TUNISNEWS
6 ème année, N° 2133 du 25.03.2006
بي بي سي: « مصالح بريطانيا في تونس لم تتعرض لتهديدات ارهابية »
ابراهيم عبد الصمد: تحية لرفيق عزيز في ذكرى وفاتهالشيخ راشد الغنوشي: نصف قرن من الاستقلال أم من القمع؟ د. خالد شوكات: الصقور التونسية حمائم عربية مرسل الكسيبي: ذكرياتي من الشهادة الى المنفى جابر القفصي: في سوسيولوجيا أسباب انتشار ظاهرة الكلام البذيء الحوار نت: بحث الشيخ الهادي بريك – تفعيل مقاصد الشّريعة في معالجة القضايا المعاصرة للامة الوحدة: لا لهذا الخلط الوحدة: خالد قفصاوي للوحدة: هذا ما حدث في كلية الاداب منوبة الوحدة: 50 عاما من الاستقلال : استقلال البلاد مكسب تاريخي لا مجال للتشكيك فيه
وزيرالخارجية التركي عبد الله غول لحقائق: العلاقات بين تونس وتركيا أقوى ممّا يتمّ تدوينه في الاتفاقيات حقائق: الاستقلال بناء لا يتوقف :آراء وتحاليل للقروي والسحباني والبكوش ومهنــّي حقائق: الجمهورية التونسية: بين الاستعمار والاستقلال حقائق: السيد محمد الناصر في حوار عن الاستقلال وسنوات السبعينات وما بعدها حقائق: الدكتور والمؤرخ عبد الكريم العلاقي في حوار عن دور النقابة والحزب الشيوعي في الحركة الوطنية د. محمد المختار ديه الشنقيطي: ورجعت حليمة لعادتها القديمة!
Pour afficher les caractères arabes suivre la démarche suivante : Affichage / Codage / Arabe ( Windows ) To read arabic text click on the View then Encoding then Arabic (Windows).
|
« مصالح بريطانيا في تونس لم تتعرض لتهديدات ارهابية »
تحية لرفيق عزيز في ذكرى وفاته
نصف قرن من الاستقلال أم من القمع؟
بقلم: الشيخ راشد الغنوشي
20مارس 1956تاريخ مهم لكل التونسيين لما يمثّله من رمزية على الاقل، حملت أجيالا من التونسيين على بذل النفس والنفيس من أجل طرد الاحتلال وتحقيق الاستقلال، نسأل الله أن يتولاهم برحمته، ذلك حتى وإن تباين التونسيون اليوم أشد التباين في قراءة ذلك الحدث: هل كان فعلا تدشينا لحلم الاستقلال بما هو استعادة السيادة للشعب والكرامة للمواطن والاعتبار لهوية البلاد العربية الاسلامية؟ هل كان فعلا حرية وعدالة وامتلاكا للارادة إزاء دولة الاحتلال ومعسكره وثقافته، وتصحيحا للوضع الدولي لتونس جزء من سياقها الحضاري والجغرافي العربي الاسلامي الذي أريد لها أن تقطع عنه لتشد الى سياق حضاري آخر؟ هل كان حقا انتصارا للمواطن، لكرامته وحقوقه، ولسلطة الشعب وإرادته؟ أم هو في المحصلة قد انتهى الى مجرد استبدال احتلال وقمع واستغلال وتغريب خارجي باحتلال وقمع واستغلال وتغريب محلي، هو بالمقاييس الموضوعية – نقولها بأسى- أسوأ وأشد وطأة كما شهد بذلك أوثق المؤرخين مثل الاستاذ عبد الجليل التميمي. « عندما تولى-اي بورقيبة- الحكم كانت هناك جمعيات ثقافية محلية فقضى عليها، وقتل الحراك الثقافي والسياسي ، وكان ذلك قبل الاستقلال أفضل . المجتمع المدني الفكري والوطني غيب في عهد بورقيبة ولم يتح للراي المخالف أي أحقية في البروز » (تونس نيوز عدد خاص بذكرى الاستقلال نقلا عن حوار أجرته صحيفة الصباح مع الكاتب). إن الظلم ظلم، من قريب أتى أو من بعيد. وظلم ذوي القربى أشد مضاضة.
يدافع الفريق الاول وهو محق عن « دولة الاستقلال » بما تحقق على صعيد البنية التحتية من بسط للتعليم وشبكة للطرقات وللري وانفتاح على العلوم الحديثة والتقنيات ومساواة بين الجنسين. وكثيرا ما لا يكتفي بذلك جريا على ما أدمن عليه خطابه وإعلامه من دعاوى عريضة في بناء « الدولة الحديثة » ضمن خطاب مرسل متحرر من محمولات اللغة، وإلا فإن الدولة الحديثة لا تنفك بحال عن دولة الحق والقانون دولة الحرية وفصل السلطات فعلا والتعددية واحترام حقوق الانسان وحرية الصحافة واستقلال القضاء والتداول السلمي للسلطة واستقلال مؤسسات المجتمع المدني. ولم تحقق « دولة الاستقلال » من ذلك إلا أنها أجهزت على ما كان موجودا من ذلك. فعن أي حداثة يتحدثون؟!!.
ولذلك لا يجد الفريق المقابل عسرا في تجريد الاول حتى مما يزعم لدولته من انجاز متميز وتيجان فخار، فليس لتونس تفوق على أمثالها على صعيد التعليم والبنية التحتية عامة. والمقارنة ليست بماليزيا مثلا التي تجاوزت وهدة التخلف وصعد ترتيبها في سياق الدول المتقدمة الى رتبة 19، وإنما بدول مثل الاردن أو لبنان ودول عربية أخرى متفوقة على تونس في ذلك. وعلى كل حال لم يكن الامر ليختلف كثيرا على صعيد هذه « المنجزات » لو تولى قيادة البلاد صالح ابن يوسف أو محيي الدين القليبي مثلا، فأشواق ومشاريع الاصلاح والتحرر قديمة في تونس، فكان السابقون الى وضع أدبيات وأسانيد الاصلاح: إصلاح التعليم والادارة وجملة نظم الحياة، من خريجي جامع الزيتونة، بما في ذلك إصلاح وضعية الاسرة، بمنآى من كل ابتزاز سياسي لشعار تحرير المراة، حتى أن مؤسس أول مدرسة حديثة لتعليم البنات شيخ معمم. ورغم دعاوى تحرير المرأة فلا يزال ثلث نساء تونس أميا ولا تزال التونسية المتحررة فعلا والمناضلة من أجل الحرية تتعرض على غرار أخيها الرجل على يد « دولة تحرير المرأة » الى تدنيس السمعة والشرف والمطاردة والتنكيل لدرجة بطحها وإدمائها في شوارع « تونس الحديثة ». والادهى أنه حتى هذه المنجزات مثل التعليم تعرضت في العهد الجديد مثل سائر الخدمات الاجتماعية مثل الصحة للتدهور والفساد. وغدت مصدرا لتخريج العاطلين.
وحتى بافتراض التسليم بحصول منجزات في بعض المجالات فإن قيمتها تتضاءل إذا قابلناها بجملة من السقطات والإعاقات:
*الاولى اقتصادية استراتيجية : ذات مضاعفات خطيرة على مستقبل البلاد و »استقلالها » وتتمثل في حجم التداين المتفاقم الذي أثقل كاهل البلاد وجعل كل تونسي مثقلا بما يقارب 2000د، مع أن التونسيين يعلمون أن حجما من الديون أقل من هذا بكثير ساق البلاد الى الاحتلال. فضلا عما يحمله ذلك من جناية جيل حاضر على أجيال قادمة، وذلك جزء من سياسة عامة لم يستشر فيها الشعب بل تمت في خضم اشرس مراحل القمع التي مر بها تاريخ تونس الحديث، من أجل تمرير تلك السياسة دون مقاومة، والتي تتمثل في التراجع عن مقومات وعما أنجز من أسس تنمية مستقلة، وهدرها هدرا سافرا لصالح الراسمالية الدولية ووكلائها المحليين والرهان على اقتصاد خدمي ضعيف وهش، أطلق الحرية للنهب واستهلاك ما تبقى من استقلال
والثانية اجتماعية، وتتمثل في أن هذا النمو المادي المتوفر، وبلغ التنويه به حد وصفه بالمعجزة- مع ارتياب الخبراء في مصداق مؤشراته المعلنة- لم يتم توزيع ثمراته ولو بالحد الادنى من العدالة، بما جعل الهوة تزداد اتساعا بين القلة المتنفذة « لوغارشي » التي اجتمعت في يدها سلطة المال وسلطة الحكم، وبين جمهرة الشعب التي جردت منهما، وهو ما أسهم في خلخلة التماسك الاجتماعي الموروث في البلاد بين الفئات والجهات ، ورشحها للانفجار، بفعل تفاقم أخبار النهب، بينما تفشو البطالة وبالخصوص في وسط فئة الخريجين، بما يضع فلسفة التعليم برمّتها موضع تساؤل.
والثالثة سياسية، وتتمثل في نوع الحكم الذي انتصب صبيحة « الاستقلال » حكم الفرد المطلق المتغرب، من طريق تقنين نظام أمني/سياسي شديد الصرامة، ألّه الزعيم الاوحد واختزل كفاح شعب وتاريخه وحاضره ومستقبله في شخصه، وصاغ نظام دولة شديدة التمركز، لاتعدو كونها بكل مؤسساتها تجلّيا لإرادة الزعيم وأهوائه ومؤسسته القمعية وتكريسا لتألهه وفرض نهجه التغريبي الدموي، حتى أنه لم يتردد في شطب نظام التعدد الحزبي والثقافي والاعلامي الذي كان قائما، مع أن البلاد – لولا عصاب التأله- ذات بنية شديدة التماسك والانسجام وغير مهددة بأي منزع انفصالي فما حاجتها الامس أو اليوم لنظام شديد التمركز، لولا أن المقصد الموجه لكل السياسات كان ولا يزال تيسير السيطرة المطلقة على الشعب وإدارته بمنطق الثكنة أو الحزب الفاشي إغراء أواحتواء أوقمعا، بلا هوادة، لكل صوت مخالف يستعصي. وبعد نصف قرن لا يزال الرئيس في هذا النظام السلطوي تزداد كل سنة صلاحياته باستمرار ولا يجد أي صعوبة في تحقيق مستوى من الاجماع 99% يعجز عنه حتى الانبياء والرسل. مكتفيا من أجل الانسجام الشكلي مع « الحداثة » المغشوشة التي تنتسب اليها دولة « الاستقلال » زورا، بمجرد ديكور من الدولة الحديثة: دكاكين « حزبية » أغلبها فارغة ومرادة لذاتها جزء من الديكور وذرا للرماد في العيون، و »انتخابات » احتفالية، و »برلمان » بائس، وقضاء مدجن وصحافة صفراء لم تعرف من فنون الخطاب غير تمجيد الزعيم الملهم وإنجازاته الخارقة وحضوره في كل مكان، وجلد معارضيه. بينما دول في الخليج طالما التونسيون حسبوا أنفسهم – واهمين، وبعضهم لا يزال في وهمه وتخديره سادرا متنعما – متقدمين عليها، عرفت الاعلام الحديث الذي غزانا في عقر دارنا، وبدل أن نستيقظ فنقبل منطق الحداثة: المنافسة، طفقنا نطلق عليه النار في مسعى بائس لحجب أنواره عن دواميس « حداثتنا » المظلمة المسيخ. كما عرفت انتخابات تعددية حقيقية لا تقصي أحدا وبرلمانات حقيقية، بل إن دولا في افريقيا الجائعة وما تحت الصحراء طالما ربينا على زعم التفوق عليها مثل والسنيغال ومالي وتنزانيا والنيجر والمالاوي وغينيا..الخ عرفت التداول السلمي للسلطة عبر الانتخابات التعددية النزيهة، والصحافة الحرة والقضاء المستقل وبرئت من وصمة التعذيب التي يزداد نظام القمع في بلادنا ولوغا فيها، ومع ذلك لا يرفّ له جفن وهو يتبجح بإنجازاته الحداثية ولا يظفر حتى بفضيلة الاعتراف بتزاحم سجونه بمساجين الراي. فماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ماذا بعد حرية الشعب وكرامة المواطن ومبادئ العدالة المترجم عنها في عصرنا بالنظام الديمقراطي بأسسه المعروفة، من ميزان توزن به الانظمة؟ بينما كل الشرائع والانظمة والديانات إنما جاءت لتحقيق ذلك؟
الرابعة ثقافية خلقية: وتتعلق بهوية البلاد الاسلامية العربية التي كان الدفاع عنها المحرك الاساسي للثورة على المحتل واسترخاص الدماء من أجل طرده انتصارا لها، بينما جاءت « دولة الاستقلال » وكأنها حاملة لثأر من مقومات الاسلام والعروبة وتراثهما، لصالح استبدالها بنماذج تغريبية فاشية مستوردة، وتجريد الشعب من دفاعاته بسلخه من هويته العربية والاسلامية وتفكيك المؤسسات التي قامت على خدمتها وإعادة انتاجها مثل المؤسسة الزيتونية والاوقاف، وبلغوا من ذلك ما عجز عنه الاحتلال ذاته، فتمت صياغة نموذج لدولة شديدة التمركز لتستخدم آلة جبارة للضبط والسيطرة والتفكيك عبر طرائق الغش والتضليل ومؤسسات القمع: الحزب والبوليس والادارة والقضاء والصحافة، للاجتثاث النهائي لقيم ومؤسسات المجتمع القديم دون تمييز بين صالح وفاسد. فلم يكن عجبا ضمن العاصفة الهوجاء من التغريب التي حملت رجال الاستقلال الى سدة الحكم أن تكون أولى قرارات الزعيم الاجهاز على واحدة من أهم رموز الحضارة الاسلامية والمنتجين لها على امتداد عالم وتاريخ الاسلام، وأعرق مؤسسات العلم والثقافة في بلادنا، مثلت عبر القرون الحارس لهوية البلاد والمنتج للثقافة والادب والتشريع ومركز إشعاع لتونس في اتجاه افريقيا بل العالم، ودون حياء يحتفون هذه الايام بذكرى أحد خريجي المؤسسة التي وأدوها: ابن خلدون، بينما كانت المؤسسة قد قطعت شوطا بعيدا على طريق الاصلاح والتحديث أي استيعاب العلوم الحديثة في إطار الثقافة العربية الاسلامية ، مما كانت دولة الاحتلال تقاومه لتهميشه والتمهيد للإجهاز عليه لصالح تحديث تغريبي يستهدف مقومات الهوية، ثمنا لا يرى الاحتلال منه بدا للتخلي عن سيطرته المباشرة. وما لم يجرؤ الاحتلال على اقترافه هو ما دشن به « الزعيم » عهده المشؤوم على هوية البلاد وامتدادها العربي الاسلامي، لم ير في الاسلام ومؤسساته وتراثه وفي العروبة ومقوماته وفي الارتباط بعالم العرب والمسلمين، لم ير فيه غير كونه عقبة لا مناص من تجاوزها بالتاويل المتعسف ما أمكن ذلك وحتى بالازاحة والتحدي، كما فعلوا مع الصوم والحجاب… ومن أجل إضفاء الشرعية على نظام التغريب وتاليه الزعيم والدولة تم استخدام قاموس الحداثة بعد إفراغه من محتواه التحرري، ولم يتردد هؤلاء حتى في استخدام الاسلام لتقويضه من الداخل. المهم ترسيخ وتأبيد حكم الفرد والتغريب والتفكيك وفصم البلاد عن سياقها العربي الاسلامي لربطها بما وراء البحار، وذلك بصرف النظر عن لون الغلاف الايدولوجي لمهمة القمع والتقويض لبراليا كان أم اشتراكيا، نظام الحزب الواحد حيث لا إمساك ولا تشطيب. أو تعددية ديكورية، هياكل حداثية وحتى اسلامية مفرغة من كل معنى غير النفاق والغش.
وكان من الطبيعي بعد نصف قرن من التفكيك المبرمج لمقومات الهوية أن تنشأ أجيال على قدر كبير من الضياع ونخبة شديدة التمزق وتفشو في أوساطها الانماط السلوكية المنحلة وتتضخم النزوعات الفردية والانتهازية ويمتد التفكك فيطال الخلية الاولى للمجتمع: الاسرة لدرجة اشتعال الاضواء الحمراء منذرة بخطر التصحر السكاني. وخلاصة ذلك أن النجاح الذي جلب الاستحسان والجوائز والهبات الدولية قد فاق الحد المعقول. وتلك نتيجة من نتائج الغطرسة وتدخل الدولة المفرط في خصوصيات الناس لدرجة ممارسة التعقيم الاجباري. ولولا ما استقر في عمق الضمير الشعبي من بقايا تدين ومضادات للاندثار أفرزت الصحوة الاولى في بداية السبعينيات بأثر زوال التخدير والانتباه للخطر ثم اندلعت الصحوة الثانية بعد تسونامي القمع الذي تعرضت له الاولى بمباركة دولية، لما بقي أثر من خلق ولا من أسرة ولا من غيرة وطنية وقومية ولا من بقية شرف بعد تكبيل الحراس واستهدافهم مقابل إطلاق قوى التفكيك والتحلل والتدمير تعمل بكل كفاءة فطفح جيل لا يكاد يشبه آباءه في شيء، وكادت تتحول البلاد وتلفزتها ناديا ليليا ومركزا لترويج المخدرات لولا رحمة الله وما استقر في أعماق الضمير الجمعي من ثوابت الاسلام وآثار صحوته باعتباره الخيط الناظم الذي يشد خرز سبحة الاجتماع التونسي، فكانت الصحوة الثانية انتفاضة شعبية واسعة تذكّر بكل لسان حقيقة أن للبيت ربا يحميه « إنّا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون » وأن « كيد الشيطان كان ضعيفا« .
المؤكد أن المعركة الثقافية والسياسية لم تكن بالامس ولا اليوم كما يصر البعض بوعي أو بدونه تصويرها على أنها بين حداثة وتقليد، بقدر ما كانت بين حداثة – بمعنى استيعاب العلوم والتقنيات الحديثة والارتفاع بمستوى الكفاءة السياسية والادارية للدولة بتحديد سلطانها بالقانون-، حداثة يراد لها أن تنجز في إطار هوية البلاد العربية الاسلامية وتحفظ ارتباطها ماضيا وحاضرا ومستقبلا بعالم العروبة والاسلام وبين حداثة هجينة شائهة يراد لها أن تنجز في إطار التغريب وسلخ هذه الرقعة من سياقها الحضاري واستلحاقها بما وراء البحار، وهو سلخ لا يمكن انجازه دون ممارسة حجم غير محدود من العنف ومركزة مفرطة للسلطة.
