25 juin 2002

AFP, le 25.06.2002 à 07h52

Union des Tunisiens en Suisse (UTS)

LA POLICE TUNISIENNE HARCELE UN DIRIGEANT POLITIQUE DE L’OPPOSITION

 Me Abdelwahab MAATAR, professeur de droit constitutionnel à la Faculté de droit de Sfax et vice-président du parti d’opposition Congrés Pour la République (CPR) a été convoqué le lundi 24.06.2002 à un poste de police de Sfax.

Sous prétexte d’une amende non payée pour stationnement en 2001, le chef du poste de police a fini par lui demander la liste des personnes qui se sont réunies chez lui pour raison politique. Près de quinze policiers en civil ont essyé de l’intimider et de le menacer. en plus, ses téléphones ont été coupés depuis quelques semaines et son E mail bloqué.

L’Union des Tunisiens en Suisse (UTS) dénonce vigoureusement cette répression policière et ce harcèlement subis par Me Abdelwahab MAATAR qui n’a fait qu’exercer ses droits d’expression et de critique objective dans le cadre de son action politique au sein d’un parti d’opposition, le CPR.

L’UTS demande le rétablissement de Me MAATAR dans ses droits et la cessation du bloccage de ses moyens de communication. Elle sollicite l’intervention des organisations et personnalités suisses et européennes pour le soutien de Me MAATAR en dénonçant cette pratique odieuse de la police tunisienne à l’égard des citoyens qui luttent pour le rétablissement de la démocratie et de la liberté dans leur pays.

Des hommes de Lettres ont adressé une lettre au ministère de la culture, rappelant la nécessité de distribuer l’encouragement à la culture, ce qui n’a pas été fait depuis 1998… Quant est ce que ces prix vont rompre le silence et parvenir à leurs destinataires ?

(Source: Assabah du 25 juin 2002, d’aprés le portail babelweb)

SOMMET DU G8

Reporters sans frontières dénonce

les mauvais élèves du NEPAD

محمد مواعدة بعد عودته لحركة الديمقراطيين الاشتراكيين لحقائق

سؤال مشروع…وبعبارة أخرى لماذا تمت المصالحة في حركتنا الآن ؟

ملاحظة أولى, أن هذه العودة وهذه المعالجة لم تأت صدفة وليست حدثا عارضا أو ظرفيا بدليل أن ما حدث هذه المرة في نطاق حركتنا لم يحدث إطلاقا طيلة السنوات الماضية والتي أسميها السنوات العجاف.

أما الأسباب فهي عديدة منها ما يتعلق بالحركة ومناضليها ومنها ما يتعلق بالوضع السياسي الوطني ومنها ما يتعلق بالوضع الدولي و الإقليمي.

تجدر الإشارة إلى أن حركتنا هي حزب سياسي بما في هذه الكلمة من معنى فهي ليست حزبا إيديولوجيا وليست مجموعة ضغط, إذن هي تنظيم وطني تأسس في جوان 1978 وكان إفرازا لواقع سياسي واجتماعي واقتصادي أي نتيجة تفاعلات عاشتها تونس في تلك المرحلة.

ومنذ التأسيس كان في اعتقاد الجميع أن هذا التنظيم الوطني ليس غاية في حد ذاته وإنما هو لخدمة تونس العربية المسلمة. ولذلك فحتى يقوم هذا التنظيم الوطني بدوره لا بد أن تتوفر مجموعة من الشروط والظروف في مقدمتها وحدة صفوفه وابتعاده عن المهاترات الهامشية للاهتمام بالموضوعات الهامة الوطنية والتي تهم مجتمعنا.

انطلاقا من هذا المعطى لا أحد في حركتنا منذ انطلاق الأزمة السابقة التي دامت سبع سنوات, يشعر بالرضا عن واقع الحركة من تشتت وانقسامات أصبحت ظاهرة توليدية وهو نوع من التهديم الذاتي من المستحيل أن يسمح بقاؤه ( هذا المرض العضال ) لهذا التنظيم الوطني بالقيام بدوره المطلوب.

السبب الثاني الداخلي – يعني من داخل الحركة – يتعلق بي شخصيا إذ أن عودتي إلى الحركة كانت عاملا أساسيا وحاسما في دعم المصالحة الداخلية وهذه أمر يشهد به الجميع ولا بد أن أشير إلى أن كل الأطراف عملت بأساليب مختلفة للتخلص من هذه العقبة وهي عقبة قانونية. ولذلك توجهت بالشكر إلى رئيس الدولة عند اتخاذه قرارات سياسية أزالت هذه العقبة مما سمح لكل الأطراف داخل حركتنا من أن تجتمع لتحقيق هذه المصالحة التي تمت بمناسبة الذكرى الرابعة والعشرين لتأسيس الحركة.يعني أن هناك رغبة ملحة وحاسمة لدى المناضلين دون استثناء لتحقيق هذه المصالحة والترحيب بهذه العودة والإعلان عن ذلك في مناسبة تاريخية بالنسبة لحركتنا.

أعتقد أن أي مناضل سياسي لا يمكن أن يكون في قطيعة مع مختلف الأطراف التي يتعامل معها سواء مع السلطة أو بالنسبة للأطراف المعارضة أو داخل الحركة التي ينتمي إليها فهذا جزء من جوهر العمل السياسي وهو ما يطلق عليه في ثقافتنا العربية الإسلامية

هذا لم يحصل أبدا إذ لم يسمح أي طرف لنفسه بأن يطالبني بذلك لأني مناضل وطني معروف وما قدمته أنا وعائلتي ومناضلو ومناضلات في الحركة من تضحيات يعرفها الجميع لا تسمح لي أبدا بتقديم التنازلات بل حتى بمجرد التفكير فيها.

وكل ما قمت به في هذا المجال..أو ما يمكن أن أقوم به في المستقبل هو نابع أساسا من تحاليلي ومواقعي السياسية ومن شعوري بمسؤولياتي إزاء الحركة التي أعتز بالانتماء إليها وإزاء تونس.

بالضبط… والأمر لا يتعلق بي وإنما بجميع المناضلين الذين يتمسكون بحركتنا وورقتها الخضراء التي ترمز لتونس الخضراء.

وهنا أريد أن أعبر عن تقديري وشكري لجميع أبناء حركتنا الذين صمدوا طوال المدة الماضية وأخص بالذكر منهم أحمد الخصخوصي وحسين الماجري الذي مازال يتحمل المعانات و الأخ الجيلاني عُمار و الأخت سعاد الغربي التي تحملت الكثير.. وجميع الاخوة والأخوات في الجهات.

هو أولا لأنه لا يمكن لحركتنا أن تقوم بدورها الوطني وتساهم في تطوير الحياة السياسية إلا إذا كانت جاهزة تنظيميا وفكريا وسياسيا لذلك فإن بلادنا الآن في حاجة أكثر من أي وقت مضى إلى معارضة جدية ذات مصداقية.. في حاجة إلى أحزاب سياسية فاعلة ميدانيا ولها حضور حقيقي على الساحة. وقد أصبح الجميع الآن سلطة ومعارضة يشكو من الوضع الذي تعاني منه التنظيمات السياسية في بلادنا طبقا لأسباب عديدة وعوامل مختلفة, منها ما يتعلق بها ومنها ما يتعلق بعوامل خارجة عنها. هذه حقيقة ولذلك للخروج من هذا الوضع و المساهمة في تطويره – لأننا لسنا عناصر تكتفي بالفرجة – اتفق كل المناضلين في الحركة أن نبدأ بأنفسنا فنقوم بتصحيح وضعنا وتطويره أولا وأساسا حتى نستطيع المساهمة في تطوير الوضع السياسي العام.

وأعتقد مخلصا أن عملية التطوير لا تكون بالبيانات رغم أهميتها مهما كانت هذه البيانات رنانة ونارية.إن التطوير لا يكون إلا ميدانيا وأنا من الذين تعلموا في مدرسة الاتصال المباشر وهذا يحتاج إلى أطر منظمة فاعلة وديناميكية ونحن نعتقد أن حركتنا منذ تأسيسها من هذا الصنف.

