الأحد، 12 أكتوبر 2008

Home – Accuei

TUNISNEWS

8 ème année, N° 3064 du 12.10.2008

 archives : www.tunisnews.net 


حــرية و إنـصاف:في منزل بورقيبة:اعتداء خطير للبوليس السياسي على مواطنين أبرياء هيئة تحرير الفضاء النقابي الديمقراطي ضدّ التجريد:بيان :حول حجب موقعه الإلكتروني على صفحات mylivepag الأستاذ عبد الرؤوف العيادي : في الجريمة الرسمية المنظمة أو العنف العقائدي الشروق الجزائرية:بعدما عجز الغرب عن حل أزمته المالية والاقتصاديةكبرى الصحف العالمية تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية محمد النوري:قراءة إسلامية في أسباب ودلالات الأزمة المالية عبد اللطيف الفراتي : هل هي نهاية العولمة ..أم نهاية الاستقطاب الأوحد وزعامة أمريكا المنفردة؟ د. أحمد القديدي: هل يسلم العرب من تسونامي انهيار الاقتصاد العالمي؟ صالح بشير: لا تزال «الدولة»، التي يتسابق الجميع على رفضها، لبنة معمار العالم عبدالحميد العدّاسي:نــــــــــــــــــــــــــداء محمد شمام:المنهج القرآني في النقد والتقويم وفي التوبة والتصحيح – الحلقة العاشرة عامر عياد : في خنيس رحمة الله تثير الرعب محسن المزليني: من السلع المغشوشة إلى الفواتير المبهمة  من يحمي المستهلك التونسي من التعديات حكيم غانمي: عجائب وغرائب القرن….في مرصد.. الخدمات الجامعية مرسل الكسيبي :مراجعة تونسية لابد منها مراد رقية:وزارة التعليم العالي والبحث العلميوالتكنولوجيا تنشأ »جائزة التنكيل »والابعاد والتجويع الجامعي »؟؟؟ » مدونة لا للفساد: بالفــــــــــــــــــــلاقــــــــــــــــــــــــــــــي نثريات الفرزدق الصغير: مشهد من حياة الرئيس: ح 2 أبوجعفرلعويني:قصيدة :محفل القــــــــــــــــــــــــــدس توفيق المديني:تحالف «حماس» مع الأردن ضد فكرة الوطن البديل رشيد خشانة:ليفنـــــــــــــــــــــــــــــي لن تصنع سلاماً احميدة النيفر:«أوباما» في قلب إعصارٍ خريفيّ ثانٍ طارق الكحلاوي: السباق الانتخابي الأميركي والأزمة  صلاح الدين الجورشي :الخلاف مع الشيعة واستمرار المعارك الوهمية أبو يعرب المرزوقي: معركة القرضاوي والشيعة .. أصل الداء بدل أعراضه


Pour afficher les caractères arabes  suivre la démarche suivante : Affichage / Codage / Arabe Windows (
(To readarabic text click on the View then Encoding then Arabic Windows)


أسماء السادة المساجين السياسيين من حركة النهضة الذين تتواصل معاناتهم ومآسي عائلاتهم وأقربهم منذ ما يقارب العشرين عاما بدون انقطاع. نسأل الله لهم  وللمئات من الشبان الذين تتواصل حملات إيقافهم منذ أكثر العامين الماضيين فرجا قريبا عاجلا- آمين 

 

 

21- هشام بنور

22- منير غيث

23- بشير رمضان

24- فتحي العلج 

 

16- وحيد السرايري

17-  بوراوي مخلوف

18- وصفي الزغلامي

19- عبدالباسط الصليعي

20- الصادق العكاري

11-  كمال الغضبان

12- منير الحناشي

13- بشير اللواتي

14-  محمد نجيب اللواتي

15- الشاذلي النقاش

6-منذر البجاوي

7- الياس بن رمضان

8-عبد النبي بن رابح

9- الهادي الغالي

10- حسين الغضبان

1-الصادق شورو

2- ابراهيم الدريدي

3- رضا البوكادي

4-نورالدين العرباوي

5- الكريم بعلو


العنوان الوقتي لموقع مجلة ‘كلمة

www.kalimatunisie.blogspot.com


أنقذوا حياة السجين السياسي المهندس رضا البوكادي أطلقوا سراح جميع المساجين السياسيين حــرية و إنـصاف 33 نهج المختار عطية 1001 تونس الهاتف / الفاكس : 71.340.860 البريد الإلكتروني :liberte.equite@gmail.com تونس في 12 شوال 1429 الموافق ل 12 أكتوبر 2008

في منزل بورقيبة اعتداء خطير للبوليس السياسي على مواطنين أبرياء

 

بلغتنا ثلاث رسائل من الشبان الثلاثة محمد بن محمد دمدوم و معز العموشي و بشير بن محمد بن عمر الطبوبي الذين سبق و أن أبلغنا الرأي العام عن اختطافهم إلى جهة غير معلومة صباح العاشر من أكتوبر 2008 و هذا نصها: بسم الله الرحمان الرحيم إني الممضي أسفله محمد بن محمد دمدوم صاحب ب ت و عدد 08124332 قد وقع أمس الجمعة 10/10/2008 اختطافي بالقوة من قبل ثلاثة أعوان من فرقة أمن الدولة أحدهم يدعى حاتم ولد الشياط و اثنان من تونس أمام منزل جدي بمنزل بورقيبة مع رفيقي معز العموشي بينما كنا نقوم بترميم الرصيف أمام دكان ستفتحه خالتي و قد جلبت معي معز لأنه مختص في البناء حيث توقف هؤلاء الأعوان بالسيارة و سألونا عن بطاقات التعريف فأجبنا بأننا لا نملكها فأمرونا بالصعود على السيارة فرفضت و حينها قام أحد الأعوان بمسكي من الخلف و قام الآخرون بجري إلى السيارة انا و زميلي و قد خرجت جدتي و أصيبت بذعر شديد و هي تعاني من أمراض عديدة كالقلب و السكر و الدم و كذلك خالتي و هي حامل و قد أصيبت بتشنج حاد في بطنها و عندما حملونا إلى منطقة الشرطة بوقطفة ببنزرت قاموا بضربي ضربا مبرحا بالأيدي و الأرجل و قاموا بنزع ملابسي و إهانتي في وضعيات مختلفة و قاموا بضربي بالعصي و احتجزونا من الساعة العاشرة صباحا إلى الساعة العاشرة و النصف مساء  و قاموا بنزع هاتفي الجوال ثم أمروني بالخروج إلى حين الاتصال بي مجددا للعودة و تركوني بدون مال و لا هاتف في ذلك الوقت المتأخر من الليل حيث لا توجد وسائل نقل و لا محلات مفتوحة و لا أي إنسان بإمكانه مساعدتي و عدت من بنزرت إلى منزل بورقيبة مشيا على الأقدام إلى غاية منتصف الليل حيث توقف لي أحد راكبي السيارات و أوصلني معه إلى منزل بورقيبة هذا بالإضافة إلى أن هذه الحادثة و هي الثالثة التي تحصل لي قد أصابت عائلتي بالذعر الشديد و خاصة والدتي و هي مريضة جدا مع العلم أنه حين الاستجواب أمروني بالجلوس على ركبتي و رفع يدي إلى أعلى و أن لا أنزلهما و إلا سيضربونني و قاموا بنزع ملابسي كلما أجيب على سؤال لا يعجبهم جوابي ينزعوا لي شيئا من ملابسي و قام خاصة حاتم ولد الشياط بضربي بعصا غليظة و قام رئيس الفرقة عندهم و اسمه رضا بضربي بالركل و اللطم. و السلام   بسم الله الرحمان الرحيم إني الممضي أسفله السيد معز العموشي صاحب بطاقة التعريف الوطنية عدد 05698957 قد تم اختطافي رفقة زميلين آخرين حالة مباشرتي لعملي أمام مقر سكناي و ذلك صبيحة العاشر من أكتوبر 2008 بمنزل بورقيبة ذلك أني كنت أباشر إكمال بناء إذ توقفت أمامنا سيارة عادية و نزل مستقلوها ليطلبوا منا الصعود على متنها بحجة أنهم أفراد من الضابطة العدلية و أنه يتعين علينا مرافقتهم شئنا أم أبينا و تم الزج بنا بداخلها ثم وقع اقتيادنا إلى المركز ( منطقة الشرطة الحبيب بوقطفة ببنزرت ) هنالك تم استجوابنا باستعمال وسائل و أساليب قذرة لعل من أبرزها السعي إلى إذلالنا و إخضاعنا الخضوع التام إلى سلطانهم سواء بالتهديد أو بالضرب و خاصة اللطم على الوجه هذا و قد سئلت في أغلب الأحيان أسئلة سخيفة مثل إن كنت أصلي بإسدال اليدين أو بقبضهما ثم تواصل احتجازنا إلى ساعة متأخرة من الليل حرمنا أثناءها من الأكل و الشرب و الصلاة و تم إطلاق سراحنا من بنزرت مقابل الإدلاء برقم هاتفي الشخصي قصد الحصول عليّ إن أرادوا العثور عليّ مستقبلا. و السلام   العارض : بشير بن محمد بن عمر الطبوبي

الموضوع : رفع شكوى

أما بعد إني الممضي أسفله المواطن بشير بن محمد بن عمر الطبوبي صاحب ب. ت. و عدد 08376574 أحيطكم علما بأنه قد وقع اختطافي من قبل فرقة أمن الدولة بمدينة بنزرت يوم الجمعة 10/10/2008 من أمام مقر عملي بحي النجاح منزل بورقيبة ( حانوت نجارة ) على الساعة العاشرة صباحا دون إذن قانوني أو استدعاء رسمي و تم اقتيادي إلى مقر منطقة الشرطة بوقطفة ببنزرت حيث تم استجوابي و سؤالي حول عقيدتي و هل أنتمي إلى أي فرقة و كيفية أداء صلاتي و هل أضع يدي بالقبض أو السدل كما تم الاعتداء علي بالضرب المبرح على وجهي و على بطني بالأيدي و بالأرجل مع الشتم و استعمال الكلام البذيء كل ذلك دون أي تهمة و تواصل ذلك على الساعة العاشرة و النصف ليلا لذا أرجو من كل مدافع عن الحقوق و الحريات الوقوف إلى جانبي في مظلمتي هذه مع العلم أنه قد وقع افتكاك هاتفي الجوال و لم يرجع إليّ حتى الآن.  و السلام 

و حرية و إنصاف

 1) تدين بشدة هذا الاعتداء الخطير بالعنف اللفظي و المادي و الاعتقال العشوائي بدون إذن قانوني على مواطنين أبرياء على خلفية معتقداتهم الدينية. 2) تدعو إلى وضع حد لسياسة الترويع و الترهيب للمواطنين و أهاليهم التي تمارس على يد من يفترض أنهم ساهرون على احترام و تطبيق القانون و ضمان أمن المواطنين مهما كانت معتقداتهم الدينية و انتماءاتهم السياسية. 3) تهيب بكل الأحرار في تونس و في الخارج من شخصيات و منظمات حقوقية و أحزاب سياسية للعمل على التصدي لهذه السياسة الأمنية التي لا تخضع لقانون أو مؤسسات و تمس من الحريات و حقوق الإنسان و تهدد استقرار المجتمع و تسيء إلى سمعة البلاد. 5) تطالب بمحاكمة المعتدين وإنصاف الضحايا ماديا و معنويا حتى يبقى القانون فوق الجميع و تكون كرامة المواطن و حرمته الجسدية و حرية معتقده مصانة من كل اعتداء.   عن المكتب التنفيذي للمنظمة الرئيس الأستاذ محمد النوري


بيان هيئة تحرير الفضاء النقابي الديمقراطي ضدّ التجريد  حول حجب موقعه الإلكتروني على صفحات mylivepage