الخامسة: في العلاقة بالامة: اندرج المنظور الاستراتيجي لموقع تونس في خريطة العالم ضمن شدها بكل حزم وصرامة وبكل الوسائل الى الغرب تبعا للشعار الأثير لبورقيبة « اللحاق بركب الامم المتقدمة » بما فرض الاستهداف الثابت لمقومات العروبة والاسلام، بينما ظل الشعب مشرّقا مشدودا الى قبلته الاولى يتألم لكل ما يصيب أمة العرب والمسلمين وبالخصوص فلسطين القضية المركزية. وبذلك مثّلت دولة الاستقلال مركز اختراق غربي في جسم الامة وفي تضامنها ناهيك عن حلمها في الوحدة. من هنا لم يكن عجبا أن تسارع دولة « الاستقلال » الى السبق في التبني والدعاية للمشاريع الاستعمارية الكبرى التي استهدفت الامة مثل مشروع التطبيع مع الكيان الصهيوني عبر الدعوة للاعتراف به والتواصل المبكر مع مؤسساته مثل المؤتمر اليهودي. ولم يستح مسؤولو دولة الاستقلال من التبجح بدورهم في دفع منظمة التحرير الى ورطة أوسلو، كما كانوا من المهرولين في تبني مشروع الشرق أوسطي لولا الضغوط العربية. كما كانوا السباقين الى تبني الخطة الدولية في إلغاء مؤسسات التعليم الاسلامي ومشروع الخلط بين الاسلام والارهاب، وضمن ذلك رفض الاعتراف بحق الاسلاميين في العمل السياسي وتبني خطة تجفيف الينابيع وهي خطة دولية وخطة تحديد النسل للتحكم في النمو السكاني للمسلمين. ولذلك لم يكن عجبا أن تفوت دولة الاستقلال على تونس فرصة المحافظة على دولة الوحدة مع ليبيا وتوسيعها نواة لوحدة مغاربية، فمشروع الوحدة كان سينقذ تونس وليبيا لكنه محظور دوليا. لقد قبلت دولة الاستقلال مهمة جعل تونس حقلا لتجريب المشاريع الغربية (انظر كتاب: تاريخ الادب الوطني في مصر، د. محمد محمد حسين).
ومن ذلك -على الصعيد الاقتصادي- كانت تونس أول دولة في جنوب المتوسط يفتح المجال أمامها للاندماج في السوق الراسمالي الدولي ودون توقف طويل ولا مناقشة متأملة وتشاور شعبي واسع في قرار خطير مثل هذا وفي ظرف ارتفعت فيه درجة القمع الداخلي الى أقصاها وعلى عجل أبرمت دولة « الاستقلال » هذه الاتفاقية الخطيرة مقدمة على القيام بجراحات خطيرة على اقتصادها ذي الحجم الضئيل قاذفة بعشرات الآلاف من عمالها الى البطالة فاتحة أسواقها للتنافس مع العمالقة بينما حجم مبادلاتها مع جوارها العربي لايزيد عن 2%. وأفضى هذا النهج الى تبديد ثروات الشعب وهدرها والتفويت فيها للراسمال الدولي وشركائه المحليين، بينما كانت في المجال بدائل منها الدفع الى الوحدة المغاربية والعربية والتعاون الاسلامي لتحسين شروط التفاوض والمشاركة مع العمالقة.
ولكنها لم تمرّ: وبسبب تصالب النموذج التغريبي المتسلط، مع هوية الشعب ومصالحه لم يكن عجبا أن يصطدم منذ البداية وحتى يوم الناس هذا بسلسلة لم تنقطع من المقاومات حتى من داخل الحزب الحاكم ومن خارجه على اختلاف ألوانها الايدولوجية قومية، اسلامية، يسارية، نقابية، لبرالية، كان يمكن أن تكون قد تداولت السلطة لو جرت نضالاتها في نظام ديمقراطي إلا أنها هنا لم تتداول غير السجون والقمع، بما جعل تاريخ نصف قرن من « الاستقلال » نصف قرن من القمع والمحاكمات الصورية وحملات التضليل. في كل مرة تدور رحى القمع على فريق معارض من أجل تطويعه أو تدميره. ولا يزال في غياهب السجون المئات من سجناء الراي بشهادة كل المنظمات الحقوقية والانسانية حقيقة ساطعة كالشمس يصر جهاز القمع على انكارها، ناهيك عن آلاف المسرحين من السجون هياكل محطمة في ارض الحصار، وعن تكميم الافواه وعسكرة البلاد، حتى تضاعف جهاز القمع عددا وميزانيات مالا يقل عن ستة أضعاف خلال عقد ونصف بحسب نسبة تدهور شرعية الدولة، فاضطرت سلطة القمع الى ممارسة اسلوب الانقلاب الأمني السافر على مؤسسات المجتمع المدني والفعاليات السياسية لمواجهة تمردها المتزايد وحركات احتجاجاتها جزء من حالة الاحتقان المتصاعد والاحتجاج المتزايد بما جعل البلاد تستشرف تحولات مهمة قد لا تنتهي بمجرد تغيير في راس السلطة يعيد انتاج نفس مؤسسة القمع كما حصل سابقا وإنما بتفكيكها قوانين وأجهزة ويرسي عبر مجلس تأسيسي منتخب انتخابا حقيقيا إعادة هيكلة الدولة وتصحيح وضعها المقلوب وتوزيع صلاحياتها على أوسع نطاق بما يلغي النظام الامني وبما يحقق أحلام الاستقلال المجهضة ويعيد السلطة للشعب والكرامة للمواطن، والمعنى للسياسة.
والسؤال لماذا تمكن الحزب « الحاكم » في بلادنا وحده – لا يكاد يشاركه حزب آخر في العالم ربما غير الحزب الشيوعي الصيني، في البقاء طيلة هذا الامد البعيد: هل هو عائد لقوة ذاتية في هذا الحزب وذكاء خارق ؟ أم هو عائد الى طبيعة شعب ومعارضة؟ أم لأسباب خارجية؟
– ضريبة الموقع: بلد صغير مفتوح بالقرب من أمم غربية قوية في ظل ميزان قوة مختل بالكامل لصالحها، بدأ يمارس الضغط منذ النصف الاول من القرن التاسع عشر لاختراق البلاد اقتصاديا وثقافيا وتشكيل النخبة، وتأدى ذلك الى احتلال مباشرخلال ثلاثة ارباع قرن عمل فيه المحتل على دمج البلد الصغير ثقافيا واقتصاديا وحوّله قبل « الاستقلال » وبالخصوص خلاله الى سوق له وامتدادا لنفوذه السياسي والثقافي وجزء من حزامه الامني، بما يستحق معه تمويلا وحماية.
– تمزقات النخبة، ليس فقط على خلفية ثقافية بين اسلاميين وعلمانيين وإنما قبل ذلك وأهم منه على أسس سياسية تتعلق بالموقف من السلطة، بما أمكن لهذه أن تلعب على تناقضات المعارضة فتضرب هذا بذاك.
الايجابي أن هذين العاملين: الخارجي والداخلي أخذ أثرهما الايجابي للسلطة يتضاءل: العامل الخارجي الذي ظل باستمرار يشد إزر السلطة مال بعد11 سبتمبر الى اعتبار هذه الدكتاتوريات ليست في المحصلة حليفا له في مقاومة الارهاب وإنما حقل تفريخ له، فغدت العلاقة معها ذات اتجاهين: اتجاه الدعم لها، واتجاه الضغط عليها من أجل الانفتاح وإطلاق حرية الصحافة وتكوين الاحزاب وإجراء انتخابات نزيهة سبيلا لمحاصرة الارهاب.
أما العامل الثاني الذي طالما أفادت منه السلطة فهو الآخر أخذ يتضاءل بعد إدراك أغلب الأطراف لحكمة « أكلت يوم أكل الثور الابيض » فامتدت خيوط الحوار والتواصل بينها، لتدرك أن ما يجمعها أكثر من الذي يفرقها وأن النضال من أجل وطن يتمتع فيه الجميع على قدم المساواة بحقوق وحريات متساوية خير من وطن يتداول فيه القمع على الجميع، وذلك هو الدرس الذي تأسست عليه حركة 18أكتوبر التي مثلت ولادة لمعارضة حقيقية مؤهلة إذا هي أحكمت بنيانها وتوفقت الى وضع استراتيجيتها في الخروج بالمعارضة من المكاتب الى الشارع موضع تنفيذ، وخاضت معاركها في كل النقابات ومؤسسات المجتمع المدني والشبابي بخاصة يدا واحدة، هي مرشحة اذن أن تنجح في فرض الحرية والتغيير الديمقراطي فتتأهل لتكون بديلا يحقق بلغة المرزوقي الاستقلال الثاني، وفي الاقل تمثل فيتو على 7نوفمبر 2 في الآفاق. ذلك هو أمل تونس في استقلال حقيقي، وبرلمان تونسي . والله ولي التوفيق.
(المصدر: موقع نهضة.نت بتاريخ 25 مارس 2006)
الصقور التونسية حمائم عربية
د. خالد شوكات (*)
العنف قرين السلطة، إذ ليس هناك سلطة في التاريخ إلا ومارست قدرا من العنف، يكبر أو يصغر بحسب الظروف، لكن القاعدة الغالبة تقتضي أن لا تلجأ السلطة إلى الحل العنيف إلا إذا استوفت كافة الحلول الأخرى، من حوار وترغيب ومناورة سياسية، تماما كما تقتضي أن يسعى السلطان إلى اكتساب الأصدقاء ما أمكنه إلى ذلك، وأن لا يستعدي إلا من أراد من خصومه الإصرار على العداوة، والشعرة يجب أن تظل قائمة بين الحاكم ومحكوميه على الرأي معاوية بن أبي سفيان، إن هم شدوها أرخاها، وإن هم أرخوها قام بشدها.
استذكرت هذه القواعد في فن السياسة، وأنا بصدد التأمل في سيرة السلطة التونسية في تعاملها طيلة السنوات الخمسة عشرة الماضية، مع الشخصيات والنخب السياسية والفكرية، المعارضة لها أو المستقلة عنها، وهي سيرة أقرب إلى الولع بتأليف الأعداء منها إلى ربح الأصدقاء، وإلى المسارعة لاستعمال الوسائل الترهيبية قبل إعمال الوسائل الحوارية، وهو ما جعل دائرة الموالين تضيق مع الوقت، في مقابل اتساع دائرة المتحفظين والمنتقدين.
والمفارق في شأن سيرة الحكم التونسي، أنه ليس ثمة من منظور التحليل السياسي، دواع قوية و منطقية تدعو السلطة إلى التصرف بهذا الكم من العنف والردع واللامبالاة بالحوار السياسي، فمقارنة إنجازات النظام التونسي الاقتصادية والاجتماعية – وبصرف النظر عن التقييم الكمي لها- قياسا إلى ما تحقق في جل الدول العربية – خصوصا منها غير النفطية- يفترض أن تجعله في أريحية كبيرة إذا ما دخل في حوار مع أي طرف سياسي داخلي معارض، ناهيك إذا كان الحوار مع شخصيات مستقلة عرفت باعتدالها ووسطية توجهاتها السياسية والايديولوجية.
إن أي زائر لليمن أو مصر أو الجزائر أو المغرب أو السودان أو موريتانيا أو الأردن، سيلاحظ بلا شك أن الأوضاع التنموية في تونس هي الأفضل مقارنة بما عليه الأمر في البلدان المذكورة، وأن مستوى حياة البشر ومؤشرات النمو وتطورات البنيات التحتية، هي الأحسن في الحالة التونسية، منها في بقية الحالات العربية المشار إليها، غير أن المختلف المثير للدهشة والاستغراب، أن النظام التونسي لا يتصرف بانسجام مع انجازاته الاقتصادية والاجتماعية والحضارية، وأن أنظمة الدول العربية المذكورة على الرغم من مواجهتها لمشاكل وتحديات اقتصادية واجتماعية أعوص، تتصرف بثقة في النفس وسعة صدر أكبر مع معارضيها ومنتقديها، قياسا إلى النظير التونسي.
لقد شاهدت شخصيا كيف تهاجم الصحف المصرية الرئيس المصري وعائلته بكل شراسة في صفحاتها الرئيسية، ناهيك عن التشهير بالوزراء والمحافظين ومسؤولي الحزب الحاكم، دون أن يقدم الرئيس مبارك أو نظامه على مصادرة جماعية لهذه الصحف، أو تشريد لأصحابها ومنعهم من مواصلة حملاتهم الهجومية على النظام والرئاسة، غير أن عدم الإقدام هذا لم يمنع الرئيس مبارك من الفوز بولاية رئاسية خامسة، والاستمرار على رأس حكم يقوده منذ ربع قرن، وذلك على الرغم من بؤس الأوضاع المعيشية لغالبية المواطنين المصريين، وأحسب شخصيا أن ليس ثمة ما يهدد الرئيس بن علي في سلطانه وسلطاته، لو أنه سمح لصحافة بلده بالهامش نفسه المسموح به للصحف المصرية.
وفي اليمن، أقدم الرئيس علي عبد الله صالح على العفو عن آلاف من مواطنيه، كانوا قد خاضوا حربا ضروسا ضده، قادت إلى قتل الآلاف وإلحاق التخريب والدمار بممتلكات عامة وخاصة قدرت قيمتها بمليارات الدولارات، بل إنه عفا عن قادتهم الكبار الستة عشرة الذين صدرتهم ضدهم أحكام بالإعدام بتهمة الخيانة العظمى، وأمر بتعويض الجميع ماديا ومعنويا، في حين ما يزال النظام التونسي مترددا في العفو عن بضع مئات من السجناء السياسيين، الثابت أنهم لم يشاركوا في حرب أهلية أو انفصالية، ولا شك أن بضعة أشهر أو سنوات في السجن، كانت كافية لدفعهم إلى مراجعة الكثير من قناعاتهم الفكرية والسياسية، والكف عن السير في أية مسارات غير شرعية.
وفي الجزائر، رفع المعارضون الإسلاميون السلاح في وجه النظام، وصعدوا إلى الجبال للانغماس في حرب مشبوهة قذرة أودت بحياة آلاف الأبرياء، من مدنيين وشيوخ وأطفال وعجز ونساء، في مجازر جماعية اقشعرت لها الأبدان، لكن النظام الجزائري – هذا الذي قيل أن مجموعة من الجنرالات تقف على سدته- فرق منذ البداية بين الإسلاميين الذين يمكن إدماجهم في الحياة السياسية القانونية، والإسلاميين الذين ليس ثمة بد من إقصائهم، بل لقد سعى هذا النظام إلى استمالة جزء كبير من المتشددين أخيرا، في إطار ما سمي بقانون السلم والوئام المدني، بينما ما يزال الشقيق التونسي يصر على أن الإسلاميين جميعا ملة واحدة، وأنه ليس أمام غالبيتهم من خيار، إلا السجن أو المنفى.
وفي المغرب تبدو المعضلة الاقتصادية والاجتماعية كارثية، فنصف المغاربة أميون، وتسعون بالمائة من الثروة الوطنية المغربية في يد خمسة بالمائة من المغاربة، و مؤشرات التنمية الإنسانية غالبا ما تظهر مضطربة وسالبة، كما لا يظهر على الطبقة الغنية النافذة ما يوحي باستعدادها إلى تقديم أية تنازلات للطبقات الشعبية الواسعة المتضررة، وعلى الرغم من هذه الأوضاع البائسة، فإن النظام السياسي المغربي يتصرف بقدر كبير من الهدوء، ولم يتردد في إشراك كافة القوى السياسية، اليسارية واليمينية والإسلامية وممثلة المجموعات العرقية واللغوية، إشراكا حقيقيا في المؤسسات السلطوية على اختلاف درجاتها، ابتداء من البرلمان وانتهاء بالحكومة، بينما يلح النظام التونسي – على الرغم من تواضع التحديات التنموية المطروحة عليه مقارنة بنظيره المغربي- على إتباع الأسلوب السياسي ذاته في التعامل مع قوى البلاد السياسية، على نحو أبقى مؤسسات السلطة على حالها، من حيث هيمنة الحزب الحاكم المطلق عليها، وتوزيع فتات الأطراف على بعض الأحزاب الصغيرة التي أسند إليها رسميا دور المعارضة.
وقد أخبرني أحد الأصدقاء مرة، أن تسعين بالمائة من معارضي النظام التونسي، يمكن إيجاد حلول معقولة للمشاكل العالقة معهم، تحافظ لهم على مصداقيتهم أمام أنفسهم وأمام الرأي العام، وتجنب السلطة عداوتهم، كما استغرب صديق آخر من سلوك السلطة التونسية التي تصر على النجاح الدائم في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية بنسبة التسعات الأربعة المعروفة، بينما يدرك العقلاء أن ستين في المائة حقيقية، قادرة على تمكين صاحبها من الحكم بأقل الأضرار الممكنة، وبأكثر مصداقية.
وقد هاتفني صديق – وهو شخصية أكاديمية وسياسية تونسية محترمة- قبل أسابيع معلنا بالغ سروره وامتنانه للرئيس بن علي، إذ ظنه استجاب لدعوة كان وجهها له عبر مشاركته في أحد البرامج التلفزيونية، لإطلاق سراح السجناء السياسيين من خلال عفو رئاسي عام، وذلك عندما أقدم الرئيس التونسي على إخراج قرابة المائة من السجناء السياسيين التونسيين، غير أن هذا الصديق فوجئ أياما قليلة بعد صدور العفو، بحملة إعلامية حكومية عليه، تنعته بأبشع الصفات، وتتهمه بالاستقواء بالأجنبي على بلاد، وتشكك في سيرته ووطنيته، وهذا مثال من الأمثلة العديدة التي يخسر بها النظام التونسي عشرات من الشخصيات العلمية والأكاديمية والسياسية والثقافية، ويدفع بها مرغمة إلى صفوف المعارضة الراديكالية.
وخلاصة القول، أن من يجري تصويرهم على أنهم صقور المعارضة التونسية، يظهرون بالمقاييس العربية حمائم، وأنه لو أعمل النظام التونسي قليلا من الحوار والتسويات السياسية، لأراح نفسه من الكثير من الانتقادات الداخلية والخارجية إزاء سلوك غير مقبول في مجال الحريات العامة وحقوق الإنسان، فتونس الخضراء هي بطبيعتها أرض حمائم لا صقور، وكان الأجدر – ولا يزال- بأهل الحكم فيها، أن يجعلوا من الحل السياسي أصلا وسابقة، قبل أن يسارعوا إلى اتهام معارضيهم بالعمالة والخيانة والاستقواء بالأجنبي، وقد أوصدوا أمامهم كافة منافذ التعبير والتغيير الداخلي.. إن الحوار دليل قوة لا ضعف، وهو ما يجب أنه يفهمه الحكم التونسي.
(*) كاتب تونسي، مدير مركز دعم الديمقراطية في العالم العربي – لاهاي.
