TUNISNEWS
6 ème année, N° 2126 du 18.03.2006
الهيئة الوطنية للمحامين: بيــان
الحياة
: تونس: دعم أميركي للاصلاح وتفريق متظاهرين د. منصف المرزوقي: حقق آباؤنا الاستقلال الأول وسنحقق الاستقلال الثاني محمد العروسي الهاني: خواطر وسبعة مقترحات جديدة بمناسبة حلول الذكرى الخمسين لعيد الاستقلال عبد الحميد الصغير: منع اعتصام أمام مسجد المركب الجامعي بتونس العاصمة
مرسل الكسيبي: سجل بأنني تونسي وجبان وأنني لست حرا كضيف الغزال الاستاذ فيصل الزمنـى: ليس هـكذا نكـافئ المنـاضليــن الاستاذ عبد الجليل التميمي: سيمنار الذاكرة الوطنية مع السيدة فتحية مزالي حول بداية التنظيم العائلي بتونس مواطـن: أنا تونسي يوم في السنة إسلام أون لاين: الجزائر تترقب نزول المسلحين من الجبال إسلام أون لاين: جبهة معارضة سورية لتشكيل حكومة انتقالية قدس برس: من قتل أطوار بهجت؟ ولماذا لم تفصح الجهات الرسمية عن آثار التعذيب على جسدها؟ توفيق المديني: العالم يتجه نحو نظام دولي متغاير د. حسن حنفي: نهاية التنوير الأوروبي الصباح: د. المنجي الكعبي: الـرد علـى الشـرفـي
Pour afficher les caractères arabes suivre la démarche suivante : Affichage / Codage / Arabe ( Windows ) To read arabic text click on the View then Encoding then Arabic (Windows).
|
منع اعتصام أمام مسجد المركب الجامعي بتونس العاصمة
تونس: دعم أميركي للاصلاح وتفريق متظاهرين
تونس – رشيد خشانة
أكد الرئيس جورج بوش أن الولايات المتحدة «فخورة» بالشراكة مع تونس، فيما قالت المعارضة أمس إن قوات الأمن فرّقت بالقوة تجمعاً سلمياً في وسط العاصمة تونس. وقال بوش في رسالة وجهها الى الرئيس زين العابدين بن علي لمناسبة مرور نصف قرن على استقلال بلده عن فرنسا، إن واشنطن تدعم تونس في «جهودها لتطوير الديموقراطية والحرية». وشدد على أن أميركا شريك لتونس في عملها الرامي الى تحقيق أهدافها في مجال «تعزيز المؤسسات وتوسيع دائرة الحريات».
وكان الرئيس جاك شيراك وجه رسالة في المعنى نفسه إلى نظيره التونسي.
من جهة أخرى، قال معارضون إن قوات مكافحة الشغب حظرت أمس تجمعاًَ سلمياً للمطالبة بالحريات في ساحة الاستقلال وسط العاصمة تونس. وكانت هيئة 18 تشرين الأول (أكتوبر) للحقوق والحريات، وهي ائتلاف يضم أحزاباً وشخصيات عامة، دعت إلى تجمع سلمي في الجادة الرئيسية للعاصمة في الذكرى الخمسين لإعلان الاستقلال تحت شعار «خمسون سنة من الاستبداد… تكفي». وأفاد أحد قادة التحرك أن عشرات من النشطاء تجمعوا في ساحة الاستقلال وجلسوا أرضاً، إلا أن رجال الأمن استخدموا هراوات لحملهم على مغادرة المكان ما أدى إلى إصابة بعضهم بجروح.
وذكرت وكالة «رويترز» ان عشرات من افراد الشرطة يرتدون زياً مدنياً فرّقوا أمس التجمع بالقوة.
(المصدر: صحيفة الحياة الصادرة يوم 18 مارس 2006)
حقق آباؤنا الاستقلال الأول وسنحقق الاستقلال الثاني
د. منصف المرزوقي
إخوتي أخواتي في الوطن المقهور.
يحتفل الدكتاتور ونظامه، وهذا باسمنا جميعا، بنصف قرن من « الاستقلال »، في الوقت الذي يتميز فيه الوضع العام في بلادنا بخصائص ثلاث:
– أن القطيعة بين النظام والشعب ، لم تكن طيلة الخمسين سنة المنصرمة بمثل هذا العمق ، حيث تقطعت كل سبل الحوار غير المزيف ولم يعد يربط بين الطرفين إلا الخوف والاحتقار وانعدام الثقة .
– أن المواطنين لم يعرفوا ، حتى إبان الاستعمار،انتهاكا لكل حقوقهم الفردية وإذلالا لكرامتهم، وعبثا بمالهم العمومي، واستخفافا بمشاعرهم، كالذي يجربونه يوميا مع هذا النظام .
– أن استقلالية القرار الوطني في المسائل الاقتصادية أو السياسة الخارجية، لم يكن يوما بمثل هذا الفراغ خاصة وأن استقواء السلطة بالخارج للبقاء في الحكم بأي ثمن، فوّت في ما بقي منها من فتات.
هكذا لا تعرف تونس دولة وشعبا من الاستقلال إلا ما يعرفه الجائع من شواء لذيذ حكم عليه بأن يشم رائحته ولا يذوقه…. فلا الدولة مستقلة عن الاستبداد الخارجي…. ولا الشعب مستقل عن الاستبداد الداخلي…كل هذا أساسا بسبب وقوع دولة عريقة ومجتمع متحضر في قبضة نظام صادر التاريخ وصادر الوطن والوطنية وصادر الدولة لحماية مصالح خسيسة وأصبح قوة احتلال داخلي يراقب ويحاصر شعبا أعزل يغرق في مزيد من البؤس المادي والمعنوي والروحي .
وتجاه هذا الوضع الذي سيتفاقم يوما بعد يوم ، في ظل نظام همه الأوحد الحفاظ على حق الدكتاتور في السلطة مدى الحياة وحق عائلاته في النهب والسلب ، لا خيار للتونسيين والتونسيات إلا بين الموت البطيء وبين هبّة شعبية سلمية تعيد لهذا الجيل حقه في الكرامة وللجيل الجديد حقه في المستقبل.
وإذا استثنينا المرضى والشيوخ والأطفال ،وكل من أثقلت الحياة كاهلهم بصفة تجعلهم عاجزين عن الانخراط في الشأن العام ومعذورين في ذلك ، فإن على بقية التونسيين والتونسيات ،أي ما لا يقل عن ثلاثة ملايين شخص، تحمّل مسؤوليتهم كاملة تجاه وطن مشترك .فلا يجوز اليوم لأي تونسي وتونسية ، له الحد الأدنى من عزة النفس وبقيت في روحه أصداء لقيم العروبة والإسلام ، البقاء على هامش الصراع ضد الدكتاتورية و انتظار الحرية والعدالة والكرامة على طبق من ذهب من معارضة فعلت ما في وسعها، ومع هذا تتعرض للوم والنقد من قبل الجالسين على الربوة.
لقد وصلت هذه المعارضة حدودها القصوى ولا مستقبل لها إن لم يتجنّد معها الثلاثة ملايين من بقية المسئولين عن تونس . ليكن واضحا للجميع أن تواصل السلبية والانتظار وتحميل القلة المناضلة مسؤولية تحرير تونس سيجعل هذه الدكتاتورية تستفحل وتتغول أكثر فأكثر وتسلمنا قريبا كقطيع من البقر إلى وريث جديد يبرز علينا من تحالف للبوليس السياسي والعصابات الفاسدة ليتراكم الخراب على الخراب.
ولا خروج اليوم من هذا المسار الرهيب إلا بعودة الروح للملايين الذين تخلوا عن أمهم تونس وهي بأمس الحاجة إليهم. لا خيار غير المقاومة الديمقراطية كما فعل آباؤنا وأجدادنا يوم نظموا المقاومة الوطنية.
أما الأهداف التي يتوقف على تحقيقها نجاة الوطن فهي أربعة : السيادة الفعلية للشعب عبر الانتخابات الحرة والنزيهة ، الكرامة للمواطن عبر نهاية السلطة بالتخويف ، الشرعية والهيبة للدولة عبر عودة الشرطة والقضاء والإدارة لوظائفها في حماية المجتمع من الجريمة المنظمة وليس العكس، استرجاع الأموال المنهوبة وإنهاء الفساد في المال العمومي لتوفير العمل للشباب و لقمة العيش للجميع.
إنه الاستقلال الثاني الذي وضع علينا التاريخ مسئولية تحقيقه ، نتدارك به نقائص الاستقلال الأول ونحقق وعوده التي خانها الانحراف نحو التسلط الشخصي والحزبي .فإلى مسؤوليتكم التاريخية جميعا ، إلى النضال في شوارع المدن والقرى وفي ساحات الجامعات والمصانع حتى زوال نظام الفساد والتزييف والقمع وبزوغ شمس الحرية والكرامة على تونس الخالدة .
19 مارس 2006
بسم الله الرحمان الرحيم و الصلاة و السلام على أشرف المرسلين تونس 15/03/2006 خواطر وسبعة مقترحات جديدة بمناسبة حلول الذكرى الخمسين لعيد الاستقلال 20 مارس 1956 – 20 مارس 2006 الحلقة الثالثة
الاستـاذ فيصــل الزمنــى : ليس هـكذا نكـافئ المنـاضليــن
سجل بأنني تونسي وجبان وأنني لست حرا كضيف الغزال
تونس، في 15 مارس 2006
سيمنار الذاكرة الوطنية مع السيدة فتحية مزالي حول بداية التنظيم العائلي بتونس
السبت 25 مارس 2006 على الساعة التاسعة صباحا
في نطاق فعاليات سيمنار الذاكرة الوطنية, نحرص على تنويع الشهادات لنغطي أهم الملفات التي أثيرت حول بناء الدولة الوطنية. فبالإضافة إلى الشهادات ذات الطابع السياسي أو النقابي أو اليساري مع تعدد اتجاهاتها, ودعوتنا لرجال الفن والفكر أيضا, ها نحن اليوم نفتح ملفا يكتسى أهمية استراتيجية في البناء الهيكلي للأسرة التونسية, عندما تبنت الدولة ولأول مرّة في الوطن العربي, سياسة تنظيم النسل, وهو ما اعتبر يومئذ تحوّلا فاعلا في تسريع وتيرة التطوّر الاجتماعي المتوازن الذي أخذ بالاعتبار طبيعة وعمق المتغيرات السكانية الاجتماعية عبر العالم المتقدّم.
وفي هذا النطاق طلبنا من السيدة فتحية مزالي التفضّل بتفعيل سيمنار الذاكرة الوطنية حول بدايات التنظيم العائلي. السيدة مزالي تحصّلت على البروفي ثمّ شهادة البكالوريا سنة 1947, (الشعبة الأدبية), التحقت بجامعة السربون لتتحصل على الإجازة في الفلسفة وهي الشهادة التي تمنح لأوّل تونسية سنة 1952, وبعدئذ التحقت بالحياة المهنية كمدرسة لعلم النفس وعلم الاجتماع. وعلى الصعيد الوطني شاركت مع والدتها في حضور مهرجانات نسائية وطنية وبطلب من السيدة بشيرة بن مراد مثلت الاتحاد النسائي الإسلامي في مؤتمر السلم وتلقت برقية شكر من الزعيم صالح بن يوسف,
كما ساهمت في نادي جمعية طلبة شمال إفريقيا بباريس في اجتماعات حزبية بإشراف جلولي فارس والزعيم الحبيب بورقيبة, وساهمت في الإضرابات النقابية التي دعا إليها الاتحاد العام التونسي للشغل. وبعد الإستقلال عيّنت سنة 1957 مديرة مدرسة ترشيح المعلمات وعيّنت عضوا في اللجنة القومية لمراجعة نظام التعليم أثناء عشرة سنوات 1958-1968, ثم مستشارة لبلدية تونس برئاسة علي البلهوان ثم أحمد الزاوش وكانت إحدى أعضاء لجنة الشؤون الثقافية, ونظّمت ندوة بنادي عزيزة عثمانة حول المسرح التونسي. كما كانت وراء إنشاء أول روضة أطفال, وتولّت عدّة مسؤوليات بالاتحاد القومي النسائي التونسي, وأشرفت على تنظيم مدرسة إطارات الاتحاد النسائي بمدرسة ترشيح المعلمات. وألقت محاضرة في 8 ديسمبر 1959 حول تحديد النسل بطلب من رئيسة نادي عزيزة عثمانة, السيدة حبيبة الزاوش. كما تمّ تنظيم ندوة حول نفس الموضوع بمشاركة د. توحيدة بالشيخ ود. صغير العياري. ثم أنها شاركت في تأسيس الجمعية التونسية لتنظيم الأسرة وتولت رئاسة منظمة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا والتي كان مقرّها بيروت ثمّ تونس بين سنتي 1974-1978. وقد قامت المنظمة العالمية بتنظيم ندوة بعنوان: « الإسلام وتنظيم النسل ». كما أشرفت السيّدة مزالي على تأسيس فرع لهذه المنظمة بالعاصمة الأفغانية كابول, ومن جهة أخرى ترأست جمعية الصداقة التونسية-التركية.
أمّا دورها بالاتحاد القومي النسائي فقد عهد إليها الرئيس الحبيب بورقيبة إعادة تنظيم هياكل الاتحاد والإشراف على مؤتمراته الثلاثة المنعقدة على التوالي سنوات 1973 و1976 و1981, وتنظيم ندوات متعدّدة حول الإجهاض, والمرأة الريفية, والأسرة بدون سند والمرأة والشغل في مخططات التنمية. وهذا ما رشّح المنظّمة للحصول على جائزة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان.
وفي هذا الإطار تعدّدت مظاهر الاهتمام بالمرأة من قبل المرحوم الهادي نويرة والسيد الهادي خفشّة وخصوصا السيد عبد الله فرحات, وزير الدفاع عند فتح المجال للتونيسات للقيام بالخدمة العسكرية بجميع أنواعها. وكانت السيدة فتحية مزالي عضوا في اللجنة المركزية للحزب إثر مؤتمرات 1974 و1979 و1981 وبالديوان السياسي للحزب, وهي عضو بمجلس النواب في ثلاث دورات 1974 و1979 و1981 عن ولاية تونس والقيروان وبنزرت. وتولّت نيابة رئيس مجلس النواب. ودافعت بقوّة عن تحرير الإجهاض أمام أعضاء لجان المجلس. كما ترأست خلية بالمجلس لبحث موضوع التنمية والسكان حتى تموقع هذا الملف مكانة هامّة من اهتمامات الأعضاء النواب. وقد أمضت الاتفاقية العالمية للقضاء على جميع أنواع التمييز ضدّ المرأة. وعلى ضوء هاته السيرة تعينت كأول وزيرة تونسية في عهد الاستقلال على إثر بعث وزارة جديدة هي وزارة العائلة والنهوض بالمرأة مع التشديد على توازن الأسرة التونسية وتحسين أوضاع المرأة وتمّ ذلك بعد أن تحصلت الوزارة على تمويل من قبل برنامج الأمم المتحدة.
والسيدة فتحية مزالي بحكم مواكبتها لملف المرأة بتونس منذ استقلال بلادنا, وإشرافها على عدد من المنظمات المهمّة بهذا القطاع تمكنت من إقامة اتصالات عربية ودولية, وقد حصلت لديها نتيجة لذلك تجربة ميدانية واختمرت لديها عديد القناعات والثوابت حوله. ونحن ننتظر من هذا السيمنار المزيد من إلقاء الأضواء الكاشفة حول هذا الملف الذي تتشرّف تونس بتبنّيه والدفاع عنه منذ الاستقلال وتم ذلك بفضل نخبة وطنية وروّاد من النساء والرجال, كانوا قد لعبوا جميعهم دورا طلائعيا فيه.
والدعوة مفتوحة للجميع ابتداء من الساعة التاسعة صباحا في المقر الجديد بالمؤسسة المذكور أسفله.
الاستاذ عبد الجليل التميمي
مؤسسة التميمي للبحث العلمي والمعلومات
العنوان : المنطقة العمرانية الشمالية – عمارة الامتياز – 1003 تونس
الهاتف : 0021671231444 / 0021671751164. – الفاكس 0021671236677 البريد الإلكتروني temimi.fond@gnet.tn
الموقع على الإنترنت( باللغة العربية) ; www.temimi.org
(site en français) www.temimi.refer.org
أنا تونسي يوم في السنة (*)
ألبسوني جبة وبرنسا و »شاشية » وقالوا لي أنت اليوم تونسي! قالوا لي هذا يومك، يوم حاضرك وماضيك، هذا يوم أجدادك وذويك!
جعلوا هويتي برنسا، يوما وليلة، أخفى الماضي واستخف الحاضر..، جعلوا ماضيّ جبة تنتهي بانتهاء المراسم وانسحاب الضيوف..، جعلوا مواطنتي شاشية فوق رأس غلبه الدوار وزيف الحدث…
نظرت في المرآة… فلم أرَ ذاتي… أعدتُ النظر… فرأيتني عاريا بدون مساحيق، بدون بصر! لم أجد الماضي ولا الحاضر، ورأيت نفسي معلقا بين السماء والأرض، أبحث عن ذاتي أبحث عن مستقر..، ناديت أين آبائي أين أجدادي، أين المطر؟ عيرتني المرآة وقالت وهل أنت بشر؟ قلت مستغربا وهل يخفى القمر؟، ضحك الذي كان فيها وقال أسفا لستَ عمر لستَ عمر!
سقطت الشاشية والجبة والبرنس وبقيت أرى مهزلة طمس الأوطان، مهزلة الهوية الممسوخة والتاريخ المستخف به والحاضر الغائب وبقيت أنتظر نهاية المسرحية نهاية الحفل نهاية غيبة الحياء! أنا تونسي يوم في السنة، فمن يزيد من يزيد، حتى أصبح تونسيا كل السنة!؟؟
بقلم : مواطــن
(*) حول الاحتفال السنوي بيوم الزيّ التقليدي يوم 16 مارس بتونس
المصدر
: ركن خواطــر بموقع اللقاء الإصلاحي الديمقراطي www.liqaa.net
5.5 مليون شخص معظمهم عرب في الاتحاد الأوروبي…
القطار وصل أخيراً إلى قرية دقاش التونسية
تونس – سميرة الصدفي
في عصر التكنولوجيا الرقمية وبعد مرور سنوات على اجتياح الكمبيوتر مختلف مرافق الحياة، تبدو قرية دقاش وكأنها تعيش زمناً غير زمننا، إذ تجمع المئات من سكان القرية التي تقع على بعد420 كيلومتراً جنوب غرب العاصمة تونس أمس لاستقبال القطار الذي وصل إلى قريتهم للمرة الأولى في تاريخها ورقصوا ابتهاجاً.
وفوجئ سائق القطار لدى وصوله إلى المحطة التي بُنيت حديثاً بالجموع التي احتلتها تنتظره وسط دق الطبول وأنغام المزامير الممزوجة بزغاريد النسوة احتفاء بالقطار الذي سيُنهي متاعبهم مع الباصات التي تأتي من الواحات الواقعة جنوب دقاش ويمتنع سائقوها من التوقف في محطة القرية ما يؤدي إلى تأخير سفر سكانها إلى العاصمة أو مدن أخرى لإنهاء معاملات إدارية أو زيارة الأهل.