  أقدمت السلطة وأجهزتها على حجب موقع الفضاء النقابي الديمقراطي ضدّ التجريد وعنوانه :  http://contre-tajrid.mylivepage.com وذلك ليلة 08 أكتوبر 2008 . وتعذر بذلك زيارة الموقع انطلاقا من تونس. ويتنزل ذلك الإجراء الزجري والعقابي في إطار حملة منظمة استهدفت عديد المواقع والمدونات في محاولة يائسة للتضييق على حرية الإبحار وخنق حرية التعبير ومصادرة الخبر والمعلومة والكتابات الجادة والتي ترفض أن تكون ضمن أقلام الديكور. وما غلق مواقع مجرات سابقا وفايس بوك وكلمة في المدّة الأخيرة وغيرها إلا دليل على ذلك.  لقد تأسس الفضاء النقابي الديمقراطي ضدّ التجريد صلب الإتحاد العام التونسي للشغل في 23 جويلية 2007 بداية على موقع المجموعة على صفحات ياهو تحت العنوان التالي:  http://fr.groups.yahoo.com/group/contre_tajrid
تحت شعار الأرضية التالية: ضد التجريد فضاء نقابي ديمقراطي للتنسيق والتشاور وتبادل المقترحات من أجل تطوير النضال النقابي وتكريس ديمقراطية العمل النقابي واستقلاليته صلب الإتحاد العام التونسي للشغل وتفعيل التصدي للخط البيروقراطي ولعملية تجريد النقابيين المنتخبين واحتضن كتابات النقابيين الديمقراطيين وأصبح بسرعة منبرا للقوى النقابية الديمقراطية سواء كان ذلك في تونس أو على المستوى المغاربي. ويبلغ عدد المشاركين في مجموعته على صفحات ياهو 1036 . ومن خلال هذا الفضاء خاض النقابيون العديد من معاركهم ضدّ التعسفات التي تلحق برفاقهم من طرف السلطة والإدارة حيث شكّل الفضاء همزة اتصال هامة مكنتهم من الحصول على المعلومة بسرعة والتنسيق في التصدي لانتهاكات الحق النقابي وكذلك التصدي لتجريد النقابيين. كما ساهم الفضاء في دعم صمود الأساتذة الثلاث المطرودين عمدا خلال إضراب الجوع البطولي الذي قاموا به طيلة 39 يوما دفاعا عن حقهم في الرجوع للعمل من خلال تقديم الإعلام اليومي حول الإضراب ومواكبة تحركات المساندة وزيارة وفد من هيئة تحرير الفضاء للمضربين… وانخرط الفضاء النقابي الديمقراطي في تقديم الدعم لقضية أهالينا في الحوض المنجمي من خلال انحيازه لهم والدعاية والتعريف بوضعهم وما تعرضوا له من قمع وانتهاكات … وهو ما ساهم في تعرضه إلى سخط السلطة ولعدائها التي لم يرق لها الخط الذي سار عليه الفضاء النقابي الديمقراطي. وموقع ضدّ التجريد على صفحات mylivepage  وإن كان قد تأسس منذ سبتمبر 2007 إلا أنه بدأ تحيينه فقط منذ بداية شهر جويلية 2008 أي منذ ما يزيد على الثلاث أشهر. وقد تمكن هذا الموقع من نشر عديد المقالات الهامة المتنوعة (ما يناهز 50 مقالا وبيانا في مدّة لا تزيد على الثلاث أشهر) وتميز بانفتاحه على مختلف العناصر والقوى الديمقراطية التقدمية. ومن آخر ما قام بنشره مجموعة صور للشهيد هشام علايمي شهيد الحوض المنجمي في شكل Slide كشاهد على بشاعة اغتياله … كلّ ذلك دفع بالسلطة لغلق الموقع في محاولة لمنعه من القيام برسالته الإعلامية وواجبه النضالي. للتضامن مع موقع الفضاء النقابي الديمقراطي ضدّ التجريد يمكنكم ارسال رسالة إلكترونية إلى العنوان التالي:  Contre_tajrid@yahoo.fr  موضوعها مساندة من أجل إعادة فتح موقع الفضاء النقابي ضدّ التجريد – لا لسياسة حجب المواقع الإلكترونية والمدونات . – معا من أجل حرية التعبير وحرية الإعلام . لزيارة الموقع المغلق http://contre-tajrid.mylivepage.com  يمكنكم الدخول عبر العنوان الإحتياطي التالي: http://contre-tajrid.fr.tc أو عن طريق استعمال بروكسي سجلوا ملاحظاتكم التضامنية على صفحات الموقع  هيئة تحرير الفضاء النقابي الديمقراطي ضدّ التجريد
(المصدر : الفضاء النقابي الديمقراطي ضدّ التجريد)

في الجريمة الرسمية المنظمة أو العنف العقائدي

الأستاذ عبد الرؤوف العيادي – تونس القمع والمحاصصة لا يشكلان في الواقع سوى الجانب الماديّ أو الإجرائي في منظومة الإستبداد والتي تستند إلى رؤى ومفاهيم عقائدية تشكل الأساس الأيديولوجي للجريمة الرسمية المنظمة. ولعله من المفيد إدراك الخصوصية المستمدة من تاريخ الإستبداد الحديث. بتونس فقد يفاجأ القارئ بقولنا أن الدستور أو « العهد » أو « الإتفاقات » لم تبرم بين سلطة بورقيبة وبقية قوى المجتمع إذ لم يكن دستور1959 « عقدا اجتماعيا » بالمعنى المتداول في الدول الليبرالية وإنما كان أول بناء في الديكور المؤسساتي للسلطة الجديدة بما جعل الصورة تعكس عقدا بدون متعاقدين بعد أن صفت السلطة المحلية الجديدة كافة خصومها السياسيين من اليوسفيين وأنصارهم مستعينة في ذلك بأجهزة الإستعمار القمعية من جيش وبوليس وجندرمة.  مقابل ذلك يمكن القول أن « الإتفاقية » أو « المعاهدة » تمت والتي أطلق عليها تحديدا « بروتوكولا » والذي يعرف اصطلاحا بكونه معاهدة أو اتفاقا يتمم اتفاقا سابقا(1) بين السلطة الجديدة التي يرمز إليها بورقيبة ومجموعته من جهة وسلطة الإستعمار.المقصود بذلك بروتوكول 1 جوان 1955 والذي أعطى ملامحها كسلطة لها التزامات سياسية ثقافية واقتصادية حيال القوة المعاقدة وهي فرنسا التي اختارت الشق السياسي القادر على حماية مصالحها ثم ساهمت فعليا في فرضه ودعمه وترجيحه كفته (النزاع اليوسفي – البورقيبي).  فاختيار فرنسا للشريك بورقيبة من الطيف الوطني الذي كان يضم الحزب الدستوري الجديد والحزب الدستوري (القديم) والزيتونيين وأنصار سيدي المنصف باي ليكون المفاوض في شروط قيام السلطة الجديدة والتي تمت تحت شعار « الإستقلال في ظل التبعية »(2) L’indépendance dans l’interdépendance، قد طبع تلك السلطة بكون أساس التزاماتها ليس نحو الشعب الممثل في تيارات سياسية أو اجتماعية بقدر ما هو التزام دولي يحدد إطاره في اتفاقية دولية أو أخرى. لذلك لم يجد بورقيبة بعد استلامه مقاليد السلطة من المقيم العام قوة سياسية وطنية يفاوضها ويحدد ضوابط إدارة الشأن العام ضمن وثيقة ملزمة للأطراف المشاركة فيها- عدى الإتحاد العام التونسي للشغل الذي دعم بورقيبة في نزاعه من ابن يوسف- والذي عرض مشروعه الإقتصادي الذي أصبح فيما بعد يسمى بالإشتراكية الدستورية. فالمحصل مما تقدم عرضه أن الملامح التي تطلعت بها السلطة الجديدة والتي أصبحت محددة لدورها ووظيفتها تتلخص في ما يلي: أولا- أنها سلطة لا تتقيد بقانون داخلي حتى القوانين التي تضعها هي نفسها (دستور أو قانون عادي) والتي لم تكن تعكس ميزان قوى داخليا بقدر ما تتقيد وتنضبط للإلتزامات الدولية- بما يجعلها تشتغل خارج القانون. ثانيا- أنها أبقت على الإرث الإستعماري من المفاهيم التي كانت تحكم الإدارة الإستعمارية في علاقتها مع من كان يطلق عليهم السكان المحليون (indigènes) وفي هذا الجانب تكمن الخطورة أي في تطبّع الكيان السلطوي الجديد برؤى ومفاهيم قامت عليها الإدارة السابقة خاصّة وقد كانت النخبة الجديدة الحاكمة تعتبره وجها من أوجه الحداثة والأخذ بمقوماتها(3). ثالثا- أنها سلطة إدارية وليست سياسية وهي بالضرورة كذلك إذ قامت على نقض عهد الطيف الوطني الذي كان عقد مؤتمر ليلة القدر سنة 1946 والذي كان أبرز مقرراته المطالبة بالإستقلال التام، وإذ استبدله بورقيبة بمقولة (4) « التفاهم مع فرنسا » أي الأخذ بنظام التسوية التي أسماها « المرحلية » ضمن الخيارات الكبرى للشريك الإستعماري بتحاشي القطيعة معه وتحقيق الإنتقال السلس للسلطة. ولم يكن انقلاب07/11/1987 الذي قاده الجنرال بن علي ليغير من الأمر شيئا لإتصاله كما أسلفنا بطباع « السلطة الجديدة » وحتى ما سعى إليه في إبرام عهد داخلي أطلق عليها « الميثاق الوطني » وهو في حد ذاته دليل على اقتناع أطرافه بأن لا وجود لدستور إلا على الورق، وإلاّ فما المعنى من اللجوء إلى إبرام ميثاق وطني؟ غير أنه سرعان ما أجهض ذلك  المسعى بلجوء السلطة المنقلبة إلى حملة قمعية واسعة ضد الإسلاميين الذين كانوا يشكلون القوة « المعارضة » الرئيسية ثم توسيعها لتشمل تشكيلا يساريا (POCT) (الحزب العمالي الشيوعي) وبعض رموز الحركة الحقوقية. ويؤخذ مما تقدم أنّ لا وجود لضابط شرعي للنهج القمعي في ظل انعدام قوى وطنية قادرة على تفعيل آليات قضائية بغاية فرض احترام القواعد التي تعكس عقدا اجتماعيا بينها أو اللجوء إلى وسائل ضغط جماهيرية(مظاهرات، اعتصامات إلخ…). بل أنّ الأدهى من ذلك هو أن القمع الذي يتخذ شكل الأعمال الإجرائية إنما يستند إلى رؤى وتصورات أيديولوجية تتصل بنمط العلاقة « بين ما سك السلطة والشعب. إذ أنّ النظر فيها يفضي إلى القول بأنّ الأجهزة القمعية الموروثة عن الحقبة الإستعمارية- بقيت تشتغل بعد ما سمي بالإستقلال وفق ذات الرؤى القائمة على اعتبار المواطن مصدر خطر وتوجس السلطة وأنّه لا بدّ من معالجة تلك العلاقة المتأزمة بشحنات من التخويف والترويع ضمانا لبقائها واستمرار هيمنتها ». ولعل في استعراض بعض خصائص القمع الذي انتهجته سلطة انقلاب 7 نوفمبر ما يؤدي هذا الرأي. الخاصية الأولى: القمع الإستباقي: لجأت سلطة 7 نوفمبر إلى القمع قصد إجهاض ليس فقط تكوين تيار عقائدي وإنما مجرد اجتماع لمجموعة حقوقية أو مظاهرة احتجاج أو تجمع أو غيرها من النضالات. وهذا الإستباق إنما تكريس نظرة قوامها أن العلاقة بين السلطة والمجموعات التي تعالج تحركاتها ونضالاتها على ذلك النحو هي علاقة عدائية تقتضي فيها المبادرة والمبادأة بالتصدي قبل حصول الحدث ذاته، بما جعل الفلسفة القمعية تخرج عن القاعدة وعن المألوف بما يقتضيه من معالجة ظاهرة إجرامية تمت وحصل بموجبها اعتداء على القانون. ووفق هذا المنظور فإن وظيفة القمع لم يعد القصد منها معالجة أعمال مادية بقدر ما أصبحت تتصدى لنوايا مطلوب منع تشكلها في الواقع عبر محاولة أو عمل تام بما يجعل القمع إجراء عمليا وماديا يعكس عقيدة وأيديولوجيا تفقده مبرراته الشرعية التي تقتضي ألا يكون العقاب  إلا بعد الحصول المادي للجرم. الخاصية الثانية: قمع متعدد الأشكال: كون القمع توظف في ممارسته أجهزة « الدولة /الإدارة » التي يشكل نواتها الصلبة البوليس السياسي، فإن مظاهره تتعدّد خاصّة وأن القمع هو قرار ممركز في أعلى هرم السلطة وهو مخطط له على ضوء المعلومات التي يوفرها جهاز الإستعلامات. فالمستهدف لا يطاله شكل واحد من القمع وإنما عدة أشكال فتكون البداية مجلس التأديب قصد فصله من وظيفة ثم يأتي دور البوليس ليحرمه جواز السفر، وحتى من بطاقة الهوية، ثم يأتي دور البلدية لتحرمه من رخصة البناء، ثم يأتي دور البوليس ليلفق له جريمة ثم يأتي دور القضاء ليصدر حكمه طبق التعليمات التي يتلقاها من وزارة العدل أنه القمع المخطط له طبق المعطيات الخاصة لكل مقموع، إذ المطلوب هو الإيقاع به وسجنه أو إحكام الحصار حوله وهرسلته من طرف مصالح الجباية ومصالح التغطية الإجتماعية ومحاصرة مكان عمله إذا كان ممن ينتمي إلى المهن الحرة إلى الإعتداء على ممتلكاته بالسرقة أو الإعطاب وغير ذلك مما يطول التفصيل فيه. الخاصيّة الثالثة: العمل على أن يكون القمع غير مشاهد: تحرص السلطة على ممارسة أشكال القمع الرهيب في أماكن غائبة عن الأنظار – مراكز- دهاليز- وعند تسرب المعلومة عنها تحاول إنكارها عبر من تجندهم من أشباه الصحفيين والمثقفين والموالين لها ويتدرّج هذا الأمر عبر أشكال وسيطة في صيغة الإختطاف من البيت أو بالشارع وتزوير تاريخ المحاضر إلى الإخراج القضائي الذي يحاول أن يقدم القمع المدبّر والكيدي على أنه صورة من صور خوف القانون تعهد بها القضاء!. وما سعي السلطة في هذا الإتجاه من التعتيم والإنكار إلاّ استجابة لما تسميه « الصورة » و »السمعة » التي لا بدّ أن يحافظ عليها بلد يعتمد في موارده بصورة هامة على السياحة يضاف لذلك تورطها في اعتماد « خطاب التعددية وحقوق الإنسان ». الخاصية الرابعة: اعتماد المعيار الخارجي في تفاوت شدة القمع وأشكاله: تتفاوت شدة القمع من خلال الأشكال المعتمدة حسب الإنتماء العقائدي أو السياسي لكن ما يتعين ملاحظته هو أن المعيار المعتمد في ذلك إنما هو معيار الدول الغربية الصديقة أو الحليفة- فالسلفي يعذب ويعتقل ويحاكم بأشد العقوبات على الهوية العقائدية. لا غير- ثم يأتي « النهضويون » ثم « اليسار والحقوقيون » في الترتيب وفق معيار الخطورة على النظام. وهذا الواقع إنمّا يفسّر ليس بما تشعر به السلطة من تهديد فعلي في وجودها من هذا الفريق أو ذاك وإنما أيضا بعوامل تاريخية تناولناها في مقدمة هذا المقال جعلت منها سلطة إدارية تعوزها الإستراتيجية الخاصة بها وبالتالي تحديد العدو الإستراتيجي- الذي تتصدى له  لذلك فهي تقدر الخطر من زاوية مصلحتها في علاقتها بالغرب وما تجنيه من دعم ما لي وسياسي تحوّل إلى ما يشبه الريع الدولي-  وما تعاملها مع أسمته « الحركة السلفية » تعامل الشركة الأمنية عبر ارتكاب فظاعات في حقهم من تعذيب وإعتداء على أموالهم والتنكيل بهم في السجون وإنزال أقصى العقوبات بهم إلاّ سعيا منهما لشرعنة قمعها الشامل لجميع القوى التي يفرزها المجتمع عبر البحث عن مسوغات دولية توفر لها الغطاء المطلوب وذلك بغية إطلاق يدها في القمع المنهجي. الخاصية الخامسة: توسيع مجال أذى القمع: كثيرا ما يكون المقصود بالقمع ليس الذي الواقع تتبعه أو الجاري محاصرته بل يتجاوزه ليشمل أفراد عائلته الذين يصبحون هدفا لشتى أنواع المضايقة والتنكيل وحتى التتبع مثل ما جرى لبعض أهالي المحكومين من حركة النهضة والذين حوكموا من أجل الإنتماء بعد أن اعتبرت المحاكم أن المساعدة المادية لأفراد من عائلة الضحية قرينة على الانتماء إلى الحركة المذكورة كما جرى تضييق سبل ارتزاق أقارب ضحية القمع فيما يعد من قبيل العقوبة الجماعية. إضافة إلى ذلك فرض المشرع على القضاء إصدار عقوبة تكميلية يخضع لها الضحية بعد قضاء عقوبة السجن وهو ما ينقله إلى وضع يتعذر فيه العمل والتنقل ومعالجة آثار السجن- فينقل من سجن إلى آخر قد يكون أشد عليه بالنظر إلى الضغوط الإجتماعية التي تمارس عليها وهو في ذلك الوضع من حاجات عائلته التي يعجز عن توفيرها. ويتحصل مما تقدم أن بقدر حرص السلطة على عدم تسرب المعلومة حول القمع للخارج بقدر حرصها على أن تلقى الرواج الداخلي بما يحدث آثارا ردعية لدى من يبلغهم تفاصيله. الخاصية السادسة: القمع يرعى الفساد: من نتائج القمع المبكرة نمو ظاهرة الفساد التي ترعرعت في ظل انعدام قضاء يبسط سلطة القانون وصحافة تكشف الحقيقة وتتناول مظاهره ثم استشرت حتى أصبح من وظيفة القمع رعاية الفساد والمحافظة عليه وحماية رموزه ومقترفيه من كل مساءلة أو عقاب، واستبيح المال العام وأصبحت الجرائم القمرقية والصرفية طريقا لإثراء دوائر رأس هرم السلطة بشكل فاحش وسريع، وتوسعت الظاهرة لتشمل العاملين بالأجهزة وعدة قطاعات من الشعب. شاع الإرشاء والإرتشاء وتورطت فيها جموع متزايدة حتى أصبح ينظر إليها كونها من ضرورات المعاملات. وكان لإستشراء الظاهرة المقيتة خاصّة بين ما يسمى بالنخب أن ضعف رد فعل المجتمع في التصدي لها. وأصبح بذلك الفساد – وبطريق محاصصة المال العام- بدوره عاملا موضوعيا مناسبا لإستمرار القمع ودوامه – بعد أن تبيّأ داخل المجتمع- وما شاهدناه هو أن « سياسة » السلطة التي اختزلت في المزاوجة بين القمع والمحاصصة جعلت غالبية النخبة تختار الفوز بنصيب من المال العام بديلا عن التصدي للقمع الذي يعرضها لشتى أنواع المحاصرة والتجويع والتنكيل. الخاصية السابعة: قمع لا ينقطع: ما ميّز القمع الذي مارسته السلطة منذ تنفيذها لإنقلاب 7 نوفمبر 1987 هو أنه استمر دون انقطاع إلى ما يقارب العشريتين كاملتين في شكل حملات متواصلة لم يتخللها فترات انفراج أو تهدئة- إذ مازال العديد من ضحايا الحملة القمعية التي استهدفت حركة النهضة رهيني السجن إلى اليوم، بالرغم من انشغال السلطة في حملة ثانية ضد الشباب المتديّن منذ بداية العشرية الحالية- كما أن القمع طال العديد من المناضلين اليساريين والحقوقيين وعشرات من العاطلين- دون هوادة أو انحباس- بما يكشف عن طبيعتها غير السياسية إذ اتضح أنه وخلافا لطبع السلطة السياسية التي تقتضي وظيفتها تمكين القوى السياسية من العمل بحريّة فإن السلطة القائمة لا خيار لها ولا بديل عن القمع أسلوبا في إدارة الشأن العام. تلك كانت بعض خصائص قمع نشأ وتطور في ظل علاقة تاريخية بين فصيل من الحركة الوطنية بقيادة بورقيبة وفرنسا المستعمرة أفضت إلى تشكل كيان سلطوي على أنقاض الجبهة الوطنية التي عقدت مؤتمر ليلة القدر سنة 1946 وأقررت النضال من أجل الإستقلال التام- وقد أبقى هذا الكيان السلطوي على الإرث الإستعماري من العقيدة والمفاهيم التي حكمت تعامل « الإدارة » مع أجهزتنا مع المواطن- واستمرت بذلك علاقة الوصاية والتعالي والإحتقار للشعب والتهيب منه وسوء الظن به. كما أن القمع الذي مارسه الكيان السلطوي الجديد لم يكن في ظل قانون بل تنفيذا لإتفاقات والتزامات مع الدول الغربية تحت شعار ما يسمى « بالتعاون والأمن » وهو ما عني به القمع مقابل الحصول على المساعدات المالية والدعم السياسي بما كشف عن وجه آخر « للشراكة » وهي شراكة الإستبداد. وكانت نتيجة هذا القمع مزدوج المصدر أن ضعفت إلى حدّ كبير قدرة المجتمع التونسي على التصدي المباشر للإستبداد، وهو ما شاعت معه أفكار تقول بأن القمع هو قدرنا وأن لا يقدر على إنهائه إلا القدر. ما نشهده عدى بعض الحالات الإستثنائية من المواجهة المباشرة التي بادر بها المحامون خلال السنوات الأخيرة، هي مظاهر للتصدي غير المباشر عبر تفشي العنف اللفظي والمادي بملاعب كرة القدم، وهجرة وسائل الإعلام الرسمية وانتشار واسع للهوائيات الفضائية، وتنامي ظاهرة التدين. 1 – يراجع التعريف بقاموس المصطلحات القانونية Dalloz 13e édition. وهو ما يعني حرص الطرفين فيه على ألا يشكل قطيعة مع معاهدة الحماية . 2 –  انظر أطروحة محمد لطفي الشايبي Socialistes français et nationalistes Tunisiens Histoires d’une rencontre مطبعة أوبيس تونس أكتوبر 1997. 3 – يراجع في ذلك  أطروحة خميس العرفاوي « القضاء والسياسة في تونس زمن الإستعمار الفرنسي (1881- 1956) وخاصة الفصل الثاني الذي عنوانه الهياكل الأمنية والعسكرية الذي تناوله فيه أساليب الشرطة من تعذيب وتنكيل ص.123 وما بعدها. نشر صامد للتوزيع وكذلك ما جاء بالصفحة 99 من مؤلف وزير الداخلية السابق الطاهر بلخوجة « العشريات الثلاثة  » في حكم بورقيبة  Editions Arcatures  Publicité 1999 ونصه :  » أ، استجوابات البوليس- والذي كانت إطاراته  العليا سنة 1968 في أغلبها من بوليس عهد الحماية- صاحبتها أعمال عنف (تعذيب) « . 4 – يراجع في ذلك ما جاء بمؤلف عمار السوفي عواصف الإستقلال- رؤية في الخلاف اليوسفي البورقيبي جذوره وتداعياته- خاصة الفصل الثاني  « أسباب الخلاف اليوسفي البورقيبي »  