(المصدر: موقع إيلاف بتاريخ 25 مارس 2006)
ذكرياتي من الشهادة الى المنفى
مرسل الكسيبي (*)
ومازالت الذاكرة موجوعة بذكرى خمسينية الاستقلال ونحن نقضي أيامها ولياليها خارج حدود الوطن وبعيدا عن أعز الأحباب وأطيب شجر وأصدق خلان وأصفى سماء فتحت عليها العيون لولا سحب مصنع تكرار الفوسفاط المحملة بالغازات الكيمياوية السامة والذي جلب لأهالي مدينة صفاقس أعلى نسب سرطان بكامل الجمهورية التونسية ,والذي قد يكون وراء قضاء نحب الوالدة رحمها الله في أواسط التسعينات من القرن الماضي ثم وراء وفاة أصغر الأعمام وبعده لحق الخال وقبل أسابيع تمكن من الخال الثاني…وبينما كنت مهموما بتدوين مذكرتي الثانية عن ثورة الطلاب من عنابر العلم في أقوى الحركات الطلابية العربية وربما العالمية الى حدود بداية سنوات التسعين من القرن الماضي,وبينما كنت مشغولا بترتيب عملية نشر هذه المذكرة على بعض مواقع الواب الحرة,واذا بجرس الهاتف يرن ليحمل لي مكالمة غير تقليدية حيث كان على الخط واحد من شهود عيان حقبة سنوات الجمر في تاريخ تونس المعاصر ,لقد كان محدثي من قراء ماكتبته في مذكرة أول أمس والتي حملت عنوان ذكرياتي من المنفى الى المنفى
لقد أوضح مخاطبي أن من استشهد في سنة تسعين بين رمال الصحراء في حقبة التجنيد القسري والانتقامي ,كان السيد حمادي حبيق وهو شاب من مدينة فطناسة التابعة لولاية قبلي بالجنوب التونسي,وقد كان شابا يافعا وطاقة علمية واعدة وهو الذكر الأوحد لدى والديه,ولقد روى محدثي مشكورا على هذه الشهادة التاريخية بأن الشهيد حمادي حبيق كان شابا خلوقا ومتدينا وصاحب حنجرة ذهبية كثيرا ما أطربت الطلاب بأغاني وأهازيج ليس متعودا سماعها في وسائل اعلام بلدي
حمادي حبيق رحمه الله تعالى كان شابا متفوقا في الرياضيات أكلت جثته الذئاب بعد أن نفي الى معتقل طلابي جماعي في أقصى الجنوب التونسي برجيم معتوق
وعودة الى الوراء وقبل ثورة الطلاب الاحتجاجية على طرد زملاء نقابيين لهم بمؤسسة الاتحاد العام التونسي للطلبة والتي كانت وراء خطاب ناري خطبه يومها السيد حامد القروي رئيس الوزراء الثاني على عهد ماسمي بالجمهورية الثانية,ثم حلقة تعيسة من برنامج المنظار الذي أداره انذاك السيد منصف الشلي
وعودة بالذاكرة الى يوم من أيام الرصاص الحي في مفتتح شهر جانفي من سنة 1990 أو يناير على حد تعبير اخوان المشرق,لازالت الذاكرة تحمل طقطقة الرصاص الحي الذي كان سببا في استشهاد طالب ثاني يدعى صلاح الدين باباي رحمه الله تعالى وهو الاخر طالب متفوق في شعبة العلوم بكليتها بمدينة صفاقس
وقد روى بعض أصدقائه بأنه نجح في سنة الباكالوريا بمعدل يزيد عن الستة عشر من عشرين عن شعبة الرياضيات والعلوم
ونفس هذا الرصاص الذي ستأتيكم قصته لاحقا كان سببا في شل أبدي لطالب ثاني يحمل اسم ابراهيم الخياري ولست أدري بعد مرور أكثر من عقد ونصف على الحادثة ان كان اليوم على قيد الحياة أو مازال يحمل معه عذابات الشلل المزمن
ففي صبيحة لم تكن عادية مطلقا وكانت وراء قرار بغلق كامل الجامعات التونسية والمعاهد الثانوية والمدارس لمدة أسبوع أو أسبوعين ,عاشت مدينة صفاقس حادثة لم تكن عادية أبدا في تاريخ حرية التعبير والتجمهر والتظاهر والتنظم
لقد حملت الأنباء في تلك الأيام أخبار الاستعداد الذي قامت به جيوش ثلاثين دولة من كل أنحاء العالم للتحرك العسكري قصد اخراج الجيش العراقي من دولة الكويت,وعلى مدار أسابيع شحذ خطباء الطلاب في عاصمة الجنوب ألسنتهم من أجل البيان والبلاغ والتحليل السياسي لأبعاد خطورة حرب جديدة تعكر صفو المنطقة بعد أن اعتقد الجميع بأن صدام سيتعظ من حرب السنوات الثماني
ومن التجمعات الطلابية وتعليق النصوص وشحن وتعبئة الطلاب على وقع الحدث التاريخي الأليم الذي غير مجرى التاريخ في كامل البلاد العربية ,الى حدث ثاني هز الرأي العام الوطني والطلابي انذاك وتمثل في ماتناقلته وسائل الاعلام التونسية والعالمية وفي نفس تلك الأيام عن اغتيال قادة فلسطينيين كانوا مقيمين في تونس
كان نبأ اغتيال أبي محمد وأبي الهول وأبي اياد الصفعة الثانية التي تلقاها الطلاب بعد أن تلقوا قبيل سنوات قلائل خبر اغتيال القائد الفلسطيني أبي جهاد على تراب تونس
وكالعادة انضاف الخبر ليؤجج نار الغضب الطلابي وليعلن الجميع استغرابه من حدوث هذا الأمر في وقت متزامن مع الاعلان عن بداية قصف الحلفاء لقوات الجيش العراقي المحتلة لبلد الكويت
ولسنا هنا أبدا بصدد التعليق على خلفيات الحدث بقدر ماأننا نروي أحداثا عشناها دما وألما جرت بين مقلتينا وتحت مشهد من أسماعنا
غادرت البيت وككل صباح من أجل الالتحاق بكلية الحقوق بالمدينة وكانت الأحاسيس تنبؤني بوقوع كارثة ما,وأمام مدخل كلية العلوم الاقتصادية وفي زقاق مقابل لها تماما اعتادت قوات النظام العام على التجمع وايقاف عرباتها الكبيرة
كان المشهد محزنا وأنا أرى حدثا غير عادي,حيث عمد أحد عناصر البوب كما يطلق عليهم الطلاب وفي نفس ذاك الزقاق الذي تجمهرت فيه عربات سوداء ورمادية اللون تتخللها كتابات باللون الأبيض تعلن عن هويتها الأمنية
لقد عمد واحد من عناصر البوب الذي استرقت النظر باتجاهه الى تحريك سلاحه الأوتوماتيكي وشحنه على مايبدو بالرصاص ,في حين عمد اخر الى تناول حبوب يقال أنها مهدئة وسالبة لمشاعر الوطنية والأحاسيس الانسانية
وبعيد دقائق ازدحمت كليتا الحقوق والاقتصاد والتصرف بالطلاب وبدأت الخطابات الثورية وكبرت التجمعات الطلابية وقرر أغلبية الطلاب الذين يقدر تواجدهم انذاك ببضع الاف الخروج الى الشارع قصد التظاهر احتجاجا على حدوث عملية الاغتيالات فوق تراب تونس
وفعلا انساب الالاف باتجاه الطريق الرئيسي الذي يحمل اسم طريق المطار ,وانطلقت الشعارات والهتافات ولم يستمر المشهد الا دقائق واذا بقنابل خانقة تنزل في كثافة على معاشر الطلاب واذا بفصل التراجيديا والثورة الحالمة يتحول بعد أن اختنق الطلاب بالغازات المسيلة للدموع والخانقة أيضا الى مشهد سالت فيه دماء الأبرياء
رمى البعض من الطلاب حنقا على ماأصابهم من اختناق ببعض الحصوات على بعض العناصر البوليسية المدججة بعتاد فرق النظام العام ,ولكن سرعان ماانقض أحدهم على سلاحه الناري مشهرا اياه على ركبة ونصف باتجاه صلاح الدين باباي امام -بكسر الألف- مسجد المبيت الجامعي بمدرسة المهندسين ,فكان الانفجار الرصاصي الأول الذي أرداه شهيدا وجاءت الطلقات الأخرى لنرى بأم أعيننا ابراهيم الخياري يسقط طريح الأرض
وكانت اللحظات الأولى في حياتي التي أشهد فيها رميا بالرصاص الحي أمام مقلتي ,والتفتنا بعد دقائق الى صلاح الدين باباي الذي كان شابا يافعا كثير الهدوء غير فاقد قط للابتسامة ,لنجده ينزف من دماغه
وسارع الطلاب تتقدمهم طالبة لم أر في شجاعتها قط انسة تونسية ,ليحمل الشهيد وهو يردد اخر كلماته « ياما ,ياما,يعني ياأماه ياأماه,ثم أشار بسبابته ناطقا بالشهادتين الذين تزاحمت بهما شفاهه « ولست أدري مالذي حدث بعدها للطالب المصاب ابراهيم الخياري ,ولكنني رأيت جمعا من الطلاب يسارعون الى ايقاف شاحنة من الحجم الصغير لتنقل جثمان صلاح الدين باتجاه برادته الأولى والأخيرة بمستشفى المدينة
وعن صلاح الدين فقد أثبتت التشريحات الطبية المصورة والتي علقت لاحقا في ساحات الكليات أنه أصيب برصاصة لولبية عيار 5و5 ملم لتخرج من مؤخرة دماغه في شكل حفرة مضاعفة حوالي عشر مرات
كانت هذه لحظات أرويها للتاريخ وللمعنيين بحاضر تونس ومستقبلها من أجل أن يكون لذكرى خمسينية الاستقلال معنى ثاني ,فلقد جف الريق وكادت عبراتي أن تنهمر وأنا أتذكر ماذا صنعت دولة الاستقلال بمواطنيها
كانت هذه شهادة على الاستشهاد ,أما القاتل فقد سمعنا لاحقا بأنه نقل الى خارج المدينة وتناقل بعض الطلاب خبر بقائه بالسلك الأمني بل وترقيته لاحقا,ولست أدري حقا ان كان هذا الخبر صادقا يليق بدولة الاستقلال وبالحديث الذي مججناه وهو يعدد مكاسب لا يمكن لنا أن نتطعمها ونحن نعيش اليوم في المنافي وأصدقاء وخلان لنا مازالوا قابعين وراء القضبان وجزء منهم قادة الحركة الطلابية واخرون من قادة الأحزاب والفضاء العمومي
تحية الى هؤلاء الشهداء الأبرار في مراقدهم وتحية الى أولئك الصامدين في سجونهم من أجل رؤية تونس متحررة ومنعتقة من كل ألوان الظلم والعسف في زمن ان الأوان فيه من أجل طي ملف سنوات الجمر والرصاص والتأسيس لحقبة سياسية جديدة تنسجم مع كل مايحدث في المنطقة ودول الجوار من تحولات سياسية جد عميقة ,ولعل المطلوب بعد كل الذي حدث للوطن والمواطن ليس أكثر من الاصلاح الحقيقي الذي يضع تونس على عتبة فجر سياسي جديد يقطع مع هذه الحقبة المظلمة وممارساتها التي لن تنسى بمهرجانات واحتفالات وهيلمانات تتعالى عن جراحات والام الناس
(*) كاتب واعلامي تونسي
25-03-2006
في سوسيولوجيا أسباب
انتشار ظاهرة الكلام البذيء)
جابر القفصي
(الجزأين الرابع و الخامس)
هذه دراسة سوسيولوجية حول ظاهرة متفشية في تونس و قد زادت اليوم استفحالا مع تهميش الشباب و ميوعته و تسطيح وعيه( نقدمها في خمس حلقات)
*نحو تطهير لسان التونسي و مص
الحته مع لغته و قيمه
إنّ انتشار استعمال الكلام البذيء عند التونسي بدرجة محيرة و مفزعة لا يعني أن هذا الأمر أصبح قدرا محتوما
و مصيرا مكتوبا لا يمكن تغييره و تجاوزه[1]. فديناميكية المجتمع و حيويته و قابليته للتغير باستمرار تجعله قادرا ـ إذا ما توفرت الشروط الموضوعية الضروريةـ على حلّ مشاكله و أزماته. و من أهداف هذه الدراسة المساهمة في ترسيخ تصور علمي[2] ، عقلاني وواقعي لهذه الظاهرة ، و اقتراح الحلول العملية الممكنة لمحاصرتها و تجاوزها بعيدا عن القرارات العشوائية و السطحية الفوقية.و في هذا الإطار نقترح التركيز على جملة من الفاعلين الاجتماعيين المهمين في عملية التغيير الاجتماعي للسلوك
و العقلية:
1
/ دور العائلة
تؤكد الدراسات المتخصصة في علم النفس الاجتماعي على أهمية دور العائلة
[3] كخلية اجتماعية أولى و كفاعل حاسم في التنشئة الاجتماعية للطفل . فهي أول من يبث فيه الاحساس بالانتماء و معايير السلوك و القيم و الاخلاق. و من هنا لا يمكن أن يقع إصلاح إجتماعي عميق و بناء من غير أن تساهم فيه العائلة و تستبطنه و تقتنع به. فتحسيس العائلة بخطورة انتشار الكلام البذيء و ضرورة محاربته و في المقابل التشجيع على استعمال اللغة العربية الفصحى و تنميتها و الاعتزاز بها كمقوم أساسي لشخصيتنا و هويتنا، هو أمر مهم و متأكد[4]. و من هنا فلا بد من أن تركز البرامج الاعلامية و المدرسية على الاهتمام بدور العائلة في الحفاظ على قيمنا و أخلاقنا و لغتنا و مقاومة التفسخ و الانحلال. إن توعية العائلة بحساسية دورها و بخطورة مرحلة الطفولة بالنسبة لتكوين شخصية الإنسان بصفة متزنة في كامل مراحل حياته يمكن أن يساعد على الدم انتشار هذه الظاهرة خاصة عند الناشئة..
2
/دور المدرسة
أن التغيير العميق للعقليات و القيم و السلوك أو الحفاظ عليها لا بد أن يمر عبر المدرسة
و التعليم . و قد بين بورديو دور المدرسة الفاعل في إعادة إنتاج النظام الاجتماعي السائد و المتوافق مع النظام السياسي القائم لما لها من تأثير في تشكيل تفكير الناشئة و مخيالهم و مواقفهم[5]. و قد قال فيكتور هوغو « من فتح مدرسة أغلق سجنا ». فلا بد أن تتناول البرامج المدرسية هذه الظاهرة في مختلف المواد وفق منظومة تربوية [6] متجذرة في أعماق ثقافتنا العربية الإسلامية لغاية مصالحة التونسي مع لغته و قيم دينه و تنمية اعتزاز الناشئة بتاريخها و هويتها و مقاومة كل ما يتهدد تطور اللغة العربية الفصيحة من مزج مع لغات أجنبية و لهجات محلية مختلفة و كلام بذيء . و هذا العمل يجب أن يستمر و يتواصل في المعاهد الثانوية و الجامعات حتى يترسخ المبدأ و يتبلور المفهوم فهو بطبيعته عمل بطيء و يتطلب أجيالا و لكنه ضروري و نتائجه متأكدة و عميقة. هذا بالإضافة إلى ضرورة تدريس مبادئ تربية جنسية متزنة و علمية تقطع أمام التصورات الخاطئة و التعتيم على المسألة الجنسية أو تضخيمها.
3
/ دور وسائل الإعلام
إن وسائل الإعلام الجماهيري ، كما يؤكد علم النفس
[7] ، لها دور حاسم في نشر الوعي[8] حول أي قضية من القضايا و جعلها في صدارة اهتمامات الناس، و في تغيير مواقف و عادات و عقليات الأفراد و المجتمعات. و من هنا فإن القيام بحملات إعلامية تحسيسية و توعوية[9] في الإذاعة و التلفزة و الصحف، و إدراج هذه المسألة في برامج متنوعة و طريفة مثل الأفلام و المسلسلات و المنوعات و المسابقات و التحقيقات و المنابر الحوارية و المواعظ الدينية…من شأنه أن يساعد إلى حدّ كبير مقاومة هذه الظاهرة و التخفيض من حدتها، و اقتراح البدائل مثل تنمية الكلام بالفصحى في الحياة اليومية و الإحساس بالانتماء إلى هوية حضارية متميزة و تجنب العنف اللفظي و الابتذال الأخلاقي.
4/دور المؤسسات الثقافية
لا بدّ من تخطيط لإرساء سياسة ثقافية واضحة الأهداف و المعالم و الأولويات، تضع ضمن انشغالاتها الأساسية تنمية الذوق السليم و السلوك الحضاري و الثقافة الرفيعة و الهادفة . انّ الفراغ الثقافي و الفكري حينما لا يجد من يملأه بمحتوى ملتزم و خلاّق، يأتي من يملأه بمضامين ثقافية مضادة و ربما متطرفة تصبح عائقا أمام الإصلاح و النهوض. و لعل من أسباب نجاح الثورة الصينية ـ بقيادة ماوتسي تونغ ـ هو قيامها بثورة ثقافية
[10][متممة للثورتين السياسية و الزراعية] لتغيير عقلية الإنسان و شحذ عزيمته و إعطائه أسباب وجود جديدة محفّزة للعمل و الإبداع . و هناك العديد من الدراسات السوسيولوجية التي تؤكد على دور العنصر الثقافي في التنمية. فلو يقع توجيه الأغاني و المسرحيات و المهرجانات و التظاهرات الثقافية للمساهمة في تنقية لسان التونسي و مصالحته مع لغته و رموزه الأخلاقية .نحن إذن في أمس الحاجة الى طرح ثقافي جديد لمسألة اللغة و أشكال الخطاب اليومي و من ضمنها الكلام البذيء ، يجعل منها قضايا خطيرة و ملحة لا قضايا مهمشة و منسية.
5/ دورالمفكرين
لا شك أنّ كثيرا من مظاهر الاضطراب الثقافي و الفكري في مجتمعنا ناتجة عن نقص وعي المفكرين و الباحثين بدورهم في التغيير الاجتماعي و الإصلاح و النهضة
[11] مثلما فعل روسو و ديدرو و منتسكيو وغيرهم من مفكري عصر الأنوار. فنحن في أمس الحاجة الى تبيئة العلوم الإنسانية و توطينها في بلادنا حتى تهتم بمشاكلنا الخصوصية بدل أن تستورد لنا المشاكل و الحلول من الخارج. إن واقعنا مليء بالأمراض الاجتماعية المختلفة و من بينها الكلام البذيء الذي يحتاج إلى تفهم و تفسير علمي موضوعي لأسبابه و آثاره بدل الاكتفاء بموقف الإدانة الأخلاقية و اللامبالاة.إن المختصين في العلوم الاجتماعية و الإنسانية لا بدّ أن يفكروا في طرق مجدية لترويج إنتاجهم و تبسيطه و تقريبه من القارئ العادي حتى يخرج من أسوار الجامعة و يترك بصماته العميقة في المجتمع في مختلف الجهات
[12] . كيف يصبح المفكر فاعلا اجتماعيا مؤثرا في حياة الناس اليومية و موجها لنمط تفكيرهم؟ كيف نجد تصورا جديدا لدور العلوم الإنسانية في الإصلاح و التنوير و للكتاب و النشر و التواصل مع الناس و تغيير نظرتهم للأشياء ؟ إنّ المفكر الحقيقي ـ كما يقول الدكتور حسن حنفي ـ هو الذي يرى مهمته في نقل واقعه من مرحلة الى أخرى و هو على وعي تام بتقدم التاريخ و بما يمكن له و لجيله أن ينجزوه دون غرور أو يأس.
6/دور المناخ الديمقراطي.