وأكدت ادارة المحطة لـ «الحياة» أن القطارات ستتوقف مرتين في اليوم في القرية.
(المصدر: صحيفة الحياة الصادرة يوم 18 مارس 2006)
بلايين الدولارات تحويلات مهاجرين 90 في المئة منها لا تستثمر في مشاريع منتجة
بروكسيل – الحياة
كشفت دراسة أن في إمكان مهاجري الشرق الأوسط وأفريقيا الشمالية المقيمين في دول الاتحاد الأوروبي (باستثناء الخليجيين) ان يساهموا اكثر في تنمية بلدانهم، إذا حوّلت البلايين التي يرسلونها سنوياً إلى بلدانهم عبر النظام المصرفي.
وأشارت الدراسة التي أعدتها «هيئة تسهيل الاستثمار والشراكة اليورو – متوسطية» التابعة لـ «البنك الأوروبي للاستثمار» الى ان نحو خمسة ملايين ونصف مليون مهاجر مقيمين في دول الاتحاد الأوروبي، يتحدرون من ثماني دول متوسطية هي (المغرب والجزائر وتونس ومصر ولبنان وسورية والأردن وتركيا) يرسلون نحو 6 بلايين يورو (7.2 بليون دولار) سنوياً إلى دولهم عبر قنوات الدفع الرسمية (المصارف والشركات العالمية لتحويل الأموال وشركات البريد الوطني). وتوقعت ان تزداد هذه الأموال إلى نحو 13 بليون يورو سنوياً، إذا أضيفت إليها الأموال المنقولة في صورة «غير رسمية» (محمولة أو عبر شركات غير شرعية).
ولفتت الدراسة إلى ان «نسبة ضئيلة» (نحو 9.7 في المئة)، من تلك «المبالغ الطائلة» تستثمر في مشاريع منتجة، في حين بإمكانها أن تشكل «مصدراً مهماً لتمويل التنمية الاقتصادية والاجتماعية» في الدول الأم، إذ يذهب معظمها للاستهلاك المنزلي (نحو 51 في المئة) و18 في المئة لمصاريف التربية والصحة و14 في المئة للسكن.
وحضت الدراسة هذه الدول على تشجيع تحويل الأموال بواسطة الوسائل الرسمية، من خلال تشجيع التعاون في ما بينها، لتطوير شبكات تحويل مالية فعالة ومنخفضة التكاليف. ودعت إلى تعزيز دور المصارف وتشجيع المهاجرين على فتح حسابات مصرفية، وإصدار بطاقة تعريف للمهاجرين تسهل تعرّف البنوك الأوروبية اليهم، أسوة بتلك المعتمدة في الولايات المتحدة للرعايا المكسيكيين، واستخدام التكنولوجيا الحديثة في تحويل الأموال (الهاتف والإنترنت)، وإنشاء موقع إلكتروني رسمي في كل دولة مخصص للمهاجرين، يشرح أفضل وسائل تحويل الأموال وكلفتها. كما دعت الى تطوير أدوات استثمار مالية للاستفادة من تلك الأموال وخفض القيود على الاستثمارات الرأسمالية، وتطوير وسائل لجمع هذه الأموال في محافظ تهدف إلى تفعيل التطوير الاقتصادي، وتأسيس منظمات تجمع بين المهاجرين وتنظم الأموال المحوّلة الى بلدانهم.
(المصدر: صحيفة الحياة الصادرة يوم 18 مارس 2006)
جبهة معارضة سورية لتشكيل حكومة انتقالية
نص بيان « جبهة الخلاص الوطنى « المعارضة
أعلن معارضون سوريون يعيشون في المنفى عن إنشاء « جبهة الخلاص الوطني » وتهدف إلى تشكيل حكومة انتقالية مدتها 6 شهور تكون جاهزة لتولي إدارة البلاد « في اللحظة المناسبة »، كبديل عن نظام الرئيس بشار الأسد وفيما يلى نص البيان الذى حصلت « إسلام أون لاين.نت » على نسخة منه اليوم الجمعة 17-3-2006. بسم الله الرحمن الرحيم جبهة الخلاص الوطني المشروع الوطني للتغيير بناء على دعوة من السيد عبد الحليم خدام والسيد علي صدر الدين البيانوني، تم عقد لقاء تشاوري لبعض قوى وشخصيات المعارضة للتداول بما آلت إليه التطورات في سورية، وجرى استعراض محطات عمل المعارضة السورية، خلال الفترة الماضية، ومنها الميثاق الوطني وإعلان دمشق؛ وجرى نقاش حول تطور عمل المعارضة في سورية، وضرورة توحيد جهودها ووضع منهاج عملي لتحقيق أهدافها في التغيير المنشود وبناء النظام الديمقراطي. لذلك اتفق المجتمعون على تشكيل « جبهة الخلاص الوطني » ووضع وثيقة تتضمن أهدافها وآليات عملها. وتدعو الجبهة كافة القوى المعارضة إلى التعاون، في إطار الجبهة أو معها، وذلك لتحقيق تطلعات شعبنا في التغيير والخلاص من الوضع الراهن الذي أضعف سورية في مواجهة التحديات. * * * تتعرض سورية اليوم لأخطار لم تشهدها من قبل، نتيجة السياسات الخاطئة التي سلكها النظام الحاكم، فأوصلت البلاد إلى وضعٍ يهدد وحدتها وسلامتها الوطنية، ومستقبل شعبها ووحدته. إن حاجة سورية للخلاص من نظامٍ مستبد فاسدٍ، تقتضي حمايتها من خطرين: الأول داخلي يتمثل بمفرزات النظام القائم، التي تسببت في إضعاف البلاد، وتكريس حالة التخلف والعجز، وإعاقة مشروعات التنمية على كل الصُعُد .. والثاني خارجي، جلبته على البلاد القراراتُ المرتجَلَة اللامسؤولة، التي وضعت الوطن في بؤرة الخطر، وأعطت الذرائع للمتربّصين، ليهددوا أرض الوطن وسيادته. إن الشعب السوري مدعو اليوم لتحمل مسؤولية التغيير الديمقراطي، كما أن القوى السياسية والاجتماعية الحية، مطالبة بتفعيل حركة التغيير وتوظيف طاقات الشعب ليغدو التغيير حقيقةً واقعةً لإسقاط الاستبداد وبناء سورية الجديدة، وطناً حراً سيداً لجميع أبنائه. يستند مشروع التغيير الوطني، على قواه الذاتية، مستفيداً من المناخ الدولي والإقليمي المتغيّر .. وفق الآليات التالية: أولاً: كشف حقيقة النظام الحاكم، نظاماً مستبداً فاسداً .. أمام العالَم أجمع، لرفع الغطاء عنه والتوقف عن دعمه. ثانياً: فضح زيف الادعاءات التي يختبئ النظام خلفها، أمام الجماهير والنخب العربية، بكشف سياسات الاستسلام والتخاذل، والتفريط بالمبادئ والثوابت التي ينتهجها في سبيل الحفاظ على بقائه واستمراره، لتعرفه جماهير الأمة على حقيقته، لا من خلال الادعاءات الكاذبة التي تعوّد أن يطلقها بين الحين والآخر. ثالثاً: تكثيف الاتصالات مع الأشقاء في الدول العربية، لكشف معاناة الشعب السوري وأبعادها: الإنسانية والسياسية والاقتصادية، وتحميلها مسؤولياتها التاريخية والقومية. رابعاً: فضح الانتهاكات الصارخة لقضايا حقوق الإنسان، أمام المنظمات الإنسانية ومؤسسات المجتمع المدني في العالم، والكشف الموثّق عن المقابر الجماعية، والمذابح الكبرى، وملفات الآلاف من المفقودين، ومعاناة المعتقلين والمهجَّرين .. وكذا المعاناة الإنسانية لأبناء الشعب السوري، في ظل حالة الطوارئ والقوانين العُرفية والمحاكم الاستثنائية. خامساً: وضع مرتكزات خطابٍ تعبويٍ إعلاميٍ تباشر إعلانه جميع فصائل المعارضة، وتأمين آليات الاتصال والإيصال وقنواته، للوصول المباشر إلى الشعب السوري، والتحرر من وصاية أجهزة الإعلام الأخرى، التي تتحكم فيها سياسات أصحابها .. وكل ذلك بهدف الوصول بالشعب السوري إلى حالة العصيان المدني، التي نراها المدخل العملي للتغيير الوطني. سادساً: يأخذ الخطاب الإعلامي التعبوي في اعتباره جميع مكونات الشعب السوري، ويعتمد الأسس التالية: – التغيير السلمي الديمقراطي من الداخل – سورية لجميع أبنائها – المواطنة هي مناط الحقوق والواجبات سابعاً: تتكاتف قوى المعارضة في الداخل والخارج، باللقاء على الأهداف المشتركة العريضة لإحداث التغيير، ويعتمد الجميع صندوق الاقتراع الحرّ النـزيه .. مرجعيةً لرسم ملامح المستقبل المنشود. ثامناً: نبذ جميع أشكال الفكر الشمولي، والقطع مع جميع المشروعات الإقصائية والاستئصالية، تحت أي ذريعة كانت ونبذ العنف في ممارسة العمل السياسي. تاسعاً: ترحب جبهة الخلاص الوطني بكل مكونات وأطياف المجتمع السوري الطامح إلى الحرية والتغيير، بالانضمام إليها والعمل ضمن إطار توافقاتها. عاشراً: إن غاية التغيير الوطني المنشود هي: بناء سورية دولةً مدنية حديثة، يقوم نظامها السياسي على عقدٍ اجتماعي، ينبثق عن دستورٍ ديمقراطيٍ، يحترم التعددية بكل آفاقها: الدينية والإثنية والسياسية والفكرية، ويقوم على التداول السلمي للسلطة، ويجعل المواطنة مناطاً للحقوق والواجبات. حادي عشر: إن إعداد البديل الوطني، من حيث التصور والهيكلية .. هو شرط من شروط التغيير، وركن من أركانه، وآلية من آلياته الأساسية، وذلك لطرد شبح الفوضى والحرب الأهلية، التي طالما خوّف منها النظامُ، وتمترس خلفها ليحافظ على وجوده. ثاني عشر: لقد أفرزت سياسة العزل والإقصاء والتمييز أضراراً كبرى، صدعت الوحدة الوطنية، وفي مقدمة هذه الأضرار الظلم الفادح الذي أصاب الشعب الكردي، شركاءنا في الوطن والمصير، مما يوجب إزالة أسباب الظلم ومعالجة نتائجه في إطار الوحدة الوطنية، وفي المقدمة ممارسة حقوقة السياسية والثقافية كغيره من مكونات المجتمع السوري. ثالث عشر: التأكيد على دور المرأة الأساسي في المجتمع، وإيجاد الشروط الموضوعية لضمان ممارستها كافة حقوقها المدنية والسياسية للنهوض بالوطن وتحقيق تقدمه. رابع عشر: التركيز على إعداد الأجيال الصاعدة، وتنمية ثقافتها الديمقراطية نهجاً وسلوكاً، وتأهيلها من خلال الإعداد والتثقيف والتعليم، وإيجاد فرص عمل لها ومشاركتها في الحياة العامة وترسيخ روح المسؤولية لديها. خامس عشر: التركيز على معالجة الوضع الاقتصادي في كافة فروعه المالية والنقدية والصناعية والزراعية والخدمية، وإطلاق التنمية الشاملة، وإزالة العقبات القانونية والإدارية أمام مشاريع القطاع الخاص، واعتماد قاعدة اقتصاد السوق، مع الأخذ بعين الاعتبار التوازن بين البعدين الاقتصادي والاجتماعي، والتأكيد على أن الإصلاح الاقتصادي حاجة وطنية نظراً لمعاناة الشعب وانخفاض مستوى المعيشة، وارتفاع الأسعار، وانتشار البطالة مما يتطلب زيادة الموارد وتوفير فرص العمل وتأمين الاحتياجات الأساسية للشعب. وتتبنى الجبهة الرؤية التالية فيما يتعلق بالعلاقات العربية والفلسطينية والدولية: الجولان المحتل والقضية الفلسطينية: أولاً: تتبنى الجبهة استعادة الجولان المحتل عام 1967 وتجعله في رأس أولوياتها، وتدعم صمود أهلنا فيه. ثانياً: تساند الجبهة الشعبَ الفلسطينيَّ في نضاله من أجل استعادة حقوقه الوطنية، بما في ذلك، حقة في العودة وتقرير المصير، وبناء دولته المستقلة على أراضيه، وعاصمتها القدس، وفق قرارات الأمم المتحدة ذات الصلة. في السياسة العربية: أولاً: إعادة اللحمة والعلاقة الأخوية مع دولة لبنان الشقيق، القائمة على المصالح المشتركة والعلاقات التاريخية بين الشعبين، على أساس من علاقات الإخاء وحسن الجوار. ثانياً: وقف سياسات الاستحواذ على الأشقاء العرب، والكف عن التدخل في شؤونهم، والسعي لبناء التضامن العربي على أساسٍ مكين، عن طريق تفعيل اتفاقيات التعاون الثقافي والاقتصادي والعلمي، وصولاً إلى التكامل الاقتصادي، ومن بينها السوق العربية المشتركة. ثالثاً: تتضامن الجبهة مع الشعب العراقي في جهوده لصيانة وحدته الوطنية وتحقيق استقلاله وسيادته، وإنهاء الاحتلال، وإقامة النظام الديمقراطي الذي يمثل الضمان الأمثل لتجنب خطر الصراعات الطائقية والعرقية التي تهدد المنطقة بأكملها. وتؤيد الجبهة كافة الجهود المؤدية إلى استقرار العراق وتقوية وحدته الوطنية وإقامة نظام ديمقراطي، كل هذه التطورات من شأنها التسريع بانسحاب قوات الاحتلال، وصيانة استقلاله وسيادته الوطنية على كافة أراضيه. في العلاقات الدولية: أولاً: تلتزم الجبهة بميثاق الأمم المتحدة، وقراراتها، وكل المواثيق الدولية التي وقّعت عليها الحكومات السورية المتعاقبة. ثانياً: تلتزم الجبهة بكل الاتفاقات والمعاهدات الدولية، الثنائية أو الجماعية، التي التزمت بها الحكومات السورية السابقة. ثالثاً: تلتزم الجبهة بسياسة الحوار، لضمان مصالح سورية، والدفاع عن حقوقها، وفق ما يمليه القانون الدولي وقواعده العامة، بعيداً عن المغامرات التي قد تضر بمصالح البلاد. البرنامج التنفيذي للعمل الوطني المرحلة الأولى: حكومة انتقالية مدتها ستة أشهر تبادر القوى السياسية والمجتمعية والاقتصادية والفكرية في سورية إلى تشكيل حكومةٍ انتقالية، تكون جاهزةً لتسلم إدارة البلاد في اللحظة المناسبة، وتأخذ على عاتقها حماية البلاد من الفوضى، ومن كل أشكال الصراع الداخلي، وتتولى مسؤولية السلطتين: التشريعية والتنفيذية، وحماية السلطة القضائية، لتمارس دورها في حماية الحقوق وفرض هيبة العدل على الناس، وتأخذ هذه الحكومة الانتقالية على عاتقها الأمور التالية: أولاً: إلغاء دستور 1973م بكل ما يمثله من خلل، واعتماد دستور 1950م مرجعيةً أساسيةً انتقالية لكل تصرفاتها وسياساتها. ثانيأ: رفع حالة الطوارئ المطبقة منذ عام 1963، وإلغاء جميع أشكال المحاكم الاستثنائية. رابعاً: إلغاء القانون رقم (49) لعام 1980، الذي ينص على الحكم بالإعدام على جميع منتسبي جماعة الإخوان المسلمين. خامساً: إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، والكشف عن مصير المفقودين، ورد الاعتبار لهم والتعويض على ذويهم، وإعادة الحقوق المدنية للمحرومين منها لأسباب سياسية. سادساً: إلغاء جميع التدابير التي تحول دون عودة المواطنين السوريين إلى وطنهم. سابعاً: منح الجنسية إلى المحرومين أو المجردين منها. ثامناً: إصدار قانون للأحزاب والجمعيات يضمن للمواطنين حق تنظيم حياتهم السياسية والاجتماعية، وفق رؤاهم ومعتقداتهم وخياراتهم، بما ينسجم مع أحكام الدستور. تاسعاً: سَنّ قانون للإعلام، يضمن حرية الرأي والتعبير في إطار الدستور. عاشراً: إصدار قانون للانتخابات يضمن حرية الاختيار على أساس التمثيل النسبي، مع اعتماد المحافظة كدائرة انتخابية، وذلك لضمان مشاركة كافة مكونات الشعب السوري. * * * بعد إلغاء حالة الطوارئ والقوانين والإجراءات الاستثنائية، وسَنّ قانون الإعلام والأحزاب والانتخاب .. تجري الحكومة الانتقالية انتخابات لاختيار الجمعيةٍ التأسيسية، قبل انتهاء فترة ولايتها .. وتكون مهمة الجمعية التأسيسية: 1. وضع دستورٍ للبلاد. 2. ينبثق عن الجمعية حكومة تمارس الصلاحيات التنفيذية، وتكون مسؤولة أمام المجلس. 3. تمارس الجمعية التأسيسية السلطات التشريعية. بروكسل في 17 آذار (مارس) 2006 (المصدر: موقع « إسلام أون لاين » بتاريخ 17 مارس 2006)
الجزائر تترقب نزول المسلحين من الجبال
من قتل أطوار بهجت؟ ولماذا لم تفصح الجهات الرسمية عن آثار التعذيب على جسدها؟
العالم يتجه نحو نظام دولي متغاير
توفيق المديني (*)
عقب نهاية الحرب الباردة، وانفجار الاتحاد السوفياتي ثم موته، تمت إعادة بناء العولمة الرأسمالية الليبرالية تحت حماية وهيمنة الولايات المتحدة الأميركية، إذ سعت هذه الأخيرة الى إعادة بناء « النظام الدولي الجديد » في نطاق هذه العولمة، و على شاكلتها ومثالها، والمستند الى إيديولوجية الليبرالية الأميركية الجديدة التي أفرزتها الثورة المحافظة في الغرب بقيادة ريغان، تاتشر، وبوش، التي تهدف الى قتل الإنسان في عالم الجنوب، في تناقض كلي مع الايديولوجية الليبرالية الكلاسيكية الأوروبية المنبثقة من الثورة الديمقراطية البرجوازية التي ترمي الى تحرير الإنسان سياسيا وحقوقيا.
بيد أن النظام الدولي المتجانس كما يقول ريمون آرون في كتابه الكبير: « سلام وحروب بين الأمم » (الصادر عن دار كالمان ديفي، 1984) هو ذاك النظام الذي تنتمي فيه « الدول الى النموذج عينه، وتستجيب للمفهوم عينه لسياساتها ». وفي الواقع، مع بداية القرن الحادي والعشرين، وعلى نقيض النبوءات الساذجة لفرانسيس فوكوياما عقب انهيار جدار برلين، ونهاية الحرب الباردة عام 1989، ظل النظام الدولي غير متجانس، أي أن « الدول هي منظمة حسب مبادئ أخرى، وتتبنى قيما متناقضة ».