نعم.. قمت بذلك بشكل معمق… ومسؤول وقد مكنتني الظروف التي عشتها في السنوات الأخيرة سواء في السجن أو في الإقامة الجبرية – وهي ظروف كانت إيجابية رغم قساوتها وأعتز بها كمناضل وطني – مكنتني من المراجعة والنقد الذاتي وأنا أؤمن بالحديث النبوي

المصالحة التي تم الاعلان عنها بمناسبة الذكرى 24 لتأسيس الحركة في 10 جوان الجاري هي مصالحة شاملة أي تنظيمية وسياسية فكرية. أما الناحية التنظيمية فتشمل توزيع البطاقات وإعادة هيكلة الفروع وفتح حوار لإزالة الحساسيات النفسية والصراعات الهامشية التي ألحقت شتى الأضرار بالجسم التنظيمي للحركة.

أما عن المضمون السياسي والفكري للمصالحة…فاللجنة الوطنية للمصالحة – إضافة إلى تجسيم المصالحة التنظيمية – تقوم بالاعداد للمضمون الفكري السياسي لهذه المصالحة, وذلك بتنظيم حوارات فكرية وسياسية معمقة بين مناضلي ومناضلات الحركة سواء في المستوى المركزي, أو في الجهات وهو عمل ستشرع فيه سريعا لبلورة تصورات الحركة ومواقفها السياسية والوطنية في مختلف المجالات.

ليس هناك لا انتصار… ولا هزيمة… هنالك عملية تأليفية سهلة جدا لأنها ترتكز على عاملين أساسيين.

الأول, يتكون من ثلاثة عناصر هي :

أ‌- ثوابت الحركة الأساسية وهي هوية الشعب التونسي العربية الاسلامية والنضال من أجل تجذير هذه الهوية لأن أي حداثة غير مرتبطة وثيق الارتباط بجذور مجتمعنا الحضارية هي حداثة زائفة منبتة, إنني شخصيا أومن مثل العديد من المثقفين العرب المعاصرين أن الحداثة المثمرة والسليمة هي الحداثة النابعة من الذات الحضارية.

ب‌- الإيمان بالاختيار الديمقراطي التعددي السليم الذي يحترم الحريات العامة وحقوق الإنسان مع اعتبار ظروف المجتمع وآلياته الموضوعية, إذ لا تنمية حقيقية دون ديمقراطية سليمة, ولا ديمقراطية دون تنظيمات سياسية واجتماعية إنسانية ذات مصداقية.

ج- داخل ثوابت الحركة هناك الاختيار الاشتراكي ونعني به العدل الاقتصادي والاجتماعي وهي قضية قائمة باستمرار مع مراعاة التطورات الفكرية والاقتصادية السياسية التي يشهدها العالم, إضافة إلى اعتباراتنا الوطنية الموضوعية.

العامل الثاني : يتمثل في أن كل متابع للتحاليل والتصريحات الصادرة عن الهياكل القانونية للحركة حاليا وبالذات تصريحات الأخ الأمين العام اسماعيل بولحية والأخوة محمد علي خلف الله وجلال لخضر وغيرهم يدرك أنها لا تختلف كثيرا إلا في مجال الأسلوب عن التصورات التي طرحناها في مناسبات عديدة والتي تتعلق بالوضع السياسي, علاقة الحزب بالدولة, عفو تشريعي عام, حالة المعارضة, الإعلام..الخ. وهو نفس الشيء الذي يلاحظ أيضا حتى بالنسبة لأطراف سياسية أخرى مثل تصريحات عبد الرحمان التليلي… محمد بوشيحة ومحمد حرمل وأغتنم هذه المناسبة لأوكد بالنسبة للمواقف التي عبرت عنها أنٌها مواقف سياسية ضمن تحاليل سياسية وعبرت عنها في تونس أولا قبل أن أعبر عنها في وسائل إعلامية خارج تونس.

وكل موقف سياسي هو مزيج بين عنصرين متداخلين أحدهما ثابت وثانيهما ظرفي.

وما هو مؤكد عندنا جميعا قياديين ومناضلين ومناضلات هو أن تونس اليوم في حاجة إلى أحزاب معارضة وطنية جادة وذات مصداقية, وأن تونس لجميع أبنائها وبناتها دون استثناء أو إقصاء. وهو في نظرنا أمر ليس في صالح المجتمع والحركة الديمقراطية فقط, بل هو في صالح السلطة أيضا. ذلك أن التوازن المجتمعي يحصل بوجود أحزاب معارضة قوية ذات تمثيلية شعبية وسياسية وبوجود مجتمع مدني بتنظيماته الجمعياتية الإنسانية الثقافية متحرك ديناميكي وفاعل. مجتمع يقوم فيه كل طرف بدوره المطلوب ضمن نمط مجتمعي تعددي متناسق وعلى أرضية وطنية صادقة وإيجابية.

إن حركتنا منذ نشأتها كانت تؤمن وما تزال بدعم الحركة الديمقراطية وكل القوى المؤمنة بهذا الاختيار الإنساني والوطني, إنها جزء لا يجزأ من القوى الديمقراطية الوطنية.

ولذلك فإنني أعتقد أن توحيد صفوف حركتنا وترتيب بيتنا الداخلي ليس خدمة للحركة ولدورها الوطني فحسب بل أيضا في خدمة هذه القوى الديمقراطية الوطنية.

ولذلك أرى أن كل مناضل ديمقراطي وطني يساندنا في ترتيب بيتنا الداخلي وفي تفهم الظروف التي تمر بها حركتنا حاليا.

ذلك أن المرحلة المؤلمة التي عاشتها حركتنا خلال السنوات الماضية جعلتها على حالة خطيرة من الوهن وهو ما جعل اللجنة الوطنية للمصالحة تحدد هدفها في إعادة بناء البيت من أساسه على أسس سليمة وهو ما جعلني أقول أنها إعادة تأسيس للوصول إلى حزب وطني ذي قيمة وفاعلية.

وهي في نفس الوقت إعادة تقييم للساحة السياسية والنظر في كيفية تطويرها من أجل بناء حركة ديمقراطية قوية وفاعلة تستجيب لمتطلبات المرحلة الراهنة.

إن الموضوع في نظرنا ليس ظرفيا وليس عارضا, إنه موضوع جوهري يتعلق بتصورنا لمستقبل الحركة الديمقراطية في بلادنا.

نرجو من كل الأخوة والأخوات من مختلف المواقع والتيارات أن يشاركونا هذا الإدراك وأغتنم هذه المناسبة لأشكر كل الأطراف الوطنية التي عبرت عن ابتهاجها بعملية المصالحة ومساندتها لها وحرصها على عودة حركتنا إلى الساحة السياسية للقيام بدورها الوطني المطلوب.

المصدر: حقائق عدد 860 من 20 إلى 26 / 06 2002

بسم الله الرحمن الرحيم

الرجاء نشر هذا التعقيب على رسالة الاخ فتحي الفرخ الذي شنع بنا لمجرد اننا

ليس من المعقول اتهام كل المخالفين بالنوايا السيئة فهذا هو فعلا جوهر تصرف السلطة

هل ان عدم ذكر الاسم جبن؟ إذا فلماذا استعمل الشيخ راشد في ظروف معينة اسماء مستعارة؟ وهل يمكنك اذا كنت مثلنا في البلاد ان تستعمل اسمك دون حرج امني بالاساس؟؟

نحن ابناء الحركة والباقون هنا في ارضنا لم نغير طريقنا ويعلم الله ان ما قلناه

ليس بمثل هذا سنتقدم

أولوا ماشئتم ولكن ثقوا ان ما قلناه بصمت يقوله المساجين بصوت

والله من وراء القصد

والسلام

    Le problème des Arabes en général et des Tunisiens en particulier, ne regarde pas leur président, roi ou sultan ; le vrai problème se loge ailleurs. Il regarde le peuple lui-même.

    Si la France, vit la Liberté, c’est parce qu’elle reflète le choix qu’ont émis les Français eux-mêmes, si l’Angleterre  vit la Liberté , c’est parce que le peuple anglais l’a choisi, si l’Allemagne vit la
Liberté c’est parce que le peuple allemand l’a choisi, si l’Italie vit la Liberté c’est parce que les Italiens l’ont voulu, si les États-Unis, l’Inde, le Canada, l’Australie, l’Espagne, le Portugal, l’Iran, le Japon, la Corée du sud, la Nouvelle-Zélande l’Afrique du sud, Danemark, Belgique, Suisse, suède, Pays-Bas et le reste des pays des peuples libres et dignes vivent la Liberté c’est parce que leurs peuples  respectifs l’ont choisi.je regrette d’avoir alourdi cette accumulation !!