أن الديمقراطية كمناخ سياسي اجتماعي يتأسس على الحرية و الحوار و مقارعة الحجة بالحجة دون خوف أو تكتّم على المشاكل و النقائص و الأخطاء
[13]، هو من أنجع السبل لتجاوز الآفات و الأمراض الاجتماعية و الأزمات. فإشاعة جو من الحريات العامة لا سيما في مجالات الصحافة و التعبير و التنظّم ، يساعد على تأطير الناس و خاصة الشباب في مختلف مؤسسات المجتمع المدني ربما تعطي معنى لوجودهم و تشغل وقتهم و تحفّزهم على تحقيق ذواتهم و طموحاتهم.فالسماح بوجود حزب إسلامي معتدل من شانه أن يخلق توازنا في المجتمع لصالح مقاومة الكلام البذيء و الدعوة الى الأخلاق الحميدة مثلما ساهم وجود أحزاب بيئية في الغرب في تنمية الاهتمام بالبيئة و المحافظة عليها. وإذا كان الكلام البذيء سلوكا مرضيا مرتبطا بوضعية عامة معقدة و متخلفة ، فإنّ علاج مثل هذا السلوك لا يكون إلا في إطار حلّ جذري شامل يمسّ كل جوانب حياة المجتمع و هو هنا الحل الديمقراطي الذي يشجع على المصارحة و الحوار و مواجهة المشاكل بشجاعة و التزام و يخفض من الضغط و التوتر
[14] عند الأفراد و الجماعات و اللجوء الى العنف و التطرف أو اللامبالاة و الانسحاب من الحياة العامة.
7
/دور السلط المسؤولة
إلى جانب كلّ العناصر السابقة القائمة جميعها على التوعية و التحسيس و الإقناع و الكلمة الطيّبة، تبقى في النهاية ـ كحل أخير ـ الوسائل الردعية و الحزم و الشدّة
[15]. فالسلطة ظاهرة صحية في كل المجتمعات البشرية و ليس هنالك مجتمع خال من وجود سلطة، بمعنى جهة يخضع لها الجميع و تحتكر ممارسة العنف الشرعي بين رعاياها ، كما يقول فيبر. و هناك العديد من الامثلة في المجتمعات المعاصرة تبيّن كيف أن القوة والزجر و الشدّة تساهم في إنجاح العديد من الخيارات المجتمعية مثل المتابعة القضائية في الكيباك لمن يضع لافتات أو إعلانات في الشوارع بغير اللغة الفرنسية[16] و المعاقبة الجزايية في الولايات المتحدة الأمريكية و أوروبا الغربية لكل من يتعدّى على الذوق العام و السلوك الحضاري مثل التبوّل في الشارع و البصاق في الأماكن العامة و التدخين في الفضاءات العمومية…و في تونس هناك قانون يعاقب بخمسة عشرة يوما سجنا كل من يسبّ الجلالة في الطريق العام و لكن ليس هنالك أي أدنى حزم في تطبيقه. و على كل حال، فإن تنظيم حملات أمنية متواصلة و مستمرة و تسليط خطيا مالية و عقوبات سجنية على كل من يجاهر بالكلام البذيء في الطريق العام من شانه أن يقلّص كثيرا من هذه الظاهرة مع مرور الزمن و يطهر لسان التونسي تدريجيا.
الــخاتمـــة
إنّ ظاهرة انتشار الكلام البذيء ليست مجرد مشكلة أخلاقية ناجمة عن قلة التربية و انعدام الذوق الرفيع، و إنما هي أعمق من ذلك بكثير. فهي ظاهرة اجتماعية شاملة و معقدة تتداخل فيها الأبعاد التاريخية الاستعمارية، و النفسية الاجتماعية، و الدينية الثقافية، و السياسية الحضاري
ة و هي دليل على قوة تأثير البعد الاجتماعي في الإنسان حيث أنه رغم اعتراف الناس جميعا بقبحها و سلبيتها و تناقضها مع الأخلاق و الدين و الذوق، فإنها لا تزال منتشرة و متنامية. و هذا لا يعني أنها مستعصية عن الحل ، بل بالعكس يؤكد على أن فهمها و استيعاب جميع أبعادها من زاوية سوسيولوجية موضوعية علمية يساعد كثيرا على علاجها أو على الأقل تحجيمها و تهميشها تراجعها.و تعلّمنا السوسيولوجيا الأمريكية [في الولايات المتحدة] أن عالم الاجتماع هو الأجدر من غيره على معالجة الأمراض الاجتماعية و إيجاد الحلول الناجعة لها بحكم قدرته و خبرته ـ تماما مثل الطبيب ـ على تشريح الجسد الاجتماعي و فهم أغواره و خباياه. حتى أن علم الاجتماع و علم الّنفس في الولايات المتحدة الأمريكية يدرجان ضمن العلوم الاستراتيجية لما لهما من دور حاسم في الحفاظ على توازن الفرد و المجتمع. و لعل من أسباب قوة هذه المجتمعات هو اعتمادها على البحوث العلمية و على مراكز البحث في كل مجالات حياتها.
و ختاما فإنّ موضوع انتشار الكلام البذيء يبقى في حاجة إلى دراسات عديدة و من زوايا مختلفة. و لعل دراسته بصفة مقارنة بين بلدان المغرب العربي و في تونس حسب الجهات و الفئات العمرية و المهن و الوظائف و المستوى التعليمي….تمكّن من مزيد فهمه و تفسيره و بالتالي معالجته و تجاوزه.
[1] لقد قام علم للاجتماع على رفض تفسير الظواهر الاجتماعية خارج إطار المجتمع ، أي بالرجوع الى عوامل ميتلفيزيقية متعالية عن المجتمع..
Emile DURKHEIM :Les règles de la méthode sociologique Puf.20 ème éd. 1981
[2] يقول حاك بارك ، عالم الاجتماع الفرنسي « ليس هنالك محتمعات متخلّفة sous-développées ، بل هنالك مجتمعات غير مدروسة sous-étudiées » أي ان داسةالمجتمع تعين على تقدمه وتجاوز شاكل.
[3] G.N. FISCHER p.81 ..dans :La soumission à l autorité. »Les concepts fondamentaus de la psychologie social »
[4] د.محمود الذوادي « التخلّف الآخر » ص.132 في باب » هل هناك من خروج من الاسنعمار الثقافي؟ « حيث يدعو المؤلف الى ضرورة أن تصبح اللغة العربية الفصحى هي اللغة المستعملة بالكامل في كلّ ميادين المجتمع.
Paris .éd.Minuit.1970 Pierre BOURDIEU [5] .« La reproduction »
[6] د.محمود الذوادي نفس المرجع..ص132حيث يقول متحدثا عن المجتمعات المغاربية « قإذا نجحوا في إعطاء لغتهم و ثقافتهم المكانة الأواى في التكوين التعليمي الإبتدائي و الثنوي لأبنائهم فإن الحصانة اللغوية و الثقافية الوطنيتين تكون قد اكتسبت المناعة اللازمة لهذه الشعوب ضد أي سقوط مذل من جديد في دائرة التخلّف الثقافي و ما يترتب عنهمن حلقات مفرغة للعقد النفسية و الاضطرابات السلوكية »
[7] . Chp Etude de .l opinion publique et la psychologie sociale. MAISONNEUVE « Psychologie social »
[8] لوسائل الاعلام دور جد هام في توجيه الراي العام و تحديد اهتماماته ..كتاب » سيكولوجية الجماهير » قوستاف لوبون دار الساقي بيروت 1991
75 د. محمود الذوادي .نفس المرجع.باب ضرورة حملات التوعية الثقافية. حيث يقول »فإذا نجحت حملات التوعية الثقافية في تعرية أخطار التبعية الثقافية [ نفس الشيء ينطبق على الكلام البذيء] …، فإن جوّا نفسانيا إيجابيا يكون قد و جد بين كل الفئات
[10] Abdelkader ZGHAL dans un article Analyse du bloc historique Les annales de l Afrique du Nord.
[11] د.جسن حنفي » قضايا معاصرة في فكرنا المعاصر » حيث يقول » ليس الفكر كلمة تقال. بل هو شهادة على العصر. و تعني الشهادة كلمة الحق التي تفصل بينه و بين الباطل ».ص.11
[12] يقول د.هشام جعيط في كتابه » أزمة الثقافة الاسلامية » دار الطليعة بيروت.2000 ص.139 « كان المفكرون السياسيون الأوائل في عصر محمد عبدة…يعقلون بنحو أو بآخر رسالة الانوار..كان اهتمامهم منصبا على التمدن، أي تحقيق التقدم من حيث الحضارة و القوة » و لعل هذا يذكرنا بتعريف الكاتب الايطالي انتونيو غرامشي » للمثقف العضوي » و تعريف بورديو للمثقف الكلي الذي يلعب دورا إجتماعيا فاعلا و لا يكتفي بمجرد الدراسة . و قد لعب بورديو هذا الدور في شتاء1996 في ازمة عمال السكك الحديدية أيام حكومة آلان جوبي.
[13] يشير د.عبد الباقي الهرماسي في كتابه « المجتمع و الدولة في المغرب العربي » مركز دراسات الوحدة العربية 1987 » أن مأسسة النسق السياسي و المشاركة الشعبية ما زالت هشة نظرا لتمسك النخب الحاكمة بالاشكال القديمة للتأطير و المراقبة السياسية. »
[14] يقول د.برهان غليون في كتابه « اغتيال العقل..محنة الثقافة العربية بين السلفية و التبعة »مكتبة مدبولي الطبعة الثالثة 1990 . »إن المسألة الأساسية في[ مشكلتنا اليوم ] هي مسألة المدنية ، أي ما يطرأ على العلاقات الاجتماعية داخل المجتمع من تطور ينقلها من علاقات مبنية أساسا على القهر و العنف إلى علاقات قائمة على استلهام مبادئ و قيم و قواعد إنسانية مشتركة و مجمع عليها، و هذا أصل الاستقرار الاجتماعي و ازدهار الحضارة.
[15] د.محمود الذوادي .نفس المرجع ص.134 .باب » أهمية دور القرار السياسي » حيث يؤكد على أهمية دور أصحاب القرار السياسي في إعادة المكانة الطبيعية للغة و الثقافة العربية الإسلامية لا سيما في سن القوانين و الحرص على تطبيقها. و كما يقول عثمان ابن عفان » يوزع بالسلطان ما لا يوزع بالقرآن.
[16] د. محمود الذوادي نفس المرجع ص.196 حيث هناك ديوان للغة الفرنسية. L office de la langue française
تفعيل مقاصد الشّريعة في معالجة القضايا المعاصرة للامة
بقلم الشيخ : الهادي بريك – ألمانيا
عناصر البحث :
1 . مقدمات عامة
2 . مقاصد الشريعة بين التقليد والتجديد
3 . التفعيل المطلوب بين النظرية والتطبيق
4 . القضايا الخمس التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم
5 . نحو منهج نظري وعملي لحسن تفعيل مقاصد الشريعة في معالجة قضايانا الخمس
6 . خلاصات وحصائل
المبحث الأول : مقدمات عامة :
المقدمة الأولى : ما العلاقة بين الشريعة ومقاصدها وبين قضايانا المعاصرة ؟
المقدمة الثانية : الدواء من جنس الداء ـ الاجتهاد الجماعي والتزام اليسر والتدرج .
المبحث الثاني : مقاصد الشريعة بين التقليد والتجديد :
الفصل الأول : مقاصد الشريعة : التعريف والتاريخ ـ مقاصد الشريعة أم الإسلام أم العقيدة ؟
الفصل الثاني : دعاة إلى تجديد المقاصد: في القديم وفي الحديث .
الفصل الثالث : في منهج الكشف عن المقاصد وخلاصة عامة .
الفصل الرابع : شروط الاجتهاد المقاصدي عامة وفيما يتعلق بقضايانا المعاصرة خاصة .
المبحث الثالث : التفعيل المطلوب بين النظرية والتطبيق :
الفصل الأول : أي صياغة مقاصدية أولى بالتفعيل ؟ أي وسائل للتفعيل ؟
المبحث الرابع : القضايا الخمس التي تواجه الأمة الإسلامية اليوم :
الفصل الأول : منهج الكشف عن تلك القضايا .
الفصل الثاني : قضية الوجود والاستقلال أو المقاومة والاحتلال .
الفصل الثالث : قضية الحرية والعدل داخليا .
الفصل الرابع : قضية العلمانية والهزيمة النفسية .
الفصل الخامس : قضية التغيير الإسلامي .
الفصل السادس : قضية الوحدة ومقتضيات التنوع .
المبحث الخامس : نحو منهج نظري وعملي لتفعيل مقاصد الشريعة في معالجة قضايانا تلك:
الفصل الأول : أسس منهجية نظرية وتطبيقية .
الفصل الثاني : قضية الوجود والاستقلال مثالا تطبيقيا .
الفصل الثالث : قضية الحرية والعدل مثالا تطبيقيا .
خلاصات وحصائل .
كلمة أخيرة وبيان لهوامش البحث ومراجعه .
البحث كاملا تجدونة بموقع الحوار نت http://www.alhiwar.net/brik.htm
50 عاما من الاستقلال :
استقلال البلاد مكسب تاريخي لا مجال للتشكيك فيه
تعيش بلادنا هذه الايام أجواء الاحتفال بمرور نصف قرن على احراز الاستقلال السياسي، وهي فترة لا يستهان بها في تاريخ الدول والشعوب، واذا استطاعت بلادنا خلالها ان تقطع مع عديد مظاهر التبعية والتخلف وان تحقق انجازات هامة في سبيل التقدم واستكمال مقومات السيادة، فان ذلك لا يعني ان ما تم انجازه هو الكمال او حتى شبيه للكمال.. ولا نريد ان نكرس مقالنا لاحصاء الانجازات فغيرنا قام بذلك وبعضهم يعددها كأنه يسبّح وكأن البلاد صارت جنة الله على الارض، ولا نريد أن ننخرط في جلد الذات، فبعضنا الاخر لا يرى أي انجاز ولا يريد ان يسمع أي حديث عن أي تطور وكأن دولة الاستقلال خرافة أو وهم من أوهام الحزب الحاكم وأحزاب الديكور… ففي الايام الاخيرة احترت شخصيا بين الخطاب الرسمي وما خص به بعض القوى من حيز هام حول الالتقاء غير الطبيعي بين قوى يسارية واليمين الديني وحول مسالة الاستقواء بالخارج، وكأن هذه القوى تمثل تحديا حقيقيا، وبين خطاب هذه القوى عن خمسين عاما من الدكتاتورية وعن أحزاب الديكور وعارها ومساندتها المخجلة لكوبا وكوريا الشمالية..
ان الخطاب الذي يتردد خلال الفترة الماضية أقرب الى الانفعال منه الى الفعل، فلا الاستغراب من زواج المتعة بين أقصى اليمين واقصى اليسار سيفكك هذا التحالف، ولا الاستقواء بالخارج يمثل أي تهديد على الوضع القائم في البلاد،
ان استقلال البلاد مكسب تاريخي لا مجال للتشكيك في حدوثه أو أهميته والاهم منه الان هو تأكيده والمحافظة عليه، وهذا لا يكون بتجريم المخالفين في الرأي ولا يتخوين من يرون من زاوية مخالفة، واذا كانت السلطة وحزبها غير مخولين لاعطاء شهائد في الوطنية، فان الاخرين خارجها غير مخولين أيضا لاعطاء شهائد في حسن السيرة لا للسلطة وحزبها ولا للاحزاب المتفقة مع السلطة في عديد الملفات والمحسوبة ظلما ضمن أحزاب المهادنة أو المعاضدة او الديكور…
الاستقلال مكسب للجميع، وتدعيم الاستقلال يكون أولا بتنقية الاجواء السياسية في البلاد وتحمل كل طرف لمسؤوليته والتخلي عن اللسان الخشبي الذي لا يعرف الا كيل المديح من هذا الجانب او كيل الشتائم من ذلك الجانب، وتديعم الاستقلال يكون بالاقتناع بأن التونسيين قادرون وحدهم على حل قضاياهم وانه بالتالي لا فائدة من اساليب الترهيب الموجهة الى الاستهلاك الخارجي بأن تظهر مخالفيك بأنهم أصوليون أو محالفون للأصوليين أو أن تظهر السلطة بأنها دكتاتورية قمعية لا احترام بها لحقوق الانسان وانها فاشية…الخ. لأننا نحن التونسيين الذين لا ننتمي الى السلطة ولا الى اشد مناوئيها ندرك ان المطالبة بالديمقراطية وحرية التعبير وحرية التنظم والحق النقابي هي مطالب ليست من اختراع ولا من احتكار مجموعة يسارية متحالفة مع الاصوليين، بل هي مطالب لشرائح واسعة من المجتمع فيهم حتى من ينتمي الى الحزب الحاكم، كما نعرف ان تونس ليست سجنا واسعا ولا مخبرا للدكتاتورية ولا مرتعا للمافيا ورجال البوليس كما يردد البعض حتى نخالهم يتحدثون عن بلد آخر..
ان تدعيم استقلال البلاد يمر حتما عبر تنقيح القوانين المنظمة للحياة العامة نحو مزيد من التعددية والحريات الاساسية، ويمر حتما عبر تنسيب تدخل الادارة، وتقليص سلطتها بخصوص اسناد التأشيرات للاحزاب والجمعيات والصحف والاذاعات والكتب والاجتماعات وتفويض ذلك الى الجهة الطبيعية وهي القضاء.. أي أن تكون المبادرة حرة ودون ترخيص أو رقابة مسبقة أو حسب كراسات شروط وللقضاء وحده البت في الاعتراضات أو الاحترازات التي تبديها الادارة…
وتدعيم الاستقلال يمر حتما عبر تعميم التمويل العمومي للاحزاب والجمعيات حسب مقاييس لا مجال فيها للاقصاء، ومقاييس للمحاسبة القضائية حول انفاق هذه الاموال العمومية..
وتدعيم الاستقلال يمر حتما عبر تنقيح واسع للمجلة الانتخابية والقانون الأساسي للبلاد على أن يكون الهدف الشفافية المطلقة للصندوق وآليات لمحاسبة المنتخبين في كل المستويات.
وتدعيم استقلال البلاد يتم أيضا عبر تأكيد استقلالية القضاء حسب المواصفات الدولية..
وتدعيم الاستقلال يكون أيضا بالشفافية المطلقة في المناظرات الوطنية المؤدية الى التشغيل..
وختاما.. فان جردا للخمسين عاما الماضية لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون ايجابيا تماما، ولا يمكن أيضا ان يصطبغ بسوداوية احترفها البعض ليكون سلبيا تماما.. والأكيد أن البحث عن صيغة مناسبة فيها توازن أكثر بين السلطات أمر مطلوب التحاور فيه والتصارح وقرع الحجة بالحجة بعيدا عن المزايدات والمهاترات..
عادل الحاج سالم
(المصدر: صحيفة « الوحدة » الأسبوعية، العدد 493 بتاريخ 25 مارس 2006)
لا لهذا الخلط
هناك بعض الأحداث والوقائع التي لا يجب أن تخفي لبساطتها الظاهرية ما يمكن أن تحمله من دلالات يتعين التوقف عندها ومحاولة فهم أبعادها. وما شهدته الجامعة التونسية مؤخرا بمناسبة الاحتفاء بذكرى الباحث الاجتماعي التونسي بول سيباق تمثل حدثا جديرا بالتوقف عنده. فلقد عبّر بعض الطلبة، وبأسلوب اقل ما يقال عنه أنه مرفوض، عن معارضتهم لهذا الاحتفاء محتمين بذلك الخلط الرهيب والخطير الذي غالبا ما يقع فيه البعض بين اليهودية والصهيونية.
وقبل الخوض في أهم دلالات هذه الواقعة يتعين الانطلاق مما يستدعيه الحديث عن بول سيباق من إشارات سريعة ترد شيئا من اعتباره بوصفه مناضلا تقدميا مناهضا للاستعمار ولكل الايديولوجيات العنصرية، هذا إلى جانب قيمة الاسهام العلمي لبول سيباق بوصفه رائد البحث الاجتماعي التقدمي في تونس. وهذه الاشارات تعني أننا نعتقد أن سيباق جدير باحتفاء أكبر وبقراءات متعددة لا عماله.