ومنذ أن فرضت الولايات المتحدة الأميركية هيمنتها بإطلاقية على النظام الدولي الجديد أحادي القطبية، على الأقل موقتا، فرضت قناعة على حكومات العالم وشعوبه بدور حكومة الولايات المتحدة الأميركية في فرض الآلية الجديدة للنظام الدولي الذي تريد فرضه في الشرق الأوسط، من خلال مواجهة العراق بقوى دولية واسعة وقوية لتدميره. وتقدم لنا في منطقة الشرق الأوسط أحداث العراق الدامية، منذ نحو ثلاث سنوات من الاحتلال الأميركي لهذا البلد، صورة مسبقة عما سيكونه مستوى العنف فيما إذا قيض للإمبراطورية الأميركية أن تصطدم بإيران الطامحة الى امتلاك السلاح النووي، واندلاع حرب إقليمية ذات بعد عالمي يكون مسرحها الشرق الأوسط.
وهكذا بتنا اليوم نحتاج الى استراتيجية أميركية جديدة للخروج من العراق بعد إخفاق استراتيجية النصر التي اعتمدتها إدارة بوش المستوحية فلسفتها في إدارة الأزمات الدولية والإقليمية من إيديولوجية المحافظين الجدد. فقد اعتمد هؤلاء الحرب الاستباقية مذهبا لهم، في ظل نشوة انتصارالولايات المتحدة الأميركية عندما انهارت الشيوعية في العام 1989، وصدقت ان العالم تغير جذرياً تغيراً لا رجعة فيه، وافترضت أن التاريخ ذاته انتهى، وأن العولمة الرأسمالية الديموقراطية انتصرت إذ استطاعت الاجابة عن كل الأسئلة الكبرى، وأنها باتت القائد بلا منازع للنظام العالمي الجديد أحادي القطبية، وأن الناس العائشين في ظله، سيستكينون الى اهتمامات دنيوية: بعضهم سيعمد الى جمع الثروات، وبعضهم الآخر سيلجأ للاستهلاك.
ويشكل الملف النووي الإيراني تحديا جديدا للنظام العالمي الجديد أحادي القطبية، إذ إنه حتى لو نجحت الولايات المتحدة في تحويله الى مجلس الأمن فإن العقوبات التي ستفرض على إيران لا تضر بالفعل بالأعمال النووية الايرانية، بل تضر بالشعوب الإيرانية، وهذ ا ما سيزيد تقوية حدة العداء لأميركا. يرتكب الغرب خطأ جسيما، إذا اعتقد أن الشعوب الإيرانية هي الآن ناضجة لكي ترتمي في أحضان الغرب.فمع نظام الملالي، أو من دونه، فهي لديها فكرة كبيرة عن عظمة فارس وتاريخها.
إن امتلاك السلاح النووي أصبح شعارا وطنيا، زد على ذلك أن البلد محاط بدول تمتلك أسلحة نووية (إسرائيل، الهند، باكستان). ويعتقد المخططون الاستراتيجيون في طهران أن الولايات المتحدة الأميركية أضحت ضعيفة منذ مغامرتها العسكرية في العراق.فهم لا يخشون هجوما عسكريا أميركيا أو إسرائيليا، يمكن أن يتحول الى فشل ذريع، ولاعقوبات اقتصادية، تتطلب فعاليتها تشكل جبهة عالمية داخل الأمم المتحدة.
بشكل عام خفف الرئيس جورج بوش كثيراً من الغطرسة التي طبعت ولايته الأولى، وهذا عائد الى تزايد الانتقادات الأميركية الداخلية من جانب الحزب الديمقراطي، والصحافة الأميركية لسياسته الخارجية، التي تستبعد الحلفاء والشركاء، وتسعى جاهدة الى إعادة تشكيل العالم وفق الرؤية الأحادية القطبية.
والولايات المتحدة الأميركية لا تعاني مأزقا في العراق أو افغانستان فحسب، بل إن التطورات التي أسفرت عنها العملية الانتخابية في أميركا اللاتينية، مسألة جديرة بالاهتمام، إذ إن اليسار هو الذي يحقق انتصارات في الانتخابات، وهذا ولا شك يعزز المحور المناهض للولايات المتحدة الأميركية في القارة الجنوبية. وعلى الرغم من أن بلدان أميركا اللاتينية اعتنقت نهج الليبرالية الاقتصادية في سياق العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تقودها واشنطن، فإن شعوبها زادتها العولمة فقرا على فقر، وفاقمت عندها التفاوتات الاجتماعية الحادة، عوض ان تنتشلها من واقعها المتردي الذي أوقعته فيها الديكتاتوريات العسكرية بعد مرحلة الاستقلال.
وحدها الصين الآن، التي أصبحت القوة الاقتصادية الرابعة في العالم، تمتلك الوسائل الكافية لمنافسة الولايات المتحدة الأميركية التي تخلت عن هديها الى الديمقراطية. فمسألة تايوان، والميزانية العسكرية الضخمة للصين، وقدرة الصواريخ الصينية العابرة للقارات على تهديد نيويورك، أو المشاريع النووية لكوريا الشمالية، هذه المسائل مجتمعة تمنع من أن يكون قرار السلام في هذه المنطقة من العالم حكرا على الولايات المتحدة الأميركية بمفردها.
وهكذا، هل نخشى فعلا من رؤية تزايد عدم تجانس النظام الدولي، بدلا من أن يتناقص. من هنالك نستنتج العودة الى نوع من حرب باردة جديدة. في الوقت الحاضر، تتبع الصين وروسيا نهجا ديغوليا في السياسية الدولية (الاستقلال الوطني) ولكنه مجرد من كل محتوى إيديولوجي، على نقيض الحرب الباردة التاريخية.
لا روسيا، ولا الصين، تريدان مواجهة الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا، فضلا عن أنهما لا تعتقدان أنهما تحققان مكسبا استراتيجيا في حال امتلاك إيران السلاح النووي. بيد أن روسيا والصين تريدان إقامة علاقات جيدة مع هذا البلد، وهما في نظرهما، لا يمثل نظام آيات اللة مشكلة بوصفه كذلك، إذ أبدى تعاونا.
إن الرهان الحقيقي للصراع الدائر الآن، هو الاعتراف الفعلي بعدم تجانس النظام الدولي. وفي الوقت الحاضر هذا يتضمن القبول بالتفاوض مع طهران حول الأمن الإقليمي في مجمله. وإذا رفضت الولايات المتحدة الأميركية وحلفاؤها التسليم براغماتيا بهذا التغاير، فإنها تخاطر بفقدان السيطرة على الأحداث في منطقة الشرق الوسط، وفي مناطق أخرى من العالم، مع تحمل النتائج التي يصعب حسبانها.
(*) كاتب تونسي
(المصدر: صحيفة « المستقبل »، السبت 18 مارس 2006 – العدد 2212 – رأي و فكر – صفحة 19)
نهاية التنوير الأوروبي
د. حسن حنفي
إن أعظم ما أنتجه الغرب من إبداع فكري هو فلسفة « التنوير » أو « الأنوار » والتي بلغت الذروة في القرن الثامن عشر عند فلاسفة التنوير في فرنسا، فولتير وروسو ومونتسكيو وفلاسفة « دائرة المعارف الفلسفية » وكانط في ألمانيا. تسترجع عصر بركليس عند اليونان. وتقوم على أفكار العقل والحرية والمساواة والإخاء، والطبيعة والتقدم. وبفضلها قامت الثورة الفرنسية، والثورة الأميركية، وتجسدت في قوانينها، إعلان الاستقلال، والدستور، وتمثال الحرية، ونظام الحياة الأميركي. كما قامت الثورات الروسية العديدة ضد القيصر على مثل هذه الأفكار التي تبناها المناصرون للثقافة الفرنسية في روسيا. وحاول اليسار الهيجلي في ألمانيا القيام بنفس الثورة عام 1848 إلا أنها فشلت كثورة وبقيت كمثل عليا في الحرية والمساواة.
وقامت النهضة العربية الأولى في القرن التاسع عشر على مُثـُل التنوير التي روّج لها الطهطاوي بعد أن عرفها أثناء وجوده إماما للبعثة التعليمية في باريس خمس سنوات. ورآها تقوم على قاعدة الحسن والقبح العقليين عند المعتزلة القدماء وعلى قاعدة جلب المنافع ودفع المضار عند الأصوليين. فلا فرق بين الشريعة الإسلامية و »شرطة » نابليون، ولا بين « روح القوانين » عند مونتسكيو و »مقدمة ابن خلدون ». فمونتسكيو هو ابن خلدون فرنسا. وابن خلدون هو مونتسكيو العرب.
مُثـُل التنوير قيم إسلامية عرفها تراثنا القديم. فالعقل أساس النقل. ومن قدح في العقل فقد قدح في النقل. ويطالب القرآن بالبرهان وبإعمال العقل. والحرية قيمة إسلامية. فقد خلق الله الناس أحرارا. والتوحيد تحرير للوجدان الإنساني من كل صنوف القهر. والمساواة فضيلة إسلامية. فالناس سواسية كأسنان المشط. والإخاء مبدأ إسلامي. والنبي شاهد على أن عباد الله إخوانا. والطبيعة آية من آيات الله، دليل على وجوده. وللناس فيها جمال حين يريحون وحين يسرحون. والتقدم سنة الحياة وقانون التاريخ. وهو لفظ قرآني، (لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر). وقصص الأنبياء دليل على ذلك. وقام العصر الليبرالي في النصف الأول من القرن العشرين على مُثـُل التنوير خاصة العقل والحرية. وما أكثر جماعات « التنوير » الآن. بل تتبناه الدولة ضد الحركات المتهمة بالتخلف والأسطورة والخرافة والتعصب.
والآن، بدأ الغرب ينقلب على نفسه، ويقطع أنفه بيديه. يدمر ما بناه، ويهدم ما حارب من أجله. بدأ نقد العقل وتحطيمه لصالح اللامعقول والعبث والاشتباه باسم الوجود الإنساني أو تناقضات الحياة. فالعالم بلا نسق، والعقل لا يقدر على استيعابه أو ضبطه. كما سادت الاتجاهات التسلطية ممثلة في الفاشية والنازية، والشمولية ممثلة في النظم الشيوعية التي قهرت الحريات الفردية باسم أمن النظام ومصلحة الجماعة، وظهر التفاوت الشديد بين الأغنياء والفقراء نظرا لتراكم رأس المال من المستعمرات الخارجية ومن التصنيع الداخلي، واستغلال العمال والمهاجرين الأفارقة والآسيويين وفقراء أوروبا الشرقية. وعمت الفردية والأنانية ضد مبدأ المساواة بين البشر. وأصبح للفرد الأولوية على الجماعة، والأنانية على الغيرية، والأثرة على الإيثار. أما الطبيعة فقد تلوثت. وماتت الأسماك في الأنهار تحت شعار « الإنسان سيد الطبيعة ». وأصبحت مادة صرفة لا حياة فيها، وليست دليلا على شيء. وانهار التقدم، وبدأ النكوص. وقاربت الحضارة الغربية في العصور الحديثة على الانتهاء بعد أن اكتملت الدورة التاريخية.
وشاعت العدمية منذ أعلن نيتشه في نهاية القرن التاسع عشر « موت الدين » وحياة الإنسان. ثم أعلن بارت في منتصف القرن العشرين موت المؤلف، والكتابة في درجة الصفر. فلم يعد يحيا أحد وبدأ نقد الحداثة باسم ما بعد الحداثة. وتفتيت الرؤى الكلية للعالم باسم التفكيك. وغابت القيم المطلقة لصالح النسبية والشك واللاأدرية. وتحدث الفلاسفة عن أزمة الضمير الأوروبي، عند هوسرل فقدان الإحساس بالحياة، وعند ماكس شيلر قلب القيم، وعند برجسون تحويل الآلة إلى إله، وعند اشبنجلر « أفول الغرب ». وتكشفت أزمة الحضارة الغربية، وتفسخ مشروعها، أكبر كم ممكن من الإنتاج، لأكبر قدر ممكن من الاستهلاك لأكبر قسط ممكن من السعادة. تعثر الإنتاج بسبب أزمة الطاقة، وسيادة الشعوب على المواد الأولية. وتأزم الاستهلاك نظرا لوجود مراكز صناعية أخرى في آسيا، خاصة الصين واليابان وكوريا الجنوبية وتايوان وهونج كونج. وزاد معدل الانتحار في أكثر الدول الأوروبية تقدما، وهي البلدان الشمالية. وثار الشباب في مايو 1968 رافضين مادية الغرب واستغلاله وكذبه ونفاقه وتسلطه. وانتشرت الثقافات المضادة، ثقافة الشباب والمرأة وجماعات المعارضة.
وصعد اليمين الأوروبي، وعادت « النازية الجديدة ». وانتشرت النزعات العرقية والطائفية. وبان العداء للمهاجرين، ووصفت ثقافات الشعوب غير الأوروبية مثل الإسلام بالإرهاب والعنف وخرق حقوق الإنسان والمرأة والطفل والشيخ، والتسلط والطغيان. وكان آخرها الرسوم المسيئة للرسول الكريم عليه الصلاة والسلام باسم حرية التعبير المطلقة دون مسؤولية أو احترام لحريات الآخرين. وعاد إلى أوروبا عنفوانها الاستعماري في موجة ثانية من الهيمنة باسم العولمة أو صراع الحضارات أو نهاية التاريخ اعتمادا على القوة العسكرية حتى تقضي على ما تبقى من حركات التحرر الوطني وهي الدولة الوطنية المستقلة بعد أن وقعت في التبعية للخارج والفساد والقهر في الداخل. وظهر ذلك في العدوان العسكري المباشر على الشعوب المستقلة، العدوان الصهيوني على كل فلسطين، والعدوان الأميركي على العراق وأفغانستان، والعدوان الروسي على الشيشان دون مراعاة لميثاق الأمم المتحدة الذي ينص على احترام استقلال الشعوب، وعدم جواز الاستيلاء على أراضي الغير بالقوة.
بل إن أوروبا فقدت استقلالها بتبعيتها للولايات المتحدة. ولم تعد ميزان تعادل بين الشرق والغرب، وجسر الحوار بين الشمال والجنوب. وسادت المحافظة الجديدة الإدارة الأميركية، وتخلت عن أفكار الثورة الفرنسية التي تبناها المؤسسون الأوائل. وظهرت المسيحية الصهيونية التي تؤمن بظهور المخلص، دولة إسرائيل، من أجل تأسيس إسرائيل الكبرى، والإمبراطورية الأميركية التي عهد إليها الرب بإصلاح العالم، ونشر الديمقراطية والحرية في سائر ربوع العالم. وظهر المعيار المزدوج في المناداة بالديمقراطية ورفض نتائج الانتخابات الفلسطينية وفوز « حماس ». وكما صرخ هوسرل في نهاية « أزمة العلوم الأوروبية »: خطر، أوروبا، خطر. عليك أن تختاري بين طريقين: إما أن تنتهي إلى العدم أو أن تبعثي نفسك من خلال الرماد.
قد يكون الأمل في الحركات المعادية للولايات المتحدة الأميركية التي عمت العالم كله حتى داخل أميركا نفسها ضد العدوان الأميركي على الشعوب. قد يكون الأمل في عودة الحركات اليسارية الاشتراكية في أميركا اللاتينية المناهضة للاستعمار والهيمنة الأميركية. فجيفارا لم يمت بعد. قد يكون الأمل في صعود آسيا، الصين خاصة من أجل تحدي العالم أحادي القطب. قد تستطيع دول إقليمية أخرى بلورة اتجاه دولي معاد للهيمنة الأميركية دفاعا عن استقلال الشعوب. قد تكون حركات التحرر الوطني الجديدة في فلسطين والعراق وأفغانستان والشيشان وكشمير ميلاد روح جديدة تغير مسار العالم. وكما انتقلت الحضارة من الشرق إلى الغرب فإنها قد تعود من جديد في اتجاه معاكس، من الغرب إلى الشرق.
لا يكاد يخلو تاريخ العالم من حضارة قائدة كما كانت الصين والهند وفارس ومصر وكنعان وبابل وآشور قديما، ثم اليونان والرومان والعرب وأوروبا بعد ذلك. إن العالم الآن على مفترق الطرق بين « أفول الغرب » وبزوغ الشرق.