بعدما عجز الغرب عن حل أزمته المالية والاقتصادية كبرى الصحف العالمية تدعو إلى تطبيق الشريعة الإسلامية

في ظل الكارثة الاقتصادية التي تخيم على العالم، دعت كبرى الصحف الاقتصادية في أوروبا التي تنادي دولها بالعلمانية ‘فصل الدين عن الدولة’ لتطبيق الشريعة الإسلامية في المجال الاقتصادي كحل أوحد للتخلص من براثن النظام الرأسمالي الذي يقف وراء الأزمة المالية العالمية .. ففي افتتاحية مجلة ‘تشالينجز’، كتب ‘بوفيس فانسون’ رئيس تحريرها موضوعا بعنوان ‘البابا أو القرآن’ أثار موجة عارمة من الجدل وردود الأفعال في الأوساط الاقتصادية. فقد تساءل الكاتب فيه عن أخلاقية الرأسمالية؟ ودور المسيحية كديانة والكنيسة الكاثوليكية بالذات في تكريس هذا المنزع والتساهل في تبرير الفائدة، مشيرا إلى أن هذا النسل الاقتصادي السيئ أودى بالبشرية إلى الهاوية.. وتساءل الكاتب بأسلوب يقترب من التهكم من موقف الكنيسة ومستسمحا البابا بنديكيت السادس عشر قائلا: ‘أظن أننا بحاجة أكثر في هذه الأزمة إلى قراءة القرآن بدلا من الإنجيل لفهم ما يحدث بنا وبمصارفنا لأنه لو حاول القائمون على مصارفنا احترام ما ورد في القرآن من تعاليم وأحكام وطبقوها ما حل بنا ما حل من كوارث وأزمات وما وصل بنا الحال إلى هذا الوضع المزري؛ لأن النقود لا تلد النقود’. وفي الإطار ذاته لكن بوضوح وجرأة أكثر طالب رولان لاسكين رئيس تحرير صحيفة ‘لوجورنال د فينانس’ في افتتاحية هذا الأسبوع بضرورة تطبيق الشريعة الإسلامية في المجال المالي والاقتصادي لوضع حد لهذه الأزمة التي تهز أسواق العالم من جراء التلاعب بقواعد التعامل والإفراط في المضاربات الوهمية غير المشروعة. وعرض لاسكين في مقاله الذي جاء بعنوان: ‘هل تأهلت وول ستريت لاعتناق مبادئ الشريعة الإسلامية؟’، المخاطر التي تحدق بالرأسمالية وضرورة الإسراع بالبحث عن خيارات بديلة لإنقاذ الوضع، وقدم سلسلة من المقترحات المثيرة في مقدمتها تطبيق مبادئ الشريعة الإسلامية برغم تعارضها مع التقاليد الغربية ومعتقداتها الدينية. وفي استجابة -على ما يبدو  لهذه النداءات، أصدرت الهيئة الفرنسية العليا للرقابة المالية -وهي أعلى هيئة رسمية تعنى بمراقبة نشاطات البنوك- في وقت سابق قرارا يقضي بمنع تداول الصفقات الوهمية والبيوع الرمزية التي يتميز بها النظام الرأسمالي واشتراط التقابض في أجل محدد بثلاثة أيام لا أكثر من إبرام العقد، وهو ما يتطابق مع أحكام الفقه الإسلامي. كما أصدرت نفس الهيئة قرارا يسمح للمؤسسات والمتعاملين في الأسواق المالية بالتعامل مع نظام الصكوك الإسلامي في السوق المنظمة الفرنسية. والصكوك الإسلامية هي عبارة عن سندات إسلامية مرتبطة بأصول ضامنة بطرق متنوعة تتلاءم مع مقتضيات الشريعة الإسلامية. ومنذ سنوات والشهادات تتوالى من عقلاء الغرب ورجالات الاقتصاد تنبه إلى خطورة الأوضاع التي يقود إليها النظام الرأسمالي الليبرالي على صعيد واسع، وضرورة البحث عن خيارات بديلة تصب في مجملها في خانة البديل الإسلامي.. ففي كتاب صدر مؤخرا للباحثة الإيطالية لووريتا نابليوني بعنوان ‘اقتصاد ابن آوى’ أشارت فيه إلى أهمية التمويل الإسلامي ودوره في إنقاذ الاقتصاد الغربي. واعتبرت نابليوني أن ‘مسئولية الوضع الطارئ في الاقتصاد العالمي والذي نعيشه اليوم ناتج عن الفساد المستشري والمضاربات التي تتحكم بالسوق والتي أدت إلى مضاعفة الآثار الاقتصادية’. (المصدر: صحيفة ‘الشروق اليومي’ (يومية – الجزائر) بتاريخ 4 أكتوبر 2008) الرابط:http://www.echoroukonline.com/ara/international/26856.html  