أما في ما يتعلق بدلالات الخلط الذي وقع فيه الطلبة في التعاطي مع تكريم بول سيباق فإن بعضه مفهوم في حين يحتاج البعض الآخر إلى عمل عميق من أجل اصلاح الفهم والادراك لدى الشباب. فما يمكن تفهمه يتمثل في أن هناك بعض الشخصيات والجهات الفاعلة في مجال البحث العلمي تسعى له للعب دور في ما يمكن تسميته بالتطبيع الأكاديمي مع الصهيونية. ولا شك أن التصدي لهذه المساعي يعتبر عملا ضروريا ومشروعا وذلك بالنظر إلى الخطورة التي يكتسيها التطبيع مع الكيان الصهيوني.
لكن ما يبدو أيضا حريا بالانتباه المتابعة يتمثل في ما يشكوه الطلبة من ضعف في التأطير السياسي خاصة في ما يتعلق التثقيف في هذا المستوى وهو ما يستدعي عملا متواصلا من الجميع حتى يقع حماية الشباب من أخطار التعصب والانغلاق.
وهناك مسألة لا تخلو أيضا من خطورة وتتجاوز مستوى الطلبة إلى مستويات أشمل وواسع وتتمثل في الخلط الناجم عن سوء فهم بين اليهودية والصهيونية. هذا الخلط الذي يتغذى من القراءات الانفعالية وتنعشه الاسقاطات التاريخية والموروثات الثقافية ويحملنا إلى مجال شديد الحساسية وإلى خلط يخدم الصهيونية بين المفاهيم والرؤى والتصورات.
لقد كان موقفنا في هذا الصدد، وسيبقى، واضحا ولا يحتاج إلى بعض أدعياء العلم والضال. إننا نعادي الصهيونية ونناهضها بوضوح وبجلاء ولا يمكن لنا بأي حال من الأحوال أن نتخلى عن هذه القناعات. وعلى خلفية معاداتنا للصهيونية فإننا نقيم فرقا واضحا بينها وبين اليهودية ونعتبر أن التعاطي مع اليهودية يتم بوصفها معتقدا دينيا تسعى الصهيونية ….. منه لكنها لا تتطابق معه ولا يجب أن تتبنى وهم التطابق الذي يقع الترويج له لأن ذلك يقود إلى معاداة السامية وإلى غيرها من المواقف وردود الفعل الانفعالية التي لا تقود إلا إلى الالتقاء مع التصورات العنصرية مع كل ما في هذا الالتقاء من مخاطر.
الوحدة
(المصدر: افتتاحية صحيفة « الوحدة » الأسبوعية، العدد 493 بتاريخ 25 مارس 2006)
خالد قفصاوي للوحدة :
هذا ما حدث في كلية الاداب منوبة
على اثر الأحداث الأخيرة التي شهدتها كلية الآداب والفنون والإنسانيات بمنوبة بمناسبة انعقاد حفل تكريم للمفكر الفرنسي بول سباق وأمام كثرة التأويلات ومحاولات تزييف الحقائق وبدافع رفع اللبس وإنارة الرأي العام بحقائق الأمور قامت جريدة ـ الوحدة ـ بمحاورة الطالب خالد القفصاوي الكاتب العام للمكتب الفيدرالي للاتحاد العام لطلبة تونس بالجزء الجامعي المذكور فكان الحديث التالي:
* لو تتفضل بشرح ما حدث يوم 10 مارس 2006 بفضاء كلية الآداب بمنوبة.
ـ قبل الحديث عن ما حدث لابد أولا من التذكير بأنه من ثوابت الحركة الطلابية الدفاع عن كل القضايا العادلة وفي طليعتها قضية شعبنا العربي في فلسطين ومقاومته الباسلة للاستعمار الاستيطاني للعدو الصهيوني. من هذا المنطلق يأتي رفضنا المبدئي للتطبيع باعتبار أنه لا بمكن إقامة علاقات طبيعية مع من يقتل ويشرّد وينكل بإخواننا في فلسطين ويصادر أراضيهم. فالتطبيع من جهة هو اعتراف بمشروعية جرائم المحتل الصهيوني وقبول به كأمر واقع وهو من جهة أخرى إضعاف وضرب للمقاومة العربية في فلسطين والعراق. هذا الموقف المبدئي الذي عبّر عنه أبناء شعبنا في تونس في العديد من المحطات السابقة لم يتغير ولن يتغير مادام هناك عدوان على جزء من أرضنا العربية.
*لنعد إلى ما حدث يوم 10 مارس 2006. ماهي العلاقة بين ما حدث وما قيل حوله من رفض للتطبيع وانتصار للمقاومة؟
ـ ما سبق أن قلته وما ذكّرت به من ثوابت تترتب عنه عديد المساءل المترابطة أولها أننا كمكتب فيدرالي ومناضلين داخل الفضاء الجامعي نعبر عن هذا الموقف في كل المناسبات المتاحة ومن خلال العديد من المنابر سواء كانت مرتبطة بحدث على الصعيد الجامعي أو الوطني أو القومي أي أن أجندتنا النضالية في جميع المحاور لا تخضع إلا إلى ثوابتنا وقناعاتنا ونحن وبكل ديمقراطية ومسؤولية نحدد توقيت التعبير عنها وشكلها. ثانيا نحن نعتبر أن الفضاء الجامعي إضافة إلى دوره المعرفي هو فضاء للديمقراطية والجدل الفكري ومنبر للتعبير عن هذه المواقف وما حدث يوم الجمعة 10 مارس لم يخرج عن هذا السياق.
*كيف؟
ـ لم يعد خافيا على أحد اليوم المخططات الامبريالية والصهيونية بالخصوص التي توظف من أجل غاياتها وأهدافها الاستعمارية بكل الوسائل والطاقات والمؤسسات. فعلاوة على الآلة العسكرية الموظفة لأجل تركيع شعبنا العربي تحاول أن تسيطر ـ وقد نجحت في ذلك إلى حد بعيد ـ على وسائل الإعلام المرئية والمسموعة والمقروءة وتحاول أن تتسلل إلى الشعب العربي وطلائعه المثقفة عبر مؤسسات البحث العلمي .
لأنها جربت الآلة العسكرية ولم تنجح وجربت الضغط على الحكومات والمنظمة ولم تنجح لذلك نجدها اليوم تتخفى وراء أكثر من رداء لتمرر مشروع التطبيع وأحدى هذه الأساليب هو الركوب على مطية البحث العلمي والأكاديمي.
* لو توضّح أكثر
ـ رغم أنه في تونس لا توجد مشكلة أقليات عرقية أو دينية أو غيرها ورغم مناخ التعايش السلمي والسليم بين الجميع فإن هناك مجموعة من هواة الاصطياد في المياه المتعفنة تريد أن تخلق مثل هذه النعرات التي لا تخدم إلا من يتربصون بالأمة العربية وقضاياها بهدف تشويه كل ثوابتها ولكم فيما يحدث في العراق وفي لبنان وسورية والسودان لأكبر دليل على ما يخطط له هؤلاء المرتزقة. والمكتب الفيدرالي عبر يوم الجمعة كما عبر دائما في هذا الموقف وحذر من أن يتحول البحث العلمي والأكاديمي إلى مطية للتطبيع أولا ومدخلا لإثارة نعرات طائفية نحن نرفضها ونرفض كل من يحاول إثارتها. وهنا أعود لأوضح أن ما حدث يوم الجمعة 10 مارس 2006 هو أن هناك أساتذة عرفوا بارتباطهم المشبوه مع دوائر امبريالية وصهيونية قد حضروا هذا التكريم الذي أقيم » لبول سباق » فكان أن عبرنا عن موقفنا من التطبيع والمطبعين ومن جعل مثل هذه الندوات منبرا للتطبيع ومطية لخدمة العدو الصهيوني.
*ماذا عما روّجه البعض من أنكم كنتم تحتجون على تكريم الكاتب « بول سباق » لأنه يهودي
ـ هذا محض افتراء وتزييف للحقائق يقف وراءه بعض الأشخاص بهدف التوريط ومن أجل كسب تعاطف وسائل الإعلام الاجنبية وهذا ليس بالغريب عمن تعودوا بالاستقواء بالأجنبي ضد أبناء الوطن والذين لا يعرفون المحرمات في عملهم السياسوي. فحديثنا عن » بول سباق » كان بالاستناد إلى معطيات تاريخية ثابتة وحديثنا عن موقفه كان حديثا عن مواقف الحزب الشيوعي الذي كان ينتمي إليه وكان من بين جيل المؤسسين وقد يختلف التقييم من شخص لآخر وقد يتناقض ولكن ليس من حق أي كان أن ينتصب حاميا على مفكر أو مؤرخ أو شخصية عامة وليس » بول سباق » وحده من يثير مثل هذا الاختلاف فلنعد إلى التاريخ سنجد أغلب الشخصيات العامة كانت مثارا للجدل وموضوعا للتقييمات التي تصل حد التناقض… أما عن كونه يهودي فإننا قد وضحنا هذا في أكثر من مرة أننا نفصل جيدا بين الأشياء ولا نعادي أحدا على أساس ديني أو عرقي أو غيره.. ونفصل بين اليهودية كدين سماوي وبين الصهيونية كحركة عنصرية وإسرائيل ككيان صهيوني. وليس لدينا أي نوع من أنواع العداء مع الديانات وللتذكير فإن بول سباق ليس المؤرخ الوحيد من أصل يهودي فهناك العديد من المؤرخين والمفكرين اليهود الذين نتعامل مع نصوصهم ومع كتاباتهم دون أي تحفظ وهم مدرجون ضمن المراجع التي نحال عليها في دروسنا وتعاملنا مع هذه المراجع هو تعامل الطالب والمؤرخ الموضوعي الذي لا بد أن يتحلى بالنقد والعقلانية لذلك نجدد تأكيدنا ومن خلال جريدتكم أن كل ما قيل فيه الكثير من الافتراء من أولئك الذين لا يسمعون إلا أصواتهم ويرفضون كل صوت مطالب.
فليس لنا كما قلت أي مشكل مع اليهود ولا اليهودية كدين إنما نحن نعبر عن رفضنا للصهيونية ولممارستها. ونقول أيضا لهؤلاء كفوا عن تزييف الحقائق التي تلت أي مشكل مع اليهود ولا اليهودية كدين إنما نحن نعبر عن رفضنا للصهيونية ولممارستها. ونقول أيضا لهؤلاء كفوا عن تزييف الحقائق التي لم تظهر اليوم فقد كانت مواقفنا ثابتة ونذر هؤلاء أنه لما صمتوا على ما حدث في الغريبة أثناء أحداث جينين كان المكتب الفيدرالي للاتحاد العام لطلبة تونس قد عبّر بكل وضوح وجرأة عن رفضه واستنكار لذلك العدوان الذي استهدف الغريبة من منطلق رفضنا المبدئي لأي شكل من أشكال العدوان على شعبنا في تونس دون أي فرق على أساس ديني أو عرقي أو جهوي أو غيره ومهما كان الدافع.
لذلك نقول لهؤلاء الناعقين كفوا عن السفسطة وكفوا عن تشويه صورة بلدكم وصورة قواه الحية.
* بعد هذا التعليل المستفيض هناك من يقول أن الشعارات التي رفعت كانت عكس ما تقول بل كانت معادية لليهود.
ـ أولا الشعارات التي تم رفعها لم تكن منطوقة وإنما كانت مكتوبة وكانت مقسمة على محورين الأول قطاعي متعلق برفضنا لمنظومة ـ إمد ـ المشروع المطروح في الجامعة لإصلاح التعليم برفضنا تدخل الوزارة في مشاكل الاتحاد وهذه الشعارت المكتوبة كانت موجهة إلى السيد وزير التعليم العالي الذي كان من المفروض حضوره ولم يحضر والمحور الثاني كان في علاقة بالتطبيع وبتحويل البحث العلمي إلى مطية للتطبيع. تم التعبير عن هذه المواقف بشكل مسؤول وبدون أي مغالاة ومع التنصيص والتأكيد لرفع أي لبس حول موقفنا من العنف والإرهاب نؤكد بشكل مبدئي وقطعي أننا ضد أي ممارسة تخرج عن نطاق مقومات المجتمع المدني وثوابت السلم الاجتماعي سواء داخل مجتمعنا العربي في تونس أو مع بقية المجتمعات أي إننا نصر إصرارا نابعا من ثوابتنا الحضارية أن التفاعل الايجابي لترسيخ مقومات مجتمعنا الحديث ولتثبيت أواصر الانتماء مع كل المجتمعات وهكذا فإنه إذ نعادي الصهيونية إنما نعزز قوى التحرر والديمقراطية العالمية ونكرس علاقة الانتماء الموسعة على قاعدة التفاعل الثنائي وليس تصادم الحضارات. ومن زاوية نظرنا هذه فإننا نحفظ لليهود كما فعلنا على طول تاريخنا القديم حقهم في انتمائهم الديني. نقول هذا لكي لا يقع ذلك الخلط غير المقصود ـ وربما المقصود ـ لقذف هذا التحرك الطلابي والرمي به في خانة الإرهاب والظلامية فإن كان ما قيل عن قصد ووعي فليس لنا إلا أن نفهم بأن القائل قصد مما قال » أن معاداة الصهيونية هي الإرهاب عينه » ونقول هل هناك إرهاب مثل الصهيونية؟ إن جميع شعوب العالم نستنكر ممارسات المتطرف الصهيوني الذي لم يتوان حتى عن اقتلاع الأشجار والمنازل. فكيف سيكون موقفنا والحال أن ما يقوم به هو في ديارنا.
* بعد هذه الإيضاحات المهمة نود لو تجلي لنا طبيعة العلاقة بين الأستاذ والطالب؟
ـ شكرا على هذا السؤال، العلاقة بيننا (الطلبة) وبين أساتذتنا هي علاقة الابن بالأب تقوم على الاحترام والثقة والحب كما تقوم بمضمونها المعرفي والتنويري فحبنا للأستاذ نابع من حبنا للحقيقة وعلى ذلك فإن ما حدث لا يعدو أن يكون خلاف ربما بلغ درجة الاستفزاز البسيط الذي لا يتعدى حدود النقاش المعرفي والجدل الثقافي وهكذا فإننا ندين كل ممارسة تخرج عن هذا الإطار ونهيب بكليتنا وأساتذتنا وعميدنا وإدارتنا وعمالها وكل عنصر في منارة العلم هذه وإن رسالتنا التي نتلقاها والتي سنلقنها بدورنا للأجيال القادمة إنما هي رسالة العلم وحب المعرفة.
حاوره صابر بن مصباح
(المصدر: صحيفة « الوحدة » الأسبوعية، العدد 493 بتاريخ 25 مارس 2006)
* تسريب الرمل
كتاب الزميل خميس الخياطي ـ تسريب الرمل ـ ينتظر إلى حد الآن اذن المصالح المعنية بالإيداع القانوني حتى يمكن ترويجه.
هذا الانتظار الذي طال يعيد طرح مسألة الايداع القانوني بالنسبة للكتب خاصة بعد أن وقع الغاء العمل بالإيداع القانوني بالنسبة للصحف والدوريات. وهذا يعني أن النسج على نفس المنوال بالنسبة للكتب قد أضحى ضروريا. وما دمنا مع ـ تسريب الرمل ـ الذي يشكل قراءة في الخطاب الاعلامي للفضائيات العربية نشير إلى أن مادته الأساسية تتشكل من مقالات سبق للزميل خميس الخياطي أن نشرها في عدد من الصحف التونسية والعربية.
* إشارات
ما تقدمه مؤسسة الاذاعة والتلفزة التونسية مؤخرا من إشارات نحو التطور والانفتاح يحتاج إلى التذكير به وإلى النحت على قطع خطوات أخرى في اتجاهه.
ذلك أن البرامج والمجلات الاخبارية قد أخذت تشهد جرعة من الجرأة والالتصاق بمشاغل المواطنين هذا دون أن ننسى ما يلاحظ من نبرة مختلفة في الملفات والبرامج الحوارية.
هذه الإشارات التي نسجل ايجابيتها ندعو إلى الارتقاء بها وتطويرها وإلى جعلها أساسا ثابتا في تعاطي مؤسسة الاذاعة والتلفزة الوطنية مع الشأن الوطني ولا شك أن بعث مجلس برمجة تعددي يمكن أن يلعب دورا هاما في هذا الاتجاه.
ما دمنا مع الاشارات المشجعة تشير إلى أن ما يقدمه برنامج ـ المسكوت عنه ـ الذي تبثه القناة التلفزية الخاصة ـ حنبعل يندرج في هذا السياق ويحتاج إلى تنويه.
* اجراء وآمال :
أعلن السيد الرئيس زين العابدين بن علي في خطابه الذي ألقاه بمناسبة الذكرى الخمسين للاستقلال عن اجراءات تتصل بضمان سرعة النفاذ للشبكة العنكبوتية وتوفر مجالا أهم للتعاطي معها وذلك من خلال الانخراط في أحدث تسيير وتشغيل الانترنيت. هذا الاجراء، الذي يحتاج من الناحية التقنية، إلى استعدادات وترتيبات قد تستغرق سنة، يعتبر على غاية الأهمية سواء من الناحية الاقتصادية أو من الناحية السياسية وهو ما جعل المدركين لابعاده يتفاعلون معه بكل ايجابة.
من ناحية أخرى علمت ـ الوحدة ـ أنه من غير المستبعد أن تشهد الفترة القادمة اجراءات هامة في ما يتصل بتطوير وضعية السجون في تونس وبدفع قطاع الاعلام.
* احتجاج :
يواصل المسؤولون عن ـ تونس الخضراء ـ الإحتجاج على عدم تمكينهم من تأشيرة العمل القانوني وذلك اثر الترخيص لحزب له اهتمام بالبيئة وهو ـ حزب الخضر للتقدم ـ
ولا شك أن ما يبدو واضحا هو أنه لا يوجد ما يمنع من الناحية السياسية، دون تمكين ـ تونس الخضراء ـ من ممارسة حق العمل السياسي العلني.
(المصدر: صحيفة « الوحدة » الأسبوعية، العدد 493 بتاريخ 25 مارس 2006)
الاستقلال بناء لا يتوقف :
آراء وتحاليل للقروي والسحباني والبكوش ومهنــّي
تميزت الحياة التجمعية في الايام الاخيرة بتعدد الانشطة الوطنية والمحلية والجهوية التي اتخذت من الاستقلال محورا لها فتنوعت الاجتماعات التعبوية واختلفت اساليب الخطب من حيث المنهج واتحدت من حيث الموضوع… ومن هذه الانشطة نتوقف عند اشغال الندوة الوطنية المنتظمة مؤخرا بدار التجمع الدستوري الديمقراطي بالعاصمة بمناسبة الذكرى الخمسين للاستقلال وعن »الاستقلال تحرير وبناء وتغيير واصلاح لا يتوقف» شهدت مداخلات متنوعة في الافتتاح والاختتام.
أكد السيد حامد القروي النائب الاول لرئيس التجمع الدستوري الديمقراطي ان الاستقلال جاء نتيجة حتمية لنضالات الشعب الذي آمن بحريته ووهب دماء ابنائه فداء للوطن من اجل نيل الكرامة والحرية والسيادة.