    Il ne faut envier aucune circonstance, ni s’inventer des arguments complètement dérisoires pour justifier la présence de régime démocrate dans ces pays et de régime dictatoriaux dans les nôtres. La Démocratie ? Ça n’est qu’une question de volonté, ces peuples l’ont voulu, ils l’ont eu et on sait à quel prix.

Si la dictature pose problème, il faut en vouloir au peuple lui-même, si les pays développes posent un problème d’exploitation et d’influence c’est parce que nos peuples l’on voulu, il en est de même avec le
problème rencontré avec Israël. Les présidents, l’influence des pays développés et Israël ne changeront pas tant que les peuples n’exigeront pas le changement de ces derniers, donc tout autre argument
est inutile. Dans les termes d’une logique mathématique très simple 1+1=2. Tu changes, ils changent. Tu ne changes pas, ils restent tels quels. 0+1 ne feront jamais 2.

     Monsieur le président Zine el-Abidine Ben Ali, faites tout ce que vous voulez, tant que l’on vous en donne droit. Vous profitez excellemment du terrain que vous a laissé le peuple tunisien, s’il reste d’autres
terrains non exploités je vous demande de le faire puisque le peuple tunisien vous l’accorde.

    Monsieur le président, vous ne trouverez pas vraiment drôle que l’on vous demande des choses gratuites. On vous en veut pour la liberté et pour la démocratie et on ne fait rien pour les obtenir (99,52 % de  » oui  » pour la dictature, de  » oui  » pour la présidence à vie.), on vous en veut pour la dictature, la torture et l’oppression, et l’on a rien fait pour vous arrêter (99,52 % de  » oui  » pour l’impunité de vos crimes.), en tout cas, moi je trouve vraiment ça drôle, on vous demande de nous servir tout ça gratuitement sur un plateau garni, on excluant bien sûr le peu de combattants pour Liberté.

فلا عاش في تونس من خانها  ولا عاش من ليس من جندها
نموت ونحيا على عهدهــا  حياة الكرام أو موت العظـام
Pour la Liberté de demain, unissons-nous aujourd’hui!

Citoyen

بسم الله الرحمن الرحيم

بقلم الشيخ راشد الغنوشي

تهدف هذه الورقة الى إثبات وجود علاقة تلازم بين الحرية والحضارة باعتبار الاولى شرطا للثانية بموازاة التلازم بين الاستبداد والتخلف وأن التدين الصحيح والاسلام صورته المثلى أقرب طريق الى التحرر والتحضر معا. فما الحرية؟ وما الحضارة؟ وما طبيعة العلاقة بينهما؟ وما موقع الاسلام من عملية التحرر والتحضر إيجابا والاستبداد والتخلف نفيا وعدما؟

مفاهيم الحرية:

1- يعتبر مفهوم الحرية من أكثر المفاهيم الفكرية والفلسفية ثراء وغموضا معا ربما بسبب تعلق المسألة بماهية الانسان وما هي عليه من تعقيد  وبسبب المساحة الواسعة التي تحرك فيها هذا المفهوم عبر التاريخ حتى احتارت العقول في حدّه بسبب أن كل محاولة من ذلك القبيل تحمل في ذاتها تناقضا مع طبيعته، بما يجعل كل حد للحرية ضربا من نفيها، لا سيما وقد ظل المفهوم قرونا طويلة يتحرك في مجالات تستعصي على الرؤيا الواضحة أعني مجال الميتافيزيقا بحثا عن الماهيات، ماهية الوجود والانسان؟ ومعلوم أن البحث في الماهيات انتهى بالفكر الفلسفي مع كانط وقبله مع ابن خلدون الى التسليم بوقوعه خارج مرمى العقول التي تتضبب الرؤيا أمامها لدرجة التردي في المتناقضات كلما طوّحت خارج نطاق الزمان والمكان. ولذلك طالما انتهى البحث الفلسفي في الحرية الى نفيها أو قريب من ذلك.

2- وفي مجال الفكر الديني- فيما يعرف بعلم الكلام- لم يكن التخبط أقل من ذلك: فقد انتهى أكثر البحث في حرية الانسان من جهة علاقتها بقدرة الله سبحانه-وهذه هي الزاوية الرئيسية التي طرحت من خلالها مشكلة الحرية في التراث الاسلامي الكلامي- انتهى-بتشجيع من أنظمة الجور- الى جبر صريح كما هو حال مدارس الجبر والحلولية والاتحاد وجل ما تأسس عليها من الطرق الصوفية،أو انتهى الى جبر مقنّع،كما هو حال »الكسب »الأشعري، وهو ما شكل سحابة داكنة غشيت لزمن طويل ولا تزال سماء العقائد والثقافة والحياة الاسلامية عامة.وكان كثير من ذلك بتأثير مباشر وغير مباشر من أنظمة القهر، وبعضه بتأثير رد فعل فعل غير موزون على منهج اعتزالي خاطئ أضر بالحرية من حيث ابتغى الانتصار لها، حرية انسانية تنال-من خلال صيغ التعبير عنها في الاقل- بشكل مباشر أو غير مباشر من اعتقاد المسلم في قدرة الهية غير محدودة، بما خشي معه من شبهة الثنائية،وأعطى الفرصة لخصومهم أن يصيبوهم في مقتل، فلم يعمّرنهجهم التحرري  طويلا رغم أن مدارس كثيرة تغذت منه،لا سيما وقد تورط الاعتزال في الانتصار لمذهبه بسلطان الدولة لفرضه عقيدة ملزمة للمسلمين،وهو ما شكل فضيحة تاريخية لهم وعبرة أبدية للمثقفين أن يترفعوا عن كل انتهاز لفرصة قرب من سلطان ليحسموا بأدواته -ومنها سوطه وأمواله وتوظيفاته-  صراعاتهم الفكرية والعقدية مع خصومهم، بما مثل خفة وتعجلا وخيانة للحرية ذاتها،فكان الخطأ القاتل،وكان الانتصار الساحق للجبر في الاعتقاد والتربية(التصوف)والسياسة،بعض ثمار ذلك الشطط والخطأ الاستراتيجي. وهو الانتصار الكارثي على جملة المسار الحضاري للأمة الذي لم تتحرر من آثاره نهائيا حتى يومنا هذا،بما أثمره الجبر وما تطور إليه من عقائد وحدة الوجود والحلول من عطالة في العقول لصالح التقليد والتخريف وسلبية في الاخلاق  واستبداد في السياسة وتصوف في الثقافة والتربية فخيم سكون رهيب غشى سماء الأمم التي ابتليت به ومنها أمة الاسلام لعصور طويلة.

3- وكان يمكن لثورة ابن تيمية في الاعتقاد وفلسفة ابن خلدون في التاريخ أن توقظا الامة من خدر الجبر وآثاره المدمرة لولا أن مركبة الامة كانت قد مضت بعيدا في اتجاه التدهور بدفع من قوى الداخل والاعصارات الخارجية المدوخة،وما أحدثته الاكتشافات البحرية الاروبية وما قادت اليه من حدث اكتشاف أمريكا من طرف أمم الغرب المنافسة لأمتنا من اختلال في التوازن معها لصالحها مالبثت أن استخدمته في تطويق العالم الاسلامي وخنقه وتكديس الثروات والافادة من إرث المسلمين الحضاري في إحداث اصلاحات دينية أعادت الاعتبار للنشاط الدنيوي ومن نهضة فكرية أعادت الاعتبار للانسان مركزا للكون ومن تطور نوعي لجملة النظام المعرفي ثم الأنظمة السياسية والاجتماعية بما يخدم التفوق الغربي وهيمنته على بقية الحضارات، وهو ما أحال ملف الحرية،  في أبعاده الدنيوية -في الأقل والى حين- الى أمم الغرب.

