقتصر على تحفيظ القرآن ». وتابع قائلا: « إن الإصلاح الذي طرحه الشيخان: محمد عبده وجمال الدين الأفغاني في أواخر القرن التاسع عشر يمكن أن يكون كذلك نموذجا آخر للإصلاح ».   الإصلاح ضروري ومطلوب   وشدد على أن الإصلاح في بعض الدول العربية والإسلامية « ضروري في الوقت الحالي؛ ذلك أن هناك بلدانا تفهم الشريعة على أنها قطع لليد فحسب، وهو منهج خاطئ يضر بصورة الإسلام ولا يجلب فوائد كثيرة ».  وأضاف جارودي: « أنا مع الإصلاح السياسي والديني في إيران. فأثناء زيارتي لإيران -مثلا- واستقبالي من قبل مرشد الثورة علي خوميني والرئيس محمد خاتمي لاحظت أن في كلا الاستقبالين المنفصلين فروقات بين رجل محاور مثل خاتمي ورجل حوله آيات الله الذين لا يجادلونه في شيء مثل خوميني ».   وذكر جارودي أنه حين كتب نصا في ذكرى وفاة الإمام الخوميني قال للإيرانيين: « إن الخوميني وضع دستورا جيدا، فجاء مِن بعده مَن أفسدوا ما فعل، مثل الدستور الذي جاء به الزعيم الفرنسي شارل ديجول الذي أفسده الرؤساء الفرنسيون فيما بعد ».   وحول الضغط الجاري على السعودية من قبل الولايات المتحدة قال جارودي: « طبعا يجب ألا تُفهم أي إرادة لإصلاح النظام التعليمي في السعودية على أنها استجابة للولايات المتحدة. فالمفارقة في المؤسسة الدينية في السعودية أنها ليست مؤسسة معارضة لنظام الحكم، بل هي مؤيدة له مثلما هو الأمر بالنسبة للأزهر في مصر، ولكن جمهور الناس يرفضون القوانين والتشريعات الغربية؛ لأنها مناهج المستعمر القديم. ولذلك فمن الأفضل أن يعهد بمهمة الإصلاح لشيوخ مستقلين إلى حد ما عن الأنظمة كالشيخ القرضاوي وغيره؛ لأن هؤلاء يتبعهم الناس، ولا يتبعون المؤسسة الدينية الرسمية ».   وأعلن جارودي على صعيد آخر أنه يستعد حاليا لإصدار الجزء الثاني من ثلاثيته التي صدر منها حتى الآن الجزء الأول بعنوان: « الإرهاب الغربي »، وقال: إن الجزء الثاني يحمل عنوان « الإسلام والحداثة.. من أجل ثيوقراطية ديمقراطية »، في حين أن الجزء الثالث والأخير سيحمل عنوان « الله ».   (المصدر: موقع إسلام أون لاين بتاريخ 6 أوت 2003)

 

 


 عبد الناصر وتونس

 

 

بقلم: هشام القروي (*) تعود العرب في كل مكان تقريبا الاحتفال – أو على الاقل التذكير – بثورة يوليو في مصر التي مرت عليها الآن 51 عاما, و84 على ميلاد قائدها, و33 على رحيله. ولا أراني الا مندفعا هذا اليوم الى الكتابة حول هذا الموضوع, ربما بوازع غيرة لاواعية , أو بوازع تقليد متأصل في كل البشر, أو ربما أيضا وبطريقة أبسط , لحاجتي الى معرفة ما يمكن أن اكون واين يمكن أن اقف ازاء ما اختلف العرب على تقييمه (ثورة يوليو) بالرغم من اتفاقهم على اهمية حدوثه وربما أيضا ضرورته.

 

وحين فكرت فيما يمكن أن اكتبه بهذه المناسبة, وجدت أن بعض الذكريات الآتية من سنوات الطفولة والصبا ترشح الى السطح , كأنما تطالبني باستعادتها. وبما أنني لست مصريا, ولا عشت في مصر, فان كل ما علق بذاكرتي عن تلك السنوات, له صلة بالخلاف أكثر من الاتفاق… ذلك أنني عشت في بلد كان على خلاف رسمي مع جمال عبد الناصر …وهو تونس.

صحيح أن النظام التونسي في عهد الحبيب بورقيبة لم يكن الوحيد الذي اختلف مع مصر الناصرية. ففي اليمن مثلا, وصل الصراع بين التحالف القومي العربي واليسار من جهة(بقيادة عبد الناصر) , وبين القوى المحافظة (بقيادة المملكة السعودية) الى المواجهة في حرب حقيقية. وكل الذين درسوا التاريخ العربي الحديث على علم بأن العالم العربي انقسم في تلك الفترة الى صف موال لعبد الناصر , وصف موال للقوى المحافظة.

 

وبالرغم من ان الحبيب بورقيبة لم يكن ملكيا ولا أرستقراطيا, بل انه أزاح الباي الذي حكم أجداده تونس طوال قرون, ليضع محله جمهورية على مقاسه هو – مع بند خاص في الدستور يجعله رئيسا مدى الحياة: أي ملكا!- , وبالرغم من أنه كان أقرب الى اليسار الفرنسي المعتدل منه الى اليمين في بداية حياته السياسية – كان يحتفظ على مكتبه في قرطاج بصورة لمنديس فرانس زعيم الراديكاليين / وسط يسار- , فقد كان مندفعا الى مناهضة اليسار والقوميين العرب في تونس بنفس القدر الذي عادى به المحافظين الزيتونيين الذين سيولدون فيما بعد حركة الاتجاه الاسلامي أو حزب النهضة.

 

كان بورقيبة يقف على طرف النقيض من كل هذه القوى. ولا أستطيع توكيد الادعاء أنه كان « ليبراليا ». فالحقيقة أن الليبرالية اتجاه سياسي مبني على احترام كل من خالفك الرأي, وهو ما عبر عنه فيلسوف الثورة الفرنسية فولتير بقوله الشهير: «  انني أخالفك الرأي, ولكنني مستعد للتضحية بحياتي من أجل حقك في التعبير عن رأيك ». وهل الليبرالية تناقض القومية العربية؟ المسألة المؤكدة أنه من بين القوميين العرب من يمثل الليبرالية , مثل أمين الريحاني أو جورج انطونيوس. ومن بينهم من يمثل اليسار باجنحته المختلفة, ومن بينهم من يمثل اليمين التقليدي وربما حتى السلفي.

وما نعلمه أن بورقيبة بدأ حياته قريبا الى وسط اليسار الذي كان يمثله الحزب الراديكالي في فرنسا (منديس فرانس), وانتهى يمينا تقليديا وقمعيا , أي دون الحفاظ على ما يمثله اليمين الاوروبي الذي تأثر به ايضا من احترام للديمقراطية. و قد كان يرفض ان يقول له احد كلمة لا. وذهب به جنون العظمة الى حد الاعتقاد انه بامكانه أن يملي على الفلسطينيين ما املاه على اصحابه واتباعه في تونس. فوجه اليهم دعوة بدت لهم تشجيعا على الاستسلام في الوقت الذي كل ما كانوا يطلبونه من العرب هو دعمهم للقتال.