نضال الزعيم بورقيبة
وتوقف عند المجهودات التي قام بها الدستوريون من اجل توحيد الصفوف ورصّها وتعبئة المناضلين وحسن تأطيرهم في رحاب الحزب الحر الدستوري آنذاك واشاد النائب الاول لرئيس التجمع بحنكة القيادة آنذاك وخاصة الزعيم الحبيب بورقيبة. وكانت توجهاته الصائبة يسرت نيل الاستقلال ووضع اسس بناء دولة الحداثة دولة الاستقلال. ومن علامات دولة الاستقلال الرهان على التعليم في بناء الدولة وتثقيف المجتمع وتنمية كفاءاته وتحرير المرأة عبر اصدار مجلة الاحوال الشخصية وهذا ما مكن من ادماج نصف المجتمع في معركة البناء والتنمية. واكد النائب الاول لرئيس التجمع ان الخلل الذي اصاب البلاد في منتصف الثمانينات مرده ليس كبر سن الزعيم بورقيبة وانما مرضه وانتهازية الحاشية المحيطة به التي تناست مصلحة البلاد واندفعت نحو الصراع على الخلافة. وذكر ان تونس في تلك الفترة كانت عرضة للاطماع الخارجية التي تسعى الى نهب خيراتها بأشكال جديدة من الاستعمار.
ضد المطامع الخارجية
وأضاف : إن الرئيس بن علي هو رجل الانقاذ فكان تحول السابع من نوفمبر الذي امّن لتونس حياة كريمة بعيدا عن المطامع الخارجية وكانت سنوات التغيير حافزة بالمكاسب والانجازات وقطعنا حينها اشواطا هامة على درب الديمقراطية وحقوق الانسان وربطنا ذلك بالتنمية. واشار السيد حامد القروي الى ان 84% من الشعب التونسي الان لم يعايش الاستعمار مما دعا الى ضرورة تعريف الاجيال الناشئة بنضالات من سبقوهم من الاجداد مؤكدا ان الحرية لا توهب وانما تنتزع. كما ذكر ان المتمسحين على اعتاب السفارات هم قلة باعوا ضمائرهم ووطنهم لجهات اجنبية بتعلة الدفاع عن حقوق الانسان. وقال انه لا يمكن ان تصل دولة الى حد الكمال في حقوق الانسان مشددا على الخطوات التي قطعت ومنها تأمين دخول المعارضة للمجالس الاستشارية والتمثيلية وفتح الافاق لحرية الرأي والتعبير.
قسم الاجيال السابقة
اما السيد الطيب السحباني عضو اللجنة المركزية للتجمع وعضو مجلس المستشارين ورئيس المجلس الاستشاري للمقاومين والمناضلين فقد توقف عند تجذير قيم المواطنة والشعور بالانتماء وهي قيم الاجيال السابقة ومرجع نظرها في نضالها ضد المستعمر للمطالبة بالاستقلال والتحرر.. اما السيد الهادي البكوش الوزير الاول السابق وعضو اللجنة المركزية للتجمع وعضو مجلس المستشارين فقد توقف على ارادة الشعب التونسي على مر سنوات الاستعمار وهي ارادة لا تقهر ومستمدة من ايمان هذا الشعب بأنه الوحيد الذي يتحكم في مصيره. معركة 18 جانفي ومن بين المعارك التي جسدت تعلق التونسيين بوطنهم وتضحيتهم بالغالي والنفيس معركة 18 جانفي 1952 بعد ان فشلت طرق التفاوض السلمي والحوار العقلاني مع الفرنسيين. وكانت تلك المعركة اساسية بل حاسمة في تأمين الخطوات الثابتة نحو الاستقلال الداخلي ثم التام. وكانت مرحلة الاستقلال الداخلي او الجزئي هامة لأنها مهدت الطريق امام الاستقلال التام في 20 مارس 1956 وهو ما تطلب تكثيف الجهود طيلة خمسين سنة من اجل التأسيس والبناء على سبل ثابتة من العقلانية والحداثة والتوفيق بين الاصالة والمعاصرة.
أسس الحداثة
كما توقف الاستاذ الهادي البكوش عند عدة علامات فارقة في تاريخ بناء الدولة الحديثة ومنها:
-بعث الجيش الوطني بعد جلاء الجيش الفرنسي
-الجلاء الزراعي
-بناء الاقتصاد الوطني
-اقامة علاقات ديبلوماسية مع الدول الصديقة والشقيقة.
وفي ختام اشغال تلك الندوة الوطنية عن: »الاستقلال تحرير وبناء وتغيير اصلاح لا يتوقف» اكد السيد الهادي مهنّي الامين العام للتجمع الدستوري الديمقراطي ان هذه المناسبة هي ترسيخ لمشاعر النخوة والاعتزاز بالمكاسب المتراكمة منذ السنوات الاولى للاستقلال والتي كانت نتيجة بطولات شعبنا وصموده ونتيجة تضحيات المقاومين والشهداء وعطاء القادة والزعماء.
استقلال وحداثة
واهتم السيد الهادي مهنّي في مداخلته الاختتامية بزمن ارساء اسس تونس الاستقلال والحداثة وربط ذلك وفي فترة لاحقة بتحوّل السابع من نوفمبر الذي انقذ مكاسب تونس وامجادها وشكّل دعامة اضافية للاستقلال بعد ان بلغت البلاد من الوهن والضعف ما جعلها عرضة للمخاطر من كل حدب وصوب. وقال السيد الهادي مهنّي الامين العام للتجمع الدستوري الديمقراطي ان الجهد انصبّ بعد التحول على تحصين الذات وتعزيز القدرات واكتساب مقومات العزة والمناعة والكرامة في زمن تغيرت فيه مفاهيم الاستقلال والسيادة وتبدلت فيه آليات المحافظة على تلك المفاهيم. وذكر ان شرف المحافظة على الاستقلال ودعمه مسألة ملقاة على الاجيال اللاحقة وهذا ما يستدعي منها مزيد الكفاح والنضال على عدة مستويات منها ما هو اجتماعي سياسي وآخر اقتصادي ثقافي في مجتمع المعرفة والابتكار والتجديد.
ناجح مبارك
(المصدر: القسم العربي بمجلة « حقائق »، العدد 1056 بتاريخ 23 مارس 2006)
الجمهورية التونسية: بين الاستعمار والاستقلال
في اطار احتفال تونس بمرور خمسين سنة على اعلان استقلال البلاد نظم المجلس الاقتصادي والاجتماعي ندوة أثثها السيد نور الدين الدقّي الاستاذ في التاريخ والمدير العام للتعليم العالي وترأسها السيد الدالي الجازي رئيس المجلس عن اهم المحطات السياسية في الكفاح الوطني قبيل الاستقلال والسيد رضا بن حمّاد العميد السابق بكلية الحقوق بتونس وعضو المجلس الدستوري وكان موضوع المداخلة ابرز الافكار في اشغال المجلس القومي التأسيسي.
شهدت تونس خلال نهاية القرن التاسع عشر دخول فرنسا الى ترابها معلنة الحماية تعلة للاستعمار والهيمنة السياسية والاقتصادية. وامام سوء معاملة فرنسا للتونسيين وسيطرتها على اهم موارد البلاد وخيراتها وتسلطها وتجبّرها ثار الشعب التونسي في سبيل استرداد حقه في تقرير مصيره والتصرف في مكاسبه. فكانت هذه الثورة، بالتالي، ثورات على تنوعها واختلافها ترمي الى تحقيق هدف واحد وهو الاستقلال.
هذه الثورات تعتبر محطات سياسية في تاريخ الحركة الوطنية قبيل الاستقلال.. انطلقت ثورة صامتة غذّاها الفكر الاصلاحي والثقافي وانتهت ثورة سياسية واحيانا مسلحة قادت تونس الى الاستقلال. وقد استعرض السيد نور الدين الدقي اهم محطات مقاومة المحتل منذ ان وطئت قدماه الارض التونسية سنة 1881 الى ان حصلت بلادنا على استقلالها التام سنة 1956، وفي الاثناء مرت امام الحاضرين ذكريات ونضالات كان أبطالها علي باش حامبة وحركة الشبان التونسيين الذين مهدوا لميلاد الفكر الوطني ثم كانت المحطة الهامة وهي تأسيس الحزب الحر الدستوري التونسي الذي ربط منذ سنة 1920 بين النضال الوطني وضرورة بناء مجتمع يسوده القانون ويعلوه الدستور. ثم كانت المرحلة الاهم مع الحزب الحر الدستوري الجديد ومع الزعيم الراحل الحبيب بورقيبة ورفاقه الذين طوّروا أشكال النضال السياسي وقطعوا مع الطرق التقليدية ممهدين بذلك لحداثة المجتمع وحداثة الدولة المستقلة كذلك.
وبعد ان استعرض المحاضر بدقة المؤرخ اهم المفاصل التي قادت تونس الى 20 مارس 1956 افسح رئيس الجلسة السيد الدالي الجازي الكلمة للاستاذ رضا بن حماد كي يحاضر عن الاتجاهات الفكرية والسياسية داخل المجلس التأسيسي الذي كان اول »برلمان» تونسي منتخب بعد الاستقلال. كانت تلك اهم النقاط التي توقف عندها السيد رضا بن حماد، العميد السابق بكلية الحقوق بتونس وعضو المجلس الدستوري إثر محاضرته عن »ابرز الافكار في اشغال المجلس القومي التأسيسي».
تونس المستقلة.. بين الملكية الدستورية والجمهورية الدستورية
ضمن استراتيجيه عامّة هادفة إلى تخليص البلاد التونسية من الهيمنة الاستعمارية لبناء كيان وطني، نادى الشعب التونسي بضرورة أن تقرّ الحكومة دستورا تونسيا يضمن للتونسيين حقوقهم ويحدد واجباتهم ويكرس استقلال البلاد .فكانت هذه المناداة واضعة في الاعتبار خيارين لسنّ الدستور،إمّا الرجوع إلى دستور 1861 وإدخاله حيّز التنفيذ من جديد وإما وضع دستور تونسي جديد يتماشى وطموحات الشعب وآماله.
ولمّا كان الاستقلال صارت الفرصة سانحة للشعب التونسي كي يختارلأول مرة في تاريخه نوّابه بصفة مباشرة وسريّة عن طريق الاقتراع العام في نطاق مجلس نيابي عُهٍد إليه أمر وضع دستور لتونس المستقلّة، فكان الفوزفي هذه الانتخابات حليف الجبهة الوطنيّة ممّا مكّنها من السيطرة على أشغال المجلس القومي التّأسيسي الذي كان يرمي إلى وضع دستور يتمّ عرضه على الباي والمصادقة عليه، غير أن إعلان الجمهوريّة جعل الباي لا يحتكم إلا على مكانة صورية شرفية، أبطلت عمل الجبهة الوطنية التي كانت معتمدة على تخطيط معين.
وبناء على هذه المعطيات، كانت الفرصة متاحة أمام المجلس لوضع دستور الجمهورية بصفته الممثل لسيادة الشعب. إلا أن عمل المجلس التأسيسي لم يَدُمْ سوى ثلاث سنوات مرّت خلالها تونس من نظام ملكي دستوري حاول المجلس بناءه على غرار النّظام البرلماني البريطاني إلى نظام جمهوري رئاسي وقع إقراره بعد دراسة مجموعة من دساتير شعوب ناشئة مثل سوريا ومصر ودساتير شعوب ذات تجارب مثل أمريكا وبريطانيا.
النظام الملكي الدستوري
جاء في الأمر العلي الذي صدر في 29 ديسمبر1955 والذي بمقتضاه دُعِي المجلس القومي التأسيسي للانعقاد »وحيث أن الوقت قد حان لمنح مملكتنا دستورا يحدّد نظام السّلط وسن دواليب الدّولة وحقوق المواطنين وواجباتهم ويختم الدّستور الموضوع من طرف المجلس بخاتمنا السّعيد » من خلال هذه الكلمة، نستنتج أنّ المجلس التّأسيسيّ مكلّف من قبل الباي بسنّ دستور المملكة التونسيّة. في حين تبقى للباي مهمّة ختمه وإصداره ومنحه القوّة الفعليّة. ونتيجة لذلك قام المجلس بوضع مشروع دستور جاء في الفصل الرابع منه أن تونس دولة ملكية دستورية، تقوم مؤسساتها على فصل هيكلي بين السلطتين التنفيذية والتشريعية.فالسلطة التشريعية كانت تتكون من جهتين. الأولى يمثلها الملك الذي لا تتعدى مهمته المصادقة على القرارات التي يصدرها رئيس الحكومة.
وبناء على ذلك، لا يعتبر الملك مسؤولا أمام الشعب والبرلمان.و إنما تقتصر مهمته على ممارسة الصلاحيات الشرفية كترؤس المهرجانات والأعياد الرسمية. في حين تمثل الحكومة المتكونة من الوزراء ورئيس الدولة الجهة الثانية من السلطة التنفيذية (الجهة الفاعلة) في مشروع الدستور. أما السلطة التشريعية، فتتكون من مجلسين: هما المجلس الوطني الذي يضم نواب الشعب المنتخبين بالاقتراع الحر السري المباشر ومجلس الشورى الذي اعتبر من قبل مشروع الدستور مجلسا استشاريا يتكون من 30 عضوا منتخبا من قبل المجالس الجهوية والبلدية. وبهذه التركيبة،كان مشروع النظام الملكي الدستوري شبيها بالنظام البرلمان البريطاني في جعل رئيس الحكومة يستحوذ على كلّ السلطات، في حين يبقى الملك بعيدا عن الحكم .والبرلمان يكون مسؤولا عن الحكومة.
ونتيجة لهذا المشروع ،توزعت المواقف والآراء بين مؤيد ومعارض .ذلك أنّ البعض كان يرى ضرورة إعداد مشروع ملكي في البداية ثم الاتجاه نحو إقرار نظام رئاسي تكون الأولوية فيه للرئيس بعد إعلان الجمهورية. إلا أنّ هذا الدستور لم يتم نشره في الراّئد الرسمي كما لم تتم مناقشته نظرا لإلغاء الملكية مباشرة بعد إعلان الجمهورية.
النظام الجمهوري الدستوري
إثر إعلان الجمهورية، بات من الضروري إعادة النظر في بعض فصول الدستور المتعلقة خاصة بالملكية الدستورية من قبل المجلس القومي التأسيسي، ذلك لاعتبارها أي النصوص لم تعد مواكبة للواقع التونسي الجديد آنذاك فتمّ بالتالي تقديم تصوّر جديد لنظام الحكم عُرض في الجلسة المنعقدة يوم 27 جانفي 1958 كما تعرضت لجان المجلس التأسيسي إلى جمع دساتير بعض البلدان الأجنبية للنظر فيها والاقتباس ما يتلاءم منها مع الجمهورية الجديدة. وقد أكد النائب علي بلهوان إثر تقديمه للدستور »ولم يمنعنا في البحث عن الواقع التونسي من النظر والإمعان في التجارب الدستورية التي جرى بها غيرنا من الشعوب الناشئة والشعوب العريقة في الحكم الديمقراطي كبريطانيا وأمريكا .ودرسنا بعضها درسا مستفيضا حتى تكون لنا عبرة ودليلا .ولم نقتبس منها ،لأننا أردنا أن يكون دستورنا صالحا لشعبنا وبلادنا كثوب مفصّل لجسم معيّن.وقد استفدنا كثيرا من تلك الدراسة على كل حال».
وعلى هذه الشاكلة انبنى الدستور الجمهوري التونسي بالاعتماد على العديد من الدساتير.وقد ذكر السيد رضا بن حمّاد العميد السابق لكلية الحقوق بتونس وعضو المجلس الدستوري في محاضرته بعنوان أبرز الأفكار في أشغال المجلس القومي التأسيسي التي ألقاها في الندوة التي نظمها المجلس الاقتصادي والاجتماعي: »…ولئن صح أنه تم الالتجاء إلى بعض دساتير الدول الناشئة مثل دستوري سوريا ومصر، فإن ذلك لم يؤثر على أعمال المجلس الذي كانت توجهاته العامة مصدرها أساسا الدساتير التحررية والفكر الليبرالي في أبعاده السياسية والاقتصادية».
ومن مبادئ الدستور الجديد ما أكد عليه النائب علي بلهوان المقرّر العام للدستور في بداية عرضه لمشروع الدستور الجدي اذ قال: » لقد اخترنا لبلادنا النظام الجمهوري الرئاسي كي لا تتشتّت المسؤوليات ولا يتوزع النفوذ، فالسلطة التنفيذية القوية ضمان أصلي لحريّة الأفراد والجماعات تمنع كل اعتداء من فرد على فرد أو جماعة على جماعة ، وضمان أيضا للنظام والأمن» وهنا تظهر جليا الرؤى الدستورية التي انبنت على ضرورة الفصل بين السلط في استقلالها العضوي وتخصصها الوظيفي مع التأكيد على نجاعة التعاون في ما بينها.
فالمقصود بالاستقلال العضوي أن السلطة التشريعية أصبحت على خلاف مشروع الملكية بين رئاسة الدولة ورئاسة الحكومة يتم اختيارهم من قبل رئيس الدولة بكل حرية. في حين أصبحت السلطة التشريعية مجسمة في مجلس واحد هو مجلس الدولة. أما التخصص الوظيفي ، فالمقصود منه قيام كل سلطة في الدولة الجديدة بوظيفة معينة دون تدخل السلط الأخرى. فالرئيس مكلف بالوظيفة التنفيذية وضبط السياسة العامة للدولة ،في حين يتولى البرلمان وظيفة التشريع.
إلا أن هذا الفصل حسب الدستور الجمهوري للدولة الجديدة لم يكن ذا طابع صارم، ذلك أن السلطتين التشريعية والتنفيذية كانتا تتمتعان بوسائل تراقب من خلالها أعمالها. فمثلا كان لرئيس الدولة وسائل تمكنه من التدخل في مجلس الأمة من خلال حق عرض تشريع القوانين والاعتراض عليها مقابل وسائل تأثير الرئيس على مجلس الأمة. فوقعت تنقيحات فيه إثر مناقشات المجلس القومي. وذلك ليكون الدستور مستجيبا لبنود النظام الجمهوري وتطلعات قادته.
وهكذا، فإن مشروع النظام الجمهوري قد استجاب لمتطلبات الفصل بين السلط إلا أنه تم التخلي عنه في ما بعد لصالح النظام.