4- لقد انتهت رحلة مبحث الحرية لدى رواد النهضة في الغرب- في مجراهم الرئيس-  الى التحرك في مجالات أرحب تتيسر فيها الرؤيا، وقابلة للضبط، ويهيمن عليها  العقل العملي دورانا حول مشكلات انسانية عملية بعيدا عن المفاهيم الفلسفية المجنحة ومنصبة بالكلية على حريات وحقوق الانسان في واقعه الراهن فردا وجماعة كحقه في الحياة والاعتقاد والتكسب والتملك والتعبير وفي المشاركة في إدارة الشأن العام..الخ،فلم يعد الحديث عن الحرية بإطلاق وإنما  عن »حريات » بمعنى حقوق للانسان وحقوق للمواطن عامة وأخرى تخص أصنافا من المواطنين كالنساء والعمال والأطفال والمعوقين..الخ.لقد غدت الديمقراطية ينظر اليها على أنها الإطار المناسب لممارسة الحرية بدل الجدل حول نظرياتها الفلسفية الذي تاهت فيه العقول واختلفت بحسب زاوية نظرها ومنزعها الفكري أو الديني.

5- أما المتكلمة فقد جعلوا  حديثهم في هذا المفهوم جدلا حول الجبر والاختيار في علاقتهما بالقدرة الالهية بينما الفقهاء فقد عافوا الخوض في هذا الجدل بل قد حذروا منه،ولم يقف بحثهم في الحرية عند موضوع »الرقيق »كما وهم البعض منخدعا بالصياغات قاصرا بحثه في مظان محددة كعلم الكلام بدل تتبع المفاهيم والغوص في مضامينها في مظان عديدة متنوعة،حتى وإن اختلف الاصطلاح باختلاف العصور.ولو فعلوا ذلك لألفوا أن مسار الحديث حول الحرية جال في ساحات كثيرة ليس علم الكلام أوسعها بل إن أوسعها علوم الفقه وعلم تزكية النفوس.فكما انتقل الحديث في التجربة الغربية عن الحرية من ساحة الميتافيزيقا حيث لم تفض غالبا لغير نفيها الى ساحة الحقوق في اتساعها اي الى القانون وفلسفته فقد حدث ما يشبهه من بعض الوجوه في التجربة الاسلامية،فرغم أن مباحث الكلام ومجادلاته في هذه الساحة قد استقطبت الأضواءوانتهت هي الأخرى بفشل ذريع بفعل ما تورط فيه أهل الاعتزال وهم أرباب الكلام من  إغراء ثيوقراطي، شرع لقيام محاكم تفتيش.لقدأفسح فشلهم الذريع المجال لفشل التناول النظري لمبحث الحرية اللاهم إلا في التشريع لنظام ثيقراطي يجعل من الدولة كنيسة تفرض تفسيرها للنصوص على الناس بالحديد والنار،فعاد مبحث الحرية ليتحرك كما كانت سيرته بعد قيام الملك العضوض ليتحرك في سوح  محددة مأمونة بعيدا عن المناطق السخنة،هي سوح الفقه المتعلقة بحقوق الناس فيما بينهم وبيم ربهم(العبادات)وفيما بينهم(المعاملات) ولكن بعيدا عن المنطقة السخنة :الحقوق التي بينهم وبين حكامهم وهي الساحة الرئيسية التي ضاق فيها الحديث وغلبت عليه المجاملات وضروب التملق للحكام .وكان ذلك الباب الرئيس الذي دخل منه الانحطاط ولا يزال مخيما على دنيا المسلمين.

6- والحق أن الفقه فقه العبادات والمعاملات عدا الفقه السياسي مثل أخصب حقول الثقافة الاسلامية اعتبارا لأن وضوح العقائد الاسلامية وبساطتها لم يبق لدى المسلمين من حاجات كثيرة للتفلسف الميتافيزيقي-خلافا للتجربة الغربية منذ عصر الاغريق حيث كانت الاسئلة الوجودية مقضة للمضاجع_وذلك ما دفع بالعقل الاسلامي في بحثه عن الحرية يتجه بها الى مجالات الرؤية فيها أوضح مثل موضوع الحقوق.ورغم الثراء الواسع لهذا الحقل في الثقافة الاسلامية إلا أنه بفعل نموه في مناخات الانظمة المستبدة فقد كانت مباحث الحقوق السياسية للأمة في علاقتها بالدولة من أفقر البحوث في مجال الحقوق،بينما أهل التزكية بزعامة فطاحل كبار مثل الحسن البصري والغزالي والمحاسبي والجيلاني ضاقوا ذرعا بجدليات الكلام وبجفاء الفقاء وشكلانيتهم واتجهوا بمبحث الحرية الى آفاق ومقامات علوية رحبة تمركزا تنطلق من احوال النفوس لتزكيتها والارتقاء بها الى آفاق التحرر الحقيقي بفك أسرها من سجن الشهوات وحبائل شياطين الانس والجان وضغوط الواقع وإكراهاته وضغوط الجسد وحتمياته،لا بقصد كبتها وقهرها فليس في الاسلام كبت ولا جفوة مع نداءات الجسد ومطالب الدنيا بل بقصد التهذيب والترويض والاشباع الراقي اللائق بالانسان بما يسلس قياد النفوس ويضبط نزواتها  وفق المنهج الالهي كما جاء به الرسل بما يكفل التقاء خط التحرر بخط العبودية لله: فأنت تزداد تحررا من سجن الذات وضغوط المحيط بقدر ما تزداد عبودية لله عز وجل. قال تعالى »لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة »<سورة البينة> وحدد الوحي مهمة النبي عليه السلام في أنه « يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم » الاعراف.   وهكذا لا تكون الحرية في هذا المنظور الاسلامي معطى ناجزا بل مشروعا للتحقق عبر الكدح المتواصل ضد عوامل القسر داخل كياننا وخارجه، فالانسان ليس حرا وإنما يتحرر أو يرتكس الى مزيد من الرق.

7- ومما تجدر ملاحظته أن هذه المباحث للحرية ظلت ممزعة لا ينتظمها منظور فلسفي واحد وذلك بعد إن ساد الجبر ثقافة عامة للمسلمين وأساسا ظامهم السياسي الذي يحكمهم وحتى النظام التربوي الصوفي الذي يؤطرهم،حتى تعذرعلى جهود الاصلاح ومشروعه الشامل كالذي جاء بها ابن تيمية وابن خلدون كما أسلفنا أن يوقف سير المركبة في اتجاه التدهور وإن أمكن لقوة المجتمع الاسلامي الأهلي أن تبطئ السير بفعل ما كانت عليه هذه المجتمعات من انتظام ذاتي وتحرر نسبي من التذيل للملك العضوض -خلافا لما آل اليه الأمر في مجتمعات « الحداثة »المفروضة في العالم الاسلامي والتي ابتلعت المجتمع فصادرت أوقافه ومؤسساته التعليمية والخدمية الأهلية لتسلبه حتى ما ورثه عن أسلافه من بقايا حرية متمثلة في جملة مؤسسات المجتمع الأهلي مستقلة عن »الدولة »يديرها المجتمع باستقلال تحت اشراف من يرتضي من العلماء كالاوقاف والمدارس والتكايا.لقد احتاجت الامة لقرنين من الاصلاح حتى يرفع بعض الركام عن الارث التيمي الخلدوني في الاصلاح واستعادة الاتصال بمنابع الوحي ووقود الثورة والتحررمن أجل جمع ما تفرق من أبعاد الحرية عبر نهج الاستخلاف.