(*) كاتب ومفكر من مصر
(المصدر: صحيفة « الاتحاد » الإماراتية الصادرة يوم 18 مارس 2006)
|
الـــــــرد علـــــــى الشــرفــــــي (1- 3)
بقلم: د. المنجي الكعبي كانت «الصباح» قد نشرت في عددها الصادر يوم 22 فيفري 2006 حديثا أجرته الزميلة أمال موسى مع المفكر عبد المجيد الشرفي وقد تناول الحديث إلى جانب قضية نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم إشكاليات مثل ثنائية الإسلام والغرب وحقيقة العلمانية الغربية وأسباب ربط الإسلام بالارهاب ومستقبل الإسلام في أوروبا. وننشر اليوم الحلقة الأولى من رد مطوّل ومفصل للدكتور المنجي الكعبي حول مختلف المسائل التي تحدّث عنها عبد المجيد الشرفي. ينتقد عبد المجيد الشرفي في الحوار الذي أجرته معه آمال موسى تضامن المسلمين في واقعة الرسوم الدانماركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم؛ ويرى رأي حكومة الدانمارك في عدم الاعتذار للمسلمين بسبب هذه الرسوم؛ ويعيب انفعال معظم المسلمين وانقيادهم للعاطفة بسبب هذه الرسوم، ويدعوهم بدل ذلك الى أخذ الأمور من جانب ما يراه الدانماركيون والغربيون عامة من حرية التعبير وحرية الصحافة ؛ ويبرر تلك الرسوم برد فعل الغربيين تجاه العنف الذي يمارسه بعض المسلمين باسم الاسلام. ولا ينسى أن ينصح قومه في كل جملة، بأخذ الحذر من الانجرار لأعمال غير المستنيرين في بعض البلدان المجاورة والبعيدة بمثل أنوار أفكاره! ولولا الكلمة الوحيدة ((صلى الله عليه وسلم)) في مقدمة الحوار على لسان الصحفية التي حاورته، لخلا الحوار كله منها على طوله وعرضه، ولخِلتَ المتحدّث مستشرقا أو واحدًا من أولئك المتشدّدين على أنفسهم في جامعتنا التونسية، يخشى أن يَفلُت من لفظه اسم محمد أو الصلاة عليه في كل حديث له ولو بطول كتاب! وربما طمحت نفوس بعضهم الى اغتباط سلمان رشدي وتسليمة نسرين، ممن علت شهرتهم في الغرب مع قلة جرأتهم على الاسلام ونبي الاسلام قياسًا بهم، وهم المحسوبون جميعا من أهله ؛ ويندبون حظهم بضيق انتمائهم الى تونس وانعدام أزهر حولهم ونظام حِسبة كمصر وإعلام مثير. . الخ. وبعضهم تذوّق حلاوة الشهادات الاجنبية لأعماله وأقواله، فبات يسدّد باتّجاه الجوائز الكبرى كنجيب محفوظ أو سولجينتسين! والحديث كلّه للشرفي مرجعيته فيه الى نفسه. كيف لا ؟ وهو المنكر لكل مرجعية دينية خارج ذاته ومن خلال فهمه الخاص للقرآن. فالاسلام بالنسبة اليه هو القرآن وما عداه فقه فقهاء، ويسميه الاسلام التاريخي. وهذا ينكره أشدّ الانكار، ولا يعتدّ بحديث ولا بسنّة تخالف أفكاره، للموضوعات الكثيرة فيهما، أي للوضع الكثير فيهما من قبل المحدّثين والرّواة. ولولا أنه ينكر تواصل نزول الأديان لاحْتسب نفسه مبعوثًا بإسلام جديد بدل صفة المفكر التي يَنعت بها نفسه، أو تنعته بها كاتبة الحوار. وإلغاؤه لكل مرجعية سابقة هدفها بسيط، وربما ساذج وهو تقديم نفسه وتأخير علماء الملّة، حتى ينفرد بفهمه المخالف لهم، ويحجب كل تأثير لهم على إسلام عصره ليكون وحدَه الآخذَ بمِخْطمه! لماذا ؟ لأنه الاسلام الذي يقربّه أكثر من الغرب ومن ثقافة الغربيين الدينية وغير الدينية. أليس يعتدّ نفسه من كبار عاقدي النيّة في باب التقدم والحداثة بناصية الغرب، وأحد المتشبّهين بمعلميه الكبار من بينهم، ويُنْكر – لأيّة رياح جارية – وجود حضارات حيّة الى جانب حضارة الغربيين اليوم، ويؤكد أننا نعيش في حضارة وحيدة. ولأن تقْصُر قامته الى جانب علماء يستريبهم المسلمون في ثقافة الغرب أهم من أن تطول الى هامات علماء يزدريهم هو في ثقافة المسلمين، ويضن عليهم كما نراه في هذا الحديث حتى بأبخس الأوصاف. وعِلْمه بما يجب على حكومة الدانمارك دينيا في هذه المسألة حتى لا تعتذر للمسلمين أزكى من علمه بواجبات السلطة الدينية في بلاد الاسلام. فلا تعريج في الحديث كله على مقام الدين الحنيف في دستورنا ودولتنا ؛ بالعكس، تجد التعريض والتنكيت في كلامه على السلطة السياسية في بلادنا، وكونها تمارس العلمانية أو اللائكية واقعًا ولكنها نصّا وتطبيقًا تمارس توظيف الدين لخدمة السياسة، وأن الوضع الديني الدستوري في تونس حسب عبارته – في أحد تقاديمه لكتب بعض طلاّبه – «ينأى عن اعتباره إما دين الدولة الرسمي بكل ما يترتّب على الارتباط بين الدين والدولة من نتائج في مستوى التشريع كما في مستوى حرية المعتقد، وإمّا شأن لا يعني الدولة بتاتًا كما هو الحال – نظريا على الأقل – في الأنظمة اللائكية» (عبد الرزاق الحمامي، الفكر الاسلامي في تونس، مركز النشر الجامعي 2005، ص IX). وعندما قلنا إنه لا يستقي إلا من مرجعيات نفسه وفكره الاسلامي الخاص به، نقصد أنه لا يعترف للدول، التي الوضع الاسلامي فيها أفضل من غيره، بحظ للسلطة الدينية فيها طالما لا تتحرّك تلك السلطة بالحركة التي يريدها لها هو، مرة عندما يكون مغرقًا في اليسارية فيهيب بالأمة أن تتبنّى العنف لمقاومة السلطان الجائر خلافًا للفقهاء الذين يدْعون لعدم الخروج اجتنابًا للفتنة ويسمّيهم فقهاء السلطان، ويُعَجِّب المسلمين من المسيحيين، وهم من يدعو نبيّهم لتسعير الخدّ الايسر لمن ضربه عدوه على الخدّ الأيمن، كيف اطّرحوا المسالمة وتبنّوا العنف لمقاومة حكامهم المستبدين! ومرة أخرى عندما يجد نفسه مدعوّا للانخراط في نظرية مقاومة الارهاب للتنديد بالعنف حين سادت موجته وأصبحت تهدد الدول الغربية. ولذلك يزايد في المنظومة الجديدة للدفاع عن الغرب بوجه الارهاب الاسلامي! فما أجرانا الى تزكية الخارج حكومات ونظمًا وأسلوب حياة وديانة على تزكية نفوسنا. . إنه تثبيط نفوس! *** وللردّ على حواره المطوّل في هذه الجريدة، نأخذ حديثه عن تضامن المسلمين وقدحه في انفعالهم بهذه الرسوم وتضامنهم في غير ما ينبغي التضامن فيه، وقلة ما لديهم من ثقافة حرية التعبير والديمقراطية وحرية الصحافة وحرية العقيدة وربما جوازالمسخرة بالحكام والعقائد مثلهم، وكذلك قلة فهمنا للآخر وما لدينا من تسامح ندّعيه، وما الى ذلك من مدامغ في هذا الحديث: 1 – تهوين الأمر بوصف هذه الرسوم المسيئة بقليلة الاهمية لكونها ظهرت في صحيفة محدودة الانتشار! كأنما في قانون الصحافة أحكام حول المسؤولية وربطها بحدود الانتشار. 2- قصد الابتذال. باقتراحه تقديم قضية للعدالة. وهنا نرجو أن لا يكون يقصد القضاء الدانماركي للمعرفة بأنه لا يجرّم العمل الصحفي القائم على الاعتداء على الديانة الاسلامية… إذا كان خصيمك القاضي فلمن تشكو؟ ولا شيء يعوّض شيئا على أية حال؛ فالتعبير من حق المسلمين على الامتعاض أو الاستهجان أو التنديد قبل التقاضي، ويسبق التقاضي أفضل. 3 – يوسّع المسألة الى ما يسمّيه بالاعتقاد القادري نسبة الى الخليفة العباسي صاحب الاسم، وليس سيدي عبد القادر كما يتبادر الى الذهن. . وكأنه يتحاشى أن يسمّيه بالقادر بالله، لقبه في الخلافة تنقيصًا لقدره، والذي يقول عنه إنه فرض عدم نقد الصحابة.. كأنما هذه مناسبة ذهبية لتصفية تركة المحظورات في الثقافة الاسلامية لكي تشمل مَنْ مقامهم، في ظلال النبوة والحديث والتفسير والدين والسياسة، مزعجُ لأطروحات المتحلّلين مثله من حُجيّة كل النصوص التراثية ليستفردوا دونهم بفهم النص القرآني. فيكونون « الأيمة » وغيرهم « الميّتون »! 4 – ويترجم لنا أو يحلّل لنا على نحو عجيب قضية الفكر الغربي الذي نحج برأيه في فض مشكلته مع المضطهِدين (بالكسر) والمضطهَدين (بالفتح). الأوّل هم الحكام ورجال الدين والثانين هم اليهود والمسلمون، أما اليهود فهو يعرف أنهم هجّروهم الى فلسطين وأما المسلمون – ويجمعهم واليهود جامع الاضطهاد من قبل الأوروبيين – فهم بين الشعور بالذنب من أجلهم وحبّ الانتقام منهم. ولذلك يدعونا لتفهّم العقدتين لديهم نحونا حتى لا ننفعل فقط دون أن نُعمل العقل. وهذه دعوة غامضة لامتصاص نقمتهم علينا، حتى وإن تجلّت في هذه الصور الكاريكاتيرية المدنّسة لكرامة رسولنا وشرف حملنا رسالة الاسلام السمحاء خمسة عشر قرنًا وباتساع خمس قارات. 5- ولتمرير غصّتنا بهذه اللقمة، يقترح علينا أن نتفكّر في النقد الذي كان ينقد به الناس الرسول في زمنه، ومنهم كما يقول زوجته عائشة عندما نزلت الآية في الواهبات نفوسهن للرسول؛ ويذكّرنا بقولها إذ قالت له: «ما أرى ربك إلا مسارعا في هواك!». وللغرض نراه يَعْتدّ بهذه الرواية للحديث على غير عادته ولا يشكك فيها، ويردّ الحديث الى صحيح مسلم. ولكن الغريب أن يقول بعد ذلك: «وفي هذا الموقف ما فيه مما لا يتصوّر المتزمتون أنه مقبول ولا يثير حفيظة الرسول نفسه». إذا كان المتزمّتون أو من تسّميهم كذلك هم غيرُك الآخذون بالحديث والسنّة، فكيف تَتصوّر أن يقابلوا هذا الحديث بما وصفتَ من قلة الاحترام لمقام النبوة ولزوجه – عليه السلام – وسوء الفهم للمقصود. أفَتَفْتَئتُ على عائشة – أمّ المؤمنين – بأنها تُعرِّض بالآية إن لم تكن تعرِّض بخالق الآية؟! وتريد هؤلاء المتزمّتين بتقديرك أن يردّوا المسألة الى الممايلة في الهوى بين الله ورسوله، وكون أحدهما يأخذ في الأمر بهوى الآخر. فهذا محال ولا يخطر ببال أحد من المسلمين ممن وصفت. وأغلب ظنّي أن أحدًا من المفسّرين أو المحدِّثين لم يَنْسق فهمه الى مثل ما انساق فهمك اليه؛ لثلاثة أمور على الأقل، الأول هو أن الأنسب في قضايا الزواج الهوى طبعًا، ولكن كلّنا يعرف الأخذ بجانب المصلحة كذلك في هذه الزيجات التي تحدث للناس في سائر حياتهم. ثانيا، أن تعدد الزوجات أمر لا تنكره المرأة الجاهلية ولا في الاسلام، إلا أن تكون شرَطتْ ذلك على بعلها أو يكون هو غير قادر على ما هو مطالب به قرآنًا، وهو الخوف ألا يعدل بأكثر من واحدة. الأمر الثالث، وهو الأهم أن الحديث يتعلق برسول نعتقد اعتقادًا راسخًا أنه لا ينطق عن الهوى ولا مشاغلة له به.. ثم إنه يقع بين الزوج وزوجه من الكلام ما تبيحه العلاقة بينهما وليس ما دونها، ومن الفتنة تخريجه على لسان غيرهم خارج تلك الحرمة. على أنه لدينا تعليق على هذا الحديث، لا بدّ منه للقراء، لأنه خلافيّ بين السنّة والشيعة، لما هو معروف من كون أم المؤمنين عائشة – رضي الله عنها – وإن لم ينزع الشيعة عنها صفة الأمومة للمؤمنين، لانتسابها للرسول صلى الله عليه وسلم كسائر نسائه، لكنهم – معظمهم على الأقل – لا يغتفرون لها موقفها من عليّ عليه السلام وحربها له. ذلك أن شؤون السياسة دنيوية في الأكثر ويكون فيها بين الناس ما يكون عادة من تنازع؛ والخصومة بينها وبين عليّ عليه السلام في قضية الخلافة مشهورة، فهي بنت أبي بكر الصديق – رضي الله عنه – الخليفة الاول، والذي ذهبت خلافته بأولوية عليّ بها، إن لم يكن في نظر نفسه – عليه السلام – فعلى الأقل في نظر شيعته وآل البيت؛ وهي صاحبة معركة الجمل في البصرة، والتي كانت المواجهة فيها الى جانب معاوية حامية بينها وبين أنصار علي، بل دموية للغاية وحاسمة في تاريخ الخلافة. وورود هذا الحديث بصحيح مسلم وغيره لا يشهد له بأكثر من درجته في مصطلح الحديث.. لأن الحديث كما هو معلوم يخضع لفحص متنه في سياق أمور كثيرة وليس صحّته فقط من طريق روايته. وموضعه هنا في هذا المقال مجرور من أنفه وقضيته سياسية كقضية هذه الرسوم الدانماركية! والاستشهاد به على غير منهجية باطل. وادعاء المنهجية به للمفكر الحداثي مجرد ادعاء. 6 – رمي المسلمين بالتشنّج في هذه الحالة وبالعيش في انشطار بين الماضي والحاضر! وإن كان صاحب الحوار – كما هو المعهود في المخاطبات الدبلوماسية – يعمّم ولا يخصّص، أي عموم المسلمين في تلك الحالتين المعافَى منهما هو! وابن تيمية في نظره ظهر في عصور الوهَن الحضاري، وهو يقصد طبعًا وهن المسلمين. وابن تيمية لذلك ألف كتابه «الصارم المسلول في شاتم الرسول». وهنا تعريض من المتحدّث بأن قضية الحال لا ينطبق عليها قول ابن تيمية. ولذلك خصّصه باستهداف دار الاسلام بكتابه وليس دار الكفر.. إذ من المحال – في نظر محاورنا – أن نطالب غير المسلمين بما نطالب به المسلمين. فهل هذا تطمين لصاحب الرسومات أم لحكومته الدانماركية التي دافعت عن حريته في ثلب المسلمين ونبيّهم بالكاريكاتير. لأن الكاريكاتير كما هو معلوم تصوير رمزي معبّر بالتضخيم والتحقير لموضوع سياسي أو ديني أو اجتماعي أو غيره. .. فابن تيمية وكتابه في رأيه إذن من عصور الوهَن، وكأنما يدعونا لاستبدال كتابه بالصّارم المغمود أو المكسور حتى لا ينزعج في المستقبل شاتمٌ للرّسول! ونحا على المسلمين المطالبين اليوم في نظره بالدفاع عن المقدسات الدينية لماذا بالأمس لما هَدمت حكومة الطالبان في أفغانستان تمثال بوذا في باميان لم تقم قومة المسلمين!.. فهل ينبغي أن نسمع منه في المستقبل لماذا لم ندعم الدانماركي فلان أو الاسكندنافي فلان الذي آلى على نفسه – وكتبت عنه الصحافة – أن يعيد تمثال بوذا الى الحياة في أفغانسان من ماله الخاص نكاية بالمسلمين في هذا البلد، لزعمه بأن أهله إنما كانوا على بوذيّتهم الأصلية حين أدخلهم المسلمون في الاسلام قسرًا.. فالخلط بين المسائل السياسية والثقافية وبين المسألة الدينية مقصود هنا كما هو مقصود في الكاريكاتير الدانماركي! وهذا كله في رأيه «ليس تبريرًا للتهجم على رسول الاسلام بأية طريقة ولكنه من باب تفهم أبعاده ومحاولة وضعه في إطاره الصحيح»! والمعنى – في العربية التي استعملها – أن التهجّم ممكن بطرق معينة وليس بكل الطرق. ولو دعينا كلّنا الى مثل هذا من تفكيره لما استبعدنا أن نُدعى يومًا الى ترميم أصنام الكعبة أو تهويد القدس! 7- في أن الغرب ليس كتلة متجانسة في الموقف من هذه القضية، وذلك للحرية الفكرية لديهم بينما المسلمون تصرّفوا كأمة واحدة. وهذا ينعاه عليهم ويسجّله للغربيين، ليستنكر – من غير منظور البؤس الديني الذي تجلى أمام عينيه – سقوط قتلى مظاهرات العنف بالمجتمعات التي لم تعرف برأيه حركة تنويرية، كليبيا ونيجيريا والباكستان! ولعله نسي أفغانستان وأندونسيا. وهذه أكثرها دول اسلامية مائة بالمائة وهي الأكبر عددا من المسلمين. ولعله نسي مظاهرات المسلمين الأوروبيين في كثير من العواصم، وكأنه لا يحتسبهم من الأوروبيين بسبب إسلامهم وأصولهم. وهؤلاء كلهم، لا أدري لماذا لم يصنفّهم ضمن حريتهم في ردّ الفعل حسب واقع التحدّيات التي يعيشونها. فهل كان ينبغي للأتراك أن يخنَعوا والأروبيون يمُنّون عليهم بالانضمام للاتحاد الأوروبي إذا تخلّوا عمّا يذكّرهم بخلافتهم العثمانية وافتتاحهم القسطنطينية والستين مليون مسلم في بطاقة تعريفهم الحالية؟! أم كان ينبغي أن يطلب من العراقيين عدم التظاهر احتجاجًا على الاساءة الدانماركية، ومن الصوماليين كذلك ومن السودانيين ومن الفلسطينيين واللبنانيين.. وهؤلاء كلهم صباح مساء تحت الاحتلال والتدخل الاجنبي في شؤونهم بكل الحيثيات الدولية المدمّرة لسيادتهم واستقلالهم وكرامتهم البشرية. 8- ازدواجية التحليل في قضية الغرب – شرق، أو الغرب – اسلام. ليقول لنا إنه يخَطِّئ نظرية « صراع الحضارات » الأمريكية، التي روّج لها هنتغتون! وهذا ليس عجيبًا، فالمفكر دائمًا في نظر المفكر مخطئ!! إذن ما الصواب؟ الصواب هو صراع الثقافات! وهنا بيت القصيد، لأنه فيما تقدّم من حواره ينكر وجود حضارة الى جانب الحضارة الوحيدة التي يراها، وهي الحضارة الكونية التي صنعها الغرب ويتقدّمها اليوم. وهو لذلك يبحث عن التثاقف، من خلال نظرية تثقيف المسلمين لتمتصّهم الحضارة الحديثة! وهو يعرف أن هذه المثاقفة خطة طويلة المدى للمركزية الأوروبية من قديم حتى قبل الاستعمار، وأن هذا التثاقف هو تغالب، بل هو كما يقول صراع ثقافات. والأمر واحد في نظرنا. لكن الصراع الثقافي بيننا وبين الغرب يستقطب الدينُ جوهرَه كما هو معلوم. ولذلك يرفض الناس الأحرار عادة التثاقف الاعتباطي الذي يكون عن طريق الحروب الظالمة، كالتي حرّكت معظم شعوب أوروبا نحو الشرق في القرنين الماضيين. وربما منذ الحروب الصليبية ردّا على الاسلام، في حين كان تحرّك الاسلام نحوها تحرّك فتوح، لتحرير شعوبها من نير الاستبداد الملكي والطبقي والتحريف الديني الذي كانت تعيشه. ولكن المؤرخين الغربيين صوّروها فتوحات بل حروبًا اقتصادية واجتماعية، كدأبهم في تحريف الحقائق لأسباب إيديولوجية واضحة. فهل نصدّق الى اليوم أن عامة الناس في الدانمارك وغيرها لو فُتح بينهم وبين الاسلام لنالت دعوته كل ترحيب منهم، لأنها غير مدعومة بعسكر استعمار أو شراء للذمة وتغرير.. وإن لم يدخلوا فيها، ولكن الواحد منهم لا يلبث أن يستشعر من حوله كل أمن وحسن جوار من مواطنيه المسلمين. ويبيّن المحاور لنا أن توماس الاكويني أخذ عن ابن رشد. ولا ندري هل هذا في نظره شرف للاكويني أم شرف لابن رشد. وما نعلم أن الاكويني أو غيره يعتدّ بأنه نقل عن ابن رشد، إنما يزعم هو – أي الاكويني – وجماعات كثيرة من علماء الغرب كلّما أخذوا شيئا من الحضارة الاسلامية، أنهم إنما اقتطعوا منها ما هو يوناني منقول الى الثقافة العربية والعبرية وغيرهما من ثقافات الشرق وجنوب شرقي آسيا وجنوب غربي أوروبا والمتوسط، اعتبارًا بكون كل هذه كانت مجالات للحضارة الهيلينية والرومانية والبيزنطية.. بقي العكس، وهو الفخر لابن رشد بأنه مأخوذ عنه في دين توماس الاكويني.. فهل هذا يحمّسنا اليوم للأخذ من دين توماس الاكويني أو أمثاله المحدَثين. أكبر الظن أن ابن رشد يأبى علينا إلا أن نظل في الدين دائما المأخوذ عنا ولو المتأخرون! وقد يكون من الباطل تمامًا أن يخبرنا محاورنا في مثاله الأول، قبل أن يذكُر ابنَ ارشد، بأن الفكر الديني في الاسلام أخذ من الفكر الفلسفي اليوناني. يقول لنا ذلك في شبه تساؤل تقريري: «ألم يأخذ الفكر الديني في الاسلام من الفكر الفلسفي اليوناني؟». وهذا يحتمل الايحاء بأن المسلمين تأثر تفكيرهم الديني بالتفكير الفلسفي، فأصبحت ديانتهم شبه خليط أو تفلسفت إذا صح التعبير. ولا ندري إذا ما كان في معرض إنكاره للاسلام التاريخي يرفض هذا الخليط اليوناني العربي للدين الاسلامي أم يحبّذه. والظاهر أنه سوف يحبِّبه لنا في إطار المثاقفة بين الفكر الديني في الاسلام الحديث وبين الفكر الغربي؛ أو هو يقصد من عبارته « بالفكر الديني في الاسلام » بعض علماء النصارى والصابئة وغيرهم من التراجمة الذين ظلوا على دياناتهم بكل حرية، وخدموا الدولة الاسلامية وألّفوا في ظلها وتمتعوا بجوائزها وكان لهم تأثير عن طريق ثقافاتهم السنسكريتية أو اليونانية في مجادلاتهم مع المعتزلة وفلاسفة الاسلام الآخرين. ولكنه يعلم أن هذا الأخذ وإن كان بهذا المعنى الذي يعنيه حصل لما كانت الدولة الاسلامية في مَنَعة وحكّامها في عُدّة وعتاد لمجابهة كل تطرّف أو زيغ في دولتهم عن ثوابت الاسلام وحقوق الديانة وأصول العلم وآداب الحوار والمناظرة. ولذلك كان عليه أن لا يُعرِّض بالوهَن الذي عاش فيه حسب قوله ابن تيمية وألف فيه السيف المسلول على من شتم الرّسول. لأنه في حال الوهن لا يكون المتديّنون إلا شديدي الحساسية لما يكون من تجنّ على ديانتهم الى الحدّ الذي يجنِّيهم بدورهم على غيرهم. لأن الدفاع عن النفس إذا أظلمت السُّبل من تمام الحياة. والسُّبل المظلمة تكون في زمن الغزو الاجنبي وفي زمن الاحتلال وفي زمن الظلم. وهذه كلها مأساة المسلمين فيها بالضرورة من الخارج. وغير صحيح تمامًا أنها من الداخل، إلا أن تكون مظاهرَ لانعكاسات وردّ فعل طبيعي، كالأمراض لا تكون أسبابها إلا من خارج البدن. ولذلك فإن تفسيره لعلاقتنا الصدامية – كما يقول -بيننا وبين الغرب وكيف تُحلّ، هو مجرد توصيف غربي لعلاقات الصراع بيننا وبينه واستدراج للوهم والحلول الاستسلامية. وينبغي أن نتأمّل جيّدا كيف يوازن بيننا وبين غرب قطع مع ماضيه، ولم يعد يهمّه منّا إلا اقتصاده ومصالحه. ويدعونا صاحبنا دون أن يبيّن لنا الطريقة، للرّقيّ بمجتمعاتنا وأنّ ذلك ينهي العلاقة الصدامية معه، أي مع الغرب ؛ وبدونها و«في ظروف التأخر العلمي والتكنولوجي وحتى السياسي والثقافي، فإننا [حسب قوله ] لا ينبغي أن ننتظر من الغرب الاحترام الذي نرى أنفسنا جديرين به». وهذه بهلوانية! وإلا فكيف ونحن نعالج طغيانه من أجل مصالحه الاقتصادية نحقق لأنفسنا الرقيّ بمجتمعاتنا؟! هل يكون حصول تقدّم في علاقة صدامية بين طرفين دون حصول تخلّف بالضرورة في طرف؟ وثانيا هل تأخّرنا التكنولوجي والعلمي ليس نتيجةً – كما أكدته قمّة المعلومات في تونس وجنيف – لهيمنة الغرب على تكنولوجيات الاتصالات والمعلومات، التي هي اليوم مَرْكبة العولمة والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والعلمي والسياسي والثقافي؟ وهل الانسان يبحث عن احترامه عند الآخر بالتقدم العلمي والتكنولوجي المحروم منه أو الذي لا يضاهيه فيه؟ نشك كثيرًا، لأن أكثر الناس في العالم اليوم يبحثون على كرامتهم البشرية أن لا يدوسها جند الاحتلال وقوات البغي والعدوان وأسماعهم تصمّها دعوات الحرية والديموقراطية وحقوق الانسان. لأنه بالامكان، كما هو معروف عن كثير من المفكرين، تَمثُّل دور المحرر والديمقراطي على أوراق الكتابة ومنابر الحوار، دونما تطبيق ذلك في الواقع العملي وميادين السجال! وكل من يتولّى الشأن العام في حضارة القوم الآن، وحتى في حضارتنا الاسلامية التي ينكرها بعضهم، يكون ميزان أعماله تحت مرأى ومسمع الخاص والعام. ولنا في سيَر كبار الولاة والفاتحين الامثال، وإن صوّر عامة المستشرقين حياتهم مع أولى أمرهم على أنها أحقاد وشهوات ودناءات نفوس وأخلاق. قد كانت لنا تقاليد وصرامة في الحق. ولكن منذ زمن ونحن وأعداؤنا في الخارج والمظاهِرون لهم علينا في الداخل في مغالبة، لأن هؤلاء جميعهم يحولون بيننا وبين تطبيقها، خدمة لمصالحهم الاقتصادية والسياسية والثقافية التي تكلم عنها زميلنا الشرفي في هذا الحديث له، وإن كان في سياق آخر. ونبتئس حين نرى أعمال بعض طلاب زملائنا بالجامعة مؤلفات إيديولوجية أكثر منها بحوثا جادة؛ وحين نلمس حسن الظاهر في إداريات أولئك الزملاء وسلوكياتهم وقبح الباطن. وعزاؤنا أن الأمور تغيرت الآن أفضل بقوة وبهمّة العاملين. وأصبحت قضية التربية والتعليم والبحث العلمي شأن الخاص والعام وليست في احتكار أحد. قلت لقد كانت لنا تقاليد في ذلك وصرامة في الحق، ولكنّا، وقد انكشفت حدودنا وقيمنا الاعتبارية ترانا يسارع اعداؤنا والمتألّبون بهم علينا لإسدال السِّتر على الأفعال المنكورة والتصرّفات المعيبة ونُدفع عن المحاسبة. وتجد بعد ذلك من يأتيك ليقدّم الدروس! 9- في أن العلمانية صيرورة اجتماعية! وأول التصحيح هنا، أننا نقول صيرورة بالصاد وليس بالسين. وثانيا المعنى في السؤال المطروح على محاورنا هو أن العلمانية مرادف «لانحسار دور الدين وتراجعه» ؛ ومثاله على ذلك ليس فرنسا فقط ولكن في عدد من الدول الغربية سماها، ثم حكم بكون «السيرورة الاجتماعية» للعلمانية ستشمل بقية العالم! ولكنه يستدرك ليوضح لنا أن «العلمانية موجودة في مجتمعاتنا كذلك، ولكنها غير معترف بها في مستوى التنظير. فالخطاب إذن سياسيا كان أو دينيا لا يعكس الواقع بأمانة دائما. ولا بد من تحليل السلوكات الاجتماعية في نطاق كل مجتمع». وهذه نفس مقولته التي تقدّمت في كتاب أحد طلابه وذكرناها سابقًا على سبيل الاستشهاد. ويبدو أنه سعيد كلما قرّر هذه « الحقيقة » وهو في الواقع يوهم بها، ليَعْلم الناس أنهم مقودون الى العلمانية لا محالة. ومع تقديره للاختلاف بين علمانية وأخرى – وهذا في حدّ ذاته مطعن في تعريف العلمانية – لم يصحح مخاطبته في أن العلمانية ليست مرادفة لانحسار الدين وتراجعه وإنما، كما يقول ابن ابي الضياف في الاتحاف، هي تشريع الناس في البلدان المختلفة الاديان والطوائف بالتشريع الوضعي دون أن يكون معاكسا لمعتقدات جميعهم ودياناتهم وعاداتهم وتقاليدهم وأعرافهم. ويفهم من تفكير ابن ابي الضياف عند تعريفه للنظام الجمهوري، الذي يكاد يحبّذه والذي يقوم في أهم أسسه على هذا المبدأ، أن الدساتير في البلاد الاسلامية الموحدة العقيدة كبلادنا غير ملزمة به بل هي في غنى عنه، ولكن دون اعتراض عليه في غيرها من الدول. وقد صحّحْنا في مقال قديم لنا تقدير من أخطأ في فهم مقصود ابن ابي الضياف في هذه النقطة بمقدّمة إتحافه. وعليه، فإن التّهمة هنا لأنظمتنا بأنها تُخفي غير ما تعلن أو تعلن غير ما تخفي لا يخدم إلاّ اللبس والتشويه والطعن في المؤسسات. ولو صرّح لكان أكثر شجاعة في نقد الأوضاع التي يلمح لها، أو يتبيّن له الحق فيما التبس عليه منها. 10- ولا أدري ما يُنتظر في إجابة من يجيب عن مستقبل الاسلام والمسلمين بعد الحادي عشر من سبتمبر، وهو يرفع إسلاما لنفسه بيد ويندد بإسلام عموم المسلمين بيد ؟ (السؤال رقم 6). وللتدقيق، السؤال يخص الاسلام والمسلمين في أوروبا. ولكن الاتجاه في الاجابة بتقدير التفريق بين إسلام في أوروبا ومسلمين في أوروبا وبين اسلام في بلاده ومسلمين في بلادهم! وفي هذا التوجيه أمران مهمان: الأول، أن مسلمي الأرض ومسلمي المهاجر غير واحد؛ ثانيا، استثناء مسلمي المهاجر من مسلمي البلقان وشرقي أوروبا، الذين يقول على طرف لسانه إنهم من أهل تلك البلدان. وذلك على نظرية فك الارتباط بين المسلمين عامة في مشارق الأرض ومغاربها وفي المهجر، التي يَدين بها الأوروبيون حتى قبل الحادي عشر من سبتمبر ويردّدونها كثيرا. ولذلك يقول محدّثنا إن أجيال الهجرة الثلاثة متذبذبة وغير جريئة ومؤدلَجة عن بعد ومآلها أن تندمج. وهو يقصد أن تنحلّ في النسيج اللائكي رغم تطلّعها المستمر الى خصوصياتها بحكم الدين ونحوه. وهذا كله من قبيل التمنّي أو النّبوءات. فالاستشرافيون عادة يمرّرون أحلامهم كالوقائع المُقْبِلة لا محالة! وأطرف من هذا كلّه، أن باقي مسلمي أوروبا، الذين نعرف جميعًا ما تقاسيه معظم بلدانهم في مشارف أوروبا وفي أحضانها من معاناة ومن مساومات بين الضغط الأمريكي والضغط الأوروبي عليهم للتخلّي عن صفة بلدانهم الاسلامية والاندماج قسرًا في وحدات عرقية، مصطنعة ومعادية بالضرورة، تحت مظلة الاتحاد الأوروبي. وفي ذلك ما فيه من مضض على مقوّماتهم الدّينية، كأنما كُتب عليهم أن يُضرَبوا بالشيوعية مرة في تاريخهم الحديث ومرّة بالليبيرالية الغربية في تاريخهم المعاصر. ولكن محدّثنا لا يلتف الى ذلك من أمرهم، فقط حسبه أن ينظر للمسألة من جانب الأوروبيين، أي ضرورة إذعان مسلمي أوروبا الأصليين في بلدانهم للأمر المقضي بتقديره، وهو اتخاذ «أنماط من التدين تقطع مع ما هو سائد في التاريخ الاسلامي»! هكذا! ويسلّط عليهم سمة التغيير الحتمية دون أن يطمئنهم على المرور من الأزمات بسلام. ويكاد يقول لهم إن شأنكم في الديانة آيل الى ما آل اليه دين الأوروبيين عامة.. وأنهم بالعدوى سينقلون تجربتهم الينا. وفي ذلك يقول: «وإذا ما نجح المسلمون الغربيون في استنباط هذا التوفيق الذي تحدثنا عنه فلا شك أن عدواه ستكون مفيدة جدا لسائر المجتمعات الاسلامية». وفي الانتظار، يرى التجربة التركية مندرجة تمامًا في سياق هذه العدوى التوفيقية، دون أن يحتاط كعادته من تزكية وصول حزب إسلامي الى السلطة. ويقول لنا – وكأنه يشرح بألفاظ مرادفة أطروحة الرئيس الامريكي بوش الابن، وهو ينوّه بالديمقراطية الاسلامية التركية التي يرغب أن يصدّرها حليفه الى الشرق الاوسط الكبير -: «ولذلك (وهو يقصد حزب أردوغان) فهو لا يتشبث بنفس الشعارات التي ترددها الحركات الاسلامية في البلدان التي لم تعرف مثل هذا النظام العلماني». وبطبيعة الحال حزب أردوغان والحركات الاسلامية، أحدهما والآخر، أدرى بما بينها من صلة في قضية هذه الشعارات، التي يحتاط صاحبنا في وصفها بالاسلامية حتى لا يتورّط. ولأنه يريد أن يفرغ الكأس عن آخرها تجرُّه محاورته، أو كأنها تجرّه الى القول «بإنه لتجاوز الازمات لا بد من أن تتحول الانظمة العربية الى أنظمة علمانية». وهذا يذكّرنا بأطروحات الشيوعية في حتمية تحول الأنظمة الرأسمالية الى أنظمة اشتراكية.. حتى إذا سقطت الشيوعية تبادروا للتقاول حول أسبقيتهم بالتنبّؤ بانهيارها! فالعلمانية كذلك هي أولا غير مقررة علميا كنظام صالح لكل زمان ومكان، وثانيا للاختلاف حولها بين البلدان، وثالثا لأنها حتى وهي في بلدها الأم تعاني من الخرق لبعض مقوماتها في مسائل كثيرة. فلا ينتظر إلا أن تسقط تحت أوروبا الحديثة بسبب الموقف من الدين في مشروعها الدستوري، وهو مما عطل وحدتها السياسية الى حد الآن؛ فضلا عن مشكلتها مع تركيا، حليفها المرهوب المرغوب، الذي سيجعل منها أكبر دولة اسلامية بانضمامها للاتحاد الأوروبي.. ويكون الاسلام قد دخل بتركيا الحديثة مرة ثانية الى الفضاء الغربي الاوروبي ولكن عن طريق الديمقراطية! ويبدو أن محدّثنا نفسه يستشعر هذا المصير للعلمانية، وربّما تحت ضغط الواقع، فهو يعرف أن الأوروبيين يضعون في مقدمة بنود اتفاقياتهم للشراكة مع الآخرين حرية المعتقد.. بما يعني تدخل السياسي في الديني. ولذلك نرى محدثنا هنا يذهب الى أن المطلوب لم يعد الفصل بين الدين والسياسة، ويقول في هذا: «وعندما أمارس ديني فإنني أرغب في أن أرى مبادئي الدينية مجسّدة في أرض الواقع ولكن لا أسعى الى فرضها بواسطة السياسة للسيطرة على الآخرين». وهنا عقدة المسألة في الواقع.. وتضارب ما بين الأدبيات وما بين المواقف في بعض الحالات، نظرا لازدواجية المعايير ولأسباب أخرى. وربما الرهان عنده أن نمكّنه من السلطة دون غيره – المظنون فيه السيطرة على الآخرين بدينه – لنرى كيف يجسّد لنا فيها دينه دون سيطرة على الآخرين»! فهذا، حتى بالديمقراطية غير مقبول. ومثال «حماس» قائم: وصلت بالديمقراطية فأصبحت الديمقراطية مطعون فيها لدى اسرائيل، لأنها مكّنت «حماس» وهي منظمة إرهابية في نظرها من السلطة! ! .. وتزحزحه عن موقعه قليلا بعض التجارب الأخرى حين تعرض عليه محدّثته فوز الاخوان المسلمين في مصر. فيتراجع خطوة أخرى عن معارضاته القديمة، ليقول : «فالاسلام السياسي له حظوظ في البروز بصفته البديل عن فشل الانظمة القائمة في المجتمعات التي ينقصها التحديث في كل المجالات لا فكريا فقط». ليستدرك على نفسه بعد ذلك ويقول : «لكن حظوظ هذا التيار الاسلامي أقل في المجتمعات التي خطت خطوات في سبيل التحديث». وهنا تشعر بأنه يعالج كالفُوَاقة في حلْقه، فلا يستطيع أن يتنكّر لنفسه تمامًا أو يزجر الطير بوجه تجربة بلاده تمامًا. ولكن نسأله هل يأتي « البديل » من الفشل ضرورة، أم من الاختيار؟ وهنا لبّ السياسية التقدمية. وهل لا تناقض مع تفكيره في التحديث أصلا، حين ينسب التحديث الى البديل المتولد عن الفشل؟ أم هو اعتراف منزوع منه للبديل، وإلاّ يكون التحديث الذي علّقه به هو تدهور وانحطاط وانتكاس، على ما هو المتوقع في أطروحته السابقة؟ وإلا، فكيف يفسّر صعود ذلك البديل في تركيا إذن؟! وهنا يجد نفسه مضطرّا لتوزيع الحظوظ بين التيارات الدينية المؤهلة للسلطة حتى ينتقص من حظوظ بعضها لحساب بعضها الآخر!.. والأمر تصريفه الى الله، والى الديمقراطية في الواقع. أقصد، لقوله صلى الله عليه وسلم «لا تجتمع أمتي على ضلالة»، وإلا فمن كان بإمكانه في البيت الأبيض أن ينتقص من حظوظ حزب أربكان أو أردوغان أو حماس أو الاخوان ؟! (المصدر: ركن « البعد الآخر » بجريدة الصباح التونسية الصادرة يوم 11 مارس 2006)