 

فاعتقد أن الطريقة التي استقلت بها تونس – وقد سماها سياسة المراحل – يمكن تصديرها بحيث يتبعها الفلسطينيون أيضا. وغاب عنه أن اسرائيل لم تكن في ذلك الوقت لتبلغ حتى خمس قوة فرنسا, وأن عرب فلسطين كانوا قادرين تماما على تحرير انفسهم من الاخطبوط الصهيوني لو تلقوا الدعم الكافي من اخوانهم العرب.و كره أن يضربه العرب بالبيض والبندورة (الطماطم) حين ألقى خطاب أريحا الشهير , داعيا الفلسطينيين الى التخلي عن حقوقهم الكاملة في ارض أجدادهم والاعتراف لليهود الاسرائيليين بحق اقامة دولتهم , حسب ما أملاه قرار التقسيم.

 

وقد كان ذلك منه غرورا, حيث لم يكن هناك في ذلك الوقت من يستطيع الكلام بهذه الطريقة, الا اذا أراد أن يكون سفيرا للاستعمار, وهو ما استنكره العرب من زعيم عربي, قضى سنوات من عمره في سجون فرنسا. وقد تصور البورقيبيون بعد ذلك بسنوات أن « واقعية » بورقيبة هي التي تغلبت, ونظر بعضهم نظرة شامتة الى الفلسطينيين الذين في رأيهم لو انصتوا الى « المجاهد الاكبر », لما وصلوا الى ما وصلوا اليه اليوم. وقد تبدو هذه المسألة صحيحة في الظاهر.

 

ولكن في الحقيقة, فان اسرائيل لم تكن قوة يصعب التغلب عليها في ذلك الوقت الذي ألقى فيه بورقيبة خطاب اريحا. وكان من السخف تماما تشبيهها بفرنسا التي كانت بحق احدى أعظم القوى الاستعمارية في التاريخ. ولم تصبح اسرائيل هي الغالبة لأن الفلسطينيين لم ينصتوا الى « حكمة » بورقيبة, بل لأن الدول العربية متخلفة, ولأنها تخلت عن الواجب القومي, ولأن الفلسطينيين انفسهم لم يكونوا في مستوى القدرة القتالية التي أظهرها الصهاينة, بفضل ما حصلوا عليه من سند غربي.

كان جمال عبد الناصر هو الاقرب الى قلوب العرب وعقولهم. فهو الذي تجرأ على افتكاك قناة السويس وتاميمها, وهو الذي تجرأ على محاربة اسرائيل ومن معها ومن وراءها – حتى وان خسر المعركة, فالحرب سجال . لم ير العرب في جمال شيئا من الانهزامية, حتى عندما بكى مستقيلا من منصبه , بعد هزيمة 1967. اتجه عبد الناصر في كل اقواله واعماله اتجاها مغايرا لاتجاه بورقيبة. ففيما تراجع هذا الاخير منكفئا على نفسه, بعد أن استنكر الفلسطينيون والقوميون العرب واليسار وجميع القوى العربية الحية, ما قاله في خطابه حول القضية الفلسطينية, وبات داعيا ل »التونسة » وما سماه وزير ثقافته في عهد محمد مزالي, « الشخصية التونسية » – التي هي خليط لا يفهم بوعه من كوعه-, ظل عبد الناصر وفيا لمبادئ الثورة التي قادها, والتي مالبثت أن انخرطت في سياق عالمي , اتسم في ذلك الوقت بالمد.

لقد نهض جمال بمصر والعالم العربي الى مصاف الكتل الاقليمية المؤثرة عالميا. فحين نذكر عبد الناصر, نذكر أيضا الزعيم الهندي جواهر لال نهرو, والزعيم اليوغسلافي الماريشال تيتو, وثلاثتهم من مؤسسي حركة عدم الانحياز, التي كان لها آنذاك اشعاع ونفوذ حقيقيان. فطالما كان هؤلاء الزعماء الثلاثة أحياء ونشيطين, كان عدم الانحياز محترما في العالم بأسره, وكانت الدول الصغيرة تتسابق للانضمام الى الكتلة التي اعلنت انها تقف محايدة ازاء الاستقطاب الثنائي. وهذا المبدأ هو الذي سماه جمال : الحياد الايجابي… أي ان هذه الكتلة من الدول المتحالفة لا تريد الخضوع لأي من المعسكرين –الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة-, وأنها بدلا عن ذلك تشق طريقها الخاص, وان حيادها لا يعني ايضا سلبيتها ازاء الاحداث, وانما هو موقف نشيط وفاعل.

وقد بدا لبورقيبة ان هذا الموقف خطأ. فقال في احد خطبه معلقا بسخرية انه « لا يوجد عدم انحياز … » وان البلدين الوحيدين غير المنحازين هما الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة الامريكية. وكان مؤدى هذا الكلام أن تبقى تونس كالاجرب الذي يتحاشاه الآخرون…فقط لأن بورقيبة اصيب بالغيرة مما حققه جمال عبد الناصر من اشعاع في العالم الثالث. ولولا مهارة بعض الدبلوماسيين التوانسة , وسعيهم الى التصالح وعدم اغضاب الافارقة والاسيويين وكل الذين رأوا أملا كبيرا في ميلاد كتلة عدم الانحياز, لاتسع الخرق على الراقع, ولأصبحت تونس « جمهورية موز » اخرى. وهي على اية حال ما كادت تبلغه أو ما بلغته في نظر بعض اليساريين , ولكننا نتحفظ ازاء هذا الموقف.

 

فقد ظل البعض في الدبلوماسية التونسية يعملون باحتشام , من وراء الستار, للحفاظ على المصالح مع الذين اغضبهم بورقيبة, حين كان ذلك ممكنا. ولم يكن الامر سهلا, خاصة عندما نعلم كم كانت نوبات الغضب حادة لدى الرئيس التونسي. ولكن فئة قليلة في الخارجية كانت تعلم أن بورقيبة سيمضي, وان العرب باقون, وكذلك هو الحال بالنسبة للاطراف الاقليمية او الدولية التي لم ير بورقيبة فائدتها.

 

وقد كانت هذه الفئة هي التي وقفت فيما بعد وراء مجلة « دراسات دولية » التي تراسها الرشيد ادريس, وهو رجل من أوائل المناضلين الذين استبعدهم بورقيبة, أو أبعدهم من الساحة. وكان الرشيد ادريس هو من فتح مكتب « المغرب العربي » بالقاهرة, قبل استقلال تونس, وهو ما شكل حلقة الوصل بين عرب المشرق وعرب المغرب. ولكن « سي الحبيب » كان يرى شخصه اهم من كل رفاقه, فضلا عن انه كان يتصور نفسه أهم زعيم عربي على الاطلاق.

كان هذا الغرور مؤذيا لبورقيبة وتونس, التي عزلت تقريبا في العالم العربي, ولم تستعد شيئا من الاحترام الذاتي الا عندما زار محمد انور السادات الكنيست الاسرائيلي ووقع معاهدة سلام مع اسرائيل, الشيء الذي دفع العرب الى مقاطعة مصر, ونقل مقر الجامعة العربية الى تونس, حفاظا على عروبتها التي كاد بورقيبة يبهذلها. وهو انجاز يسجل لحساب ايجابيات مساعي تلك الفئة من الدبلوماسيين التي تحدثنا عنها, اكثر منه لحساب بورقيبة نفسه, حتى وان حرصوا دائما على القول: الرئيس هو الذي أشار بكذا وكذا… وقد وجد البعض في ذلك الحدث فرصة لتصفية الحسابات القديمة مع النظام المصري.