8-  غير أنه بفعل ما ذكرنا من تطورات عسكرية واكتشافات بحرية وتثاقف غربي اسلامي عرفت أمم الغرب تحولات هائلة أثرت في مختلف جوانب حياتها  وتصواراتها،فتمركزت الاهتمامات  حول مشكلات الانسان الحياتية فانتقل مبحث الحرية- كما ذكرنا- من مجال الميتافيزيقا وعلم الكلام ومن مواطن متفرقة في علوم الفقه والتربية، الى العلوم السياسية والاقتصادية، وذلك في سياق الفلسفات العلمانية التي غدت تمثل غالبا الاطار الثقافي والايدولوجي للحضارة المعاصرة الأمر الذي نقل الدين وأهله من موقع القيادة الى موقع الدفاع والهامشية وقفص الاتهام، وقد حملوا مسؤولية الانحطاط والجمود والعطالة الحضارية وكأن الثمن الذي يجب عليهم دفعه لقبول التحاقهم  بركب الحرية والحضارة هو التنازل عن دينهم بشكل صريح أو متستر عبر تطويع نصوص الدين وإخضاعها لتأويل يتصالح مع خصومه ويقبل بمكان ثانوي وهامشي. ويبدو أن معظم الديانات طوعا أو كرها انتهت الى الخضوع لمنطق العلمنة ونسبية الحقيقة فطوعت نصوصها لسلطان رأسمال والمصالح العليا للدول، فاضطرت تحت ضغوط الثورات العلمانية والسياسية التحررية الى التنازل عن موقع القيادة والتوجيه في مركبة الحرية والحضارة ،الأمر الذي أطلق » الحرية »ولك أن تقول عنان غرائز اللذة والاشباع وشهوات التسلط الطبقي والقومي من رقابة أي سلطان ديني أو أخلاقي وهو جعل مركبة التقدم العلمي والتقني العملاقة تنطلق مندفعة « متحررة « من كل حكمة وخلق.لقد غدا في العالم ككل وفي داخل كل دولة يتجاور الغنى الفاجر مع الفقر المدقع ويصرف على تطوير وسا ئل الدمار ما يكفي لتدمير العالم ملايين المرات بينما يحصد الايدز والمجاعات والحروب ملايين من البشر وتتفك الروابط الانسانية وتعربد الغرائز ويشرع للشذوذ كما يشرع لسائر مظالم تسلط حفنة قليلة من الأثرياء الأقوياء الخبثاء  على مصائر البشر وحقوقهم وحرياتهم باسم الحرية ذاتها وحقوق الانسان ومقاومة »الارهاب »وهو ما كان يفعل في القرون الماضية باسم نقل الحضارة الى المتخلفين.

9- إن كل ذلك  مثل تحديا وجوديا لأهل الدين ولا سيما المسلمين فنفروا لمواجهته يميطون اللثام عن نصوص الوحي والتراث وما تتوفر عليه من أبعاد تحررية فكرية واجتماعية وسياسية واقتصادية قمينة بإرساء أسس صلبة لتحضر راق متوازن يزكي ويستوعب كل ما حققته البشرية من مستويات سامقة من التحضر ويعالج مشكلاته المستعصية في نطاق مفهوم شامل للحرية ولك أن تقول لعبادة الله عز وجل  يستجيب لكل أبعاد الانسان وحاجاته الفكرية والنفسية والعقدية والحياتية عامة، ويرحب بكل انجاز حضاري يرسي نظاما اجتماعيا دوليا يكفل الحريات والحقوق للجميع ويرتقي بالانسان في كل جانب من جوانب حياته بقطع النظر عن معتقد صاحبه وذلك بعيدا عن كل تأويل جبري أو متنطع للإعتقاد في قدر الله كما سنرى ذلك إن شاء الله،إذ نتحدث عن أبعاد الحرية الفكرية والسياسية في الاسلام ودورها في التحضر الاسلامي المنجز والمأمول.

مفاهيم الحضارة:

 1- الحضارة هي الأخرى شأن معظم مصطلحات العلوم الاجتماعية متعددة الدلالات وقد تتماهى أو تتباين مع مفاهيم مشابهة كالمدنية والثقافة والرقي. وعموما فإن الحضارة مشتقة من الاستقرار في الحضر بما ييسر قيام حالة اجتماعية مستقرة تتيح اكتشاف وتطوير أقدار من المعارف والخبرات وانتاج  أقدار من المنجزات الصناعية والفنية والعلمية والترتيبات الادارية والسياسية المستشرفة للعدل. إنها كما ورد في المعجم الفلسفي: »جملة مظاهر الرقي العلمي والفني والادبي التي تنتقل من جيل الى جيل »، وهي عند اشيفستر »التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماهير على السواء »1 وذلك مقابل حالة سكنى البادية وما يلازمها من بساطة في العيش  وترحل. إن الحضارة حسب ابن خلدون: « نمط من الحياة المستقرة ينشئ القرى والامصار ويضفي على حياة أصحابه فنونا منتظمة من العيش والعمل والاجتماع والعلم والصناعة وإدارة شؤون الحياة والحكم وترتيب وسائل الراحة وأسباب الرفاهية » 2  وقد عرفها » بول ديورانت » بأنها نظام اجتماعي يعين الانسان على الزيادة في انتاجه الثقافي. وإنما تتألف الحضارة من عناصر أربعة:الموارد الاقتصادية والنظم السياسية والتقاليد الخلقية وجملة العلوم والفنون »3. فليست الحضارة  مجرد انتاج وسائل الرفاه  ما لم يؤد ذلك الى ارتقاء بقيمة الانسان وكرامته واستقراره واطمئنانه وسعادته. وقد تكون حاجات جماعة بشرية غاية في البساطة ولكنها أشد تماسكا واطمئنانا وسلاما ضميريا واجتماعيا بينما على الضد منها تكون حالة جماعة أرقى وسائل ومنجزات.

2- غير أنه مهما اختلفت حضارة عن أخرى في مقدار ما وفرته لأهلها من رفاه وما أنجزته في مجال العلوم الفلسفات والمعارف النظرية والعملية وما طورته من نظم سياسية واقتصادية وما حققته في مجال الصناعات والفنون التطبيقية والآداب وسائر الفنون والثقافات يبقى الجامع بينها على تعدد خلفياتها الدينية أو اللادينية –إذا سلمنا بإمكان قيام حضارة على غير أساس ديني وهو ما يرفضه مؤرخون كبار للحضارة مثل توينبي وابن خلدون ومالك ابن نبي- يبقى الجامع بينها على اختلافها أنها فضاءات  تتوفر- على تفاوت – على قدر كبير من التحرر و العدالة وسلطة القانون والتسامح والانفتاح العقدي والفكري والسياسي والاقتصادي، بما يجعلها مجالا رحبا لتفتح  الملكات وتفتيق الطاقات وازدهار  الآداب والفنون والصناعات واتساع  الاسواق فتتبارك التجارات ويربو الانتاج وتسمو الأذواق وترتقي العمارة وتكثر الأموال وتروج المناظرات الادبية والدينية والفلسفية وتعلو منزلة العقل والعلم والعلماء. وعلى قدر فشو سلطان العدل والقانون والتحرر والسماحة في ذلك الفضاء الحضاري بقدر ما يشتد جذبه للنابغين وذوي الكفاءة والطموح في سائر مجالات العلوم والمعارف والفنون والتجارة والمال ابتغاء ترقية ملكاتهم وتحقيق طموحاتهم الى الثروة أوالجاه أوالعرفان. وقد يبلغ الانفتاح والتحرر مبلغا كبيرا تستطير أخباره في الآفاق فترنو اليه أبصار المقهورين من أقوامهم المطحونين بالاستبداد فيتوسلون بكل الحيل ويقدمون على أي مخاطرة من أجل النجاة بأنفسهم من فضاء التخلف  –حتى وإن يكن أهله على ملتهم- التحاقا بفضاء أهل التحضر فضاء التحرر حتى وإن خالفوهم في الملة وذلك فرارا بعقائدهم وطلبا للتمتع بمناخات السماحة والانفتاح والعدالة والتحرر وهي لاتنفصل أبدا البئات عن المتحضرة . 

3- وعلى الضد من ذلك فإنه بقدر ما ينتقص في ذلك الفضاء من عدل وتحرر وسماحة وانفتاح بقدر ما ترى الدنيا يكفهر في ذلك الفضاء المجتمعي وجهها وتتقلص الحركة في أسواقه وتنكمش الفنون والآداب والعلوم والمعارف والصناعات فتذبل الملكات وترى العصافير التي كانت تعمر الأشجار بشجي الغناء تأخذ في الرحيل خشية الصياد المتربص باحثة عن فضاءات اخرى، أخذت أصداء عدالتها وتحررها وسماحة أهلها وأنظمتها تتردد في الاسماع. وهكذا ترى فضاء الحضارة موسوما بالسماحة والتعددية في المجال الديني على الاقل وبالمناقشات الفكرية وبالتحررية الاقتصادية وبرقي الصناعات والاذواق والفنون وفشو ضروب من الرفاه وتمتّع جميع أهل ذاك الفضاء أو أغلبهم بأقدار من العدل في القضاء والحكم. وبقدر ما ينتقص من تلك الميزات في ذلك الفضاء بقدر ما ينتقص من حضارته ليأخذ طريقه الى التخلف والتصحر والتبدي وانفراط العقد والاستبداد والتحجر والضيق، حتى إذا استكملت تلك الجراثيم المهلكة حظها وبلغت مبلغها من التمكن تكون قد آذنت شمس الحضارة في ذاك الفضاء  بالمغيب ليستقبل نعيق البوم في ليالي التخلف المديدة.وينادي مؤذن الكون بالرحيل،حسب تعبير ابن خلدون.