الفة جامي
(المصدر: القسم العربي بمجلة « حقائق »، العدد 1056 بتاريخ 23 مارس 2006)
السيد محمد الناصر في حوار عن الاستقلال وسنوات السبعينات وما بعدها
– الاصرار على الوحدة الوطنية كان وراء هيمنة الرأي الواحد والحزب الواحد
– التراجع عن التعاضد وانتخابات 1981أثّرا على مصداقية الحزب
يعدّ الان الاستاذ المحامي محمد الناصر شاهدا على عصر اتسم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا بالتقلبات. ولعل العودة الى سنوات بناء الدولة الحديثة من الستينات مرورا بعراك السبعينات الى انتخابات 1981 تكشف لنا عمق تلك التقلبات. عدنا مع السيد محمد الناصر لينظر الى المسألة من عدة زوايا فالرجل كان فاعلا في فترات متعاقبة اذ أمسك بحقيبة وزارة العمل والشؤون الاجتماعية وترأس المجلس الاقتصادي والاجتماعي وهذا ما يبرّر دقة معطياته وتقييماته للتشريع الاجتماعي وتطوره. كما ان اهتمامه الاجتماعي نظريا وممارسة، وهو الذي يرأس الجمعية التونسية للقانون الاجتماعي، قد جعله يدقق النظر في علاقة قيادات الاتحاد العام التونسي للشغل في تلك الفترة بالحزب الحاكم. ولم ينف تأثير الدوافع الشخصية في تلك العلاقة. في هذا الحوار يتحدث الاستاذ محمد الناصر عن الاستقلال الآن وغدا وشخصية الزعيم وتأثيرها على دواليب الحزب والدولة والازمات التي عاشتها تونس اجتماعيا ومنها ازمة 1978 التي اعتبرها سياسية بالاساس وتحدث كذلك عن التعددية الغائبة سابقا والتي جعلت الاتحاد يستقطب التيارات السياسية…
كيف ترى الاستقلال الان؟ أي عبر المستقبل؟
يمثل الاستقلال منعرجا هاما في تاريخنا المعاصر وتتويجا للكفاح الوطني الذي خاضه الشعب بقيادة ثلة من رجاله الابرار وفي مقدمتهم الزعيم الحبيب بورقيبة. وفي هذه الذكرى المجيدة لا يفوتنا ان ننحني بخشوع امام ارواح شهدائنا الافاضل ونعبّر عن إكبارنا لنضال كل من ساهم في تحقيق الحدث المجيد. إلاّ ان الاستقلال لم يكن غاية في حد ذاته بقدر ما كان مرحلة لاسترجاع السيادة وبناء الدولة الوطنية وتنمية البلاد واصلاح المجتمع. واليوم بعد خمسين سنة من الاستقلال يحق لنا ان نعتزّ بما تحقق سواء في ما يتعلق بالتنمية الاقتصادية والاجتماعية او بتوفير حظوظ متساوية لكل التونسيين والتونسيات عن طريق التعليم وتحرير المرأة وترسيخ الحوار الاجتماعي وتعميم الحماية الاجتماعية وتعزيز التضامن بين مختلف فئات المجتمع الى غير ذلك من الانجازات التي حققتها الدولة التونسية. ولا شك ان الاعتزاز بالمكاسب لا يخفي علينا ان الطموحات متصاعدة والحاجيات متزايدة بحكم تطور عدد السكان وظروف العيش ومستوى التعليم وتغيير سلّم القيم بحيث ان التنمية وإشباع الحاجيات على اختلاف انواعها وإصلاح المجتمع عمل متواصل ليست له نهاية.
تغيّر سلّم القيم
كيف تقيّم التحولات الاجتماعية في تونس بعد الاستقلال؟
ليس من السهل الاجابة عن سؤالك في اطار هذا الحديث. فالموضوع يتطلب مجالا اوسع من البحث والتحليل على ان ما يلفت الانتباه هو تنامي مستوى الطموح لدى المواطن والتطلع الى الاحسن مع تصدّر الاعتبارات المادية في سلّم القيم وتقلص حجم الاسرة ومستوى التضامن العائلي الى جانب تذبذب المراجع الاخلاقية والثقافية وانعكاس ذلك على السلوك الاجتماعي الذي كثيرا مايتميز بالتسيب وقلة الانضباط وعدم الاكتراث بحقوق الغير.
تميزت الفترة البورقيبة بالجذب والدفع مع اتحاد الشغل فهل يعود ذلك الى كاريزماتية القيادات النقابية او الحزبية لأسباب موضوعية؟
لا شك ان الدوافع الشخصية والاعتبارات الذاتية لدى القيادات النقابية والحزبية كان لها تأثيرها على العلاقات بين الحزب والحكومة من جهة والاتحاد العام التونسي للشغل من جهة اخرى خلال العقود الثلاثة للنظام البورقيبي. لكن لا ننسى ان معظم القادة النقابيين كانوا مناضلين في الحزب وان علاقة الاتحاد والحزب نشأت وتلاحمت في معركة التحرير. كما ان الاتحاد كان له مشروع اجتماعي وكان له وزنه السياسي بحكم تجذّره في المجتمع وتنظيم هياكله وانتشاره في البلاد وكذلك بحكم الشرعية التاريخية التي اكتسبها اثناء معركة التحرير. لذلك فإن نظرة قادة الحزب اليه كانت تارة كحليف وتارة كخصم على ان تعاملهم معه كان دائما من زاوية تعديل ميزان القوى في الساحة السياسية. ففي الظروف التي تميزت بالانشقاق والضعف في صفوف الحزب حرصت قيادته على التحالف مع قيادة الاتحاد لدعم مواقفها وتعزيز شرعيتها والتفوق على خصومها. كان ذلك مثلا بمناسبة مؤتمر صفاقس سنة 1955 بعد الانشقاق الذي حصل في صفوف الحزب لمعارضة الامين العام آنذاك للاستقلال الداخلي باعتباره »خطوة الى الوراء» حيث ساهمت قيادة الاتحاد مساهمة فعالة في تنظيم المؤتمر وفي إنجاحه ودعمه لموقف الرئيس بورقيبة.
كما كان ذلك في مؤتمر المنستير الاول 1971 حيث دعم قادة الاتحاد آنذاك موقف الرئيس والامين العام خاصة بعد الانشقاق الذي حصل في صفوف الحزب حول كيفية تطبيق قرار المؤتمر. وفي مناسبات اخرى تميز سلوك قادة الاتحاد بالتشبث بالاستقلالية وبمواقف سياسية تتعارض مع توجهات الحزب والحكومة فكانت ازمة جانفي 1978 وازمة 1984 وغيرهما.
أوّل إضراب عام
ازمة 26 جانفي كانت فعلا اول اضراب عام نادى به الاتحاد بعد الاستقلال واول ازمة بينه وبين الحكومة بعد الاعلان عن الميثاق الاجتماعي الذي تم بمقتضاه تحسين هام في الاجور وتأمين حماية الطاقة الشرائية بربط الاجر الادنى بارتفاع مؤشر الاسعار والالتزام بالسلم الاجتماعية طيلة خمس سنوات اي الى نهاية اجل العقود المشتركة. دون الدخول في جزئيات هذا الحدث فإن ما يمكن استنتاجه هو ان ازمة 26 جانفي كانت ازمة سياسية رغم انها جاءت في اطار مطالب اجتماعية تتعلق بجملة من القوانين الاساسية تخص شركات القطاع العام فشلت فيها المفاوضات بين الحكومة والاتحاد. فإذا استرجعنا تطور الاحداث التي سبقت اضراب 26 جانفي 1978 نجد اولا ان الميثاق الاجتماعي الذي تم الاتفاق عليه في 1977 كميثاق شرف بين الحكومة واتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة لاقى معارضة قوية لدى التيارات التقدمية والراديكالية داخل الاتحاد برزت في مؤتمر مارس 1977 وادّى الى انتقادات لاذعة موجهة الى لقيادة النقابية التي اتهموها بالتواطؤ مع الحكومة بعد موافقتها على »هدنة اجتماعية» مدة خمس سنوات.
وتزامن هذا الموقف مع تفاقم الاضرابات التي كان من المفروض ان يتقلص عددها بعد الميثاق الاجتماعي في حين تسيّس الخطاب النقابي واصبح موجها ضد اختيارات الحكومة الليبيرالية. وفي المقابل فإن بعض عناصر القيادة في الحزب كانوا يرون في اندساس التيارات السياسية المعارضة في صفوف الاتحاد مبعثا للشغب والفوضى وخطرا على مكانة الحزب ودوره في البلاد مما يستوجب اعادة النظر في علاقات الحزب بالقيادة النقابية ووضع حد لتجاوزات هذه القيادة.
هل كانت الاضرابات هي السبيل الوحيد للضغط على السلطة في صورة انسداد افق الحوار؟
الاضراب في اطار العلاقات الشغلية هو الوسيلة القصوى للضغط على صاحب العمل لتحقيق مطالب اجتماعية مشروعة لكن المشرّع قد بعث هياكل للحوار وللتحكيم قبل الالتجاء الى الاضراب لذلك كان الاضراب للضغط على السلطة عملية ذات أبعاد سياسية بحتة ولا تدخل في المفهوم المعتاد والخاص بالعلاقات الشغلية المنصوص عليها في القوانين الاجتماعية.
الطرف والحكم
كانت سنة 1970 محطة هامة في تاريخنا السياسي المعاصر الاقتصادي والاجتماعي… هل كان الشعب والحكم على استعداد لذلك؟
فعلا كانت سنة 1970 سنة تغيير عميق في السياسة التنموية وفي علاقة الدولة بالمجتمع. ففي حين كانت الدولة في الستينات تنفرد بتأمين الحاجيات الاساسية لكل المواطنين وبتنمية الاقتصاد وبتغيير العلاقات الاقتصادية والاجتماعية في اطار نمط تنموي يعتمد على القطاعات الثلاثة فقد اصبحت حكما وطرفا في اطار »عقد تنمية» تشترك فيه مع المنظمات المهنية هدفه تنمية الثروة الوطنية وتوزيع ثمراتها بأكثر ما يمكن من العدالة. الى جانب ذلك فقد كان اختيار هذا التوجه الجديد ليكون بديلا للاشتراكية من جهة وللتعددية السياسية من جهة اخرى واطارا لاستبدال الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية. فالحزب والحكومة من جهة وقوى الانتاج والعمل الممثلة في المنظمات المهنية من جهة اخرى اصبحت اذن اطرافا في هذا العقد الذي كان محل وفاق بعد اقراره في مؤتمر الحزب وبعد انخراط مختلف المنظمات المهنية فيه وقد سمي آنذاك »ميثاق الرقي». الازمات التي عاشتها تونس عند تجسيم هذا الوفاق على ارض الواقع خاصة سنة 1978 وسنة 1984 اظهرت نقائص وحدود هذا المشروع. ولعل من اهم اسباب هذه الازمات اضطلاع الدولة بدور الطرف والحكم من جهة والمكانة المتميزة التي حظي بها اتحاد الشغل في غياب التعددية السياسية من جهة اخرى.
ففي ما يخص الدولة فقد لقيت صعوبة في التوفيق بين دورها كحكم ودورها كطرف اجتماعي بصفتها اكبر مشغّل في البلاد وقد ادى ذلك الى التشكيك من قبل اتحاد الشغل في حيادها كحكم وفي قدرتها على توزيع عادل لثروات النمو على مختلف المنتجين والعمال. وفي ما يخص اتحاد الشغل فبحكم الوضع الجديد الذي افرزه ميثاق الرقي فقد اصبح طرفا مخاطبا لجميع الاطراف الاخرى اي الدولة واصحاب الاعمال والفلاحين في المفاوضات الاجتماعية مما اعطاه ثقلا اجتماعيا وسياسيا باعتباره الممثل الوحيد لجميع الشغالين في مختلف القطاعات. الى جانب ذلك فإن انعدام التعددية السياسية ساعد الاتحاد على استقطاب مختلف التيارات السياسية المعارضة للحزب الحاكم. مما ادى الى الاصطدام والى ازمة 26 جانفي 1978 التي ابرزت هشاشة السياسة التعاقدية وحدود الخيار المتمثل في استبدال الديمقراطية السياسية بالديمقراطية الاقتصادية والاجتماعية.
في التشريع الاجتماعي
باعتباركم رئيس الجمعية التونسية للقانون الاجتماعي، كيف تنظر الى تطور التشريعات الاجتماعية خلال نصف قرن من الاستقلال؟
لابد من التذكير في البداية بأن التشريع الاجتماعي كان متطورا في تونس قبل الاستقلال وكان مستوحى من التشريع الفرنسي. فأول نص يتعلق بتحديد ساعات العمل في تونس صدر عام 1910 وتلاه الامر المؤرخ في 4 اوت 1936 الذي حدد ساعات العمل الاسبوعية بأربعين ساعة اقتداء بالقانون الفرنسي الصادر في 21 جوان من نفس السنة بعد قيام الجبهة الشعبية في فرنسا. كما نص نفس الامر على الراحة السنوية خالصة الاجر بينما نص الامر المؤرخ في 20 افريل 1921 على حق الراحة الاسبوعية في المؤسسات الصناعية والتجارية. اما التشريع الاجتماعي المتعلق بالنقابات فقد صدر بمقتضى الامر المؤرخ في 16 نوفمبر 1932 وهذه النصوص بقيت بعد الاستقلال مع بعض التعديلات التي ادخلت عليها تماشيا مع الظروف السياسية والاقتصادية للبلاد نذكر من ضمن هذه التعديلات التنقيص من مدة الراحة بسبب الولادة التي كانت بإثني عشر اسبوعا حسب الامر المؤرخ في 1950 اصبحت بستة اسابيع، اثنتان منها بموجب شهادة طبية بمقتضى مجلة الشغل 1966 ونذكر كذلك التغيير الحاصل في تحديد المنح العائلية لاربعة اطفال بعد ان كانت المنح العائلية غير محددة وهذا التغيير يتماشى مع سياسة الدولة الجديدة في تحديد النسل والتنظيم العائلي.
في قانون الضمان الاجتماعي
لكن القوانين الصادرة بعد الاستقلال دعمت هذا التوجه؟
فعلا الى جانب هذه التعديلات فقد صدرت في السنوات الاولى بعد الاستقلال جملة من القوانين الاجتماعية الهامة التي غيرت من مكانة العامل الاجتماعية واعطت له الاعتبار اللائق به فيما ابرزت هذه القوانين صبغة »دولة الحماية الاجتماعية» للدولة الوطنية الفتية. فأول نص صدر بعد الاستقلال هو القانون الاساسي لعمال الفلاحة في 30 افريل24) 1956 يوما بعد تكوين الحكومة الاولى بعد الاستقلال) استجابة لأحد المطالب الاساسية لاتحاد الشغل الذي كان مشاركا في الحكومة الاولى بعد الاستقلال. وجاء هذا القانون الاساسي بمكاسب جديدة هامة للعامل الفلاحي مع العلم ان ثلاثة ارباع السكان كانوا يعيشون في المناطق الريفية قبل الاستقلال.
وتلاه في سنة 1960 قانون الضمان الاجتماعي الذي أسّس منظومة الضمان الاجتماعي في تونس التي اكتملت بتعميم التقاعد في 1974 وتعتبر هذه المنظومة محطة هامة في التاريخ الاجتماعي التونسي وهي من المكاسب الهامة التي تحققت للعمال بعد الاستقلال. ومن المحطات الهامة في التشريع الاجتماعي نذكر التغيير الحاصل سنة 1973، سنة ابرام الاتفاقية الاطارية المشتركة بين اتحاد الشغل واتحاد الصناعة والتجارة والتي كانت بداية انطلاق المفاوضات الاجتماعية التي ادت الى ابرام اتفاقية قطاعية عمت معظم القطاعات. وقد نشأ عن هذه المفاوضات الجماعية تشريع اجتماعي تعاقدي قد حسّن من مستوى الحماية الاجتماعية ظروف العمل والاجور والمنح، وتجاوز ما أقره التشريع الاجتماعي القانوني في مجلة الشغل وكما ذكرت فإن هذا التغيير في التشريع الاجتماعي تزامن مع مقتضيات الخيار السياسي والاقتصادي والاجتماعي المتمثل في السياسة التعاقدية التي انتهجتها الحكومة في السبعينات في اطار ميثاق الرقي.
وفي بداية الثمانينات نذكر كذلك تعميم نظام التقاعد على صغار الفلاحين والتجار واصحاب الحرف والمهن المستقلة وهو اصلاح تواصل بعد التغيير مما جعل الضمان الاجتماعي يمتد تدريجيا لتغطية مختلف العاملين من الأجراء وغير الأجراء. وتواصل تطوير التشريع الاجتماعي ليواكب التغير الناتج عن تحرير التجارة وعولمة الاقتصاد وعن مقتضيات تحسين القدرة التنافسية للمؤسسات الاقتصادية التونسية فتمت مراجعة مجلة الشغل سنة 1994 وسنة 1995 لإكسابها مزيدا من المرونة مع المحافظة على مستوى الحماية الاجتماعية للعمال. وخلاصة القول فإن التشريع الاجتماعي التونسي تطور تماشيا مع الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للدولة ومع مقتضيات التأقلم مع الظروف العالمية وهو في مجمله من اكثر التشاريع الاجتماعية تقدما وملاءمة مع المعايير الدولية للحماية الاجتماعية.
في حديثكم عن أزمة 26 جانفي اكدتم ان الحزب لم يغيّر سياسته ولم يقدر على التفتح على التيارات الجديدة، هل غيّر الحزب من سياسته فيما بعد؟
نعم تغيّر موقف الحزب في ما بعد من التعددية وتم ذلك في المؤتمر الاستثنائي للحزب في افريل سنة 1981 بعد سنتين تقريبا من حوادث 26 جانفي، حيث ألقى الرئيس بورقيبة خطابه المعروف الذي اعلن فيه عن اقتناعه بضرورة تشريك جميع التونسيين في اتخاذ القرارات مهما اختلفت آراؤهم وانه لا مانع من تعدد الاحزاب والمنظمات. ودخلت تونس بعد ذلك تجربة التعددية من خلال الانتخابات التشريعية في ديسمبر 1981 بعد الاعتراف من قبل الحكومة بحركة الديمقراطيين الاشتراكيين وبحزب الوحدة الشعبية وبالحزب الشيوعي الذي عاد الى نشاطه بعد ان وقع تجميده.
من النضال ضد المستعمر الى بناء الدولة الحديثة كيف أثّرت شخصية بورقيبة وخياراته في الشعب والحزب؟
ما نعرفه عن شخصية بورقيبة هو انها قوية ومتعددة الجوانب وقد برزت خصائصها شيئا فشيئا اثناء اضطلاعه بقيادة الحركة التحريرية ثم بعد الاستقلال عند اضطلاعه بمسؤولية رئاسة الدولة الوطنية وممارسة الحكم. وقد برزت شخصية بورقيبة كزعيم في قدرته على اقناع الجماهير وكسب تأييدها وعلى توعيتها وتعبئتها حول خطته لمكافحة الاستعمار الى جانب كسب تقديرها لصموده في الكفاح وأعجابها بما أبداه في قيادة الحركة الوطنية من صلابة في التشبث بالاهداف وثبات على المبادئ مع المرونة في اختيار السبل المؤدية الى تحقيقها. ومن ناحية اخرى فقد أثرت شخصية بورقيبة على علاقاته مع رفاقه في الكفاح حيث منهم من اختلف معه وابتعد عنه في حين عارضه آخرون في خياراته معارضة شديدة ادت الى الانشقاق في صفوف الحزب وفي صفوف الشعب (مسألة الاستقلال الداخلي).
وكذلك كان الامر بعد الاستقلال حيث كانت كيفية ممارسة الحكم محل انتقاد وخلاف بين بورقيبة وعدد من اعضاده في الحكومة والحزب وادت الى الازمات التي عاشتها تونس في العقود الثلاثة بعد الاستقلال. ولعل القاسم المشترك لهذه الازمات يعود الى ان الاصرار على الوحدة الوطنية وعلى وحدة القيادة قد ادى الى مقاومة الرأي المخالف والى فرض الحزب الواحد والرأي الواحد مما ادى شيئا فشيئا الى انعزال النظام وانغلاقه على نفسه وعجزه عن استقطاب التيارات الفكرية وتغذية حوار وطني مسؤول ومتواصل.