أذكر, وانا طفل في تلك السنوات البعيدة التي اشتعلت فيها الحرب الكلامية بين تونس البورقيبية ومصر الناصرية, كيف كان غسيل الدماغ جاريا بشكل يومي في الاذاعة والتلفزيون, ولم تفلت منه حتى المدارس, ولا جدران الاحياء الشعبية. ففي كل مكان كانت ترفع شعارات معادية لمصر, ولجمال عبد الناصر, التي كانت توجه اليه الشتائم ,وكانت الميليشيا المكونة من الصعاليك والقبضايات تجول الشوارع وتكتب على الجدران ما يكره أي عاقل أن يقرأه. وكنا نسمع في الاذاعة اغاني مكتوبة خصيصا للسخرية من عبد الناصر وما يمثله, وكانت المسارح تقدم مسرحيات هابطة من نفس النوع.

 

وامكن في ذلك الوقت لكل من يعادي العروبة أن يصبح « رأسا » في تونس… حتى انني سمعت بعد مرور سنوات احد هؤلاء يعترف قائلا بشيء من البلاهة الافتخارية: « أنا كنت أول من نبه الى الامبريالية المصرية »!

الامبريالية المصرية! هل سمعتم بربكم عبارة أكثر حمقا؟ وما هي الامبريالية المصرية؟ انها كل ذلك الانتاج الثقافي والفكري الحديث الذي كانولا يزال – عرب تونس يتطلعون اليه مثلما يتطلع متعطش الى الماء. ولماذا لا نتحدث اذا عن « امبريالية عربية »؟ لعل هذا هو الذي كان مقصودا من طرف تلك الشلة التي حاربت بتشجيع من النظام الانتماء العربي الاسلامي , وطرحت على الساحة الثقافية مفاهيم تغريبية وشاذة , مثل الكتابة باللهجة المحلية بدلا عن العربية, أو ادخال اللهجة المحلية لبرامج التعليم, لتعويض العربية تدريجيا.

 

وقد كان انتاجهم الركيك ينشر في بعض الصحف والمجلات التي يشرف عليها كتاب النظام ورموزه. فلم تكن مسألة انتشار الثقافة العربية الحديثة بتونس مصدرها مصر وحدها. ولم نكن نحن كتلاميذ صغار وطلاب متطلعين الى ثقافة جديدة لنحفل كثيرا بالجانب الايديولوجي , وما كان يهمنا الى هذا الحد أن تكون مصر ناصرية أو تونس بورقيبية, بالرغم من اننا بلا شك كنا أكثر ميلاكجميع العرب – لسماع خطاب سياسي أكثر تجاوبا مع متطلبات عصرنا العربي من الخطاب البورقيبي, الذي ظل متقوقعا حول نفسه, ومرددا طوال ربع قرن لأغنية « انا حررت تونس وليس هناك أكبر من عقلي ولا اعظم من شاني ».

 

فالواقع أن همنا كان ثقافيا أكثر منه سياسيا, وما كنا نصبو اليه هو ان تكون بلادنا , لا جزءا من العالم العربي الاسلامي وحسب – فهذا مفروغ منه – وانما عنصرا مولدا لحركة ثقافية جديدة ضمن هذا الكل الشامل الذي يسمى الكتلة العربية. فهل كان ذلك ممكنا دون مد الجسور بين بلدان المشرق والمغرب؟ وهل كان ذلك ممكنا بالتنازل عن الانتاج الثقافي العربي الحديث أو بالانقطاع عن مصادره؟ بحيث لم تكن هذه المسألة خاصة بمصر وحدها.

 

فأنا أذكر كيف كنت- بمفردي أو برفقة الاصدقاء- أجتاز المدينة من الطرف الى الطرف بحثا عن الملاحق الثقافية للصحف الصادرة في المشرق العربي – وبعضها كنا نحصل عليه مجانا من المراكز الثقافية-, والبعض الآخر نشتريه كمجلة الاقلام العراقية , أو مجلة « المعرفة » السورية , اومجلة الهلال, أو سلسلة الكتب الشهرية الصادرة عن دار المعرفة الكويتية, والتي كنت حريصا على اقتنائها جميعا,(ولا تزال بمكتبتي في تونس) ,أو المجلات اللبنانية التي كانت دائما جذابة بشكل خاص في نظرنا, واذكر مجلة الآداب, أو مجلتي « شعر » و »مواقف » –التي كان الحصول على عدد منهما امرا خياليا- .

 

وبعبارة واحدة, كل ما كان يأتي من العالم العربي من حولنا, كنا نتخاطفه ونقرأه ونناقشه , قبل الدخول الى المدرسة, او حين نكون في الساحة. ولم يستطع بورقيبة ولا الميليشيا الثقافية التي أنشأها-زيادة على الميليشيا الامنية- أن يقنعوا المثقفين العرب التونسيين أبدا بوجهة نظرهم, الا من أراد من هؤلاء أن يسايرمن أجل لقمة العيش.

 

واعرف ان هذا الكلام قد يبدو « قاسيا » او « غير متسامح ». فبعد كل حساب , انتهى امر بورقيبة, وحتى خلافه مع عبد الناصر لم يبق مسيطرا على الاعلام والعلاقات بين البلدين , حيث تم شيئا فشيئا التخفيف من حدة المعركة. بيد ان الحقائق التاريخية ستظل مدفونة في بئر منسية اذا لم يتحدث عنها احد. وهذه أشياء عشتها, فهي جزء من حياتي, وهناك كل الذين عاشوا معي هذه الفترة, ويتذكرونها كما اذكرها. ولا شك انهم اذا قرأوا هذا الكلام سيتعرفون على انفسهم, فمنهم من سيقول نفس الشيء ويشهد بنفس الطريقة, ومنهم من سيصمت لحاجة في نفس يعقوب او لأنه لا يرى فائدة من الحديث.

كان الاستماع الى خطب عبد الناصر خلسة في الراديو, عادة منتشرة في كامل البلاد التونسية. وكان البعض يحتفظ بها مسجلة ويخفيها عن العيون وكأنها الماس. وحين يريد أن يبدي وده للأصدقاء, فانه يدعوهم لسهرة خاصة, يستمعون فيها الى عبد الناصر يخطب. بيد ان ذلك كله كان يتم احاطته بالسرية التامة, حتى بعد موت عبد الناصر, وهو امر غريب فعلا. ولعل ذلك عائد الى الذهان الامني السائد في البلاد, والاحتياطات من كل ما يأتي من العرب.

 

فلم يكن نظام بورقيبة ليخشى أن يتآمر عليه الغربيون, ولم يضطهد يوما من يكتب مقالا بالفرنسية او الانجليزية . ولكنه بالتأكيد كان يراقب عن كثب كل ما يكتب وينشر باللغة العربية, وكان البوليس السياسي مستعدا في أي وقت لاتهامك بالتآمر على أمن الدولة, بمجرد نشرك قصيدة أو قصة قصيرة في احدى الصحف العربية.

 

وكان هذا كله متاتيا من وقائع مؤامرة في الجيش تم كشفها في الستينات, وشنق العديد ممن شاركوا فيها وسجن بعضهم الاخر لفترة طويلة. وقد جاء الكشف عن تلك المؤامرة في أوج المعركة الاعلامية والسياسية الطاحنة بين النظام الناصري والنظام البورقيبي. وقد اثر ذلك على مستقبل الثقافة العربية في تونس سلبا.