4- غير أنه إذا كانت بذرة الحضارة لاتنمو ولا تزدهر وتورق وتؤتي ثمارها علوما ومعارف وصناعات ونظما اجتماعية مساعدة من طريق حسن تفعيل الطاقات البشرية في اكتشاف ذخائر الطبيعة ومواجهة تحدياتها وتسخيرها بشكل متنام في تلبية حاجات القوم والمساعدة في ضمان أمنهم واستقرارهم ورفاههم وسعادتهم وصون وترقية مواردهم المادية والبشرية بل واستقطاب وجذب خيرة الموارد البشرية والمادية من بيئات أخرى متخلفة وتوظيفها وتسخيرها لزيادة مقومات التحضر، إذا كان الأمر كذلك وكانت بذرة التحضر لا تنمو وتزدهر إلا في بيئة أهم شروطها الحرية فكيف السبيل الى تحقق مثل هذه البيئة الحضارية  بهذا الوصف وما يلازمه من بقية الشروط والاوصاف التي تميز بيئات التحضر؟

انطلق  كثير من الدارسين لتاريخ الحضارات ومنهم أستاذنا مالك بنبي رحمه اللها من حقيقة أنه في جذر كل حضارة نلفى فكرة خصبة، مثّلت المنطلق الأساسي للمسيرة التي نقلت معتنقيها وبيئتهم الحضارية من طور ما قبل الحضارة « الفطرة » الى طور الحضارة، حتى إذا فقدت الفكرة شحنتها وقدرتها على تعبئة القوم لهدف معين تحدده تلك الفكرة أو العقيدة ،وتملك به حياتهم وتملأ كيانهم ويكون لها السلطان الأعظم في توجيه قدراتهم ومشاعرهم وتضبط اندفاعاتهم الغريزية ونزواتهم الفردية من أجل توفير أقدار كبيرة من الطاقة ينتج تراكمها الحضارة،حتى إذا فقدت تلك الفكرة وظيفتها تلك في تحقيق أقدار من تحرير الافراد من نزواتهم وشد بعضهم الى بعض وكأنهم جسم واحد يجري به دم واحد، عندها تكون الحضارة قد أخذت طريقها الى الأفول تاركة مكانها لعدوها « التخلف »بمعنى العجز عن توظيف الموارد المادية والبشرية وسيطرة الخمول والاستبداد والجمود والتحجر والتقليد للماضين أو للمعاصرين تقليدا قشريا متخلفا. إن شروط هذه الفكرة المحركة لقافلة الحضارة قدرتها التحريرية الهائلة لعقل الانسان من الأوهام والمخاوف في نظرته لنفسه وللكون من حوله كتحريره من سلطان وهيمنة الغرائز والفردية ومن كل ضروب القهر والاستبداد وتزويده بأهداف وقيم عليا تعطي معنى لحياته وتعبئه من أجل تحقيقة وتحكم روابطه الى أهل بيئته، وتحرره من قابلية الاستبداد بكل صنوفه ولا سيما الاستبداد الفكري والعقدي والاقتصادي والسياسي.بما يجعله يستعلي عن أن يستعبد غيره أو يستعبد من أحد

5- وإذا كانت الفكرة المركزية في حضارة الغرب استقلال الانسان ومركزيته في الكون فما هي هذه الفكرة التحريرية المركزية الجذرية في حضارة الاسلام؟

إنها فكرة الاستخلاف استخلاف الله سبحانه للإنسان المخلوق الذي كرمه وسخر لخدمته هذا الكون كله واستعمره في هذه الارض بعد أن زوده بالارادة الحرة والعقل الهادي والأدوات الضرورية لممارسة سلطنته في الكون في ضوء إرشادات خالقه الذي طلب اليه معرفته ومحبته وطاعته وشكره والسعي بالاصلاح في الكون من طريق استخدام ملكاته في اكتشاف وتسخير كل طاقات هذا الكون الرحيب والاهتداء بهدي ربه في تنظيم حياته الفردية والجماعية على أساس العدل والشورى والسماحة والتعاون على بسط كل ما هو خير معروف ومقاومة كل ما منكر ولا سيما الظلم والاستبداد. وهو بقدر إحسانه في تحقيق الخطة الالهية ومقاصدها في عمارة الارض بالعدل والحق والاحسان والتعاون والتكافل والرقي بقدر ما ينال السعادتين في العاجل والآجل، وهو حر في أن يتبع أو يرفض الخطة الالهية لحياته الفردية والجماعية. فإن تلك الارادة الحرة هي مناط تميزه وتكريمه على سائر المخلوقات، إلا أن الحرية قرينة المسؤولية فهو يحمل تبعة أعماله خيرا أو شرا.

6- والحقيقة أن المنهج الالهي لحياة الانسان وما يتأسس عليه من معتقدات وما يتوفر  عليه من شعائر وشعائر وأخلاقيات ومقاصد يمكن وصفه بأنه منهج تحريري شامل بينما المناهج التحريرية الحضارية الأخرى التي تأسست عليها حضارات أخرى كانت تحرريتها جزئية وليست شاملة فبعضها عمل على تحرير الانسان من أسر المادة فأسرف في الجانب المقابل أي الاغراق في الروحانيات، حتى ما استطاع أهلها النهوض إلا من طريق التمرد عليها لتمعن في الاتجاه المعاكس فاستعبدت للمادة وخلدت الى الارض حتى نسي أهلها طبيعتهم الأصلية كمخلوقات مكرمة مكلفة بمهمة بسط عدل الله في الارض وإعداد النفس من خلال ذلك للخلود في جنات النعيم. بينما مناهج حضارية أخرى مجدت الفردية حتى تحوّل الناس الى جزر معزولة هيمنت عليها الانانيات والمصالح الفردية، في حين مجّد البعض الآخر الجماعة حتى أجهز أو كاد على المحفزات الفردية واستبد بحاجاتهم ..الخ مقابل المناهج الجزئية التحررية في المشاريع الحضارية غير الاسلامية فإن المشروع الاسلامي الحضاري توفر على تحررية شاملة متوازنة:تحريرا للعقل من الاوهام والجهالات في تقدير ذاته وتصوره للوجود من حوله، وتصحيحا لطرائق وصوله للحقيقة وتمجيدا للعلم وأدواته من سمع وبصر وتفكر واقتباس من الوحي، وتحررية نفسية من المخاوف اتكالا على الله في مواجهة ما يلاقيه من تحديات وموازين قوة مختلة لصالح غيره تهدده بالانسحاق فيسعفه إيمانه بمعية الله وقدرته المطلقة ورعايته لعباده المطيعين له ودفاعه عنهم باعتباره مالك الملك ومصدر الضر والنفع،يعبده بلا واسطة ويتلقى توجيهاته وأحكامه،ويجتهد في تنزيلها على مختلف مشاهد حياته دون حاجة الى اكليروس ووسائط. كما أن اعتقاده في اليوم الآخر يمثل مصدر تطمين له أن جهوده المخلصة مهما بدا أنها بلا نتيجة في هذه الحياة لأسباب تخرج عن نطاقه فلن تضيع بل سيجني ثمارها أضعافا مضاعفة نعيما خالدا لا يزول. بما يدرأ عنه شبح اليأس والهلع والجبن ويزوده بطاقة غير محدودة على المقاومة والاستمرار في الكدح مهما أظلمت الدنيا واختلت موازين القوة ضده. وهو ما يفسّر ندرة الانتحار عند المؤمنين وتعاطي المخدرات والمسكرات هروبا من الواقع الاليم. كما أن النظرة المتوازنة للدنيا في علاقتها بالآخرة من حيث أنها مزرعتها والنظرة المتوازنة لشخصية الانسان من حيث كونها ذات طبيعة ثنائية روحا وجسدا وفردا ومجتمعا ، من شأنها أن تدفع المؤمن الى موقف إيجابي  من عمارة الدنيا واكتشاف سننها وتسخيرها لتسديد حاجاته وللتنعم بطيباتها ولكن من دون فساد ولا اسراف ولا ظلم فكل عمله وجهده في عمارتها وتسخيرها ضروب من العبادة والتقرب الى الله وإعداد نفسه للقائه وضمان فوزه بالنعيم المقيم ونجائه من العذاب الاليم.إن هذه النظرة الايجابية المتوازنة للحياة على أنها مزرعة الآخرة وأن الانسان مفوض من الله بعمارة الكون والتنعم بطيباته وبسط مشروع العدل الالهي في أرجائه وأنه مسؤول نهاية على أداء حساب ذلك عند ربه وأنه يخوض هذه المعركة المصيرية ضد كل ضروب الاكراه والتسلط داخل نفسه وفي محيطه المادي والمعنوي والسياسي ابتغاء مرضاة الله وابتغاء مثوبته وتحت رعايته المباشرة           