قراءة إسلامية في أسباب ودلالات الأزمة المالية

بقلم: محمد النوري (*) يشهد العالم هذه الأيام أحداثا تاريخية هامة قد تؤرخ لنهاية مرحلة وبداية مرحلة جديدة. نهاية مرحلة هيمنة الرأسمالية المالية في طبعتها الليبرالية المتوحشة وبداية مرحلة جديدة مغايرة لم تتضح بعد معالمها التفصيلية إلا أن بعض مواصفاتها وملامحها الرئيسية بدأت تبرز هنا وهناك ويوما بعد يوم على أعمدة الصحف وفي كتابات الخبراء والمختصين وفي تصريحات كبار المسئولين وصناع القرار في معظم الدول الكبرى. ومثلما تركت أحداث الحادي عشر من سبتمبر منذ سبع سنوات خلت بصماتها على الساحة الدولية ودشنت حقبة تاريخية جديدة مع بداية القرن الحادي والعشرين، رغم أنها لا تزال لغزا مشاهده غير قابلة للتصديق من قبل الكثيرين، فإن أحداث  سبتمبر المالية ، مثلت زلزالا مدويا لا يقل أهمية وتأثيرا عن سابقتها بل ربما ستكون نتائجها أشد وطءا على البشرية بأسرها. والسؤال الكبير الذي يدور اليوم وباستمرار بين المتابعين للأحداث وفصولها المتسارعة بتسارع انهيارات البنوك والمؤسسات  الكبرى والقوى المالية التي تقف وراءها، يتمحور حول طبيعة هذه الأزمة: هل هي أزمة  طارئة وحدثا عابرا سرعان ما تمحي آثاره بمجرد بداية مفعول حزمة الإجراءات والإسعافات السريعة التي تم اتخاذها على جناح السرعة! أم أن الأمر أكبر وأخطر مما يعتقد الكثيرون وأبعد مما يتصور المتفائلون! هل إن العالم بات على أبواب كارثة مالية واقتصادية كبرى على غرار ما حدث في عشرينيات القرن الماضي؟ أم أن القائمين على شؤون العالم ماليا واقتصاديا لا يريدون الإفصاح عن ذلك خشية الانهيار السريع للنظام الرأسمالي المعولم؟ من يتابع تصريحات زعماء العالم ورواد الليبرالية الجديدة وكتابات الخبراء والمختصين وفعاليات الأسواق المالية، لا يساوره شك في أن الأحداث الراهنة ليست عادية بكل المقاييس وأن الأزمة التي نشهدها ليست عابرة أو ظرفية، ومن الصعب جدا احتواؤها وتطويقها بالسرعة المنشودة ولو بضخ المليارات تلو الأخرى، وهي ليست خاصة بالاقتصاد الأمريكي وحده . وليس هناك اقتصاد واحد في العالم مهما كان وضعه بمنأى عن تداعياتها .وقد صرح بذلك الكثيرون من صناع القرار وخبراء الاقتصاد ومدراء البنوك والمؤسسات المالية الكبرى. كلهم بلا استثناء دقوا ناقوس الخطر وأجمعوا على ولوج العالم مرحلة الأزمة الكبرى التي  قد تدفع النظام الدولي برمته إلى شفير الهاوية. ولئن شهد النظام الرأسمالي العالمي عديد الأزمات خلال القرن المنصرم واستطاع في كل مرة  التغلب عليها والنجاة من السقوط على عكس ما حصل للنظام الاشتراكي، إلا أن الأزمة الراهنة ليست من قبيل الأزمات الماضية لاعتبارات عديدة منها أن الاقتصاد الدولي لم يكن معولما كما هو عليه بالشكل الحالي وأن أزمة الرهن العقاري التي فجرت الأوضاع بين عشية وضحاها لم تصل إلى نهايتها بعد، وأن كثيرا من الشركات والبنوك التي صمدت في الماضي طيلة قرن ونصف من الزمان قد تهاوت منذ الأسبوع الأول من الأحداث. لأجل ذلك يرى كثير من المراقبين والخبراء أن العد التنازلي للرأسمالية قد بدأ وان ما يحدث اليوم سوف يغير وجه العالم وستفقد الولايات المتحدة دورها ومكانتها وهو إعلان صريح عن «نهاية عهد» سيكون فيه النظام المالي في السنوات المقبلة مختلفا تماما عما نشاهده اليوم. أسباب الأزمة: كشفت هذه الصدمة عن عورات كثيرة للنظام الرأسمالي الذي يهيمن على العالم منذ ما يزيد عن ثلاثة قرون. يمكن تحليلها من منظور إسلامي من خلال العوامل الرئيسية  التالية: – تأليه السوق باعتباره اليد الخفية الوحيدة القادرة على تنظيم الاقتصاد وإدارته بكل كفاءة وعدل.  – نظام الفائدة وشيوع الربا أضعافا مضاعفة أدى إلى بذور الأزمات المالية ومنها أزمة الرهن العقاري. – طغيان نظام بيع الديون( الميْسر) وهيمنة الاقتصاد الرمزي على حساب الاقتصاد الحقيقي. كل عامل من هذه العوامل الثلاثة كاف لوحده لزعزعة أي نظام مالي واقتصادي على وجه الأرض والعصف به طال الزمن أم قصر! فكيف إذا اجتمعت هذه العوامل مع بعضها في آن واحد وفي زمن الاقتصاد المعولم الذي لا يحتاج فيه الوباء للسريان إلا سويعات معدودة بفضل ثورة المعلومات وتقنية الاتصالات وتشابك العلاقات وإخطبوط الشبكات المتعدية للأقطار والأقاليم والدول والجنسيات. تأليه السوق: إن تأليه السوق (monothéisme du marché )على حد تعبير المفكر والفيلسوف الفرنسي روجي غارودي بمعنى إطلاق يده الخفية في تسيير النظام، هو السبب الرئيس فيما حدث وما سيحدث في مركز النظام وأطرافه.وهو مصدر المصائب والهزات التي تعاني منها الأسواق العالمية منذ أسابيع. فقد تحولت هذه الأسواق إلى ما يشبه الكازينوهات وقاعات القمار للمضاربين لا يحكمها أي قانون سوى الحرص على المزيد من الأرباح مهما كان الثمن. لقد طغى النظام الرأسمالي الليبرالي الجديد طغيانا فاحشا وعتا عتوا كبيرا وظن القائمون عليه أن هذا النظام ليس له نهاية بل هو نهاية المطاف الذي لا قدرة ولا مناص للبشرية بعده وهو ما تترجمه مقولة النهايات :نهاية التاريخ والإنسان الأخير حسب منظري الليبرالية الجديدة( فوكويوما وأمثاله).وهي لعمري قمة التطرف الفكري والغلو الإيديولوجي والعنجهية الحضارية التي لم تعرف مثيلها الإنسانية طيلة التاريخ البشري الطويل. ومن الطبيعي أن تكون نهاية مثل هذا التفكير الاستكباري نشوء مثل هذه الأزمات المؤذنة بالانهيار.  فقد سبق وان تنبأ بهذا المآل المحتوم للرأسمالية العديد من مفكريها الذين اعترفوا بصوابية التحليل الماركسي لمصير الرأسمالية رغم تهاوي النظرية الاشتراكية. وتحول العديد منهم إلى مبشرين بسقوطها وإعلان نهايتها  التي لن تتجاوز حسب البعض نصف منتصف القرن الحالي (2050) كما يعتقد المؤرخ وعالم الاجتماع الأمريكي والير ستاين( Wallerstein). وفي نفس الاتجاه، توالت التحذيرات من قبل كبار الاقتصاديين من أمثال عالم الاقتصاد الفرنسي موريس آلي، الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، وكذلك فرانسوا بيرو وآلان كوتا ، وكذلك من رموز المضاربة الدولية مثل جورج سوروس صاحب كتاب أزمة الرأسمالية العالمية، الذي نبه إلى الحاجة الملحة لإصلاح النظام الرأسمالي الحالي قبل الانهيار. وقبله توقع ليستر ثرو (L.Throw)، أحد أهم المحللين والاقتصاديين المقربين من دوائر صنع القرار في أمريكا، أن مستقبل الرأسمالية مظلم ، وأن الرأسمالية في طبعتها المعولمة ، لن تكون هي السفينة التي توصل إلى شاطئ الأمان. و صدَر كتابه بمقولة صينية معبرة تقول: نحن كسمكة كبيرة استخرجت من الماء، تتخبط وتضرب بذيلها لعلها تجد طريقها إلى الماء من جديد. وفي حالة كهذه، فان السمكة لا تعرف أين ستؤدي بها حركاتها تلك. إنها تحس فقط بأن وضعها القائم غير قابل للاحتمال وان شيئا ما يجب محاولته! ويضيف مستنتجا: وفي حقيقة الأمر فان وضع الاقتصاد العالمي وقواعد السوق الخاصة به حاليا، كلها غير قابلة للاحتمال، وقد أدت الأزمة المالية الراهنة إلى حد المطالبة بالتخلص من نظام السوق والإعلان عن نهاية الاقتصاد الحر وضرورة البحث عن خيارات بديلة أكثر كفاءة وتنظيما. صرح بذلك العديد من الرؤساء ومنهم الرئيس الفرنسي الذي اعتبر أن فكرة القوة المطلقة للأسواق ومنع تقييدها بأي قواعد أو بأي تدخل سياسي كانت فكرة مجنونة. وفكرة أن السوق دائما على حق كانت أيضا فكرة مجنونة». وطالب بإصلاح النظام الرأسمالي من أساسه بعد ما كشفته الأزمة الحالية من ثغرات خطيرة في أسواق المال. نظام الفائدة: العامل الثاني الذي يكمن وراء هذه الأزمة الخانقة هو نظام الفائدة الذي يحكم النظام المالي العالمي باعتباره المحرك الوحيد لعجلة الاقتصاد والآلية المثلى التي يتم من خلالها تخصيص الموارد وتوزيع الثروة. وهي جوهر الفكرة الرأسمالية منذ القدم التي لم تفلح الانتقادات والأزمات المتتالية في مراجعتها أو التخلص منها والبحث عن آليات بديلة. وقد أدى نظام الفائدة  إلى شيوع الربا أضعافا مضاعفة  وأفرز سلسلة من الأزمات والهزات ومنها أزمة الرهن العقاري الأخيرة التي كشفت بشكل سافر لأنظار العالم عن حجم الجشع والطمع الذي أصيب به المضاربون الرأسماليون في الأسواق المالية من خلال التوسع في الإقراض والاقتراض الربوي بهدف تحقيق المزيد من الأرباح بغض النظر عن الأخطار والعواقب التي قد تلحق بالبشرية، فهي ليست من اهتمام السادة المضاربين ومدراء البنوك  بل إن هذه الأزمة وقبلها أزمة الانترنيت(الدوت كوم) انطلقت من هذا السلوك الطائش للبنوك ومؤسسات الإقراض الأمريكية التي أغرقت المقترضين لشراء المساكن في المزيد من القروض الاستهلاكية الإضافية  لمجرد حصول طفرة استثنائية في أسعار العقار مع كامل العلم وسابق الإضمار بأنهم معرضون للإفلاس والتوقف عن التسديد لأول هزة مالية تنزل بهذا القطاع. هكذا بدأت أزمة ما عرف بالرهون العقارية الأقل جودة( subprime)، حيث يشتري المواطن بيته بالدين مقابل رهن هذا العقار، ثم ترتفع قيمة العقار، فيحاول صاحب العقار الحصول علي قرض جديد نتيجة ارتفاع سعر العقار، وذلك مقابل رهن جديد من الدرجة الثانية، ومن هنا جاءت التسمية بأنها الرهون الأقل جودة، لأنها رهونات من الدرجة الثانية،وبالتالي فإنها معرضة أكثر للمخاطر إذا انخفضت قيمة العقارات، وهكذا لعب القطاع المصرفي – والقطاع المالي بصفة عامة – دوراً هائلاً في زيادة حجم الأصول المالية المتداولة وزيادة الثقة فيها.  وبما أن الأصول المالية هي بمثابة الدورة الدموية في الجسم، فلا يكفي أن يكون في جسم الإنسان أعضاء رئيسية مثل القلب والمعدة والرئتين، بل لابد من دورة دموية تنقل الغذاء وتطلق الحركة في جسم الإنسان، وهكذا أصبح الاقتصاد الرأسمالي الحالي لا يكتفي بالمصانع والأراضي الزراعية،التي تشكل الاقتصاد الحقيقي، بل تحول إلى اقتصاد فقاعي ورقي يقوم على أصول مالية افتراضية مثل الأسهم والسندات والنقود، لا تمت في اغلب الأحوال بصلة إلى الإنتاج والاستثمار والاستهلاك الحقيقيين.  إن معضلة الرأسمالية البنيوية سببها الأعمق العولمة النيوليبرالية المُنفلتة من عقالها والفجوة التي لا تكف عن التوسّع في داخل كل دولة بين الفقراء والأغنياء، بالإضافة إلى التضخم الكبير في أسعار المواد الغذائية والطاقة. وهكذا يمكن للمؤرخين الذين يؤكدون أن الإمبراطوريات تنهار من الداخل بعد أن تتآكل وتفلس بسبب سياساتها الاقتصادية الأنانية والعمياء، أن يطمئنوا اليوم لصدقية وجهة نظرهم، وهم يسجلون مسلسل الأزمات الاقتصادية الذي تواجهها الإمبراطورية الرأسمالية الموشكة على الانهيار. ‘يمحق الله الربا ويربي الصدقات’ (سورة البقرة): وعد الله سبحانه وتعالى بأن يمحق الأموال التي نمت من الربا. وكل الأموال التي تدور في بنوك العالم وبورصاته اليوم إنما تأتي من صفقات ربوية وتذهب في صفقات ربوية إلا ما رحم ربك. ومآل أموال الربا هو المحق والتدمير طال الزمن أم قصر. هذه النتيجة تراها البشرية هذه الأيام رأي العين قبل أن تقع. فما كان لموعود الله أن يتخلف. ومن لا يريد أن يصدق فذلك شأنه وعليه أن ينتظر إعصارا آخر يذهب بكل أمواله، إن سلم له شيء بعد هذه الهزة العنيفة. فرانسيس فوكوياما ، أبرز منظري المحافظين الجدد الحاكمين في أمريكا- يقول بعدما كان يبشر بنهاية التاريخ مع الرأسمالية باعتبارها أرقى ما أنتج العقل البشري في التاريخ ، في مقال بمجلة نيوزويك بعنوان ‘انهيار أميركا كمؤسسة’: إن الولايات المتحدة بعد هذه الأزمة لن تنعم بوضعها الذي ظلت تتمتع به حتى الآن كقوة مهيمنة على العالم, وأن قدرتها على صياغة الاقتصاد الدولي  والتحكم في دواليبه عبر الاتفاقيات التجارية وصندوق النقد الدولي والبنك الدولي ستضعف وستتضاءل معها موارد البلاد المالية، كما أن المفاهيم والنصائح وحتى المعونات التي تقدمها للعالم لن تحظى بذلك الترحيب الذي تلقاه الآن. لذلك لا غرابة أن تتوجه السهام من قبل زعماء الدول الرأسمالية أنفسهم إلى أمريكا وتحميلها كامل المسؤولية لما حدث والتنديد بسياسة الاستهتار التي تمارسها مما أدى إلى أزمة الائتمان المالي التي يعاني منها العالم اليوم مطالبين بمراجعة عالمية شاملة للنظام. بيع الديون( الميْسر): طغيان الفائدة(الربا) وتناميه بأضعاف مضاعفة في فترة وجيزة أدى إلى اللجوء إلى بيع الديون بشكل متوال دون اعتبار القيمة الأصلية لها وهو ما يشبه عملية الميْسر التي عبر عنها القران الكريم ووجه لها سهام نقده ونذره. والميْسر من اليسر والسهولة، لأنه كسب بلا جهد حقيقي ولا مشقة يفضي إلى نشوء طبقة عاطلة في المجتمع من المقامرين الذين يسعون لكسب المال بطرق سهلة. فهو سلوك سلبي فيه غرْم بلا عوض وفيه استيلاء على أموال الناس بالباطل وبغير حق ولا جهد مقبول. وفي إطاره تندرج جل نشاطات المضاربة المالية التي تهيمن على أسواق المال العالمية إلا ما تقيد منها بضوابط شرعية بعيدة عن المقامرة والكسب الوهمي. انه يساهم في تعويد الإنسان على الكسل و انتظار الرزق من الأسباب الوهمية و إضعاف القوة العقلية بترك الأعمال المفيدة في طرق الكسب الطبيعية و إهمال العمل الإنتاجي من زراعة وصناعة ولتجارة و هي أركان العمران البشري الذي هو اشمل من التنمية. وما فقاعة بيع الديون التي فجرت أزمة الرهن العقاري في السوق الأمريكية سوى عملية ميْسر حديثة تمت من خلال ‘توريق’ أو ‘تسنيد’ تلك الديون العقارية  أي بتجميعها وتحويلها إلى سندات وتسويقها من خلال الأسواق المالية العالمية. وقد نتج عن عمليات التوريق هذه زيادة في معدلات عدم الوفاء بالديون لرداءة العديد من تلك الديون، مما أدى إلى انخفاض قيمة هذه السندات المدعمة بالأصول العقارية في السوق الأمريكية بأكثر من 70 في المائة. دلالات الأزمة: يعتبر البروفيسور ‘دون فان ايتين’ أستاذ التاريخ بجامعة كاليفورنيا أن الرأسمالية عقيدة بلا خلق ولا دين  !