وفي ما يتعلق بالخيارات السياسية والاقتصادية التي وقع اقرارها في العقود الثلاثة بعد الاستقلال فقد تمّ التراجع في بعضها كتجربة التعاضد في الستينات وتجربة الانتخابات التشريعية التعددية سنة 1981 وقد كان لهذا التراجع تأثيره السلبي على مصداقية الدولة والحزب كما ان بعض الخيارات ادت الى الازمات السياسية والاجتماعية التي تحدثت عنها في البداية. مع هذا فإن الكثير من الخيارات تم ترسيخها على ارض الواقع وكانت سببا في تطوير متميز للمجتمع التونسي وفي تعزيز مكانة تونس بين الامم وهي خيارات نفتخر بها اليوم كتحرير المرأة وتعميم التعليم والحماية الاجتماعية وتأمين الدخل ومقاومة الفقر. ويجدر هنا التذكير بأن بورقيبة قد باشر قيادة الحركة الوطنية ورئاسة الدولة بصفته صاحب مشروع وطني سياسي واجتماعي يتمثل في تحرير تونس من الاستعمار وفي بناء دولة عصرية وفي اصلاح مجتمع متخلف.
كما ان نضال بورقيبة طيلة اكثر من نصف قرن كان مؤسسا على جملة من المبادئ والقيم لا تزال محل اجماع التونسيين ونذكر منها ان الغاية الاولى التي ترمي اليها الدولة هي النهوض بالانسان وحفظ كرامته وتأهيله للاضطلاع بحقوقه وواجباته كمواطن مسؤول الى جانب تعزيز التضامن الوطني بين التونسيين وتبجيل المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.
ناجح مبارك
(المصدر: القسم العربي بمجلة « حقائق »، العدد 1056 بتاريخ 23 مارس 2006)
الدكتور والمؤرخ عبد الكريم العلاقي في حوار عن دور النقابة والحزب الشيوعي في الحركة الوطنية
الفة جامي
إلى جانب دور الحزب الدستوري، يرى بعض الملاحظين أنّ دور الاتّحاد العام التّونسي للشغل كان هامّا، ما هي حقيقة الأمور ؟
تمثلت مساهمة الاتحاد العام التونسي للشغل في توسيع القاعدة الاجتماعية للحركة الوطنية. فقام الاتحاد منذ نشأته وبصفة سريعة بربط القضية الاجتماعية بالقضية الوطنية. ففي مؤتمر أفريل لسنة 1949 طرح الاتحاد القضية الوطنية وأعطاها الأولوية في اللائحة العامة الصّادرة عن المؤتمر بالمطالبة ببرلمان تونسي منتدب وحكومة وطنية. وأكد المؤتمر الرابع في مارس 1951 هذا الطرح وتجلّى أيضا في مساهمة الاتحاد في تأسيس اللجنة للضمانات الدستورية والتمثيل الشعبي يوم 12 ماي 1951. كما كان في كل المعارك الوطنية خاصة الإضرابات العامة ذات الصبغة السياسية على سبيل المثال الإضراب العام يوم 21 و22 و23 ديسمبر 1951 احتاجا على مذكرة 15 ديسمبر التي تؤكد على ازدواجية السلطة بين سلط الحماية والتونسيين وهو تراجع على وعودها .وفي 12 جانفي 1952 إضراب عام ضد القمع المسلط على الدستوريين.
وفي كل هذه النضالات ، فإن وزن الاتحاد العام التونسي للشغل لم يكن فقط في تسييس المواقف وتجذ ير الحركة الوطنية بل بعدد منخر طيه المشاركين حيث ارتفع من 12 ألفا سنة 1946 إلى 56 ألفا سنة 1952 إلى 100 ألف تقريبا سنة 1956. إضافة إلى الدور المتميز الذي قام به فرحات حشاد خاصة في سنة 1952 في فترة قمع شديد حيث أصبح زعيما وطنيا ينشط لجنة الأربعين ويبرر ويشرع للحركة المسلحة. إلى جانب ذلك،فإن المنظمة الشغيلة قامت بالعديد من الإضرابات القطاعية المطلبية (مطالب اقتصادية واجتماعية) طويلة شملت كل القطاعات والجهات من 1946 إلى 1956 واستهدفت هذه الحركة الاضرابية المؤسسات الأوروبية عامة والفرنسية خاصة والمعمرين، وبالتالي ضربت الأسس الاقتصادية لنظام الحماية وهذا ما يفسر تنازلات فرنسا حيث قامت بتكوين حكومة محمد شنيق سنة-1951 1950 .كما أنّ هذه النضالات كانت من بين الأسباب التي تفسّر نهاية الاحتلال ودخول تونس في مفاوضات للاستقلال وبناء الدولة الحديثة.
ما هي حقيقة مساهمة الحزب الشيوعي في الحركة الوطنية ؟
كان الحزب الشيوعي التونسي متواجدا في كل النضالات والمعارك ضدّ سلطات الحماية ولو بصفة متواضعة. وأثّر في الحركة الوطنية بطرحه للمسألة الاجتماعية والتقدمية وإعطائها المكانة المتميزة. لكن مقاربة هذا الحزب تجاه المسألة الوطنية كانت مقاربة خاطئة تعطي الأولوية للجهة المعادية للفاشية وهمشت القضية الوطنية التحررية وهي القضية المركزية التي تمحورت حولها كل االمهام الطبقية والتقدمية.. وهذا راجع لارتباط الحزب الشيوعي التونسي بالمواقف الأممية الشيوعية والحزب الشيوعي الفرنسي هذا الارتباط بالمركزية الأوروبية جعل من الحزب الشيوعي التونسي بعيدا عن الالتحام بالواقع الوطني ولو ظهرت محاولات جنينية للتفاعل مع القضية الوطنية وبقي هذا الحزب بعيدا عن الطرح الوطني الوحدوي والجبهوي ضدّ الاحتلال الفرنسي وأعطى الأولوية للنضال ضدّ الخطر الفاشي وللحركات الاجتماعية والتغييرات الطبقية. ولهذا السبب شهد الحزب الشيوعي التونسي تقلصا في قاعدته الاجتماعية ومنخر طيه. وأصبح تأثيره منحصرا في العاصمة وبعض المراكز بداية الاستقلال وعكست انتخابات المجلس التأسيسي وانتخابات البلدية ضعف الحزب الشيوعي.
(المصدر: القسم العربي بمجلة « حقائق »، العدد 1056 بتاريخ 23 مارس 2006)
وزيرالخارجية التركي عبد الله غول لحقائق:
العلاقات بين تونس وتركيا أقوى ممّا يتمّ تدوينه في الاتفاقيات
أدّى السيد »عبد الله غول»، وزير الخارجية التركي، مؤخرا زيارة عمل الى بلادنا توّجت بالتوقيع على خطة عمل وتعاون ستزيد العلاقات بين البلدين تطوّرا ورسوخا. وعلى هامش تلك الزيارة التقت »حقائق» الوزير التركي وأجرت معه حديثا تطرّق فيه الى العلاقات بين تونس وتركيا والى موضوع إيران والملف النووي والى الوضع في فلسطين والعراق والى موقف بلاده من مسألة الرسوم المسيئة الى النبيّ الكريم…
اريد ان اشكر اولا السيد الوزير ثم اسأله في البداية: العلاقات بين تونس وتركيا في الالفية الجديدة كيف تقيّمونها؟
هناك نقطة هامة اودّ الاشارة اليها وهي ان تونس وتركيا ترتبطان بعلاقات تاريخية وثيقة للغاية وان الدولتين تفتخران بهذه العلاقات المشتركة. ونحن نرى اليوم ان حكومتي البلدين تمتلكان الرغبة والارادة السياسية لتقوية هذه العلاقات وتطويرها نحو الافضل. واذا كنتم تسألون عن المؤشّر الدال على ذلك فبإمكاننا القول إنه خلال السنوات الاربع الاخيرة تحققت زيارات كثيرة لرئيسي البلدين ورئيسي الوزراء ووزيري الخارجية بين الدولتين، وإن حركة تبادل الزيارات لا يوجد مثيل لها بين دولتين اخريين ولا نعتقد ان هذه الزيارات تمت بمحض الصدفة بل نقول ان العلاقة بين البلدين علاقة واعية وكان من نتائجها استكمال البنية التحتية السياسية والقانونية وبعد ذلك سترون، ان شاء الله، ان القطارات ستمر عبر السكك الحديدية التي قمنا بإنشائها.
ألم يحن الوقت لتطوير معاهدة الصداقة والجوار بين بلدينا على غرار ما تتسم به علاقة تونس بالاتحاد الاوروبي؟
كل الاتفاقيات السياسية وقّعنا عليها.. وقّعنا ايضا على اتفاقية التجارة الحرة التي لا يمكن تطبيقها الا بين بلدين يرتبطان بمستوى علاقات رفيعة للغاية. واليوم وقّعنا على خطة عمل ايضا ولا يوجد شيء ناقص بين الدولتين يمكن ان نوقّع عليه. فعلاقاتنا تفوق ما يتم تدوينه في الاتفاقيات.
الان لو سمحتم نتحدث عن علاقات تركيا بالاتحاد الاوروبي، فإلى اين وصلت المفاوضات والجدل القائم حول هذا الموضوع؟
حسب ما تعلمون فإن العلاقات بين تركيا والاتحاد الاوروبي لها ماض عريق يعود الى ما قبل اربعين عاما ولكن بعد القرار الذي تم اتخاذه في 3 اكتوبر 2003 فإن هذه العلاقة دخلت في مرحلة جديدة حيث بدأت تركيا في الفترة الماضية في مباحثات الشراكة والهدف واضح وهو العضوية التامة. وهذا الامر بقدر ما هو هام جدا بالنسبة الى تركيا فهو هام ايضا بالنسبة الى اوروبا اذ لأول مرة تبدأ دولة اسلامية في مباحثات متعلقة بالعضوية التامة في الاتحاد الاوروبي. وهذا الامر يحمل معنى كبيرا واهمية استراتيجية كبيرة ونحن نؤمن بأن هذه المسيرة ستنتهي بالنجاح، وبطبيعة الحال ستستغرق فترة طويلة يمكن ان تمتد على اثنتي عشرة سنة نظرا الى ان عدد سكان تركيا كبير مليون نسمة وقضية مثل هذه تأخذ وقتا طويلا.
سعادة الوزير متفائل إذن؟
متفائل للغاية لأن المسيرة منذ 3 اكتوبر 2003 تتقدم بشكل جيد، فالكل كان يقول ان تركيا دولة اسلامية وفي آخر لحظة سيجدون لها عثرة تكون مبررا لرفض طلبها الا ان القادة الاوروبيين تحركوا بمسؤولية كبيرة واتخذوا قرارات هامة بالفعل في هذا الصدد. ويجب ان نهنئهم ايضا في هذا الاطار لأنهم اظهروا للعالم برمته ان الاتحاد الاوروبي ليس ناديا مسيحيا، وفي النهاية عندمانتحدث عن القيم الاوروبية تبرز الديمقراطية والتجارة الحرة وحقوق الانسان. فمن الممكن ان ينتمي اناس متحدون الى طبقات اثنية مختلفة او ديانات مختلفة او يتحدثون لغات مختلفة. وبالفعل فإن القادة الاوروبيين اظهروا حِلما واتخذوا موقفا كبيرا وهذا يعتبر نجاحا كبيرا بالنسبة لهؤلاء القادة. وبطبيعة الحال فإن الدور يقع على عاتقنا الان نحن التركيين، فإذا قمنا بتحقيق ما يطلب منا من واجبات بسرعة وبشكل جيد فإننا سنخطو خطوات هامة نحو الاتحاد الاوروبي وهذا يعني تطبيق مكتسبات الاتحاد الاوروبي على تركيا ايضا، وكل هذه الاجراءات نتخذها لأنها في مصلحة شعبنا.
لتركيا دور جهوي كبير ومؤثر خاصة في قضايا فلسطين والعراق وايران فما هو تحليلكم لمجمل هذه القضايا؟
ايران دولة كبيرة ودولة جارة وتعدّ من اكبر الدول في المنطقة. ونحن الى حد الان نؤمن بإمكانية حل مشكلة تخصيب اليورانيوم بالوسائل الديبلوماسية ومما لا شك فيه ان ايران، وهي عضو في الوكالة الدولية للطاقة الذرية ستتصرف بشفافية اكثر في هذا الصدد وبطبيعة الحال من حق ايران ان تمتلك الطاقة الذرية لأهداف سلمية واذا كانت هناك بعض الشكوك فمن المفيد ازالة هذه الشكوك. ومن هذا المنطلق مازلنا نؤمن بأنه يوجد الوقت الكافي لحل هذه المشكلة بالطرق الديبلوماسية…
وبعد فوز حماس في الانتخابات التشريعية كيف ترى التعامل مع السلطة الفلسطينية في ضوء حكومة تترأسها حماس؟
جرت انتخابات حرة في فلسطين، وهذه الانتخابات جرت حتى في المناطق المحتلة من قبل اسرائيل. والان هناك وضع جديد في الساحة ويجب الاقرار بهذا الوضع. ويجب الا نفكر بشكل قاطع في ان الشعب الفلسطيني صوّت لفائدة العنف. فالناخبون لهم حالات نفسية مختلفة ومواقف مختلفة ويجب احترام نتائج التصويت.. وبطبيعة الحال تقع مسؤولية كبيرة على عاتق حماس التي فازت في الانتخابات لأنها تحمل الان مسؤولية الشعب الفلسطيني بمن فيه الذين صوّتوا لحماس والذين لم يصوّتوا لها. ونجاح حماس سيقاس بقدرتها على بناء دولة فلسطينية مستقلة على اراضيها. ولأجل ذلك يجب عليهم فهم العالم بشكل جيد. يجب على حماس ان ترتبط بعلاقات جيدة وان تقيم الحوار وتأخذ بأفكار كافة الدول المؤثرة على غرار الدول الغربية وروسيا وامريكا والدول العربية والاسلامية ولأنهم اتوا بطريقة ديمقراطية يجب عليهم ان يتحركوا بطريقة ديمقراطية…
بما في ذلك الاعتراف بإسرائيل؟
بطبيعة الحال اذا قامت بتأسيس دولتها المستقلة على اراضيها بإمكانها ان تتعايش مع اسرائيل جنبا الى جنب ولا يوجد حل اخر سوى التعايش وقد يضطرون غدا لإقامة التعاون بينهم وبين اسرائيل.
وهل ترون تطورا في موقف حماس في اتجاه ما قلتموه منذ حين؟
انا اعتقد انه سيحدث تطور في هذا الاتجاه خاصة بعد اجراء الانتخابات الاسرائيلية.. هناك بعض الصعوبات والحالات النفسية لكن يجب التعامل مع الاوضاع الجديدة بموضوعية.. اعتقد ان الجانبين، بعد الانتخابات، سيتحركان بمسؤولية اكبر وارى ان حماس قامت بسلسلة من الزيارات الى العديد من الدول واخذت العديد من النصائح وانها ستدرك الحقائق.. ولا بد من خيار من اجل السلام، فإما ان تصمت ازاء الوضع فتتعقد الامور وتسكب الدماء وتبقى في موقع المتفرج وإما انك ستسعى وتبذل ما في يدك من اجل تحقيق السلام. ونحن نؤمن بأنه يجب التحدث منذ البدء لأنه اذا تم السير في طريق خاطئ فإن العودة من ذلك الطريق صعبة. ويبدو ان قادة حماس اخذوا نصائح سيناقشونها مع زملائهم لاتخاذ القرارات الصائبة.
وما نظرتكم لما يحدث في العراق؟
للاسف الشديد فإن الحالة في العراق مضطربة. فالعراق يعتبر من البلدان العربية النادرة التي تمتلك طاقة نفطية وبشرية كبيرة. وبالرغم من هذا الثراء ترى الشعب العراقي يعاني الامرّين منذ عشرات السنين ويعيش حالة من العذاب. هناك دروس عديدة وعبر يمكن ان يستخلصها الانسان مما يحدث في العراق. فلو كانت هناك قيادة حكيمة لكان العراق الان من اغنى الدول واكثرها رفاهية في العالم. اما بالنسبة الى المسيرة السياسية فهناك حالة تحسّن، فقد شارك السنّة والشيعة والاكراد والتركمان في الانتخابات.. وكما تعلمون فإن السنّة كانوا يتعرضون الى الضرب وتم استبعادهم من المسيرة السياسية.. لكنهم شاركوا ولو ان هذا الامر لم يحدث لكانت التجزئة قد حصلت في العراق. هناك بعض الاطراف والاشخاص الذين يحملون افكارا شيطانية ويحاولون خلق الحرب الاهلية، فهل بإمكانكم ان تفكروا ان يقوم احد افراد السنّة بتدمير منزل او دار عبادة اهل البيت؟! هذا امر غير ممكن، لقد قاموا بتفجير مراقد الائمة وقتلوا الناس… لكن علماء السنة والشيعة اجتمعوا وطلبوا من الناس ألا يسيروا وراء هذا التيار الشيطاني.. والمهمّ الان وحدة الاراضي العراقية والوحدة السياسية في العراق، ويجب الا ينسى الجميع انه في حال تجزئة العراق فإن المنطقة بأكملها ستواجه حالة لا يمكن معرفة عواقبها في المستقبل. فهذه القضية تهم العالم برمّته. لذلك يجب علينا جميعا ان نبذل قصارى جهدنا من اجل تثبيت الجهة السياسية التي تلتزم بالعقل السليم وتؤمّن السلامة والاستقرار والرفاهة للشعب العراقي، ونحن نبذل قصارى جهدنا في هذا الصدد.. وهناك في اليوم الواحد 4000 ناقلة تحمل البضائع الى العراق تلبية لاحتياجات هذا البلد.
هل يعني هذا ان الحرب الاهلية غير واردة؟
لا يمكن ان نصفها بالحرب الاهلية.. فليس الشعب العراقي هو الذي يقوم بما يحدث.. هناك »المحرّرون المستفزّون» هم الذين يقومون بذلك.. يقومون بالتفجير والاعتداءات والتخريبات لخلق الصراعات الطائفة.. فهل يقبل العقل ان يفجر العراقيون مراقد احفاد النبي؟ هل هذا يقبله العقل؟!
سؤال اخير سعادة الوزير: ما رأيكم في ردود الفعل التي تلت ظهور تلك الرسوم المسيئة الى الرسول الكريم؟
نحن لا يمكن ان نقبل هذا الامر ليس بالنسبة الى نبينا فقط وانما بالنسبة الى كافة الانبياء.. واعتقد ان من يقومون بتلك الرسوم اناس مرضى.. والمرضى موجودون بالملايين في الوقت الحاضر.. في الماضي كانوا موجودين وفي المستقبل سيكونون موجودين كذلك.. اما الامر الهام فهو ان تحاول حصر هذه القضية في مكانها المحدد عند ظهورها وكان ذلك ممكنا. وارى انه من دون حرية الصحافة لا يمكن الحديث عن الحرية المطلقة.. لكن حرية الصحافة لا تعني اهانة معتقدات الاخرين ودينهم وشخصيتهم. ومن هذا المنطلق رأينا ان بعض القادة الاوروبيين الذين يسلكون العقل السليم قد ظهروا واخذوا مواقف ايجابية وادلوا بتصريحات قصد تهدئة الاوضاع.
الطيب الزّهار
(المصدر: القسم العربي بمجلة « حقائق »، العدد 1056 بتاريخ 23 مارس 2006)
ورجعت حليمة لعادتها القديمة!