 7- إن هذا التصور وما صاحبه من مناهج تدريبية تربوية فردية وجماعية هو ما يشكل منهج أو فكرة الاستخلاف التي تأسست عليها حضارة الاسلام وكانت وراء الانطلاق السريع المذهل للشعوب التي اعتنقته صوب انتاج حضارة زاهرة متميزة، ظلت موجات التجديد لفكرتها الحضارية الاستخلافية تجتاحها  كلما خبا وهجها في نفس المسلم ومجتمعات الاسلام بما خالطها من ثقافات حلولية سلبية انحرفت بالثقافة الاسلامية عن منهلها الأصيل لتقربها من الثقافات الأغنوصية الحلولية التي تنفي فكرة استخلاف الانسان وثنائية الله/الكون والانسان لتدمج الكل في وحدة كلية ينتفي معها التمايز والتكليف والاختيار والمسؤولية و »الفرق »بين الآمر والمأمور والعابد والمعبود والمعروف والمنكر والحق والباطل وفرعون وموسى،والذكر والانثى »أضحى قلبي قابلا كل صورة:فديرا لرهبان ومعبدا لأوثان ،وكعبة عابد:أدين بدين الحب أنى اتجهت ركائبه »حسب تعبير قطب أقطاب التصوف ابن عربي الذي لا يفتأ يحرص على إشاعة خدره في شرايين الأمة عدد وافر من المستشرقين ومن العلمانيين العرب باعتباره طريقا للانخلاع من سلطان الشريعة وتمسيح الاسلام .وهذا الخلط الرهيب الرافع لكل الحدود والفروق والوعي والمسؤولية هو صورة أخرى من الوجودية العبثية التي غطت لأمد بعيد مساحات واسعة من حياة المسلمين،بما شكل الجذر الرئيس لتدهور حضارة الاسلام بتدهور وانحراف فكرتها المؤسسة فكرة الاستخلاف وما تنطوي عليه من طاقات تحريرية إيجابية هائلة وما تخوله للإنسان الخليفة من مكانة متميزة من حيث هو سيد الكون بتفويض الهي وبرسالة تحريرية شاملة في عالم الانفس والآفاق وفق منهاج الاستخلاف كما جاء به الأنبياء وتركوا ترجمته بعد ختم النبوة لعقول الناس تناسبا مع اختلاف البيئات والأزمان بما يحرر العقل من آفات الجمود والتحجر والتقليد أو تقديس مظاهر الطبيعة أو النظرة العبثية اليها وللحياة ويفرض مقابل ذلك الحركية الدائمة والتجدد المتواصل والحرب التي لا تضع أوزارها ضد كل عوامل القسر والتسلط في عالم الانفس والآفاق بسطا لقيم العدالة والتحرر والاخوة والمساواة والتقدم الدائم والتنعم بالطيبات ضمن التصور الشمولي للكون والحياة والانسان وللدنيا والآخرة.

8-  ولقد فاقم من التأثير المدمر للثقافات الأغنوصية السلبية على الحضارة الاسلامية موجات عاصفة من اجتياح شعوب بربرية متوحشة لمدائن إسلامية زاهرة قد فتّ الترف والاستبداد وانحرافات الثقافة في عضدها. ورغم أنها قد أفلحت الى حين في استعادة أقدار من الوعي ومن التماسك وطاقات المقاومة بما رد عنها غائلة تلك الاجتياحات إلا أن اليقظة كانت محدودة وإصلاح الاعطاب التي أصابت الفكرة المؤسسة ومجتمعها كانت من العمق والتغلغل لدرجة لم تفلح تلك المعالجات اليسيرة في العود بالامة جمعاء الى أصل فكرتها الحضارية المؤسسة ولا تزال الثقافة الفاشية في الجماهير هي أقرب الى فكرة الحلول منها الى فكرة الاستخلاف إلا أن هذه الأخيرة تحقق يوما بعد يوم مزيدا من الانتشار على أنقاض فلسفات الحلول القديمة أو الحديثة التي تسللت عبر الغزو العسكري والثقافي الغربي الحديث حيث جسدت الدولة الحديثة صورة الاله الذي لا يسأل عما يفعل باعتباره صاحب السيادة المطلقة بزعم أن الدولة هي المطلق والروح العامة بما يجعل فعلها أيا كان يحاط بالقداسة كما كان يحاط فعل القطب الصوفي أو مرجع التقليد الفقهي زمن الانحطاط أو حليفهما: الحاكم ظل الله في الارض.وأعجب ما في الأمرأن النخب العلمانية رغمها التواصل مع التحررية الغربية وفكرتها الحضارية لم تسنكف من التنويه بالفكر الحلولي لابن عربي والحلاج لما تجده في تيارهما من مشروعية للتحلل من ربقة الاستخلاف عبر الخضوع لصرامة القانون  الالهي أي الشريعة عبر الالتزام الجاد بنصوص الوحي بدل الاجتهاد في التحلل منها حتى تنمحي المعالم الفارقة بين حدود الحق والباطل والحلال والحرام »ولو اتبع الحق أهواءهم لفسدت السموات والارض »