هكذا هي منذ أن ولدت حتى يومنا هذا. ولذلك لا عجب أن تصل بها الأزمة في يومنا هذا إلى ما وصلت إليه!  والأخطر من كل ذلك على ما يبدو أن الأسوأ لم يأت بعد وأن العالم مقبل على تطورات مهمة وان العد التنازلي للنظام الرأسمالي قد بدأ، وان هذه أسوأ أزمة يمر بها منذ ما يزيد عن قرن كامل وهي ستغير وجه العالم وستقود إلى وضع جديد لا يمكن بأي حال أن يكون على غرار الوضع السابق. وعلى ضوء هذا التقدير العام يمكن استخلاص احتمالين أساسيين اثنين للمستقبل المنظور الذي ستؤول إليه الأوضاع عقب هذه الأزمة المتفاقمة: الاحتمال الأول أقل تشاؤما ويتلخص في قدرة النظام الدولي على امتصاص جزئي لتداعيات الأزمة وإطفاء الحريق ولو بثمن مكلف على البشرية بأسرها.يكفي الإشارة هنا إلى أن ما انفق لحد اليوم على إطفاء الحريق  المالي الذي لا يزال مشتعلا يعادل 300 ضعف ما يتطلبه إطفاء حريق المجاعة في العالم( حيث أن 10 مليار دولار تكفي للقضاء على آفة المجاعة مقابل 3000 مليار ما تم تخصيصه لحد الآن لإنقاذ البنوك المتهالكة كل يوم)!! وفي صورة هذا المشهد الأقل كارثية بالنسبة للرأسمالية فإنها في كل الأحوال معرضة لعمليات جراحية مؤلمة على كل الصعد الفكرية والعملية حيث لم يعد من المسموح إعادة إنتاج الأزمة بأي شكل من الأشكال وإلا فان الانهيار سيكون بصورة لا يمكن تخيلها من أحد. الاحتمال الثاني ينذر بوضع كارثي في الأشهر أو السنوات المقبلة لان ما حدث أزمة عير مسبوقة وهي من الخطورة بما لا يمكن التخلص منه بمجرد مسكنات علاجية خفيفة عبر ضخ مئات الآلاف من المليارات . ويشير الاقتصاديون في هذا الصدد إلى أن هذا الإجراء يشابه محاولة إطفاء حريق غابة بكوب من الماء، فالمؤسسات المفلسة أو التي في طريقها إلى الإفلاس تواجه كل على حدة ديونا بمئات ملايير الدولارات لذلك فان المتمعن في خطة الإنقاذ التي تمت المصادقة عليها، لا يمكنه أن يرى بعدا مستقبليا لها، فهي مدرجة في إطار وقف النزيف ومنع المزيد من التدهور، وليست في إطار معالجة الأزمة، فإيقاف النزيف لا يعني تحسين الوضع وإنما وقف تدهوره نحو الأسوأ الذي هو الانهيار الكامل. من هذا المنطلق يعتقد كثيرون أن الخطة لن تغير الوضع بالمجمل، وهي ذات مفعول قصير الأمد وذات طابع نفسي تهدف إلى تقديم دعم معنوي كبير لإعادة الثقة للمستثمرين في أسواق المال والبورصات، على أمل أن ينعكس ذلك إيجابا على إنعاش السوق والاقتصاد مرة أخرى. أمام مثل هذا الوضع القاتم بمشهديه الكارثي والأقل كارثية تقف البشرية في هذه المرحلة على مفترق طرق مما يستدعي جهدا كبيرا من التجرد والإنسانية ويحتاج إلى نقلة نوعية في التفكير والتقرير والممارسة ويقتضي البحث عن خيارات مختلفة وحلول جذرية تستفيد من كافة الأفكار والقيم الإنسانية التي تساعد على إنقاذها من المأزق الذي انتهت إليه. المتأمل في الأدبيات الفكرية والاقتصادية للمنظومة الرأسمالية نفسها يجد أنها ومنذ فترة ليست بالقصيرة  تحاول أن تلتمس الخلاص وتطرح العديد من التساؤلات الجوهرية حول مستقبل البشرية في ظل استمرار الرأسمالية القائمة بل وتدعو إلى ضرورة البحث عن اقتصاد بديل يحل محل الرأسمالية المترهلة.وأخذت هذه التساؤلات المطالبة باقتصاد بديل تتشكل في إطار تيار فكري جديد بدأ يشق طريقه داخل الفكر الاقتصادي الحديث و تدور اهتماماته حول مقولة الاقتصاد الإنساني التي تحرص على ‘أنسنة’ الاقتصاد و’تخليقه’ و تخليصه من فواحش الليبرالية الجديدة وما خلفته من ظلم اقتصادي وحيف اجتماعي وحروب وأزمات وكوارث متعاقبة. ويعتبر أنصار هذا التيار الجديد من أن الرد الإنساني الوحيد على مأزق الرأسمالية ، هوالاقتصاد الإنساني الذي يهدف إلى تحقيق الرفاه الاقتصادي الحقيقي للإنسان ـ كل الإنسان على وجه الأرض ـ بدءا بالأقل حظا(المحرومين) وانتهاء بالأوفر حظا في الحياة(المحظوظين). والملفت للانتباه في هذا الصدد، هو التوافق شبه التام بين أطروحة الاقتصاد الإنساني هذه ومشروع الاقتصاد الإسلامي الذي بدأ يحتل حيزا متناميا من الاهتمام ،ليس في البلدان الإسلامية فحسب، بل في أوساط  دولية متعددة من جامعات ومراكز بحوث ومؤسسات مالية دولية واسعة ، وأضحى يستقطب العناية والمتابعة من قبل العديد من الباحثين وصناع القرار في أماكن كثيرة من العالم! وتلتقي الأطروحتان (الاقتصاد الإنساني والاقتصاد الإسلامي) في جملة من المبادئ والأهداف  في علاقة بكرامة الإنسان وحقه الثابت في الحياة ومنع الظلم والحيف و كل أشكال الاستغلال والكسب غير النزيه والمضار بات الوهمية وإحلال بدل كل ذلك، الأخلاق والقيم الإنسانية، والمثل العليا، محلها المطلوب في النشاط والتعامل الاقتصادي . ولن يتم هذا الجهد إلا بإعادة صياغة علم الاقتصاد صياغة جديدة تقطع مع المنهج  الأحادي للنظرية الرأسمالية التي تعزله عن غيره من العلوم الإنسانية وتفسر حركة الإنسان والتاريخ بالعوامل الاقتصادية البحتة وتفصل بينه وبين كل ما يمت إلى الدين والأخلاق والقيم بصلة. ومن خلال الأزمة القائمة بدأت بعض الأصوات الحرة ترتفع في البلدان الغربية تدعو إلى أهمية القطع النهائي مع المقولة الكلاسيكية للنظرية الرأسمالية التي تتمحور حول مقولة الإنسان الاقتصادي الرشيد والانسجام الطبيعي بين مصلحة الفرد ومصلحة المجموعة اعتمادا على آليات قوى السوق ومنطق اليد الخفية التي تديره! وذهب البعض منها إلى حد الدعوة إلى الاستفادة من تعاليم الشريعة الإسلامية واستلهام الحلول الناجعة منها. وقد وردت هذه الدعوات على أعمدة العديد من الصحف والمجلات الأوروبية مطالبة باتخاذ الإجراءات الجذرية المطلوبة قبل فوات الأوان. من اجل ذلك نقول انه لا خلاص للبشرية من هذه الأزمة إلا بالقطع مع القواعد الأساسية للفكرة الرأسمالية التي تستند إلى تلك الأسباب الثلاثة التي هي مصدر البلاء واصل الداء في كل ما يحدث اليوم بالعالم ، وهي تأليه السوق وطغيان الربا وشيوع الميسر.وهي الأسباب التي تنذر بحلول الكارثة التي تهدد البشرية قاطبة. والتعاليم الإسلامية في التصدي لهذا الثالوث الخطير (تأليه السوق/طغيان الفائدة/ بيع الديون أو شيوع الميْسر) واضحة لا لبس فيها. وهي الحرية الاقتصادية المقيدة في الأسواق وكل النشاطات الاقتصادية بشكل عام، إبطال نظام الفائدة (الربا) وإحلال محله المشاركة في الربح والخسارة، وتحريم الميْسر من بيع للديون غير مشروع وغيره.وهي المبادئ التي وضعها منذ خمسة عشر قرنا من الزمان ولكن البشرية التائهة لم تفلح دائما في الاهتداء بهديها. حرية الأسواق ليست مطلقة: لقد أبانت الأزمة القائمة عن أخطاء الاقتصاد الحر وشناعة فكرة الحرية الاقتصادية المطلقة  التي لا تنضبط بقانون ولا تراعي مصلحة ولا تحترم قاعدة ولا تتقيد بضرورة.وهي فكرة عتيقة تستند إلى مقولة دعْه يعمل ،دعْه يمر قد عفا عليها الزمن وأسيئ فهمها وتنزيلها تماما مثل مقولة اليد الخفية للسوق التي أوكلت إليها النظرية الرأسمالية إدارة النظام الاقتصادي وتخصيص الموارد وتوزيع الدخول دون أي تدخل من الدولة أو تشويش عليها. والنتيجة، في نهاية المطاف يقف عليها العالم اليوم وهو ينظر مشدوها إلى الأيادي الخفية (وليست يدا واحدة بالمناسبة) كيف تستولي على أموال الناس بالباطل في الأسواق المالية وتستحوذ على الثروة العالمية دون أي وجه حق. إن الحرية الاقتصادية التي ينادي بها الإسلام هي حرية منضبطة ومقيدة بمصالح عامة للبشرية وقيم الحلال والحرام التي يستسيغها كل عقل سوي. إنها حرية وسطية تقف بين شطط الرأسمالية المتوحشة، التي طورا تبشر برخاء الخوصصة ومنافعها، وطورا تعود مضطرة إلى حظيرة التأميم وتدخل الدولة، وبين مبادئ الاشتراكية المنهارة التي تصادم الفطرة البشرية بتقديس الدولة ومصادرة الملكية الفردية. إن الإسلام دين الوسطية يؤمن بالتعايش السلمي بين القطاعات وتكامل وظائفها وأدوارها دون صراع أو تصادم.وقد كشفت الأزمة الراهنة على فداحة هذا الخلل المنهجي للرأسمالية المعاصرة التي أخفقت في إرساء التوازن بين القطاعات، فتارة تجر العالم إلى سياسات الخوصصة والتفويت المتعسف في مؤسسات القطاع العام وتارة أخرى تعود مكرهة إلى مبدأ تدخل الدولة وتأميم بعض القطاعات والمؤسسات التي فشل القطاع الخاص وقانون السوق في إدارتها مثلما هو حاصل اليوم في جل البنوك والمؤسسات المالية وهكذا دواليك تحولت البشرية في ظل حكم الرأسمالية  إلى مختبر للتجارب شأنها شأن الحيوانات في المخابر الطبية! يؤمن الإسلام بتكامل القطاعين الخاص والعام بل و ينفرد بالدعوة إلى إرساء قطاع ثالث هو القطاع الوقفي الذي يخفف من أعباء الدولة ويساهم في تقليص الفجوة التي قد تحدث نتيجة تباطؤ النمو أو في حال الأزمات و يتدخل في في مجالات عديدة كالتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والمرافق العامة والبحث العلمي والزراعة ومحو الأمية والبطالة و غيرها من المشكلات التي تعاني منها كل المجتمعات دون استثناء.   ويشهد عالم اليوم صحوة ملحوظة بما في ذلك المجتمعات الرأسمالية الغربية في أمريكا و أوروبا وغيرها لهذا القطاع الوقفي كطريق ثالث لتمويل التنمية حيث أصبحت الجمعيات الخيرية والمؤسسات الوقفية ظاهرة ملفتة للانتباه. إلغاء الربا: إن الدعوة إلى إبطال الربا في الاقتصاد لم تعد اليوم ، مقولة تدعو إلى الاستغراب أو السخرية مثلما كان ولا يزال يعتقد بعض أنصار العلمانية في وخصوم الدين في بلاد المسلمين وغيرها لا سيما بعد هذا الإعصار المدمر الذي هز العالم الرأسمالي القائم كليا على نظام الفائدة.وهي ليست شعارا فضفاضا غير قابل للتطبيق بعد النجاح غير المسبوق الذي شهدته تجربة المصارف الإسلامية في أقطار متعددة من العالم وأضحت نموذجا للاقتصاد الحقيقي الذي يستند إلى الأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة، وتتسابق في اتجاهه كل البنوك والمؤسسات المالية الرأسمالية التي تنخرها المضاربات والصفقات الوهمية. ومقابل هذه الدعوة إلى إبطال الربا وإلغاء نظام الفائدة يدعو الإسلام إلى إرساء نظام المشاركة في الربح والخسارة بين العمل وراس المال الذي يرتكز على قاعدة الغنْم بالغرْم ويستعيض عن الفائدة المسبقة(interet ex-anté) التي يحرمها بمبدأ الفائدة الملحقة( interet post-anté) التي يحث عليها وهي القائمة على معدل الربح العادل والمقبول. لقد كانت الفائدة الربوية محرمة في جميع الأديان السماوية ومن قبل جل الفلاسفة والمفكرين في التاريخ البشري. إلا أن تواطؤ بعض رجال الدين المسيحيين المتأخرين الذين تساهلوا في تبريرها وتشريعها هو الذي حول العالم برمته من موقف الإنكار والتصدي لنظام الفائدة إلى حد اعتناقه والذود عنه وتوظيفه في إرساء دعائم الرأسمالية المعاصرة. ورغم ذلك ظل العديد من علماء الاقتصاد والكتاب ينافحون من داخل المنظومة الرأسمالية نفسها ضد الفائدة ويعتبرونها مصدر القلاقل والأزمات والاختلالات الهيكلية التي تعاني منها كل الاقتصاديات المعاصرة وفي مقدمتهم باورك وفيشر وكينز وآلي وغيرهم، ولا تزال الفائدة الربوية تشكل واحدة من أعوص المشكلات في علم الاقتصاد السياسي الحديث. تحريم المْيسر مثل البيع غير المشروع للديون والمضاربات الوهمية وغيرها: ما حدث خلال هذه الأزمة المالية التي نحن بصددها، كاف لوحده لإلغاء كل ما يمت إلى الاقتصاد الرمزي مثل بيع الديون بطرق غير مشروعة وهي تلك التي لا تستند إلى أصول عينية ومنع المضاربات الوهمية  التي تقوم عليها مجمل نشاطات البورصات والأسواق المالية الرأسمالية. لقد أدى هذا السلوك إلى انفصام متزايد بين الاقتصاد الحقيقي والاقتصاد الرمزي الافتراضي وبين راس المال المنتج وراس المال النقدي وهو تطور خطير يعبر عن الطابع الطفيلي للنظام الرأسمالي الذي صار يقتات من المضاربة لا من الاستثمار ومن ريع الأوراق المالية لا من ربح المشروعات الإنتاجية وصارت البورصة مرآة الرأسمالية المالية ترى فيها نفسها كل صباح! لقد تطور الاقتصاد الرمزي غير المرتبط بالتجارة والعمل المنتج بشكل مذهل في السنوات القليلة الماضية حتى بلغ حجم التدفقات المالية المرتبطة بالمضاربات في البورصات والأسواق المالية أربعين مرة ضعف الاقتصاد الحقيقي المرتبط بالاستثمار والإنتاج والتجارة الدولية.واتسعت البطالة بشكل واسع وتصاعدت المديونية حتى في مركز الرأسمالية وأضحت أمريكا اكبر دولة مدينة في العالم واستسلمت البشرية لحكم طبقة الواحد في المائة في كل المجتمعات  دون استثناء وأصبح الاقتصاد العالمي على حافة بركاني البطالة والمديونية. ولذلك لم يعد أمام البشرية إزاء هذا الوضع الخطير سوى التخلص الفوري من نظام الاقتصاد الرمزي ووضع حد سريع لإيقاف النزيف الذي تسببه المضاربات الوهمية في الأسواق المالية فرض قيود صارمة ضد المتلاعبين بمصائر البشر وأوضاع المجتمعات. ولن يحصل ذلك إلا من خلال منع البيوع الفاسدة وغير المشروعة التي نص عليها الإسلام من قديم الزمان وإعادة تنظيم الأسواق وفق المنهج الذي يراعي القيم والأخلاق ويضع المصلحة البشرية فوق كل اعتبار. إن العالم مقبل ولا شك على تغيرات جذرية من جراء هذه الأزمة. وربما يكون حاله اليوم من قبيل رب ضارة نافعة.فقد تدعوه هذه الأزمة إلى مراجعات جوهرية في قواعد النظام وأسسه القيمية ومرتكزاته الفكرية بالإضافة إلى تعديل ضروري في ميزان القوى التي تتحكم فيه. ومهما كان شكل البديل القادم لا بد أن تغنم البشرية شيئا أفضل من هذا الوضع البائس الذي قادته إليه الرأسمالية! (*) كاتب وخبير اقتصادي تونسي مقيم بباريس  