|
الـــــــرد علـــــــى الشــرفــــــي (2- 3)
بقلم: د. المنجي الكعبي كانت «الصباح» قد نشرت في عددها الصادر يوم 22 فيفري 2006 حديثا أجرته الزميلة أمال موسى مع المفكر عبد المجيد الشرفي وقد تناول الحديث إلى جانب قضية نشر الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم إشكاليات مثل ثنائية الإسلام والغرب وحقيقة العلمانية الغربية وأسباب ربط الإسلام بالارهاب ومستقبل الإسلام في أوروبا. وننشر اليوم الحلقة الثانية من الرد المطوّل والمفصل للدكتور المنجي الكعبي حول مختلف المسائل التي تحدّث عنها عبد المجيد الشرفي. – نحن وعقدة الاستعلاء. بدل العقدة الواحدة التي لم تُبين المحاوِرة نوعها ذكر المتحدث أنّنا (وبطبيعة الحال لا يقصد نفسه وإنما يقصد عامة المسلمين) نعاني في الواقع من عقدتين، العقدة الواردة الى الذهن وهي عقدة النقص والثانية عقدة الاستعلاء. وحتى لا يترك الاحتمال لدينا بأننا سواءٌ والغرب في العقدة أكّد لها أننا نتفوّق عليه في هذه العقدة! ولا أعلم أن الغرب يشعر بعقدة تجاهنا اسمها عقدة الاستعلاء. لأن العقدة مرَض عُصابي، والقوم أصحّاء جدّا ويُقْبلون نحونا بتصميم على معالجة مصالحهم وأطماعهم حسب مستوياتهم من العُدّة والعتاد. ولعله تعبير لمجرد التهوين على وجه المشاركة، ليطالبنا كما فعل بعد ذلك «بأن الواعي بعقدته يستطيع أن يتجاوز عقدته ويرتقي». ونسأل أصحاب علم النفس إذا كان هذا محتملا بنسبة ضعيفة أو بدون نسبة. أما أصحاب العقدة فنَكِلُ له البحث عنهم في مخيّلته ليقوم على توعيتهم بعقدتهم إذا لم يتوفّقوا بأنفسهم لحلّها! ومن حسن الحظ أنه لا يطالبنا بالاعتذار للغرب على عقدة الاستعلاء التي كانت لأجدادنا في القرن الرابع نحو الآخرين، حين يقول : «العالم المتقدم له نظرة استعلاء، ولكنها نظرة إن لم نبررها فإننا نفهم مرتكزاتها الطبيعية، وهي شبيهة بالنظرة التي كانت للمسلمين عندما كانوا متفوقين حضاريا، من يستطيع أن يلوم مسلم القرن الرابع على نظرته لكل الآخرين». فكيف نحن « أفضل » منه في عقدة الاستعلاء، كما يقول قبل قليل، أي متفوّقين عليه في عقدة الاستعلاء ومع ذلك نحن دونه في النظر اليه بنظرة آبائنا في القرن الرابع؟! أو هو متفوّق علينا في النظر الينا بعقدة الاستعلاء رغم ضعف هذه العقدة لديهم بالنسبة الينا؟! 12- النّخب. هناك لجاج كثير حول النّخب.. وعُقْمنا منها في عالمنا العربي والاسلامي.. ونجد ذلك في هذا الحديث وغيره. كل هذا في تقديرنا ليوفّر المتحدثّون لأنفسهم مساحة الصفوة وسط هذه النّخب إن وُجدت بالتعدّد، ويوفّر المتكلّمون اليهم شهادة العارفين بالنّخب وحالها من الضّعف والعقم والنّدرة. المهم هو أن المطلوب أن يؤكد لها محدّثها «أننا لا نملك نخبا تقطع مع الصورة المشوهة» للمجتمعات العربية والاسلامية. لماذا هذا الحديث عن النّخب بهذا القطع، لأنه يتقاطع مع الرؤية المتداولة التي تصنّف النخب الى النخبة الموالية للسلطة ويكال لها دائما الاتهام، كفقهاء السلطان ونحو ذلك، والنخبة المعارضة التي تزعم لنفسها كل مصداقية وثورية. 13- في أن الارهاب هو مقاومة يائسة بائسة غير بناءة. يتفهّم صاحبنا في هذا الحديث تضخيم الاعلام الغربي للارهاب في أشخاص المسلمين للدفاع عن مصالحه، ومع ذلك يقول لنا «وفي هذه النقطة كذلك لا نريد لا أن نبرّئ ولا أن نجرّم». وهذه حصانة، قد يكون الغرب نفسه على غير علم بها على لسان صاحبنا قبل هذا الحديث. ويمكن أن يستفيد منها صاحب الرسومات الكاريكاتيرية الدانماركي، ويأخذها معه لدى كل مطالبة قضائية، كالتي لوّح بها محدثنا « لعقلاء » المسلمين في مستهل حديثه، حسمًا لقضيته مع المتشنّجين ضدّه من عامة المسلمين الآخرين، الذين وصفهم بغير المتنوّرين. وهذا تفصيل بسيط الى جانب رؤيته الجوهرية لظاهرة الارهاب والغرب التي أرادت محدّثته أن تعرف منه دور الاستشراق في خلق الصورة الخاطئة عنا. وإذا بمحدّثنا كأنه لا يتوقع الا هذا الوهم ليصحّحه. فيدافع عن المستشرقين بعد أن يوضح تفهّمه لكيفيات الأروبيين المشروعة للدفاع عن مصالحهم، أو بالأحرى خدمة مصالحهم. ثم لا يجد بأسًا بتصوير المصير للمسلمين فيقول وهو يحشر نفسه بينهم في شكل استهزائي «سنبقى نبكي على حظنا التعيس (هكذا، والصحيح صرفا « التَّعِس ». ولا يقال عربية الا « بكا حظّه » ولا يقال بكى على حظه، إلا على تقدير فعل آخر متعدّ بعلى. والتقدير بعيد هنا) وعلى المؤامرات التي تحاك ضدنا».. وتسنده فيما يبدو إحصائيات دقيقة أمامه حول ضحايا الارهاب بين المسلمين والغرب، فيخبرنا بأن ظاهرة الارهاب : «هي ظاهرة في الواقع يذهب المسلمون ضحيتها أكثر من الغربيين أنفسهم»! وكأن مسألة الدفاع عن الأرض أو مقاومة السيطرة الاستعمارية، التي شبّهها بالارهاب في نظر الغرب بالأمس، هي مسألة احتساب أرواح في جانب المقموعين قبل كل مجازفة! ولا ندري كيف يستقيم الاعتراف للاعلام الغربي بالتضخيم للظاهرة الارهابية.. ومن ناحية أخرى ينصحنا بأن لا «نعطي ذريعة للأعداء حتى يشوّهوا صورتنا بكلّ سهولة»؟! يعني أن التشويه أو الصورة المشوهة للمسلمين هي مسؤولية المسلمين أنفسهم دون غيرهم، الا على نحو هامشي يفهم من سؤال مخاطبته، ومع ذلك يحتاط في ردّه الاحتياط الكامل من تهمة شقّ في الاستشراق ولو شقّ منه بتمرير أفكار خاطئة عن المسلمين. وهنا أيضا صك براءة للاستشراق عامة. إذ يصور الأمر في الاستشراق على أنهم – أي المستشرقين – قلة قليلة «ولا يجد إنتاجهم الا صدى باهتا في المجموعة العلمية في الغرب»، لأنهم غير مشاركين بزعمه «في التيارات الفكرية والنقاشات العلمية في بلدانهم الاصلية»! وهذا زعم لا تحققه الوقائع ولا تاريخ الاستشراق الذي كتب فيه الكثيرون. وكلهم يعرف أنهم في الأصل مجنّدون للخدمة الاستعمارية، في أزياء مدنية ومهام علمية بحسب اختصاصهم.. من شتات اليهود الأوروبيين في أغلبهم، للعلاقة السامية بينهم وبين العرب خاصة وشعوب الشرق عامة. وتفشّت يهوديتهم في الاستشراق كما تفشّت قديمًا فيما يسمى بالاسرائيليات في الكتابات الاسلامية. ومن غير الممكن توقّع العكس لطبيعة الأشياء حتى في البحث العلمي، والذي يراه حتى أكثر المتشددين في الموضوعية والمنهجية غير مناف للتعاطف غير الارادي بين الذات والموضوع في الدراسات الانسانية والبحوث الاجتماعية مهما تكن الصرامة العلمية التي يمكن أن يدّعيها الباحث والدارس. أما كونهم لم يكن لهم تأثير في مجتمعاتهم العلمية. فهذا باطل. لأنه يجب أولا أن نسلّم بأنّنا نحن في الأكثرالمستهدفون بإنتاجهم وتأثيرهم. والواقع، ومن ناحية أخرى، يجب أن نميّز بين استهدافين لهم كلاهما يخدم الآخر، استهدافنا وقد شرحناه واستهداف الطبقة السياسية والعلمية في بلدانهم لتزويدهم بكل ما يسهّل سبيل معرفتهم بنا، وسبيل استفادتهم من تراثنا، وسبيل استنزافهم لخيراتنا، وسبيل القوة فينا لاستضعافنا وشلّ مقدراتنا وكسر مقوّماتنا وتفريق صفوفنا.. الخ. وهذا أمر تشهد به تقاريرهم ووثائقهم ودسائسهم وغير ذلك من الأمور، دون أن نجحد خدمتهم الجليلة لتراثنا وآثارنا وكتبنا ومخطوطاتنا. ولكنّها لم تكن خدمة موجهة لنا في الأصل، وإنما بطبيعة تقدّمهم وآفاق حضارتهم وتخطيط أعمالهم والاحاطة بمعارفهم.. كمن يحسب اليوم أن نقل تراث الاغريق والهند والفرس الى العربية والقيام بالشروح عليه هو خدمة خالصة لهذه الأمم المعاصرة للعرب في ذلك الحين، أو من تعرّب بلغتهم من المسلمين. ولم يجد في الاستشراق غضّا، يذكرنا بتعييبه على فقهاء السلطان. وهُمْ من يَعْلم كم تفقّهوا في الدين، ليضعوا لائحة طويلة بشروط من يتولى من المسلمين ولاية على أمته، في كل أمر وكل شأن من شؤون دينهم ودنياهم. ولو أحيلت على هذه الشروط ملفات المتكلمين الكثيرين اليوم في ما يعنيهم وما لا يعنيهم من أحوال المسلمين وحقوقهم، لظهر الخلل الذي دخل على المسلمين، بمسؤولية من يتولى منهم المال العام والاعمال العامة، فما بالك بمن يتولى تربية النشء وتكوين الشباب وتخريج الأجيال. ولا نقول ممن ضيّعوا مستقبل الأمة بنزاهتهم المكذوبة واستقامتهم المزعومة. ولا أدري كيف يعتقد أن المستشرقين مقطوعون عن التيّارات الفكرية والنقاشات العلمية في بلدانهم. ونحن نتابع صباح مساء في القنوات الفضائية الإخبارية والثقافية المشفرّة وغيرها الموائد حولهم، مع رجالات السياسة وغيرهم، وأحيانًا حسب المناسبة مع كبار العسكريين والخبراء الاستراتيجيين. وكأنّ صاحبنا بقي عند الاستشراق التقليدي، الذي انقطع منذ آخر مؤتمر له بباريس قبل أكثر من ثلاثين عامًا، ليتحوّل الى ما هو أوسع من جذع واحد. فأصبح مؤسسات اختصاص منفصلة حسب المناطق الجغرافية والميادين العلمية وغير ذلك من الاعتبارات الحديثة، لتغيير الصورة التقليدية التي أصبحت مرمى كثير من الحجر، بسبب ماضي غير قليل من المستشرقين، المشوه بالدسائس والاكاذيب وضروب الانتحال. وربما يحتسب نفسه الواحد من جامعيينا وباحثينا ومثقفينا اليوم من غير أهل الاستشراق أو خارج دائرة الاستشراق الحديث، وهو في الواقع، وفي لوائح المختصين في علوم العربية وآدابها أو في تاريخ الاسلام وحضارات شعوبه، إسمًا من الاسماء المدرجة بكل عناية للتعاون معهم والتبادل والاستشارة والتشجيع في قائمات الاستشراق الحديث بالمعنى الموسع الذي ذكرته. والقصد هو تبنّي من كانت دائرة الاستشراق التقليدي لا تشملهم من تلاميذ المستشرقين من غير البلاد الأوروبية والاسلامية. ولكن من تعجبه طريقة الغربيين للدفاع عن مصالحهم تأخذه العدوى بهم للدفاع عن مصالحه بطريقتهم. ويظهر أيضا أنه غير ملوم الا خارج دائرتهم. 14 – « الطريق الصحيح ».. أو نبرة التفاؤل كالدبلوماسيين حول الطريق الصحيحة التي نسلكها في تقديره لتحقيق إنسانيتنا على الوجه السليم. وتذكّرني عبارة « الطريق الصحيح »، في إحدى الترجمات التي تَرجمتْ لاسم حزب تانسو شيللر، رئيسة الوزراء التركية السابقة، والتي تحالفت مع الاسلاميين في وقت من الأوقات في الحكم، والذي هو في بعض الترجمات الأخرى « الصراط المستقيم »! وكل الدلائل تدلّ أن صاحب الحديث يحاور نفسه وغير مستعدّ لأن يرى التعددية في العالم الاسلامي بفكر سليم إلا فكر « طريقه الصحيح ». لأنه وهو يتحدث في السياسة بشكل من الأشكال وعن الفكر لا يترك مساحة لغيره، بنسبة أو أخرى من الحقيقة أو من الصحّة. 15- في « تحوّل الانسان المسلم الى كائن انفعالي »! وهل كلّ ما حوله.. تريده أن يحوّله الى صخرة في الوادي، كما يقول الفَرَضيون (بصدد مسألة في علم المواريث او الفرائض)؟ محاورنا يوافق محدّثته في ما تذهب اليه من تدنّي العقل في الفكر الاسلامي. وهي تقصد مكانة العقل بطبيعة الحال، لتَكبُر مساحة الانفعال على حسابها. وإذا بهذا الانفعال يتجلّى في حديثه في قضية طغيان النقل على العقل وعلى المستنبط من العقل. وهذا بدأ في تقديره منذ زمن المتوكل في القرن الثالث كما يقول، بسبب تغليبه أهل الحديث.. أو ما يسمّيه انتصار أهل الحديث تعريضًا كالمستشرقين. ويحلل تراجع الحضارة الاسلامية منذ ذلك التاريخ بأسباب مادية كتحوّل طرق التجارة. وكأن قوة الديانة في نفوس الناس رهن بالازدهار الاقتصادي والمادي.. ولكنه تلويح بأن انتشار الاسلام كان من أجل توسيع المجال الحيوي لتجارة العرب، كما يزعم المستشرقون أيضًا. ولإقناعنا بالمسألة يستحضر ابنَ خلدون أمامنا، ليعرّفنا بأنه تنبّأ بأفول المسلمين وصعود الغرب. ولكن في عبارة رقيقة غير التي يستعملها محمّد الطالبي في كل ما يكتب وينشر منذ قرأ ما روّجه الغربيون من تنويه بمقدمة ابن خلدون بسبب هذا الوهم الذي قرؤوه فيها حولهم. وهذا يذكّرني بالفيلسوف (بارترند رَسّل) المؤرخ البريطاني المشهور، الذي جاء يومًا الى القاهرة وحاضر حول سقوط الغرب وعودة المسلمين، فلم يذهب على الحاضرين أنه يريد بلباقته الانقليزية الباردة أن يدغدغ المشاعر السطحية وهو في الواقع يوجه رسالة بخطر المسلمين على الحضارة الغربية ما لم تتحفّز. ويذكرنا بالعالم الألماني التركي الأصل فؤاد سزكين، الذي لا يألو جهدا في محاضراته بتعليل اسباب تأخر المسلمين وتقدّم الغرب، وردّه الى توقف العلم في ديارهم وتقدّمه في الغرب وليس ما دون ذلك. وهو لهذا السبب لا يألو جهدا في التنبيش عن تاريخ العلوم عند المسلمين ليزيد من توفيرها للغرب، مُعْرضا عن نظرية عدوانية الغرب، بل ومفنّدا إيّاها بحال المسلمين في تخلّفهم الحالي بالنسبة الى أجدادهم في ميادين العلوم. ولكن لا أحد يندّد عاليا باحتكار الغرب على المسلمين علومه الحديثه، وهو الذي كرع وسرق ونهب من علومهم القديمة ؛ أو يجرّم عدوانية الغرب على نهضة العراق الحديثة وسبْيه لتراثه المحفوظ في المتاحف، وتدميره لمنشآته العلمية والبحثية والصناعية والاقتصادية، التي ضاهت الكثير من مؤسسات الغرب نفسه. وقس على ذلك ضربه لمصنع الادوية في السودان وتضييقه على التحدّي العلمي الكبير الذي تسعى اليه ايران النووية، والقائمة تطول. ولكن التجريم أسهل فيما هو كبت للطاقات على ردود الفعل والمقاومة. وآخرها سلسلة القوانين التي بدأت تترى في بلاد المسلمين والغرب لتجريم من يمجّد الارهاب. فهل أعجب من قانون لتجريم تمجيد الارهاب كما يقولون، والمسلمون يعانون توالي الجرائم الغربية على نفوسهم وأموالهم وأعراضهم.. وكلّها يراد لهم أن يمسحها الاعتذار المشوب بالبهتان أو التهوين الساخر بمحدوديتها وندرتها، أو بعدم علم المسؤولين بها وقلة ذوق أصحابها والفاعلين لها! أم هل لنا غاية في تصوير ابن خلدون مهمِلاً في حق انتمائه لدينه وهو المتسمّي بوليّ الدين واعتزازه بقومه وهو الملقب بالحضرميّ، والمنافح عن فضل العرب بنشر الاسلام وتلاقح أجيالهم مع الأمم والشعوب والقبائل لتحقيق قوله تعالى «يا أيّها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير». 16 – في أن المعقولية الوضعية الحديثة ليست معادية للرموز الدينية! هذا ما يحاول محاورنا أن يقرّره في خاتمة حديثه. وهو هنا يُلغز لقضية الرسوم الدانماركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم وموقفه منها.. وإملاء تصوره علينا لكي لا نأخذ فيها بمثل ما أخذ به أسلافنا كلما تعرّضت معتقداتهم الى الاعتداء، أو سُدّت في وجه دعوتهم الى الاسلام الأبواب. وكأن الاسلام مناقض للحقوق والحريّات ولمصالح الناس، ما دام الغربيون يصوّرونه مناقضًا لحريتهم هم في بلادنا وحقوقهم هم في بلادنا وديمقراطيتهم هم في بلادنا. ومن أجل ذلك يصوّر لنا صاحبنا من خلال ديناميكة التطوّر والتحوّل.. وحتمية التاريخ أن «المعقولية الحديثة ليست معادية للرموز الدينية». ولكن كيف يوضح ذلك؟ هنا يعمد الى تمطيط المفاهيم القديمة للوضعية وللعقلانية ليسحبها على الوضع الاسلامي الحديث. فيقول «إن المعقولية الحديثة تأخذ في حسبانها لا فقط ما يفرضه التفكير العقلي والمنطقي بل كذلك كل ما هو رمزي ومتخيّل بل حتى ما هو أسطوري». ولكن هل حقا – نسأله – هذا التفكير العقلاني الحديث ليس معاديًا للرموز الدينية، كما يستنتج من تحليله ذاك؟ أغلب الظن أنه يوهم نفسه أو يوهمنا، لأن حجر الزاوية في الفلسفة الوضعية هو الحكم بانتهاء عصر الاديان والوثنيات، وما قبلهما من بوهيمية الانسان الأقدم إلا ما يكون من « طبعات » محدودة لها، في أماكن منعزلة من العالم، وستبقى معزولة لتحاكي الى جانب الوضعية مراحل الانسان الثلاث في الاعتقاد. 