 

وقد حاول بورقيبة ان يلعب الورقة السعودية لمحاصرة المد القومي العربي في تونس. وبالرغم من أنه لم يشعر أبدا بقربه الايديولوجي من السعوديين التقليديين والمحافظين, فهو لم يدرك أبدا أن ابناء عبد العزيز آل سعود كانوا جميعا – ويبقون بلا شك – في قلب المعمعة العربية , ولعلهم أكثر حرصا على توفير حظوظ النجاح للقومية العربية , من احزاب ومؤسسات اعلامية وغيرها اتخذتها(أي القومية العربية) شعارا ترفعه على الواجهة. وأعني ان الخلاف بين عبد الناصر والسعودية لم يكن حول جوهر الفكر القومي , وهل يستحق العرب أم لا أن يعيشوا ككتلة متراصة بأحلام ومشاريع واحدة. وهو ما لم يؤمن به بورقيبة على ما اظن.

وانما الخلاف كان حول كيفية التعايش, وكيفية التقدم.

 

لم ترض المملكة السعودية , التي اكتشفت لتوها أهميتها الاقتصادية – وبالتالي السياسية – أن تلعب بين الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة, كما كان يفعل عبد الناصر. فقد كانت مصالحها النفطية تمنعها من السير في دروب مجهولة, والمخاطرة بمكتسباتها. وفضلا عن ذلك, فمملكة عبد العزيز لم تكن حققت من القوة ما يجعلها قادرة على تحدي الغرب, الذي هو زبونها الاساسي. ولكنها لم تبخل بتمويل أي مشروع يمكن من ردع اسرائيل.

 

وقد رأى بورقيبة في هذا الموقف ما يقربه من السعودية, لا سيما وقد « همس » بعضهم في اذنه بما يعني: اذا أردت ضرب القوميين العرب, فاحرص على توطيد العلاقات مع السعوديين. وهكذا, فقد تمثلت سياسته في الترحيب بأموال النفط التي بنت الفنادق السياحية في تونس, والسماح لفترة وجيزة بنشاط محتشم جدا للتيار السلفي من داخل الحزب الدستوري نفسه, او على الاقل باشرافه, قبل الانقلاب عليه, عندما انتهى بناء الفنادق. وفي اعقاب المؤامرة التي قادها عبد الرزاق الشرايطي – والتي وصفت ب »اليوسفية » نسبة الى الزعيم المغتال صالح بن يوسف القريب من عبد الناصر-, ضرب بورقيبة كل ما يتحرك وتفوح منه رائحة الانتماء القومي العربي .

ولم يكن غريبا والحال هذه, ان يعامل بورقيبة معمر القذافي وكأنه صبي لا يمكن أخذه على محمل الجد, بالرغم من أن نصف الجمهورية التونسية على الاقل كان حريصا على الاستماع الى كل خطاب لمعمر تبثه الاذاعة الليبية. ولا يمكنني ان اقول ان النصف الآخر كان ينصت لبورقيبة, لأنه منذ ان جعلت مؤسسة الاذاعة والتلفزيون التونسية « توجيهات الرئيس » برنامجا يوميا, لم يعد أحد ينصت الى « المجاهد الاكبر » , الا اذا كان مخدرا بالحشيش أو في حالة سكر لا تقاوم.

وبالرغم من ان معمر القذافي طرح فكرة الوحدة حتى على مالطا, حسب ما سمعت – ولعله كان ينوي فتحها وتعريبها وأسلمتها, وهو ما نراه يسعى اليه في افريقيا -, فانه كان دائما مولعا بفكرة وحدة اندماجية بين ليبيا وتونس ومصر. وبالرغم من انه ناصري مقتنع, فلقد كانت وستظل له مشاريعه ورؤيته الخاصة. وهي مشاريع ورؤية تضاربت افقيا وعموديا مع عقل الحبيب بورقيبة, الذي سيطر عليه كما قلنا الذهان الامني والخوف المرضي من كل خطوة يمكن أن تؤدي الى ما أدى اليه تأميم قناة السويس.

كان بامكان بورقيبة أن يتحدى الفكر الاستعماري… الى حد معين, لا يمكن تجاوزه. كانت له خطوط يقف عندها ويعتبرها تقريبا « مقدسة » , لا يمكن المساس بها. وكانت المشاريع القومية العربية, سواء التقليدية المحافظة الآتية من المملكة السعودية(في شكل اتجاه سلفي), او العلمانية ( البعث) , أو الناصرية ( سواء عبد الناصر أو القذافي), أو غيرها … تؤدي كلها في نظره الى المخاطرة. فهو يرى تونس دولة أبدية, ولا يرى امكانية لدمجها في مشروع أكبر, حتى وان كان يعلم جيدا أن في ذلك مصلحة عامة. والحقيقة انه كان يفضل , كما يقول المثل الاوروبي , ان يكون « البابا في قرية صغيرة » على ان يكون « الكاهن العاشر او الثاني والعشرين في روما ».

ولم يكن القوميون العرب , لا في تونس ولا في أي بلد من العالم العربي, ليؤمنوا يوما بما يعتقده بورقيبة من ان هذه الدول العربية القائمة اليوم, ازلية و أبدية. ولعله كانسان عاقل لم يكن يوهم نفسه بذلك الا بغرض ايهام الاخرين بأنه من الأكثر افادة استكمال البناء في القرية على الحلم ببناء روما جديدة. فبعد كل حساب, هوانسان متعلم, درس التاريخ ويستشهد به من حين الى آخر. ولا يمكن أن يجهل بالتالي عدد الدول والانظمة التي شهدتها المنطقة العربية منذ ما قبل الفتح الاسلامي الى عهده.

 

وبالرغم من اننا نتعامل بحكم الواقع مع الدول العربية الموجودة كما هي, فانه ليس لدينا كمثقفين عرب اوهام حول قدراتها . ولا اعتقد أن قادة هذه الدول أنفسهم راضون عنها, وان كانوا بلا شك راضين بمناصبهم وساعين الى ضمان مصالحهم ومصالح أتباعهم. ففي اللاوعي الفردي للانسان العربي كما في اللاوعي الجماعي, سيظل هناك دائما أسف وحنين. أسف على العظمة المفقودة, التي جعلت من الامة العربية يوما المصدر الاساسي للعلم والمعرفة وما يرتبط بهما من اشعاع ثقافي وسياسي وازدهار حضاري. وحنين الى يوم يكون للعرب فيه موعد مع التاريخ.

 

وبالتأكيد, ليس هناك عاقل يتصور أن هذا « الموعد » هو ضربة حظ, أو صولة عسكرية يقوم بها فجأة شخص يدعي انه سيغير العالم. وانما هو الجهد اليومي الذي يبذله ملايين الناس العاملين كالنمل في كل مكان من البلاد العربية وفي المهجر, من أجل النهضة الحديثة, واعادة العلم والمعرفة الى المكان الذي يستحقانه, وابعاد سيف ديمقليس المسلط على اعناق العلماء والمثقفين المخيرين بين تاييد ظلم الحكام, أو السجن, او المنفى.

 

فهل هناك من بين هذه الدول العربية دولة واحدة حققت رضا عامة الناس وخاصتهم؟ وهل هناك نظام واحد يثلج الصدر؟ لقد أصبح شائعا أن نعلق على ما يجري بالقول : كلنا في الهم عرب! وهذا ما يقوله المثقفون العرب في كل مكان, حتى في الاعلام الرسمي , عندما يسمح بذلك. فهي دول متشابهة في عدائها للحريات العامة والخاصة, واضطهادها لمن يخالفها الراي من المثقفين والعلماء. والشيء الوحيد الذي يجمع العرب اليوم , كما بالامس, هو الثقافة.