9- وأغرب ما يلحظه الدارس لمسار حضارة الاسلام مما هو مبعث إعجاب وأسى في الآن ذاته أن هذه المسيرة كانت غالبا مخضبة بالدماء والثورات المتلاحقة:هي مثار أسى من جهة ما جرته من كوارث ودمار وخسائر هائلة في الارواح المستخلفة التي عظم الاسلام شأنها وجعل تعمد إزهاقها جريمة عظمى لم يكد يرد في القرآن تفظيع مماثل لجريمة أخرى غيرها. استمع لهذا القصف الذي حملته هذه الآية « ومن يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله ولعنه وأعد له عذابا عظيما »4 وفي الحديث « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر »5 فكم سيكون نصيب جهنم من المسلمين المتورطين في هذه الجريمة وفي أمثالها كالتعذيب والاعتقال الظالم والمقت ونهب الاموال والاعتداء على الحريات والحقوق؟ أما مبعث الاعتزاز في مشاهدة تلك المسيرة المخضبة بالدماء والتي ظل السيف فيها شغالا لا يفل له حد فهو دلالتها البالغة على المنزلة الرفيعة التي تبوأتها قيمة الحرية في ثقافة المسلمين باعتبارها جوهر وأساس فكرة التأسيس أعني فكرة الاستخلاف. نحن نأسى عندما نعلم أن طاغية كالحجاج بطش بعشرات الآلاف من من القراء والعلماء الذين شاركوا في ثورات مسلحة للإطاحة بحكمه الجبري ولكننا نعتز بثقافة الثورة والتحرر التي كانت تعمّر أفئدة أولئك الآف من العلماء الذين آثروا الموت والحرية وابتغاء عدل الاسلام ومنزلة الشهداء على الحياة الرخيصة الذليلة في ظل الطغيان كما غدا شائعا في دوائر واسعة من علماء ومثقي السلاطين هذا الزمان. ورغم الاختلال الهائل لموازين القوة بين أمتنا وأعدائها منذ قرنين على الأقل فهي وحدها من بين الأمم لم تستسلم لغارات التحديث الاستعماري حامل الفكر الحلولي المادي بل لا يزال صامدا يقاوم وتتفاقم وتتصاعد مقاومته بقدر ما يزداد ميزان القوة اختلالا لصالح الاعداء. نعم هذه المقاومة تكون أحيانا موفقة رشيدة موصلة لهدف التحرير وتكون مرات أخرى غير قليلة للأسف غشيمة فما تكون لها من جدوى في دفع الباطل ولا حتى التقليل منه بقدر ما تهبه من فرص لمزيد من الاثخان في الامة والتقدم على حسابها. ولكنها في كل حال تقاوم ولا تستسلم بأثر خزانات وقود لا تنفد تنبعث من فكرة الاستخلاف. لكن الأعجب من ذلك أن بعضا من حملة مشروع التحرير الاسلامي ضحايا القمع والاستبداد لا تزال في أنفسهم تحفظات قد تصل الى الرفض المطلق والحرب الحمقاء ضد ما توهموه لجهلهم ولملابسات خاصة بمنشإ فكرة الديمقراطية الغرب، وبما يمارس باسمها في الغرب والشرق ولا سيما من طرف زعيمة »العالم الحر »من جرائم إبادة ضد الانسانية أو الاعانة عليها كما يحصل في فلسطين والعراق وافغانستان..الخ.وبدل أن يرحب ضحايا القمع وغياب الديمقراطية  بآلياتها التي طورها الغرب تجسيدا- في أنظمة اجتماعية- لقيم الحرية والشورى التي نآى بهم عنها سفرهم فجفوها وما عرفوها واستوحشوها وما ألفوها وهي بضاعتهم التي ردت اليهم في إطار جديد متلبسة بثقافة غريبة عنهم،فكان يفترض أن يكون أسعد الناس بالضفر بها أداة للإنتقال بشوراهم من كونها مجرد مبدأ وموعظة الى كونها نظاما للإستصدار القرار الجماعي الحر.وبدل أن يرحبوا بها وهم ضحايا غيابها إذا بهم يرشقونها بالحجر ويسوقون المياه الى مجاري الاستبداد عدوهم.لقد أعرضوا عنها كما يعرض العليل عن مصدر شفائه، بل اعتبرها بعضهم الخطر الاعظم على الاسلام. وقديما قالوا « الناس أعداء ما جهلوا. ويفعل الاحمق بنفسه ما لا يفعل العدو بعدوه ».إن للديمقراطية عيوبها ولا شك ولكن تشذيب شجرة الحرية كما ذكر بعض الاخوان أيسر من استنباتها.يبدو أننا معشر العرب كما ذكر عنا المؤرخ المتميز هشام جعيط كثيرا ما نؤثر الحرمان من الشيئ عن أخذه ناقصا ».ولكن المشكل اليوم في واقع المسلمين لا يتمثل في القلة الاسلامية المحدودة -رغم ارتفاع أصواتها بفعل المكر العلماني الاعلامي- فالتيار الاسلامي والقومي واللبرالي متفقون على أولوية مطلب الحرية والديمقراطية،وإنما المشكل:من يقنع الأنظمة المتسلطة بالرضوخ لمطالب الشعب وهي تجد الدعم غير المحدود من طرف »العالم الحر »باعتبار هذه الأنظمة مطواعة لا ترد للخارج لامسا  بل مجرد إشارة،خلافا للتعامل المعقد مع نظام ديمقراطي منتخب.                               

  10- ومع ذلك فإن فكرة الاستخلاف وما تحمله من مشروع تحرري حضاري عظيم تتقدم أسرع من أي فكرة أخرى جزء من تقدم الاسلام في اتجاه تحقق موعودات الله ورسوله في ظهوره على الدين كله. ولكن بشرط التفقه الصحيح في الدين والسنن وتعميق وتوسيع ثقافة الاستخلاف على أنقاض فلسفات الحلول ومنها ثقافة العولمة. » التي تبتغي إدماج العالم كله والحضارات كلها والديانات كلها في كليّ سوقيّ أمريكي سلعيّ يحدد البنتاغون والمؤسسات البنكية والشركات العابرة سعر كل شيئ ومصير كل شيئ،فما يستعصي فيه إلا إرهابي يستباح كل أسلوب وسلاح للانتقام منه ومحو آثاره ولو عبر أشد الاساليب توحشا كقص الألسن ودفن الأحياء.و..

11- والخلاصة أن الحضارة فضاء حر يتيح لأهله ولغيرهم فرصا واسعة لنمو وتفجّر ملكاتهم الذهنية والروحية والجسمية وحسن اكتشاف وتوظيف مواردهم الطبيعية بما يلبي حاجاتهم  وزيادة. وأن ذلك يتطلب توفر فكرة حضارية مؤسسة تقدم التصور الفلسفي للوجود وللانسان وغاياته كما تقدم القيم الكفيلة بضبط الاندفاعات والرغبات في اتجاه الارتقاء بها وصرفها الى مناشط حضارية عليا، كما أنها كفيلة بضبط نظام الجماعة حقوقا وواجبات، وهو ما مصّر الأمصار واجتذب اليها من كل فج عميق خيرة الطاقات على اختلاف مللها رغبة فيما يتيحه ذلك الفضاء من فرص بما يتوفر عليه من عدل وحريات وتقدير للابداع والمبدعي، وهو ما جعل مدائن كأثينا وروما وآشور لا تختلف كثيرا من حيث ازدهار العمران وتمازج الأعراق والثقافات وتلاقحها عن بغداد والبصرة والقاهرة والاسكندرية ودمشق وحلب وسمرقند وغزنه وبخارى وسارييفو والقيروان وقرطبة واشبيلية وباريس ولندن وفرانكفورت وبروكسل ولاهاي واستوكهولم ونيويورك ولوس انجلز وريودو جانيرو هذه الأيام.كما أن التحضرتهذيب للأذواق ورونق في الحياة ونظام وفن وجمال، وذلك مقابل التخلف وهو العجز إزاء النفس والطبيعة والاستسلام للضغوط والاكراه والقهر والضيق بالخلاف والسعي لحسمه بالعنف ورفض سنة التعدد وحقوق الآخر في الحرية والاختلاف، بما يجمّد حركية الحياة فتأسن وتتحجر فيغدو الفضاء الاجتماعي في صورة استمراره ضعيفا طاردا للطاقات يضيق ذرعا بالابداع والمبدعين ينعق فيه البوم وتعشش فيه الفوضى وتنحط فيه الأذواق وتسوده الرداءة والبشاعة وتفشو فيه المظالم ويغيب سلطان القانون ولا يحضر إلا لمعاقبة مسكين أو التنكيل بحر كريم،يرحب سدنته بالمداحين والمنافقين المتزلفين والمجرمين.إن الرصيد الأهم لكل مشروع حضاري ونقطة الانطلاق النفير العام ضد الاستبداد في كل صوره وتأسيس وتعميق وإشاعة فكر وثقافة الحرية وتكريم الانسان وحقوقه وحرياته ونصرة المظلوم مهما كان اعتقاده ولونه وجنسه وبسط العدل دون هوادة،مع الحرص على إدارة جيدة للحرية بوضع آليات تكفل ذلك حتى لا تنقلب على نفسها بالابطال بذريعة خشية الفوضى والفتنة وهو ما حصل في تاريخنا. »إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها ».ويزيد عن ذلك التحضر في الاطار الاسلامي النظر الشمولي للانسان جسدا وروحا وفردا وجماعة وجزء من العائلة الانسانية كلها والنظر الشمولي للزمان دنيا وأخرى،مع إيلاء جهد كبير لتنقية المناخ الاجتماعي من سائر المظالم والتعاون في ذلك مع الجميع في »حلف فضول »وطني والحرص على كل ما يعين البشر على معرفة ربهم وعبادته والدعوة اليه دون حيف على حرية الآخرين في أن يعتقدوا بما شاءوا ويعيشونه ويذبون عنه بالوسائل السلمية،كالحرص على نقاء البئة الطبيعية والثقافية من التلوث في ظل قوانين العدل والمساواة في المواطنة »لهم ما لنا وعليهم ما علينا.أما الجهد الاعظم فصوب تزكية الانسان حتى يكون مقصده الأعظم الفوز بمرضاة ربه وليس شيئا آخركزيادة القوة واللذة والمال،مرضاة ربه عبرمعرفته وعبادته والتقرب اليه بالطاعات ونفع العائلة البشرية بما يحقق عمارة الدنيا والارتقاء بها والمحافظة على ذخائرها والارتقاء بها وإشاعة الخير والعدل والرفاه لكل سكانها سبيلا لعمارة الآخرة والفوز بنعيمها المقيم « ورضوان من الله أكبر »إنه الجهاد الدائم « واعبد ربك حتى يأتيك اليقين »والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.