17- قضية الثنائيات. ويحمل عليها بشدة باعتبارها قد تجاوزها العصر، ويعدّدها لنا وهي عنده «عقل – نقل، دين – دنيا، حداثة – محافظة». أي في الواقع الاسلام وما يقابله في مصطلح الغربيين. أي يعارضه وينقضه، زاعما لنا بأن تعقيدات العصر أصبحت تغاير بينها في المصطلحات فقط لا في طبيعة الواقع. وفي هذا يقول «فيقدّم التغيير أحيانا في شكل محافظة» للالتباس! ونعتقد أنه يزن كلماته كثيرًا وهو يعالج هذه المفاهيم حتى تخرج دون ضجّة في هذا الحديث، معوّلا ربما على قلة القراءة المتأنية لدينا. وهي أفكار جرت بلسانه، ولكنها بصيغها المختلفة لدى المفكرين الغربيين والمنظرين للصراع واحدة. وهكذا، وفي مناسبة وقفت كل القيادات السياسية والفكرية في بلادنا وفي العالم العربي والاسلامي أجمع لإستنكارها والاعتذارعنها واستصدار ما يلزم من القوانين لعدم تكرارها، يخرج محاورنا، وهو يطلّ علينا من شُبّاكه الضيق، ليرمينا بورد الافكار والحريات والتربية الصالحة التي ينبغي أن نأخذها من الغرب، بمناسبة هذه الحادثة. ويذكرنا بمصالح الغرب وبأنه فيما يتّهمنا به يجري على سيرته الاولى في اتهام كلّ المناهضين مصالحه حتى أيام الاستعمار بالارهاب والعنف، وبأن أعمالنا ضده لمقاومة سيطرته ربما حصدت من الأرواح لدينا أكثر مما حصدت من الأرواح لديه في هذه المعركة الحديثة، وأننا الملومون بوضعنا المتخلف وبعُقدنا وانفعالاتنا. وقانون تمجيد الارهاب وتجريم أصحابه، الذي تجري به مراكب الغرب نحو دولنا، ربما ينطبق عليّ وأنا أناقشه على ظهر هذه الصحيفة أكثر مما ينطبق عليه واجب الحرمة لمقدساتنا والترخيص للأجانب بالتعبير عنها في صحافتهم بدعوى يدّعونها علينا ظلما وباطلا أو تعميما. أو تصوّرني وإياه بعض الرسوم الكاريكاتورية الدانماركية في صورة « المكفِر » والارهابي وهو في صورة المفكر أو المتنوّر. .! وعلى ذلك ينبغي الفهم أن رسام الكاريكاتير الدانماركي مرشح للمجازاة على تحقير الارهاب في شخص نبي الاسلام والمسلمين، كما قالت برلمانيتهم الصومالية الأصل هناك والمرتدة عن دينها في بعض كتبها المسوقة كالجبن الهولندي في العالم إن المشكلة في الاسلام هو النبي والقرآن! *** إننا نسالم من يسالمنا ونعادي من يعادينا، هذا حق انساني بسيط كبساطة الماء للحياة.. ونحن المسلمون نتضامن. والتضامن بيننا من تمام إسلامنا.. ولذلك، وحتى وإن كنّا لسنا في نظر الغرب كلنا إرهابيون، فإننا نتضامن مع أنفسنا أوّلا في مقاومة من هو منّا إرهابي في نظر أنفسنا ومن هو إرهابي في نظر الغرب، لأن ذلك من لوازم علاقاتنا به، إلا أن يكون ما يدعيه الغرب إرهابا هو مقاومة مشروعة لاحتلال ينفّذه على أراضينا أو يساعد عليه فوق أراضينا، فنحن في هذه الحالة نجد أنفسنا أقرب الى التضامن مع من يقاومه ولو كان في الصين منّا الى مسالمته وهو ظالم أو مهادنته عن طيب نفس. وأعرَف ما يعرفه الغرب عنّا هو تضامننا هذا، ويعرف أن سرّه في إسلامنا، وفي تمسكنا بإسلامنا في وجه استعماره سابقا، وفي وجه الحدود المصطنعة التي شكلتها آلته العسكرية والسياسية والاقتصادية على عهد نفوذه في بلداننا وأقاليمنا وأقطارنا. ولذلك فإنه يفزع عند كل تحدّ أو مواجهة بيننا وبينه الى اتّهامنا بما هو من أخص صفاته، من نوع الارهاب والقرصنة والتعصّب والعنصرية وما الى ذلك في قاموس ألفاظه. وهذا الموقف وإن كان يمليه عليه الدين في السابق، الا أنه بعد أن اطّرح الدين ظهريا لأسباب خاصة به، راجعة للانشقاقات الدينية والصراعات العرقية، أصبح موقفنا منه، بسبب تمسّكنا نحن بديننا، قائمًا على الخشية من عدواه على إسلامنا ووحدة عقيدتنا. وتحلّل الغرب من الدين زادنا في الواقع سوء ظنّ بتشريعاته الوضعية ونظمه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية رغم إغراءاتها، لأنها لم تكن إلا وسيلته لغزو قلوبنا بها ضد ديننا وشريعتنا وتقاليدنا وعاداتنا ولغاتنا وثقافاتنا الخاصة، نحن المسلمين. ولكن تقدّمه العلمي والمادي ليس راجعًا في الواقع الى تخلّيه عن الدين كما يُشِيعه المنظّرون، أو نتيجة فلسفته الوضعية، التي عوّضت تدخّل الدين في شؤونه العامة كالسابق، بل الى حالة التحلّل من المواضعات الاخلاقية والانسانية أو ما يسميها بالحرية المطلقة خارج محيطه التي أفضت به الى استعمار الشعوب.. واستغلال خيراتنا وانتهاز طاقاتنا لتحقيق تفوقه وتقدّمه علينا دون رادع من دين أو خلق. بدليل أن الحضارة والتقدّم ليس من موجباتهما التخلّي عن الدين، أو تقديم الاعتبارات المادية على كل اعتبار روحي. ومثال الحضارة الاسلامية في أوجها واضح. فالحالة التي تمثّلت بيننا وبين الغرب في القرون الثلاثة أو الأربعة الماضية، هي أنه بعد أن فشل في تقدّمه نحونا بدعوة النصرانية، حزَم أمره للعودة الينا بشعاراته العلمانية الخالية من كل نكهة دينية لغزو ديارنا. وفي ذلك الوقت كانت دولة الاسلام على ما فيها من انقسامات شديدة التمسّك بموجبات الجوار بين الاقوام وحرمة أهل الاديان، داخل دار الاسلام وخارج دار الاسلام. وأحكام أهل الذمة كانت في الواقع أكبر مدخل للغرب لإثارة الفتنة والبلبلة بين المسلمين وأهل الملل والنحل في دار الاسلام، بسبب عدالتها وتحصينها للمسلمين. ولم يكتشف العالم الاسلامي سرّ تحركات الكثير من المندسّين تحت رداء دياناتهم أو أعمالهم الخيرية أو التجارية، ولا تعرّف على أهدافهم إلا بعد أن قضت السياسات الغربية مأربها من نظام الخلافة. فقد كانت تلك الأحكام بسبب طبيعتها الدينية في حرمة المقدس كل من يلتجئ اليها أو يحتمي بها. إذ لو كانت كالقوانين في الدول بمزاج الحكام لأصابها التبديل والتعديل والنقض، على نحو ما نراه اليوم من إسقاط للجنسية وإيقاف اعتباطي واعتقال دون محاكمة، الخ.. فقد كان تدخّل الغربيين للضّغط على الحكّام دون تطبيق تلك الاحكام وغيرها فقهًا واجتهادًا أمرًا تكشفه الوثائق الرسمية اليوم. كان ذلك دأبُ قناصل الدول من أجل تخريب نظام الخلافة الاسلامي وكل نظام ديني فيما بعد للانقضاض على أهله وممتلكاته. وفي هذا النطاق وقع استصفاء كثير من مخلفات الانظمة الاسلامية التي تولّدت من الخلافة الاسلامية، ولم تبق في الغالب إلاّ الأنظمة الملكية التي اصطنعتها البلدان الغربية في المنطقة العربية والاسلامية. وأمّا ما عداها فقد نسختها جمهوريات لائكية في الكثير. دون أن يُلقى أحد بالاً الى طبيعتها العسكرية والانقلابية. لأن التوجه العام الغربي كان لصالح منافاتها للدين أو قلة اعتبارها لدوره في علاقاتها بالغرب وقيمه وثقافته. فإذا كان الغرب الذي هو المعروف بالاضطهاد والارهاب والطرد والتفتيش والفاشية والقرصنة والاستعمار والنازية والمحارق والحروب الكونية يتجلّى اليوم في صورة الضحية للارهاب الاسلامي، أو ما يصفه بهذا الوصف، فلماذا لا يسأل نفسه لماذا هو ماض بعناوين جديدة لمخادعة الشعوب والامم على نفسها حول حقيقته واستراتيجياته بشعاراته الجديدة حول حقوق الانسان والحرية والديمقراطية، وهو في واقع الأمر يكيل بمكيالين. أليس الأولى لسلامته وسلامة العالم كله اليوم أن يذعن لما لا بدّ له من الاذعان له. وهو ردّ ما استلبه من الأقوام والأمم والشعوب من خيرات والاعتذار عن أخطائه وجرائمه وتعويض المتضرّرين منها خير تعويض، وكف يده عن كل تدخّل ظالم أو تدخل لا يعيد حقّا لأصحابه أو أرضًا لأهلها. ولا يذهبنّ في خَلَده أن الآخرين أضعف من أن يفعلوا يومًا به ما يفعله الآن من محاكمات جنائية لخصومه صورية في الغالب، لأن ردّ الفعل أو العين بالعين والسن بالسن ليس فقط حكمًا عربيا واسلاميا مشروعا بل هو حكم إنساني عام، وأرفق على كل حال من أحكامه غير المتكافئة والقائمة على الظنّ والتوقّع والتوقّي وغير ذلك.. كما تشهد بها خيباته السياسية وسقطاته العسكرية في العراق والصومال والسودان وافغانستان وفلسطين وغيرها. . من أطلق اليوم الصراع بين الحضارات أوالثقافات والاديان؟ هو الغرب. لان الذي في حال قوّة وغطرسة مثله وترسانات نووية لا يخطط لعلاقاته مع الآخرين الا بمنطق القوة المادية، لا بمنطق القوة الروحية التي يفتقدها أو بحالتها المشتّتة لديه وهي أضعف كما تبين لديه من أن تقف أمام الاسلام. وعبثا يُفارق بين الاسلام والمسلمين، إذ لا وجود لأحدهما دون تصوّره في صلب الآخر. والتعلّق بالدين هو تعلّق إنقاذي. لأنه إنما نزل لمقاومة الظلم وإقامة العدل والمساواة والإخاء بين البشر. فكلّما يفتقد المسلمون حولهم أو داخلهم مقومات الحياة الكريمة كلما تحركت نوازعهم الدينية للمقاومة، لانه وكما يقال يزع الله بالسلطان ما لا يزع بالقرآن. والمقاومة هي نوع من أنواع السلطة الجماعية التي تنطلق من الافراد، وأحيانا على غير تدبير جماعي سابق، لتحل محل الفراغ الذي يحدثه ضعف السلطان الحقيقي لديهم، والمتمثل في ولي أمرهم وأركان دولتهم وإعداد العدة للمتحرّش بهم. فالانكفاء على القرآن لقراءته والتعبّد به لا يحل قضية المسلمين مع العدو الذي يريد بهم الضعف والانحلال. ولو شاءت أوروبا أن تملك أمرها مع المسلمين لكان ينبغي لها أولا أن تعود الى دينها أو تترك الناس على حريتهم الدينية، يعتنقون الدين الذي يختارونه، كما هو الأصل في كل دعوة دينية تبغي الطريق السالكة بينها وبين الفرد والجماعة. لأن التصدّي للعقيدة هو شيء ملهب للعقيدة، فضلا عن كونه مناف للسياسات الرشيدة. ألا ترى الدين الاسلامي يعلن عاليا أنه بحال من الأحوال لا إكراه في الدين. في حين نرى اليوم كثيرًا من القوانين في البلاد التي توجد فيها أقليات اسلامية تضغط لحمل مواطنيها المسلمين على التخلّي عن عباداتهم وشؤونهم الدينية، فما بالك بالأجانب لديها من المسلمين. *** والرسوم الدانماركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم جاءت لتعكس وضعًا مشينًا للمعاملة التي يلقاها المسلمون في هذا البلد. فلا مسجد فيه لهم، ولا حرمة لمدارسهم الدينية، ولا يمثلهم في البرلمان الا فتاة صومالية ناشزة، تشهر ارتدادها عن الاسلام وتقاومه باللفظ والصورة في كل ما تقول وما تَدَع. وقد كان الظن قبل أن تشتهر فضيحة هذه الرسومات المدنسة للمقدس الاسلامي أن البلدان الاسكندنافية ومنها الدانمارك والسويد أهون على المسلمين في تاريخها من إسبانيا وفرنسا مثلا.. وإذا بنا نفاجأ بحكومة تقول إنها غير ملزمة على الاعتذار للمسلمين باسم صحيفة مستقلة نشرت وفق مبدأ حرية التعبير ما يعتقده مسؤولوها صورة النبي محمّد (ص) وصورة أتباعه. وكأنما الأمر عادي في نظر الغرب بسبب حرية التعبير وحرية الصحافة. حتى ظن بعض الناس أن سوء التفاهم في هذه المسألة بين العالم الاسلامي وبين الدانمارك والأوروبيين عامة، الذين روجت صحافتهم لهذه الرسوم بعناوين مختلفة، راجع الى قلة تقديرنا في بلادنا لحرية الصحافة وحرية التعبير، بينما الأمر في حقيقته راجع الى ما هو أعمق من ذلك : راجع الى الثلب وتدنيس المقدّس، اللذين تتساوى فيهما القوانين الوضعية حول الصحافة وحرية الاعلام وكذلك حرية التعبير. فأين رأيت تدنيسًا للمعتقدات لا يعاقب عليه أو ثلبًا لذوات عليا لا يجرّم صاحبه؟ فهم يأخذون بجريرة المرء على أقل من ذلك إذا تعلّق الأمر بمقدساتهم، أو ما هو في حكم المحظور إنكاره أو التباهي به. ولو كان السلوك في المسألة الكاريكاتيرية الدانماركية هو ما سلكته الحكومة الدانماركية، على نحو ما تصوّره بعض الأقلام لدينا، وأن الموقف كان ينبغي أن يبدأ عند حرية التعبير ولا يخرج من حرية الصحافة لكانت كل شؤوننا رهن أذرعة الأوروبيين حين يرفعونها في وجوهنا! .. وأن تعنو جباهنا لخير الخالق في كل مرة يسفّهون سلوكنا! إذن لتساءلوا ما هذا الاسلام الذي يحملونه خارج جزيرتهم القَصيّة! وما هذا النبي الذي ابتعثه الله اليهم ولا ينصرونه كما نصره الذين من قبلهم. لكن الحق أبلج كما يقال. ولعل الأقلام التي هبّت هنا وهناك لتلقين العرب والمسلمين حرية التعبير وحرية الصحافة بمناسبة هذه الرسوم والهزء بدينهم مثل الأوروبيين أصابتهم الخيبة حين رأوا ملكة الدانمارك نفسها وقسمًا كبيرًا من الرأي العام بها، وخاصة الذي تمثّله المعارضة يرجع على حكومة بلاده بقلة توفيقها في معالجة المشكل.. وربما استتبع ذلك في القريب إعادة النظر في بعض القوانين والتضييقات التي تنوء بها صدور المسلمين هناك. وربما أعادت أوروبا كلها النظر في الدين الذي كان أكبر أديانها على مدى ثمانية قرون على الاقل، ومنح تاريخها أكبر حضارة علمية وعمرانية، وبسط أمنه واستقراره على المتوسط ردحًا من الزمن، على عهد الاغالبة والفاطميين، ثم منح قومياتها في آسيا الصغرى وجنوب غرب أوروبا والبلقان سليمان القانوني وقبله محمّد الفاتح الأمن والاستقرار على مدى خمسة قرون. ونحن مع احترامنا لحرية الموقف والتعبير والتفكير نختلف مع كثيرين أسّس لهم الغرب الاستعماري للقضاء على الفكر التونسي الزيتوني الأصيل باعتباره «كلاسيكي» «متخلف» «رجعي» غير متفتّح غير متسامح، الخ.. فأسقطوا المجتمع في الجهل بدينه حتى ظهر التطرّف، فأصبح ذلك لهم مبررا لمقاومته بعنوان التحديث والتعصير. وكان ينبغي أن يظهر التطرّف، لانه صنو الجهل بالدين ألم يعد الشاب والفتاة والكهل والام، كلٌّ يأخذ دينه استراقًا من أفواه أي كان أو بأية قراءة في القرآن يقرؤها أو فهم يفهمه من آياته، عن غير فقه بالعربية وعلومها أو معرفة بالتفسير وفنونه. يتبع
(المصدر: ركن « البعد الآخر » بجريدة الصباح التونسية الصادرة يوم 12 مارس 2006)
الـــــرد علـــى الشــــرفـــي (3- 3)
بقلم: د. المنجي الكعبي