 

وما نراه ان جميع هذه الدول العربية تحارب الثقافة الحديثة بهذا القدر أو ذاك , ومن ثم , فهي تؤصل التخلف وتجذر العماء والدكتاتورية في التربة العربية, الشيء الذي يؤدي الى الغليان الذي نشاهده ونشعر به اليوم. فهناك في الحقيقة وحدة من نوع خاص تحققت بين الدول العربية: انها وحدة القمع.

 

فالحكام وان اختلفوا في كل شيء وحول كل شيء, يتفقون على قمع الحريات. وهو ما يجعل المنفى – أو حتى السجن – اشرف من الاشتراك في الحكم, واثقال الضمير بكل تلك الجرائم التي ترتكب سرا وعلانية, ضد المعارضين والمنشقين, ومن لا حول له ولا قوة, وكل من يسمح لنفسه بانتقاد الحاكم. ولا أقول هذا من منطلق معاداة كل شيء أو استصغار كل شيء, فأنا لست عدوا للدولة, ولا عدوا للدول العربية. وانما رجل ولد و يعيش منذ أكثر من اربعين سنة في العالم العربي, حتى وان كنت في المهجر الآن.

 

رجل مطالب بوازع من ضميره أولا , واستجابة لقرائه, بتقديم شهادة نزيهة على عصره. فلو سكت عن بعض الاشياء, هل أضمن بذلك لقمة العيش؟ ان الرزق من الله, والتوكل عليه. ومن ثم, فالساكت عن الحق شيطان أخرس. ثم انني اتلقى اجرا للكلام والكتابة, فكيف أسكت؟ وحتى اذا لم اكن أكتب هذا كصحفي محترف, فانا أكتبه – وسأكتب مثله واكثر منه ان شاء الله – بوصفي أديبا… أي شخصا ليس هدفه الاسترزاق من الكتابة بقدر ما هو الوصول الى اكبر عدد من القراء. شخص لا ينتظر بالضرورة أن يتقاضى أجرا على كتابته. وماذا أضيف؟ هناك الكثير من الذكريات. بيد انه ينبغي أن اتوقف كي لا اطيل. أريد فقط ان ألاحظ في النهاية ان الاتجاه القومي العربي كان دائما موجودا حتى داخل الحزب الدستوري في تونس, وكان ممثله الحقيقي بلا شك الزعيم صالح بن يوسف, الذي اغتالته ميليشيا الحبيب بورقيبة في المانيا سنة 1962… ليقضوا على « الفتنة » حسب زعمهم.

 

والحقيقة أن جناح بن يوسف كان الغالب شعبيا, ذلك أن جذور هذا الحزب تمتد الى قاعدة شعبية أصيلة, كان خير من يمثلها هو مؤسس الحزب الحقيقي وأبو الحركة الوطنية في تونس, الزعيم المجاهد عبد العزيز الثعالبي.

 

(*) كاتب وصحافي تونسي مقيم في فرنسا  

( نُشر هذا المقال يوم 27 جويلية 2003 على الساعة 16:54:59 في موقعي  http://phoenixmagazine.tk/ وhttp://www.hichemkaroui.com/)

 


 في الحاجة إلى إعادة التفكير في مفهوم الغرب «2 من 2»

بقلم: رفيق عبد السلام (*)

 

منذ بدايات القرن التاسع عشر ومع تبلور ملامح ما أسماه المؤرخ الأمريكي هودجسون بالتحول الغربي الكبير رجحت كفة القوى الأوروبية الناهضة على حساب القوى المنافسة، فتحكمت في الأسواق العالمية ومصائر الشعوب وقارات العالم بكاملها، والغريب في الأمر أنه في الوقت الذي كان الغرب الحديث ينزع نحو تأكيد طابعه الكوني سواء استنادا إلى دعاوى تفوق نموذجه الاجتماعي والثقافي على غيره من النماذج الأخرى، أو استنادا إلى قدرته الواسعة على تجاوز الحواجز الجغرافية وتخطي الحدود القومية والثقافية، الغريب في الأمر أن هذا المنزع كان يوازيه اتجاه مماثل نحو رسم الحدود الفاصلة والقاطعة بين ثقافة الغرب وبقية الثقافات العالمية، وتأكيد التمايز الجوهري للغرب الحديث قياسا ببقية شعوب العالم وثقافاتها ضمن إطار من الثنائية التقابلية الحادة بين عالمي الشرق والغرب، وخصوصا بين عالم الغرب الأوروبي (اليوناني المسيحي) وعالم الشرق الإسلامي العربي، وهي ثنائية مازالت حاضرة بقوة إلى يومنا هذا سواء في مستوى الخطاب الأكاديمي والسياسي أو في بنية الوعي الغربي عامة.

 

وفي هذا الإطار تتنزل جملة من المقولات الصلبة في الخطاب الغربي من قبيل الاستبداد الشرقي وجمود المنظومات الثقافية والبنى الاجتماعية والانتاجية الشرقية، فبدون هذه المقولات يفقد الغرب صلابته الذاتية ومميزاته الجوهرية المزعومة ويتحول إلى مجرد حدث تاريخي عارض، فهذه المقولات حول الشرق على ما يذكر ادوارد سعيد تستدعي مقابلها الغربي ضرورة، جمود الشرق الإسلامي تقابله ديناميكية الغرب الحديث، وخيال الشرق يقابله عقلانية الغرب، وإكراهيات الشرق تقابلها تحررية الغرب، وتعصب الإسلام الشرقي يقابله انفتاح الغرب المسيحي المعلمن، وقد غدا أمرا معهودا منذ أن كتب عالم الاجتماع الألماني ماكس فير رسالته الشهيرة المعنونة بالأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية (والتي نشرت على شاكلة كتاب لاحقا) غدا مألوفا إرجاع ديناميكية الغرب الحديث المجسدة أساسا في رأسمالية السوق وعقلانية البيروقراطية إلى أعماقه الثقافية والقيمية التي تكثفت في اللحظة البروتستانتية بوجهيها اللوثري والكالفيني، كما غدا أمرا معهودا أيضا إرجاع فشل العرب والمسلمين في شق طريق النهوض الاقتصادي والاقتدار العلمي إلى دواع ثقافية دينية تضع الإسلام موضع الإدانة والاتهام.

 

ومن المفارقات الغريبة أن الكثير من المثقفين العرب المأخوذين بعالمية المشروع الحداثي الغربي لا يكفون هم بدورهم عن دمغ الثقافة والتاريخ الإسلاميين بكل الشناعات من استبداد وتخلف وجمود بعد أن ابتلعوا الكثير من المقولات الاستشراقية دونما جهد فكري أو تنقيب تاريخي يذكر.

 

مثل الغرب الحديث- ومازال يمثل إلى يومنا هذا- بالنسبة لشعوب العالم ونخبها ضربا من التحدي والغواية الصارختين. فهو غرب ملهم من ناحية نجاعته التقنية والاقتصادية ومن جهة « تحرريته » السياسية والفكرية والاجتماعية، ولكنه من الجانب الآخر غرب شديد الأنانية والعنف و »النفاق » في تعاطيه مع قضايا العالم وشعوبه، ولعل الأمر كان أشد مرارة ووطأة على النخب العربية والإسلامية- قياسا ببقية النخب الأخرى- التي داهمها هذا الغرب في المراحل الأولى بسطوة جيوشه الكاسحة ثم بسلطان نموذجه الاجتماعي الثقافي.