 

هل هي نهاية العولمة ..أم نهاية الاستقطاب الأوحد وزعامة أمريكا المنفردة؟

 
عبد اللطيف الفراتي (*)     تتولد عن الأزمات الكبيرة أو الحروب المدمرة تغييرات كبيرة، تكون إما إقليمية أو على المستوى العالمي. ويتوقع عدد من كبار المحللين أن الأزمة المالية التي هزت العالم ، لا يمكن أن تمر ، إلا بعد إدخال اضطراب كبير ، على السائد حاليا والمتميز منذ عقدين أو ثلاثة بظاهرة العولمة ، ثم الاستقطاب الأمريكي الأوحد ، الذي جاء في تناقض كامل مع ما كان سائدا من قيام قوتين عالميتين كبيرتين تتنافسان ، وتمكنان بقية العالم من العيش على هرم توازن مقلوب ، في حالة استقرار غير مطمئن ، ولا ثابت أو مؤكد حقيقي. وأدى انهيار الاتحاد السوفياتي اقتصاديا ، ثم تحلله الفعلي وتشتت أطرافه ، واستقلالها عن المركز إلى انهيار نظام دولي كان قائما على توازن هش ولكنه سيطر على العالم ، وفرض تبادل الرعب بين نهاية الحرب العالمية الثانية حتى قدوم ، النظريات الريغينية الثأشيرية في منتصف الثمانينيات صاحبته أزمة سوفياتية أنهت سباقا غير متكافئ بين نظريتين برزت إحداهما وهي النظرية الرأسمالية بصحة تحليلها ، بينما برزت النظرية الشيوعية بقلة قدرتها على التأقلم مع الواقع ، وقد ارتكزت العولمة القائمة على انفتاح لم يسبق له نظير اتخذ كركيزة لسير العالم تحت القيادة المنفردة للولايات المتحدة ومن ورائها من قريب « الإمبراطورية البريطانية » الآفلة. وكانت ركائز العولمة تقوم على نظرية الليبرالية الأصلية من ترك كل شيء يمر سلعا ورساميل وبشر بدون حواجز، ما يخلق ظروف تنمية عالمية ، مفيدة لكل البشر ، لكن التطبيق أبرز ظاهرتين اثنتين : 1) أن الحدود لم تفتح بالمطلق وأن الدول الأقوى في العالم أو في الأقاليم كيفت النظريات الليبرالية وفقا لرغباتها ومصالحها الضيقة. 2) أنه لم يقع قط الاعتراف بترك مرور وحرية انتقال البشر من المناطق الأشد فقرا للمناطق الأغنى والتي يمكنها أن توفر المقادير الكافية من مواطن العمل وفرصه. وبدا أن الداعين للعولمة وحرية المبادرة وفتح الحدود ، هم أول من يخرق تلك الأسس التي قامت عليها العولمة ، وانتهوا إلى خرقها كلما كانت لا تساير مصالحهم الضيقة السريعة والآنية فيما فرضت بحذافيرها على بلدان العالم الثالث. وبذلك فإنهم قد يكونون بهذا الخرق قد حكموا على أسس دعوتهم وفلسفتهم ، التي بنتها الليبرالية الصاعدة ، في ظل انهيار التوجهات الاشتراكية – الشيوعية التي أفلست، ولم تعد مرجعا حتى لأولئك الذين ما زالوا يدعونها ، ولكنهم ينفذون سياسات مغايرة لها ، والصين أكبر دليل على ذلك. غير أن العولمة ، وربيبتها المتمثلة في الاستقطاب المنفرد الذي مارسته الولايات المتحدة رغم أنف العالم ، قد أدى مثل كل الاحتكارات سواء كانت سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية إلى السقوط في أخطاء جسيمة، لم يعد هناك من سلطة مضادة على المستوى الدولي يمكن أن تندفع إلى تصحيحها، فانفردت الولايات المتحدة بالقرار ، وارتكبت أخطاء لم تجد من يعارضها في ظل هذا الاستقطاب المنفرد، وزاد الأمر سوءا بسياسات الرئيس جورج بوش الابن الذي بالغ في كل شيء ، بوحي من المحافظين الجدد ، هؤلاء الأصوليين المسيحيين الذين تراجعوا بالفكر السياسي المتحرر في الولايات المتحدة أحقابا ، ومارسوا رجعية كانت غائبة عن التقاليد الأمريكية المتسمة بالتحرر الفكري، فسقطت الولايات المتحدة في أزمات متوالية كانت الأزمة المالية الأخيرة هي أبرز مظاهرها والعلامة الأكبر لها، وهي لم تأت بالصدفة وإنما جاءت نتيجة لممارسات خاطئة تراكمت وأدت إلى ما أدت إليه من هزة زلزالية عنيفة بلغت آثارها كل أرجاء العالم. في أوروبا التي تمثل أقوى وأضخم سوق تجارية في العالم ، والتي تمثل عملاقا ضخما لكن برجلين من طين نتيجة الفرقة السياسية وعدم القدرة على تصور سياسات خارجية ودفاعية خاصة، شرع بطرح السؤال الذي لا بد من طرحه والدول الأوروبية الكبرى تكابد من آثار أزمة مالية هزت الأسواق المالية وما زالت تهزها ، وأفقدت العالم توازناته ، طرح سؤال ، هل هي نهاية العولمة ، وكان رئيس الحكومة الفرنسية « فرانسوا فيون  » الأوضح في طرح هذا السؤال ، أمام البرلمان الفرنسي المجتمع بصفة عاجلة واستثنائية لبحث تأثيرات هذه الأزمة التي أدت إلى انهيار البورصة ـ في فرنسا كما في غيرها ـ بشكل لم يسبق له مثيل ، وإلى وضع يتهدد البنوك الفرنسية الكبرى بالإفلاس كما هو شأن عدد من كبريات البنوك الأوروبية ، وكما كان هو شأن كبريات البنوك الأمريكية ، وكما سيكون هو شأن البنوك الروسية ، حيث مارست الحكومة الروسية منذ أيام سياسات قطعت مع سياسة الأسابيع الأخيرة المتعجرفة، للخروج من العزلة التي وضعت فيها نفسها في هذه الأيام الصعبة. ولقد اتخذت الحكومات الأوروبية وقبلها الحكومة الأمريكية في الأيام الأخيرة قرارات تقطع ، مع التوجهات العولمية ، وبدل ترك الاقتصاد يصنع توازناته بإفلاس من يفلس ، وازدهار من يزدهر، كان من الدول الأكثر دفاعا عن العولمة كما نظر لها مفكرو الثمانينيات والتسعينيات أن اتخذت قرارات تدخلية لتعديل الأسواق ، فأقدمت الولايات المتحدة على ضخ 700 مليار دولار وهو مبلغ ضخم بكل المقاييس أو إنها ستضخها لتوفير سيولة كانت شحيحة وخنقت الحركة الاقتصادية ، بينما قررت عدة دول أوروبية عدم ترك أي بنك يفلس والدخول كشريك للإنقاذ بمعنى آخر تأميم البنوك جزئيا أو كليا في تناقض كامل مع قواعد العولمة كما حددها منظروها حماية للأفراد من المساهمين أو من المودعين، ولتوفير السيولة الغائبة. من هنا جاء السؤال هل هي نهاية العولمة ، وما الذي سيعوضها في وقت تداخلت فيه حياة العالم تحت وطأة ثورة اتصالية ضخمة قربت المسافات وجعلت من العالم قرية صغيرة تتواصل أطرافها بشكل لم يسبق له مثيل . الواضح وفقا لتحليلات المحللين أن العولمة لن تنتهي ، ولكنها بسبيل مشاهدة أمرين اثنين: أولهما : نوع من التهذيب لمسارها وتنظيم التدخلات وإعادة دور للدولة فقدته في استقالة كاملة ، وإلى نوع من القدرة على التعديل فقدته الدولة خلال عقدين من الزمن أو تخلت عنه. ثانيهما: توجه جديد نحو عدم ترك مقاليد سير العالم بيد واحدة هي بالذات الولايات المتحدة ، والعودة لمشاركة دولية كبيرة ، من ذلك ما يقال من ضم 6 دول جديدة ومؤثرة بدرجات متفاوتة في العالم للثمانية الكبار ، وهي وفقا للتوقعات الصين والهند والبرازيل والأرجنتين أو المكسيك والسعودية وجنوب إفريقيا ، بل هناك من ينادي برفع عدد دول نادي الثمانية الكبار إلى 20 حتى تكون المسيرة العالمية بأيد متعددة لضمان عدم انزلاق شبيه بهذا الذي حصل وأدى إلى وضع العالم على حافة هاوية سحيقة ، ما زال فمها مفتوحا يهدد في كل لحظة بسقوط مدو. إذن لن تكون هنالك غالبا نهاية للعولمة ، ولكن عولمة بشكل آخر ، ولكن الأكيد أن الولايات المتحدة ستفقد دورها كقوة استقطاب منفردة في العالم ولو على مراحل. نقطة أخرى، إلى أين ستصل بنا هذه الأزمة المالية التي لم يسبق لها مثيل منذ 80 سنة، هل إلى ركود وانكماش اقتصادي تكون الدول النامية هي أكبر من يدفع ثمنه؟ أم هل أن الأزمة المالية لن تتحول إلى أزمة اقتصادية شبيهة بتلك التي عرفها العالم عام 1929؟ الخبراء منقسمون، والمستقبل وحده كفيل بجواب تنتظره الإنسانية على أحر من الجمر. (*) كاتب تونسي (المصدر: صحيفة « الشرق » (يومية – قطر) الصادرة يوم 12 أكتوبر 2008)  