وعودًا لمحاورنا لنقول له، حتى لو سلمنا بأنك تنصّب نفسك – أنت أو غيرك – سلطة دينية، أفلا يتّسع عقلك أو عَطَنك (يقال فلان واسع العطن: واسع الصبر والحيلة عند الشدائد) لقبول سلطة مخالفة أو مختلفة الى جانبك، أم على رأي: لو كان فيهما آلهتان إلا الله لفسدتا! بقيت مسألة وردت في كلامه أخّرتها لأهميتها، لأختم بها هذا الحديث، وهي قياسه قضية الرسوم الكاريكاتيرية الدانماركية للرسول صلى الله عليه وسلم على ما بين الدين والفن من علاقة على حد قول أحد علمائنا، وهو القاضي الجرجاني صاحب كتاب الوساطة بين المتنبي وخصومه، الذي ألغز اليه بأنه القائل بعزل الدين عن الشعر. وأنه إنما يقصد بالمفهوم العام للغربيين عزل الفن وليس فقط الشعر عن الدين! ولا بد أن نعيد للقارئ كلمات صاحب الحوار كما قالها لنفهم أي فهم يذهب اليه، وكيفيته في معاملة النصوص. يقول الشرفي: «.. وأن تلك الرسوم تندرج في نطاق الحرية التي هي فعلا ممارسة في الدانمارك وفي البلاد الغربية عموما، الحرية في التعبير ونقد المؤسسات، كل هذا شائع في العالم الغربي ولا يجد فيه القارئ ما من شأنه أن يمثل اعتداء على عقيدته أو على ضميره. وإذا كان نقاد العرب القدامى يقولون كما قال الجرجاني: «الدين بمعزل عن الشعر» فإن الغربيين يعتبرون ان الدين بمعزل عن الفن ولا عن الشعر فقط». ولنا هنا ثلاث تعليقات على كلامه قبل أن نمرّ الى غرضنا في محاججته: أما قضية الحرية وممارستها في الدانمارك وفي البلاد الغربية التي يعيبنا بها. فهو يعرف أنها مناخ عام اجتماعي واقتصادي وسياسي وثقافي وليست مرآة عاكسة يمكن أن يستجلبها المرء لسيارته حتى لا يعيبنا بها؛ ثانيا: أما أن مثل تلك الرسوم لا يجد فيها القارئ ما يمثل اعتداء على عقيدته وضميره. فهو يعرف أن ضميره مختف وعقيدته كذلك تحت لحاف وسادته.. وليس كما هو في عقيدة حية في مجتمعها بين الناس، كحالنا في مجتمعاتنا الاسلامية. ثالثا وأخيرًا، هل الجرجاني هم نقاد العرب يا هذا، أو بعض النقاد؟! ورأيه ليس بالضرورة رأيهم في كل مسألة! أما المعنى في قول الجرجاني، فيحققه السياق المقتطع منه، لا ما أوّلَه اليه صاحبنا في هذا الحوار. يقول الجرجاني: «فلو كانت الديانة عارًا على الشعر وكان سوء الاعتقاد سببًا لتأخر الشاعر لتوجّب أن يمّحي اسم أبي نواس من الدواوين ويحذف ذكره إذا عُدّت الطبقات، ولكان أولاهم بذلك أهل الجاهلية ومن تشهد الامة عليه بالكفر، ولوجب أن يكون كعب بن زهير وابن الزِّبَعْرى وأضرابهما ممن تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم وعاب من أصحابه بُكما خرسا، وبِكَاء مفحمين ولكن الأمرين متباينان والدين بمعزل عن الشعر » (الوساطة ص 64). فالقارئ يدرك هنا، أن حال الامة من المنعة والقوة غير حالها في فترات الضعف والوهن، وحالها وهي تعالج قضاياها بين أهل مِلّتها وذمّتها غير حالها بعكس ذلك. وكلنا يعرف تفاوت أبنائها بين التقوى والمعصية أو رقة الدين – كما يقولون (و يقصدون برقة الدين من تضعف نفسه للمغريات)، وغير ذلك من الامور الملابسة للاعتقاد والملة. ولذلك لا يمكن أن يتنزّل كلام الجرجاني الاّ في المناخ الحضاري الذي كان يعيش فيه ويتكلم عما يتكلم فيه في هذا النص. ولذلك أيضا فإن قضية الشعر والدين لا يمكن أن يكون تناولها إلا من الجانب الديني والادبي الذي كان سائدًا. فمعلوم أن الدين لم يحظر الشعر على العرب وهم أمّته بكل امتياز. لكن للمعنى الذي كان في الشعر، وأنه فن القول المفضل عند العرب والاكثر تأثيرا في حياتهم وشؤونهم وحروبهم وأيامهم، وأنه لسان حالهم وعنوان مفاخرهم وأمجادهم؛ وأنه لذلك لزم أن يكون التمييز بينه وبين الدين ليس في المضمون طبعا ولكن في الشكل. إذ باختلاف الشعر عن الوحي في الكتاب المنزل ينأى مضمون القرآن عن الشعر وملابساته. ومعلوم أن كل الفنون، أو الفن عامة يخضع للطبيعة الانسانية المحضة، بما يعتريها من اضطرابات قد تكون أحيانًا سببًا من أسباب العبقرية والتجويد في الفن. ويتمحّض بذلك الوحي النبوي للرسالة السماوية الثابتة المصدَّقة. فالقرآن كلام مفصَّل والشعر كلام موزون. وإذن، لم يسلم الشعر إلا من المقاصد. ومعلوم أن المقاصد الدينية لا يحققها البيت أو القصيد أو حتى سلوك الشاعر أحيانا. لكن الشاعر يمكن أن يأخذ بالظنّة للمُثْلة به إذا تجاوز حدود الله والمجتمع، وتداعت البيّنات على استهتاره جهارًا نهارًا وترْكِه للصلاة مثلا، أو خوضه في السياسة والزندقة بما يثير الحكام والأمراء والقواد، وبما يحفظ خاصة خصومه. ولذلك كان أبو نواس معدودًا من المحدثين والمواظبين على قراءة القرآن وقيام الليل على ما في شعره وربما سيرته من مجون وخمريات وغيرها مما يتصل بذلك. والمعنى واضح في كلام الجرجاني بعكس ما قدّمه لنا صاحب الحوار، إذ الجرجاني يعني أن الشعر مقامه جليل عند العرب حتى من تجرأ من الشعراء على النيل فيه من الرسول صلى الله عليه وسلم. لأن الشعر لذاته حكمُه لا يخضع للديانة، أي إذا كانت ديانةُ صاحبه مخدوشا فيها يسقط شعره أو سابقا على الاسلام يسقط شعره كذلك. فالصحيح هو لا. وقد قلت في مقال لي في مناسبة سابقة، إن معظم الشعراء المجترئين على الصّوْن والحُرمة والموصوفين برقة الدين والهجاء المقذع تنتقل أشعارهم بسرعة ويَحْدث من الحفظ والنَّسْخ لدواوينهم ما لا يحدث لغيرهم. وكنت أردّ في ذلك المقال على من قال من الباحثين في المشرق بأن ضياع كتاب تاريخ افريقية والمغرب للرقيق القيرواني المؤرخ الذي بقيت قطعة قليلة منه فقط سببه شهرة صاحبه بالخمر. وبيّنت له خطأ تقديره، لأن كتابه الاخر « قطب السرور في الأنبذة والخمور »، على طوله في عدة مجلدات محفوظ في أكثر من عشر نسخ الى اليوم في عدد من مكتبات العالم! والدين بمعزل في الحكم الفني وليس ما دونه وهو القصد أي قصد الايذاء والتطاول والإمعان. فمن اغتُفر له إذا استتاب فحُكْمه واضح، لأن شعره السابق يكون في حكم الاسلام يجبّ ما قبله أو التوبة تجبّ ما قبلها. وليس مؤدَّى كلام الجرجاني كما فهمه صاحبنا، وهو الاستاذ في العربية وآدابها قبل أن يحوّل نفسه الى اختصاص بعيد عن تكوينه الاصلي، أنّ من طلب الاذاية والتطاول والامعان في كفره بالرسول أو العدوان على مقدسات الامة، فهذا إذا كان، حُكْمُه فيما دون ذلك هو حكم التجريم والمؤاخذة والاقتصاص في جميع الشرائع بل وفي كل القوانين الوضعية. ولذلك، فحتى وإن أعجبت بعضهم رسوم التشويه لصورة الرسول صلى الله عليه وسلم على الصحافة الدانماركية أو غيرها لأسباب فنية أو غيرها، كالدفاع عن حرية الصحافة وحرية التعبير للافراد والجماعات، فإنه غير معذور بجهله للقوانين أو التباهي بعدوانيته على العقائد والذوات المقدسة عند غيره، مثله مثل أولئك الذين لم يملكوا نفوسهم من الغضب لتلك الرسوم فذهبوا في مظاهراتهم الى حد الاعتداء على المكتسبات والمستأمنين، أو أضرّوا بالابرياء وبإخوانهم المؤمنين. والاضطرابات الاجتماعية وما ينجر عنها من ضحايا وأضرارلا تغطيها التأمينات بأنواعها عادة كالمدّ والطوفان ونحوهما من الكوارث العامة. ولو قدّرت الحكومات المعنية أبعاد الغضب في الجانب الاسلامي لسارعت الى إطفاء اللهب قبل انتشاره، رعاية لمصالح الجميع بالاعتذار؛ ولتداعت جميع المنظمات والدول بالحسنى لإنهاء الموضوع قبل انفجاره. ولكن بعض المسؤولين في الغرب وربما بعض الحكومات كذلك وبعض الدول، لا نقول ينقصها الادراك بمجريات الأمور حولها أو خارج حدودها، ولكن تراهن أحيانًا على شعبيتها في السلطة بالحد الاقصى من طموحاتها وإن كلّفها ذلك في بعض الحالات التراجع. ورُبّ تراجع يجعلها تضيّع في آخر المطاف ماء وجهها. ولا يكون الحل للأزمة التي أطاحت بها الا بحكومة جديدة تكون كالاعتذار عليها. ويكون التأريخ قد احتفظ بعِبَره لكل من يعتبر. ويتصل بهذا الاستشهاد الذي استشهد به محاورنا استشهاد آخر بالكاتب المصري الكبير الوزير الاشهر للثقافة في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، الدكتور ثروت عكاشة. وكلا الاستشهادين يخدمان غرضه في حملنا على تصديق رؤيته لحقائق الاسلام بنظّاراته.. إنّ محاورنا يزعم أن ثروت عكاشة أصدر كتابا فيه رسومات للنبي ولم يثر ضجة! وهذا غير صحيح ويحتاج الى تصحيح للقراء. فالكتاب المقصود منع من التداول أكثر من 28 عاما، ولم يسمح الأزهر بنشره إلا قبل خمس سنوات تقريبًا بعد حذف صورة الرّسل والعشرة المبشرين بالجنة وكشط وجوه صور الصحابة رغم اعتراض المؤلف. وتعبير صاحب الحوار فيه قلة تدقيق. ولا يعذره الاختصار في الحديث، لأن الايهام من جانبه مقصود بأن الدكتور ثروت عكاشة نشر صورًا للنبي محمّد صلى الله عليه وسلم ولم يثر الكتاب ضجة! واستدعاء هذا الكتاب أو اسم صاحبه للتمثيل به لرسومات رسمها الأعداء هي طريقة غير شريفة، لأن الصور في كتاب الدكتور عكاشة غير مقصودة للإساءة. والمسلمون لا يُحدثون « الضجة » والضجيج، لأن هذا الأمر يفعله غير أصحاب القضية أو يفهمه عنهم المتجنّون عليهم.. والمنع من تداول كتاب الدكتور عكاشة لم يكن في الاول حين ظهر في طبعته الأولى بمصر بعنوان « فن التصوير الاسلامي ». ولكن فيما بعد إثر قيام ((مكتب لبنان)) لصاحبه خليل صائغ بإعادة نشر الكتاب بعنوان « موسوعة التصوير الاسلامي ». والازهر مؤسسة موقرة ومحترمة، وله علماؤه ومجالسه وأحكامه.. ومن الباطل التجنّي عليه في هذه القضية وغيرها، في حين الاختلاف معه أو الاعتراض عليه مسموح به في حدود القانون والعرف.. والمؤلف نفسه الدكتور عكاشة اعترض على قرار الأزهر وقال إن تلك الصور موجودة ومتداولة ونشرت في مصر خصوصا في كتاب التصوير الاسلامي للراحل زكي حسن الموجود حتى الآن في السوق المصرية. وهذا كله قد لا يكون الازهر يجهله. لكن كل صاحب مصلحة يمكن له أن يتعذّر بوقائع قد تخدم غرضه وتدفع عنه ولكنها لا تقرر الحق الى جانبه إذا كانت المصلحة العامة هي الفصل في قضيّته. وحتى حين قال عكاشة إنه ليس من المنطقي ان تحذف صورة السيد المسيح من الموسوعة وصوره منتشرة في كل بقاع العالم. لم يزد إلا تبريرًا لموقفه لا أكثر ولا أقل، لأن اعتبار التحريم للتصوير لدى المسلمين الغاية منه ليس التمييز بين الرسل في التقديس ولكن لعدم التعرّض للمعتقد حولهم بالتحريف. ومعلوم أن اعتقاد المسلمين في المسيح أنه لم يصلب. وتحريمهم تداول صوره بينهم لا يجعلهم يقرّون غيرهم على نشرها ولو كان ثروت عكاشة.. الاّ من لا تطوله أحكامهم. وحتى حين احتج عكاشة بأن كل الصور الموجودة «هي تخيّل فنان رمز فيه الى أشكال الرّسل والصحابة من واقع الوصف التفصيلي الذي ورد عنهم في الكتابات الاسلامية فهذا الترميز للصور لا يعكس الصور الحقيقية لهم فلماذا يتم الكشط وتشويه هذا العمل الفني بما يطيح بالمنهج العلمي للدراسة». حتى حين قال كل ذلك نعتقد أنه يعرف أن العمل الفني في ذاته لم يعترض عليه الأزهر. ولا نعتقد أنه يعترض عليه أحد من المسلمين ولكن النشر هو الذي تطوله أحكام المؤسسة الدينية كما تطول سلطة الدولة الاعتبارية أية سلطة دونها وتحسم لصالحها. وإذا كان كل شيء بإرادة وزير ثقافة أو أستاذ جامعة أو مفكر متشرذم أو متنوّر أو نحو ذلك تصبح حتى الثنائية في المفاهيم ملغاة، كما هي في تقدير محاورنا! أليس أنكر على المسلمين بقاءهم عند الثنائيات عقل – نقل، – دين – دنيا، حداثة – محافظة، دون تجاوزها؟ فلماذا لم يزد حرب – سلم، تخلف – تقدم، حضارة – بداوة، ظلم – عدل، الخ.. ويلغي كل شيء، لتصبح الحياة بنظره لا مسؤولية.. لا مجاهدة.. لا حوار.. لا صراع، ولكن جنة فكرية متماثلة لأمثاله، يبطل فيها كل خير وشر، كل خوف أو رهبة، كل عزيمة أو همة! *** يجب أن يكون الشعور لدينا بأننا بمقياس المادية الغربية وحضارتها الطاغية لسنا الا في خلاف معهم لا تخلف. وتقدّمنا وتطلّعنا المستمر لتصوّر حضارة أخرى أفضل وأسمى تربطنا بحضارتنا التليدة هو تصور مشروع إن لم يكن أولى. وهذه التطلّعات كلّها لا تقوم ولا تستقيم إلا إذا كان وراءها وازع. والأوروبيون حرب علينا لكسرها ولكسر كل وازع أو منازع بوجه سياساتهم، فما بالك بتخويل ذلك للانظمة والحكومات التي تساندهم. فحتى الديمقراطيات لا يعترفون لنا بها إلا إذا كانت بألوان أعلامهم. فما بالك بالموقف بيننا وبينهم في هذه الصور الكاريكاتيرية. وهم يعرفون أن التصوير والفن عامة يحتمل التحقير والتمجيد لموضوعه، أي المبالغة في أحد الطرفين.. ولو قيل إن سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم كتبها كاتب لغاية التمجيد بغير حق، لكان ذلك طعنا في ذاته في حق الكاتب.. كالكاريكاتير حتى ولو كان للتمجيد. لأن الكاريكاتير هو تحريف للحقيقة أو للصورة الأصلية لغرض معين. فالرسم من هذا النوع في الصحافة هو غير الخبر وغير الريبورتاج أو النقل الصحفي. بل هو بالضبط كالتعبير عن رأي أو موقف لصاحب مقال من المقالات في صحيفة أو مجلة، ولكن بدل أن يكون بالعبارة الخالصة يكون بشيء من العبارة المختصرة والرموز الموحية وكثير من الخطوط والملامح المحرّفة للوجوه والاجسام وغيرها بشكل فني. ومن هنا الاثارة والتأثير اللتين يحدثهما رسام الكاريكاتير مثله مثل غيره من أصحاب الفنون. ومعلوم أن الكاريكاتير في أوروبا مقنن بحدود التحريض على الحقد والعنصرية والجنس. فما دون تلك الحدود مباح للفنان استغلاله للإثارة. وهنا تكمن المشكلة! تماما كما تكون المشكلة عندما يتحدّث الانسان عن أمور عامة دون أن يكون مخاطبه يعلم بحقيقته حولها في عامة أموره وخاصها. وهذا ما كان يعرّفه القدامى بالجرح والتعديل في العلماء وأهل الشأن والمسؤولية. لأن الانسان لا يأخذ أموردينه عن قليل الدين ولا أمور فكره عن جاهل ولا سلوكه من سيء السلوك، أو مزوّر لحقيقة أحواله.. الخ. وأنا أعرف أن المتحدّثين من الغربيين في مسألة الرسومات الدانماركية المسيئة للرسول صلى الله عليه وسلم لا يأخذون فيها كلهم مأخذ مفكرنا في هذا الحوار، ولكن ببعض تقاليدهم في الحوار والحديث. وهنا أذكّره بالراحل شارل بيللا، أستاذه واستاذي، عندما أراد أن يدقّق أمامنا في درس ترجمة الفرق بين Respecter بالعربية وأنها غير Estimer، بسبب الخطإ الشائع في ترجمة المعنى في الكلمتين. وليجعلنا ندرك الفرق بين الاستعمالين ضرب لنا مثالا من نفسه فقال: في نفس المحاضرة التي ألقيها عن الاسلام في بيروت مرة وفي الرياض مرة، استعمل كلمة Respect في لبنان للتعبير عن احترامنا نحن المستشرقين للدين الاسلامي، مراعاة لحساسية المسيحيين هناك وأستخدم كلمة تقدير Estime في الرياض مجاملة للسعوديين! ولعل الزميل الشرفي يذكر هذه النكتة العلمية، فقد كنا أيامها نحضر درسه في الترجمة لطلبة التبريز. وكان حضوري في تلك الحصة لا بصفة المرسم للتبريز ولكن لمجرد ارتباط موعدي بعدها مع الاستاذ بيللا باعتباره المشرف على أطروحتي للدكتوراه، وإن كان للاستفادة طبعا وبدعوة منه. وكان بيللا من أكثر من عرفت من المستشرقين لباقة في كلامه، وكان مظهرانيّا كما يقول الجاحظ، وهو المختص به وبعصره أكثر في دراساته، وكان شديد التأنق في لفظه، غفر الله له. وعنوان الدقة عند الغربيين وتحرّ ي الموضوعية كان ينبغي أن يكون من تقاليد أعمالنا ما دمنا فرّطنا فيما هو من تقاليدنا منها. وهنا نعجب كيف لم يلتفت محاورنا في معرض دفاعه عن الغربيين في وجه عدوانية المسلمين وعقدتهم بالتعالي عليهم، كيف لم يلتفت لنصرتنا، في هذه المحنة معهم بالارهاب، الى مفاهيم أصيلة في ثقافتنا الدينية، ومنها هذا الحديث الشريف: «ألا من ظلم معاهدا أو كلّفه فوق طاقته أو أخذ شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة» (أخرجه البيهقي)، وهو حديث صنع منه مقارنة بالقوانين الوضعية، صديقنا القاضي الفاضل الرئيس حسن الممي، كتابا قيّما له صدر في دار الغرب الاسلامي ببيروت منذ سنوات قليلة، بعنوان «أهل الذمة في الحضارة الاسلامية». فنحن نعجب – كما قلت – كيف لم يلتف الى ذلك، وهو المتصدّر للدرسات الاسلامية رغم أنف معارضيه فيها من أصحاب الاختصاص؛ ولا عذر له أن كان مدخله اليها من باب اهتمامه الضيق بالحوار بين المسلمين والمسيحيين في العصور الوسطى، ومآخذه على المتعصبين منهم من بين المسلمين، ومنها مآخذه على ابن عبد الحق الخزرجي الذي نشر كتابه « مقامع الصلبان » بالمناسبة ونقدته عليه في مقال طويل. وأن لا يخطر بباله في هذا الحوار إلا تكريمنا بأخذنا عن الغربيين في ديننا بمناسبة هذه الصور كما أخذ توماس الاكويني عن ابن رشد في دينه! فنرجو أن لا تكون أهمية ابن رشد في نظره مشتقة من أهمية توماس الاكويني ومكانة الفقيه القرطبي في تاريخه المسيحي.. كمن تكون شهادات الغربيين أهم في اعتباره من شهادات بلاده. ونرجو كذلك أن لا يكون هذا قمة الدَّيْن الذي يراه لهم في عنقنا! لقد بدا محاورنا غاية في حرية التفكير، قد لا تساويها إلا حرية التعبير التي ينكرها في الواقع على كثير من مجتمعاتنا التي يتحدّث عنها، والتي أتاحت له على الأقل في بلادنا نشر حواره، ثم وسّعت له في نشره بأن ترجمته من الغد في يومية فرنسية زميلة للجريدة العربية نفسها، التي نشرته له في الأول.. فهل مرْضيّ أو معجَبٌ في بلادنا إلا بالمجتمعات الغربية؟! م ك تونس، في 3/3/2006