 

ولا ننسى هنا أن الغرب الحديث الذي خرج على العالم غازيا بقوة سلطانه العسكري والمادي كان مدفوعا بزخم ثقافي لا يقل قوة ودافعية من مقدراته المادية، إذ كان يرى في نفسه حاملا لمشعل الأنوار والتقدم لشعوب غارقة في ظلمات الجهل والتخلف، أي مخلصا لنفسه وللعالم من حوله بما يشبه دور المسيح المبشر والمخلص الذي أعادت استلهامه الايديولوجيات الغربية الحديثة ضمن وجهة معلمنة.

 

لكن منذ أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين جرت مياه كثيرة في النهر الغربي الواسع، من ذلك ظهور حربين بين القوى الأوروبية الصاعدة اصطلح على تسميتهما تجاوزا بحربين كونيتين، وقد رافق ذلك تدمير منهجي غير مسبوق بين من يفترض فيهم حملة مشعل الأنوار والتمدن ذاته، ثم ظهور النماذج الشمولية المخيفة أمثال النازية والفاشية والشيوعية والقوميات المتطرفة، الأمر الذي وضع ادعاءات الأنوار والحداثة موضع اختبار تاريخي.

 

فقد بينت هذه الأحداث التاريخية الجلل درجة القدرة التدميرية التي تختزنها الحداثة الغربية بصورة غير مسبوقة كما بينت أن مسار التاريخ العالمي فضلا عن التاريخ الغربي- الذي كان ينظر إليه على أنه مركز التاريخ الأنساني – لا يسير ضرورة نحو مزيد من الامتلاء التصاعدي بقدر ما يسير نحو المهالك والارتكاس التراجعي، ولا يسير ضرورة نحو تحرر الذاتية الانسانية توازيا مع تصاعد سلم المعرفة وكشف المجاهيل الكونية بقدر ما يتجه نحو مزيد إحكام القيود والأغلال وإحلالها محل الأغلال القديمة، وبالتوازي مع ذلك لعب تيار النقدية الجذرية دوراً حاسماً في تفكيك الادعاءات العالمية للغرب الحديث من خلال تفكيك أسانيده النظرية، فقد أتت مطرقة النقد النيتشوي على رافعة العقلانية وأفرغت الغائية التاريخية والذاتية الإنسانية من دواخلها وأعماقها، ولسنا نبالغ إذا قلنا إن الخطاب الغربي الحديث بقي محكوما باللحظة النيتشوية وما أحدثته من تصدعات ورجات هائلة في أعمدته الفكرية والأخلاقية، وليست التيارات التفكيكية والنقدية الجذرية التي نزعت عن الغرب هالته السحرية والماهوية إلا تفعيلا وامتدادا بالإرث النيتشوي إلى نهاياته.

 

كل ما سبق ذكره انما يبين أن ما ما تعودنا على تسميته بالغرب ليس إلا ظاهرة تاريخية وربما مجرد حدث تاريخي عابر على ما يذكر المفكر الفرنسي روجيه جارودي وليس حالة جوهرية ثقافية على نحو ما يدعي أصحابه المدفوعون برغبة البحث عن التمايز والفرادة الجوهرية، فالغرب الحديث ظاهرة طارئة لا يزيد عمرها على أربعة أو خمسة قرون على الأكثر، وأن نؤكد طابع المصادفة التاريخية والنسبية الثقافية للغرب معناه أن نجرده من ادعاءاته العالمية على رغم ما امتلكه من أدوات السيطرة والتأثير في كل مناحي العالم وفي أنماط حياة الشعوب بصورة غير مسبوقة.

 

(*) باحث تونسي مقيم بلندن

 

(المصدر: صحيفة الشرق القطرية الصادرة يوم 7 أوت 2003)

 


 

 

بعد خمسة قرون أول أذان يرفع في غرناطة

بقلم: د. أحمد القديدي   زحمة الأحداث الاليمة او السعيدة في عالمنا العربي وعلى خلفية التحولات العميقة التي تهز مجتمعاتنا. احتجت هذه الصيف الى واحة للراحة والتأمل والاعتبار. فأخذت عيالي ونزلت من ضواحي باريس الى أسبانيا- الاندلس كما يصر أبنائي ان يسموها- وقطعت جزءاً من الطريق السريعة بين الحرائق..   نعم حرائق عملاقة أسطورية اندلعت بفعل مجرمين او منحرفين في حوالي ألف هكتار من الغابات الجميلة المحمية في جنوب فرنسا وفي هضاب مازالت تسمى الى اليوم بهضاب العرب- «لوماسيف دي مور» وألمور أو المورسك هم عرب الاندلس منذ القرن الثامن الميلادي الى القرن الخامس عشر وبالتحديد منذ سنة 711 حين انطلق الفاتح العربي موسى بن نصير الى الاندلس الى 1452 عام سقوط غرناطة وتسليم مفاتيحها- ومفاتيح قصر الحمراء- من أيدي آخر ملوك الطوائف العربية أبي عبدالله الى الملك القشتالي- فرديناند وزوجته الملكة- إيزابلا..   خمسة قرون وخمسة أعوام مرت من يوليو 1492 الى يوليو 2003 دون ان يرفع أذان في مسجد أو تقام صلاة في جامع فالعلاقات العجيبة بين أسبانيا. والإسلام بدأت بالفتوحات التي قال عنها المستشرق- برنارد لويس في عدد يوم السبت 2 أغسطس 2003 من مجلة- لوفيجارو الفرنسية بأنها انتجت اورع إلتقاء فريد بين الاسلام والمسيحية واليهودية على صعيد الحضارة والعلم والتعايش.   بدأت العلاقات بأكبر تجربة حضارية وأطولها امتدت اكثر من سبعة قرون لتنتهي بمحاكم التفتيش وحرق المسلمين واليهود ومنع اية إشارة للاسلام على مدى خمسة قرون.. حتى بدأ عصر عودة الوعي الاسباني منذ السبعينيات الوعي بأن المجد الاسلامي جزء هام واساسي من حضارة الاسبان، حتى أن المستعرب الشهير الاسباني الاستاذ- ميجال دي أبلزا قال لي يوما «أنا حين أدرس تاريخنا العربي الاسلامي لا يمكن ان اكون مستشرقا او مستعربا.. لانني بعكس الباحث السويدي او النرويجي أو الامريكي.. أدرس تاريخي واسلط الضوء على فترة من فترات الماضي الاسباني..»   وعبر القرون ظلت أسبانيا تمسح آثار تاريخها في عملية طمس للثقافة والادب والفلسفة والمعمار والطب والهندسة والصيدلة والفلك.. وكلما تكالب المتطرفون على الطمس ظهر في الجامعات جيل أسباني يؤمن باستعادة امجاد أسبانيا الاسلامية.. وهكذا انتظمت مجموعة من الشباب الأسباني في حركة اعتناق الاسلام وهم من الاسبان الأوروبيين زرق العيون شقر الشعر ومنهم الاستاذ مالك عبدالرحمن رويز الذي يؤم المسلمين في اول مسجد كبير تم افتتاحه يوم العاشر من يوليو الماضي في غرناطة، وهذا المسجد كان مشروعا نائما على مكتب بلدية غرناطة منذ اكثر من خمس سنوات يعارضه المتشددون المسيحيون.. لكنه اليوم تجسد بفضل عطاءات وهبات من إمارة الشارقة وليبيا والمملكة المغربية وماليزيا.    أول أذان صدع من المئذنة الجميلة كان منذ اسابيع وقد تأسس المسجد على مساحة 2200 متر مربع وهو ذو معمار اندلسي اصيل يبعد عشرات الامتار عن قصر الحمراء درة الحضارة العربية الاندلسية وجوهرة السياحة الاسبانية. يقول لنا إمام المسجد- الشيخ مالك عبدالرحمن رويز مدير مؤسسة المسجد إن المسجد اصبح في ظرف اسابيع قليلة قبلة الزوار والسياح بعد قصر الحمراء في مدينة غرناطة.. واصبح معلما من معالم الحضارة الاسبانية الحديثة التي تستعيد امجاد التعايش والتكامل بين الاديان السماوية على أرض أوروبية كانت مهد ذلك التعايش على مدى اكثر من سبعة قرون أعطت للانسانية اروع نتاج العقل لدى ابن رشد وأجمل نتاج الشعر لدى ابن زيدون الى جانب نخبة الاطباء والمخترعين والمهندسين والفلكيين اما عن منسق هذا المشروع فهو بالطبع أسباني خريج اكبر جامعات الهندسة المدنية في مدريد.. وقد سحرته المدارس الفكرية العربية الاندلسية التي صنعت عظمة الاندلس- حسب تعبيره.   الغريب ان المسجد تأسس على هضبة تسمى الى اليوم بهضبة العباسيين وهو يستعد لاحتضان اكبر مكتبة عربية اسلامية في أسبانيا وربما في الاتحاد الاوروبي بأكمله ..تضم غرناطة حوالي خمسة آلاف من الطلبة العرب يتعايشون بسلام وأمان مع الشعب الاسباني بل يعطون امثلة الاستقامة والمدنية والاخلاق من حيث الاحتشام وحب العلم والعمل والتمسك بتعاليم الدين السمحاء أما انا فكان لدي إحساس غريب عند زيارة هذا المعلم الروحي عوض إحساسي بالمرارة والالم الذي كان يعتريني ويعتري كل عربي مسلم بضياع الاندلس…   أصبح إحساسي كمواطن معولم بأن مصير الانسانية هو في هذا التعدد والتنوع والتكامل والحوار والتعايش بدون إلغاء الآخر او الحقد عليه. ولعل هذا هو الاعتبار الاكبر الذي استخلصته أسبانيا بعد خمسة قرون من الانغلاق ورفض ماضيها.   (المصدر: صحيفة الشرق القطرية الصادرة يوم 6 أوت 2003)