هل يسلم العرب من تسونامي انهيار الاقتصاد العالمي؟

 
د. أحمد القديدي (*) حينما هبت عاصفة البورصات الأمريكية شرع قادة السياسة و الاقتصاد و المال في الاتحاد الأوروبي في إعادة النظر بجدية في النظام النقدي الدولي المعروف باسم (بريتن وودس) وحين قررت الإدارة الأمريكية إنقاذ المنظومة المصرفية و التأمينية في الولايات المتحدة بمبلغ 700 مليار دولار يوم الجمعة 3 أكتوبر اجتمع في باريس رؤساء الدول الأوروبية اليوم الموالي السبت الماضي مع السيد (جون كلود تريشيه) محافظ المصرف المركزي الأوروبي ليقرروا بأن أوروبا تختلف عن الولايات المتحدة في تركيبتها الدستورية و الاقتصادية لأن الاتحاد الأوروبي مشكل من 27 دولة ذات سيادة كاملة على مدخراتها المالية و لديها 27 مصرفا مركزيا و لكن أوروبا ليست في مأمن أمين من الهزات القادمة رغم أن لديها فسحة أكبر من الزمن لتعدل من مسارها و تحور من خياراتها لمجابهة الأزمة. و جاءت قرارات الحكومة البلجيكية هذا الأسبوع والقاضية بضخ مبالغ مالية من خزينة الدولة لإنقاذ مصرف (فورتيس) البلجيكي و شركة ( ديكسيا) الاستثمارية المشتركة بين فرنسا و بلجيكا وهو ما يثبت و يؤكد أن استقلالية أوروبا في هذا المجال تبقى استقلالية نسبية و أن الإعصار الذي انطلق من نيويورك لا بد أن يعبر المحيط الأطلسي ليزرع الخوف و الجزع في نفوس المواطنين الأوروبيين مهما كانت نسب تعاملهم مع المصارف. و ذهب رئيس الحومة الفرنسية (السيد فرنسوا فيون) إلى حد تشبيه هذا الإعصار بالهاوية قائلا يوم الجمعة الماضي بأن العالم على شفا هاوية ما إذا تردد في بناء نظام مالي و اقتصادي جديد على أنقاض نظام ( بريتن وودس). الغريب أن ما يحصل في العالم اليوم سبق و استشرفه بعبقرية نادرة أحد أصدقائي الذين أعتز بهم و طالما عرضت مواقفهم في مقالاتي المتواضعة في هذه الصحيفة وهو عالم الاقتصاد الأمريكي الشهير و المرشح الأسبق لرئاسة الولايات المتحدة ( ليندن لاروش) الذي طالما اعتبره زملاؤه السياسيون رجلا كأنما يحلم أو يهذر! أو في أفضل الحالات يصنفونه ضمن اليمين المتطرف! و السبب الحقيقي لهذا التجاهل المبرمج هو تجرأ ليندن لاروش على انتقاد اسرائيل لا على أسس أيديولوجية و لكن من منطلق أن سياسات الدولة العبرية تهدد السلام الاقليمي و الدولي. وهو نفس الموقف الذي بدأ يجاهر به حتى زعماء اسرائيل ذاتها بنوع من عودة الوعي و استرجاع الحكمة و الحرص على بقاء اسرائيل! اليوم فقط شرع الأذكياء من القادة الأمريكان و الأوروبيين و الروس يردون الاعتبار للسيد ليندن لاروش، فالصحيفة الأولى في ألمانيا ( فرنكفورتر ألغاماين زيتونغ ) الناطقة عادة باسم الطبقة الحاكمة و أصحاب المال و الأعمال كتبت يوم 21 سبتمبر تقول بقلم الكاتبة و الخبيرة ( أوبر هيبر) : حينما تنبأ لاروش منذ سنوات بحصول هذه الكارثة لم يحفل بأفكاره رجال الاقتصاد. أما اليوم فالأغلبية منهم يكررون ما قاله لاروش. و أضافت الكاتبة : لقد كان لاروش يتميز برؤية ثاقبة و فريدة في التكهن بانهيار النظام النقدي العالمي. أما القناة الفضائية الرسمية الروسية ( روسيا توداي) فقد استجوبت مباشرة ليندن لاروش يوم 22 سبتمبر ليلا لتؤكد سلامة تحليلاته و وقوع ما كان نبه إليه مرات بدون طائل. و في الكنغرس الأمريكي بدأت تتشكل مجموعة ضغط تتبنى مواقف ليندن لاروش و تحاول تطويق الأزمة و تطبيق العلاج الحقيقي الحاسم الذي اقترحه عالم الاقتصاد الأمريكي. لكن هل تحرك العرب لتقييم مدى ارتباط منظوماتهم المالية بهذه الأعاصير؟ أذكر أنني في احدى لقاءاتي العديدة بالصديق ليندن لاروش حينما دعاني في ضواحي واشنطن للغداء في (رانشه) في بنسيلفانيا منذ حوالي عشرين عاما قال لي : حين ينهار النظام العالمي الجائر الذي أسسه المنتصرون في الحرب العالمية الثانية سيكون العرب أول الضحايا لأني ألمس بأن أغلب استثمارات العرب و مدخراتهم تأتي للولايات المتحدة بدون تنويع الملاءات المالية في حين أن الأمريكان أنفسهم يستثمرون في الصين! و أن العملة النقدية العربية دائمة الارتباط بالدولار وحده و أن المصارف الأمريكية و الأوروبية بدأت تشتري نسبا مائوية هامة من رؤوس أموال المصارف العربية الوطنية و الخاصة. وهذه العوامل سوف تحد من استقلالية الحركة العربية لو بدأت تهب عواصف الانهيار و التغيير. بالاضافة إلى غياب التنسيق و التشاور بين الدول العربية في مجال السياسات النقدية. إنني أسوق هذا الرأي السابق بعقدين عن ظهور الأزمات لكي نعتبر جميعا بالأحداث ونستخلص الدروس و ندرك بأن للعرب قوة كامنة في التحكم بمصائرهم لم يستغلوها إلى اليوم، فلننظر كيف يواجه اليابانيون و الروس و الصينيون أزمة اليوم لنتعلم كيف نستقل و نفعل هذه القوة الكامنة من أجل خير شعوبنا . (*) كاتب تونسي (المصدر: صحيفة « الشرق » (يومية – قطر) الصادرة يوم 8 أكتوبر 2008)

لا تزال «الدولة»، التي يتسابق الجميع على رفضها، لبنة معمار العالم

 
صالح بشير (*) قد يكون شأننا، إن نحن اقتصرنا في تناول أزمة الدولة الحديثة أو كما هي في حقبتنا الجارية هذه، على ما فعلته بها النيوليبرالية الاقتصادية، كشأنِ غبيّ المثل الصيني يُشار له بالإصبع إلى القمر، فيتطلع إلى الإصبع ويهمل القمر، فيقصر عملية المشاهدة أو الإشهاد تلك على تفصيل من تفاصيلها نافل أو جزئي لا يُعتدّ به، عديم الجدوى والدلالة «المعرفيّتيْن» في ذاته أو محدودهما. ذلك أنه من البديهي أن إيديولوجيا السوق، كما استحكمت منذ الفترة الريغانية-الثاتشرية حتى أضحت أقنوما كونيّا شامل النفاذ بعد الحرب الباردة وانهيار النموذج (الشيوعي) النقيض، قد سامت الدولة (مفهوما ومؤسسة، فكرة ووظيفة) دحضا وإبطالا. فقد أعلنت عدم أهليتها في التدخل في الحياة الاقتصادية، وهذه، حسب تلك النظرة، تستوفي الحياة كلها، بجميع مناحيها. لكن التجربة أو معاينة مجريات حقبتـنا هذه تفيدان أن ذلك النزوع المُبطل للدولة، المتبرم بها، أو الجاهد على الأقل في الحد منها ومن صلاحياتها ومن نفوذها، لا يقتصر على تلك الإيديولوجيا النيوليبرالية. فالإيديولوجيا تلك لا تعدو أن تكون وجها من وجوه ذلك النزوع، مظهرا من مظاهره، رافدا من روافده. ذلك أن الارتداد على الدولة كان السمة الفارقة لزمننا منذ نهاية الحرب الباردة. كأنما الدولة التوتاليتارية، إذ تهاوت في الشطر الشرقي من أوروبا وفي الاتحاد السوفياتي السابق على ذلك النحو المعلوم، والذي لو أراد المرء تقريب مداه للأذهان لما وجد غير مفردات الجيولوجيا يستعيرها ولشبّهه باختفاء قارّة… كأنما الدولة التوتاليتارية تلك إذاً، إذ تهاوت، أودت بفكرة الدولة ذاتها، بإطلاقٍ دون تمييز، ونسفت شرعيتها. وهكذا، صدر الاشتباه بالدولة، مناصبتها العداء، العمل على تقويضها أو على تجاوزها أو على النكوص عنها إلى ما دونها، عن مجمل القوى أو تيارات الرأي الفاعلة أو التي ارتفع صوتها طوال العقدين الماضيين (وهذا بطبيعة الحال تحقيب تقريبي ككل تحقيب)، والتي تنافرت في ما بينها وعادت إلى منطلقات فكرية ومصلحية متباينة أشد التباين، ولكنها أجمعت، إجماعا ضمنيا، ضد الدولة، تمجّها أو تعمل على إضعافها وتهميشها. كل أدلى بدلوه، على طريقته ووفق المبادئ التي يستند إليها أو يزعم ذلك، في شأن الحط من الدولة، منازعتها السيادة، مساءلتها في وظائفها الأساسية والتي يُفترض أنها وُجدت من أجل النهوض بها. ليس من تباعد ومن فجوة أكبر، أقله نظريا ومن حيث المبدأ، من ذينك القائميْن بين الداعين إلى الحد من سلطة الدولة ومن فعلها وإبطالهما باسم جدوى اقتصادية ينشدونها، على ما هي حال الآخذين بالليبرالية الفائقة من جهة، وبين المجترئين، من جهة أخرى، على سيادة الدولة باسم هواجس وأولويات من طبيعة قيميّة، شأن أصحاب مبدأ «الحق في التدخل»، ممن لا يقرون لطاغيةٍ بحصانةٍ من سيادةٍ وطنية إن هو سام شعبه أو فئات من شعبه اضطهادا أو إبادة، وهو المبدأ الذي وجد إنفاذه الأول، الأجلى والأفعل، في يوغوسلافيا السابقة وما واكب تفككها من حروب أهلية ومن تطهير عرقي، أو إثني على الأصح. كما تأتى ذلك الارتداد على الدولة من فئات تقع دونها، انتماءات صغرى وعضوية، إثنية أو عرقية أو طائفية أو عشائرية، تضيق بالدولة ذرعا، تماحكها في هذا الجانب أو ذاك من مظاهر سيادتها، تروم انفصالا عنها أو غلبةً عليها. ولنا في شرقنا الأوسط من تلك الظواهر الكثير، نعرفه حق المعرفة ونكابده أقصى المكابدة، بما يغني عن الإسهاب في توصيفه. وذلك، بطبيعة الحال، فضلا عن ظاهرة الإرهاب، وهذا مناف تماما لواقعة الدولة، بفعل صدوره عن نظرة تسبّق الانتماء إلى أمّة مفارقة لكل دولة قائمة، واقعةً عينية، ومن حيث ممارسته التي تعبأ بحدود ولا تعترف بها. حتى الاتحاد الأوروبي، أرقى ما اهتدت إليه البشرية في تاريخها من صيغ التكتلات العابرة للأوطان، إنما قام على تجاوز الدولة-الأمة، تلك التي كانت القارة القديمة السباقة إلى اجتراحها واختراعها. تم ذلك على نحو سلمي، طوعي لا يشوبه قسر، باسم الالتقاء حول مبادئ الديموقراطية وحقوق الإنسان، وحول الأخذ برأسمالية ليبرالية لا تبلغ مبلغ نظيرتها الأميركية، أو الأنكوساكسونية، توحشا وانفلاتا، وحول إعادة النظر في مركزية سبق أن أجحفت في حق الأقليات، ولكن كل ذلك لا ينفي أن الاتحاد ذاك لم يتحقق إلا بواسطة تجاوز الدولة والتخلي عن بعض مظاهر سيادتها، لإنشاء ضرب من إمبراطورية «ما بعد حداثية» على ما لا يتورع البعض عن القول في تعريفها. بطبيعة الحال، نحن لا نساوي بين كل تلك الظواهر، فمثل ذلك مما لا يصح، لا معرفيا ولا أخلاقيا، ولكن ما لا سبيل إلى إنكاره من وجه آخر أن الظواهر إياها إنما تتواطأ، تواطؤا لا إراديا بالتأكيد، على استعداء الدولة، أو على مناصبتها العداء، أو على الارتياب بها أو على إنكار مكانةٍ كانت لها منذ أن فرضها العصر الحديث وتعممت أنموذجا أوحد بعد أن نالت البلدان المستعمرة استقلالها في أعقاب الحرب العالمية الثانية، هيئة انتظام مُثلى لكل اجتماع بشري. ما يمكننا استخلاصه من كل ما سبق أنه إن كانت من قضية مطروحة بحدّة على العالم في هذا الطور الذي نعيش، إنما هي قضية الدولة، تلك التي يبدو أن عوامل عدّة، قد لا تكون العولمة سوى أحدها أو ربما خلفيتها (ذلك ما يتطلب سبرا) تعمل على تقويضها أو، على الأقل، على إعادة النظر فيها، منحى لاح حتى الآن جارفا، متعدد الأوجه والأبعاد متنافراً إن من حيث الطبيعة وإن من حيث الأرومة الإيديولوجية، ولكنه موحد في ما يشخص نحوه. علما بأن ما يزيد الأمر، في ذلك الصدد، تشوشا أن تلك الدولة التي يبدو أن أحدا ما عاد يريدها، تظل موضوعيا ومن الناحية القانونية، اللبنة الوحيدة التي يقوم عليها معمار العالم ومؤسساته الناظمة وتشريعاته السارية. لماذا بلغت الدولة هذا المآل؟ ذلك ما يتطلب تناولا على حدة. (*) كاتب تونسي (المصدر: صحيفة « الحياة » (يومية – لندن) الصادرة يوم 12 أكتوبر 2008)