 

 


 

أكبر مكتبة عربية تراثية على الإنترنت ينساها أبناؤها ويدعمها الغرباء

معتصم زكار المشرف التقني على موقع «الوراق» في الذكرى السنوية الثالثة لتأسيسه: أشعر بالأسى لأن الأجانب يقدرون أعمالنا أكثر من العرب   الباحثة الفرنسية جاكلين سوبليه التي ألفت كتابا عن تطور اللغة العربية استعانت به في عملها، وشهدت أن طالب ماجستير ناقشته في جامعة ليون الفرنسية لم يكن ليتم رسالته من دون الرجوع إلى كتاب أعيان العصر وأعوان النصر للصفدي الذي لم يجده إلا فيه، لأنه لم يتمكن من الحصول على الكتاب من مكتبة الجامعة بعد أن أصيبت بحريق هائل أضاع الكثير من محتوياتها.   أما كاتيا زخريا وجون بوهاس من جامعة ليون اللذان يحققان مخطوط «الظاهر بيبرس»، الذي ينشره المعهد الفرنسي للدراسات العربيةفي دمشق، فكان من أهم من أعانهم على ذلك، وكذلك يعتمد عليه مع مدير قسم النشر في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأوسط، وأستاذ بريطاني للتاريخ الإسلامي في جامعة هارفارد، وجمانة بركودة الباحثة في جامعة بوردو في فرنسا لا تتخيل عملها، أو عمل أي باحث علمي جاد آخر، من دون اللجوء إليه تلقائيا وبصورة متكررة.   هذه بعض من شهادات كثيرة قدمها مئات الباحثين الأجانب والعرب، الذين لا يستخدمونه أو يعتمدون عليه بشكل كبير فحسب، بل ويشعرون بالامتنان لوجوده. إنه موقع «الوراق»، درة المواقع العربية والمرجع التراثي الإلكتروني الأول على الإنترنت…. والضحية المحتملة لاهمال العرب. لعل أبلغ شهادة على واقع حال هذا الموقع الحيوي، هي تلك التي يقدمها معتصم زكار المشرف التقني على موقع «الوراق» (www.alwaraq.com)، الذي التقته «الشرق الأوسط» ليتحدث عنه.   بداية ذكرنا بأن هذا الموقع يحتفل بالذكرى الثالثة لاطلاقه، فقد بدأ التخطيط للمشروع عام 1995، ثم وفي عام 1996 بدأ تكوين فريق العمل وإعداد البرمجيات، وفي عام1997 بدأت فرق إدخال النصوص بالعمل في سورية والعراق، وشهد عام 1999 إطلاق نسخة من المكتبة على قرص مدمج، التي اعتبرت خطوة هامة نحو الكتاب الإلكتروني العربي، وفي عام 2000 انطلق موقع الوراق على الإنترنت حيث تستضيفه مؤسسة الامارات للاتصالات.   يدعمه فريق عالي الكفاءة مكون من مبرمجين ومحررين وباحثين في اللغات ومصممي الرسوم، بإشراف محمد السويدي الأمين العام للمجمع الثقافي في أبوظبي. وخلال هذه الثلاث سنوات استطاع «الوراق» أن يصبح مكتبة رقمية هامة، تضم حاليا حوالي 600 من أهم المراجع في التراث العربي والإسلامي موزعة على 16 موضوعا، من بينها مجموعة كتب ينفرد بنشرها على الإنترنت، مثل الأغاني والطبقات الكبرى والكامل في التاريخ وغيرها.   وأصبح هذا الموقع الفريد يستقطب في كل يوم 5000 زائر مختلف، من الباحثين والعلماء العرب والمستشرقين، والطلاب، والأدباء والصحافيين، والمثقفين والمتعلمين بشكل عام مثل الأطباء والمهندسين، بالإضافة إلى عامة الناس من المهتمين بالعلم والمعرفة. وهو عدد جيد إذا أخذنا بعين الاعتبار كون الموقع يضم فقط الكتب وخدمات المكتبة مثل خدمة البحث النصي، ولا يضم أي خدمات أخرى مثل البريد الإلكتروني أو غرف الحوار والدردشة أو حتى الأخبار. * مرحلة التقييم * ولرصد أهمية الوراق كأداة من أدوات البحث العلمي وتحديد مدى استفادة الباحثين من «الوراق» في إعداد بحوثهم العلمية، قال لنا معتصم زكار إنه تم اعداد عدة استبيانات بعضها موجه لكل الزوار مثل الاستبيان الموجود في الموقع حاليا، والبعض الآخر خاص وموجه لعينة مختارة من الزوار، حيث كان زكار يقوم بنفسه بالاتصال المباشر بالباحثين، أو مقابلتهم شخصياً, حيث تلقى منهم مجموعة من الشهادات الهامة التي عكست فوائد الموقع وأشكال استخدامه كما أخبرنا.   وقد قدم العديد من الباحثين شهادات إيجابية أظهرت انتشاره الواسع وترحيبهم به، فالدكتور شاكر الحاج مخلف رئيس تحرير جريدة «المدار» الأدبي التي تصدر في الولايات المتحدة الأميركية، يعتبر الموقع مصدر فخر واعتزاز لدى جميع الناطقين بالضاد، وبوابة إثراء ثقافي وحضاري للمكتبة العربية، لأنه يقدم كنوز التراث العربي والإسلامي التي يبحث عنها دائماً، ويندر الحصول عليها واقتنائها أو انتقالها مع عشاقها عبر المسافات الشاسعة كما هو الحال في الولايات المتحدة. أما الدكتور المستشرق إيف غونزاليز، مدير قسم النشر في المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأوسط، فيرى أن الوراق رغم عمره القصير أصبح معروفا عند الأوساط الأكاديمية، وتفوق شهرته الكثير من المؤسسات الثقافية العربية ذات الماضي الطويل, وكما أنه مقتنع بضرورة التعاون على المستوى العربي والدولي للمحافظة على هذه المبادرة، لا أنه ألقى المسؤولية على كاهل الأوساط الثقافية العربية للدفاع عن ثقافتهم. كما قال محمد الطاهر المنصوري، وهو أستاذ في كلية الآداب في جامعة منوبة في تونس، إنه استفاد من خدمات موقع الوراق لإعداد بحث حول المغاربة بالمشرق في العصر الوسيط، كان عنوان البحثدور المغاربة في الدفاع عن مدينة الإسكندرية سنة 1365، أي إبان حملة القبارصة عليها. واستطاع باستخدام البحث على موقع الوراق التوصل إلى رصد بعض المعلومات المصدرية الهامة، التي سمحت له باستكمال ما كان عنده من نصوص. وشهد البروفيسور روي موتاهده، أستاذ التاريخ الإسلامي في جامعة هارفارد، بأنه كثيرا ما يستخدم الموقع في أبحاثه. وقالت الباحثة جمانة بركودة وهي باحثة في جامعة بوردو في فرنسا، إن موقع الوراق أصبح جزءاً هاما من حياتها العملية اليومية، وأضافت «أحضر رسالة دكتوراه تحلل «رسالة الصاهل والشاحج» لأبي العلاء المعري. وكما تعلمون، فإن لغة المعري لغة صعبة ودقيقة تحتاج إلى الرجوع الدائم إلى المعاجم القديمة. كما أن استعمال الأدباء القدماء لأسماء شخصيات كثيرة وإشارتهم المستمرة لمواقف وحوادث قديمة العهد تضيف لصعوبة فهم المعنى الحقيقي لكتاباتهم.   إن موقع الوراق بغناه يسمح للباحث التوصل إلى معرفة هذه التفاصيل وفهمها بشكل أفضل، خاصة أنه يتيح الفرصة للبحث في عدد كبير من الكتب والمراجع في وقت قصير جدا». أما عبد القادر غنامة وهو مترجم, يعمل مع المنظمات الدولية في مدينة جنيف السويسرية، فيعتمد على الوراق في التحقيق في بعض المصطلحات أو التعابير، وكحجة عندما يحدث خلاف بينه وبين زملائه، حيث يقول إنه أنشأ ملفاً على الكومبيوتر أسماه أقوال المتقدمين في اختلافات المتأخرين الغرض منه حسم الخلافات اللغوية بالاستعانة بموقع الوراق الذي يتيح إمكانية البحث في جميع الكتب. * هل سيبقى مجانيا؟ * إلا أن معتصم زكار يشير إلى حقيقة محزنه، وهي أن هذا الموقع الذي يقدم خدماته الثمينة قد لا يستطيع الاستمرار بتقديم خدماته كما كانت بالمجان، فهو لا يتلقى الدعم الكافي من المؤسسات ودور النشر العربية، سواء ماديا أو حتى بالتبرع بالكتب والمراجع ليتم نشرها للجمهور. إذ يقول «دور النشر العربية مستعدة لكل شيء ما عدا توفير الثقافة بشكل مجاني، واليوم ترى أن بعض الكتب التراثية تعاد طباعتها للمرة العاشرة أي أنها غطت تكاليفها وزيادة، ولكن لم يخطر ببال ناشر عربي واحد أن يضعها على الإنترنت، علماً أن ذلك سيساعده في الترويج لكتابه الورقي بشكل كبير».   ويضيف «ونتيجة ذلك أصبحت اللغة العربية في ذيل قائمة اللغات المستخدمة في الإنترنت, وأنا لا أريد أن أضع وزر ذلك كله على كاهل دور النشر العربية فقط، ولكن أود أن أقول إن نشر الثقافة العربية على الإنترنت هو واجب قومي، وهو إحدى الدعائم الأساسية لتحقيق نهضة عربية شاملة، وبالتالي يجب أن يشترك فيها الجميع ويضحوا من أجلها». وحذر في هذا السياق من أن «الوراق» قد لا يستطيع مع الوقت الاستمرار في تقديم خدماته مجانا نظرا لحجم محتواه المتزايد والتكاليف والجهود المبذولة للمحافظة على ديمومته. وقال زكار إن «الوراق» أطلق حديثا دعوة للمؤلفين لنشر أعمالهم الإبداعية ودراساتهم في الموقع، حيث استجاب بعضهم لها ووصلت منهم حتى الآن حوالي العشرين مساهمة من كتاب وأدباء وباحثين عرب وأجانب، يرغبون بإتاحة أعمالهم للقارئ العربي بشكل مجاني. وكشف عن وجود هيئة خاصة من فريق التحرير في الموقع تضم أدباء وشعراء وباحثين ليقومون بتقييم النصوص، حيث يشترط في هذه المؤلفات أن تكون محكمة وجيدة, وأضاف «وأنا متأكد من أن هناك كتابا كبارا يرغبون في المشاركة ولكنهم للأسف لا يملكون حقوق النشر لأعمالهم ونعود مرة أخرى لدور النشر!». وأكد المشرف التقني على موقع «الوراق»، على ضرورة أن تتضافر الجهود وتشترك عدة مؤسسات عربية كبرى وهي كثيرة العدد وأمكاناتها كبيرة، في رعاية مشروع الوراق.   وأضاف «وأقول بأسى إن أول مؤسسة ثقافية عرضت علينا التعاون من خلال تزويدنا بكتب محققة للنشر المجاني في الموقع، كانت المعهد الفرنسي لدراسات الشرق الأوسط في دمشق، الذي أبرم موقع «الوراق» اتفاقية تعاون ثقافي معه. وسنبدأ بالتعاون مع هذا المعهد بنشر كتاب «حصن الإسم» للمستشرقة الفرنسية جاكلين سوبليه، وهو كتاب في تطور اللغة العربية، ثم يتبع ذلك نشر كتب أخرى من إصدارات المعهد مثل أول تحقيق لديوان أبي فراس الحمداني».   وكشف زكار عن وجود مباحثات مع مؤسسات ثقافية أخرى عربية ودولية وجامعات لنشر أعمالها في الموقع، وأن المجمع الثقافي في أبوظبي سينشر بعض أعماله في الموقع. ودعى زكار جميع المؤسسات العلمية والثقافية العربية غير الربحية, حكومية كانت أو خاصة، لأن تحذو حذو المعهد الفرنسي في دمشق والمجمع الثقافي في أبوظبي لرفد موقع الوراق بإصداراتها، وأن تعتبره بوابة ثقافية عربية مجانية يملكها كل العرب ويستفيد منها كل العرب.   (المصدر: صحيفة الشرق الأوسط الصادرة يوم 7 أوت 2003)

البداية

 


أعداد أخرى مُتاحة

Langue / لغة

Sélectionnez la langue dans laquelle vous souhaitez lire les articles du site.

حدد اللغة التي تريد قراءة المنشورات بها على موقع الويب.