 
نـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــداء
 عبدالحميد العدّاسي « … وأخذت هذه التساؤلات المطالبة باقتصاد بديل تتشكل في إطار تيار فكري جديد بدأ يشق طريقه داخل الفكر الاقتصادي الحديث وتدور اهتماماته حول مقولة الاقتصاد الإنساني التي تحرص على « أنسنة » الاقتصاد و »تخليقه » وتخليصه من فواحش الليبرالية الجديدة وما خلفته من ظلم اقتصادي وحيف اجتماعي وحروب وأزمات وكوارث متعاقبة ». « والملفت للانتباه في هذا الصدد، هو التوافق شبه التام بين أطروحة الاقتصاد الإنساني هذه ومشروع الاقتصاد الإسلامي الذي بدأ يحتل حيزا متناميا من الاهتمام، ليس في البلدان الإسلامية فحسب، بل في أوساط  دولية متعددة من جامعات ومراكز بحوث ومؤسسات مالية دولية واسعة، وأضحى يستقطب العناية والمتابعة من قبل العديد من الباحثين وصناع القرار في أماكن كثيرة من العالم! » « وذهب البعض منها إلى حد الدعوة إلى الاستفادة من تعاليم الشريعة الإسلامية واستلهام الحلول الناجعة منها. وقد وردت هذه الدعوات على أعمدة العديد من الصحف والمجلات الأوروبية مطالبة باتخاذ الإجراءات الجذرية المطلوبة قبل فوات الأوان. » « من أجل ذلك نقول إنه لا خلاص للبشرية من هذه الأزمة إلاّ بالقطع مع القواعد الأساسية للفكرة الرأسمالية التي تستند إلى تلك الأسباب الثلاثة التي هي مصدر البلاء وأصل الداء في كل ما يحدث اليوم بالعالم، وهي تأليه السوق وطغيان الربا وشيوع الميسر. وهي الأسباب التي تنذر بحلول الكارثة التي تهدد البشرية قاطبة. »   هذه فقرات أخذتها من مقال أستاذنا الفاضل محمّد النوري « قراءة إسلامية في أسباب ودلالات الأزمة المالية »، الذي بيّن فيه خطورة الأزمة الإقتصاديّة الحاليّة وتحسّس فيه فجوات الخروج منها. وإنّي إذ أشكر الأستاذ المقتدر وأسأل الله أن يبارك فيه وفي علمه، أرجو أن يبادر المسلمون أصحاب الإختصاص أمثاله، فتقع الدعوة منهم مثلا إلى عقد مؤتمر يتبنّاه « المؤتمر الإسلامي » أو « الجامعة العربيّة » أو غيرهما من الهياكل القائمة في الرقعة الإسلاميّة، تُتدارس فيه الأوضاع العالميّة – والمسلم عالميّ تعريفا – ثمّ تقدّم الحلول المستنبطة من تعاليم ديننا الحنيف، فنكون بذلك قد أنقذنا العالم من ورطته أو شاركنا في إنقاذه، ونكون قد نصرنا ديننا نصرا قد يدعو النّاس إلى الدّخول فيه أفواجا!… إنّه وقت تحرّك المسلمين المخلصين أصحاب الكفاءات!… إنّه وقت مغادرة بنك الاحتياطيين!… فهل من مجيب وهل من ناصر لدينه؟!…  

 
السبيل أونلاين نت   بسم الله الرحمان الرحيـــم  

المنهج القرآني في النقد والتقويم وفي التوبة والتصحيح – الحلقة العاشرة قصة يوسف عليه السلام وطريق الانفراج والتأهيل الرسالي(2)

    كان الاعتراض الرئيسي على ما نشرته ولا زلت أنه كان علنيا، في موضوعات الأصل فيها – حسب رأي إخواني المعترضين – أنها خاصة بحركة النهضة وأبنائها. وكان ردي دائما أن حركة النهضة تَحمّلت أمانة إحياء المشروع الإسلامي ، وهذه قضية عامة وليست خاصة ولا حزبية ، وتحويلها إلى قضية حزبية أو خاصة بفئة ، هو انحراف خطير على المشروع الإسلامي ، يتحول به من كونه هو غاية وجود الحركة ، وكون الحركة وسيلة لخدمته ، إلى كونه وسيلة لخدمة الحركة . هذا ما انزلقت إليه حركة النهضة ، الأمر الذي أصبح يقتضي التوبة والتصحيح كما بينته في الحلقة الثامنة من حلقات « حتى لا يشوش على واجبي الشرعي » .   إنه لم يعد لنا مناص بعد كل التطورات والمنزلقات الحاصلة إلا الرجوع إلى هذا الأصل (العمل في العلن ومع الجمهور المسلم التونسي). ورغم أن هذا هو في أصله بديهي ، ومن طبيعة الدعوة ورسالة الله إلى عباده ، فإن ما اعتراه من تلبيس خطير جعل الاعتراض على ما كتبته على الملأ شديدا من العديد من إخواننا، الأمر الذي أصبح يفرض بيان هذه البديهية وتأصيلها من خلال قرآننا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم . وهذا هو هدف هذه السلسلة من الحلقات تحت عنوان « المنهج القرآني في النقد والتقويم وفي التوبة والتصحيح ».    وقد تقدمت الحلقة الأولى التمهيدية من هذه السلسلة في ركائز هذا المنهج ، والحلقة الثانية منها في  قراءة وتقويم القرآن لغزوة بدر، والحلقة الثالثة في قراءة وتقويم القرآن لابتلاء غزوة أحد ، ذات الدلالات الكبيرة على ما حدث وما مر بنا ، والحلقة الرابعة في قراءة وتقويم القرآن لحادثة الإفك ، والحلقة الخامسة في قراءة وتقويم القرآن لابتلاء وغزوة الأحزاب ، والحلقة السادسة في تقويم القرآن لتطلع نساء النبي إلى متاع الدنيا وتخييرهن، والحلقة السابعة في تقويم النبي صلى الله عليه وسلم عادة العرب بتحريم الزواج من مطلقة الابن بالتبني بتطبيقه على نفسه، والحلقة الثامنة في عتاب الله عز وجل لنبيه صلى الله عليه وسلم في حادثة ابن أم مكتوم كما سجلته سورة عبس لإرساء الميزان الرباني في التقويم ، والحلقة التاسعة في تقويم علاقة المسلمين ببيت النبوة .   هذا وألفت الانتباه إلى أن التقويم الذي قدمتُه ولازلتُ لا يتعلق بالأفراد ولكن بحركة النهضة ككيان جماعي يُعرف من خلال خططه وبرامجه وسياساته ومواقفه وأعماله وبياناته وتصريحاته.   وأما الحلقة العاشرة فتتناول تقويم سيرة أبرز شخصيات آل يعقوب في قصة يوسف عليه السلام. إن سورة يوسف عليه السلام هي سورة قصته التي هي قصة ابتلاء يوسف وآل يعقوب عليهم السلام وتقويم سيرتهم فيها ، وذلك وفق العناصر التالية :                                           1.ابتلاء يوسف عليه السلام وتقويم سيرته                                         2.ابتلاء يعقوب عليه السلام وتقويم سيرته                                         3.ابتلاء إخوة يوسف عليهم السلام وتقويم سيرتهم   وبالنظر لطول هذه الحلقة فقد قسمناها إلى جزأين قدمنا العنصر الأول في الجزء الأول منهما، وسنقدم البقية في هذا الجزء الثاني.   ابتلاء يعقوب عليه السلام وتقويم سيرته:      ويعقوب عليه السلام – كما تقدمه سورة يوسف عليه السلام – هو ذلك الوالد المحب الملهوف، والنبي المطمئن الموصول، وهو يواجه بالاستبشار والخوف معاً تلك الرؤيا الواعدة التي رآها يوسف؛ وهو يرى فيها بشائر مستقبل مرموق، بينما هو يتوجس خيفة من الشيطان وفعله في نفوس بنيه. فتتجلى شخصيته بواقعيتها الكاملة في كل جوانبها:    » إذ قال يوسف لأبيه: يا أبت إني أرى أحد عشر كوكبا والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين. قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ * وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آَلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) [يوسف: 5، 6].   ثم نجد هذه الشخصية كذلك بكل واقعيتها البشرية النبوية، وبنوه يراودونه عن يوسف ثم وهم يفاجؤونه بالفجيعة:   (قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 11 ـ 18].      ثم نلتقي بهذه الشخصية ـ بكل واقعيتها تلك ـ وبنوه يراودونه مرة أخرى على السلوة الباقية له أخي يوسف.. وقد طلبه منهم عزيز مصر ـ يوسف ـ الذي لا يعرفونه! في مقابل أن يعطيهم كيلاً يقتاتون في السنوات العجاف!   (فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ * وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آَتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ * وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ) [يوسف: 63 ـ 68].      ثم نلتقي به في فجيعته الثانية… والداً ملهوفاً ونبياً موصولاً.. ذلك بعد أن دبر الله ليوسف كيف يأخذ أخاه. فيتخلف أحد أبناء يعقوب ـ صاحب الشخصية الخاصة فيهم، متوافياً مع سماته التي صاحبت مواقفه كلها في القصة، مشفقاً أن يقابل أباه بعد الموثق الذي آتاه إياه. إلا أن يأذن له أبوه أو يحكم له الله:   (فَلَمَّا اسْتَيْئَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ * وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ * قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ * قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ) [يوسف: 80 ـ 87].      وفي آخر مواقف المحنة الطويلة للشيخ المبتلى نجد ذات الملامح وذات الواقعية وهو يشم ريح يوسف في قميصه ويواجه غيظ بنيه وتبكيتهم فلا يشك في صدق ظنه بربه: (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ * فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يوسف: 94 ـ 98].      إنها الشخصية الموحّدة الخصائص والملامح، الواقعية المشاعر والتصرفات، الممثلة لكل واقعية ذاتها وظروفها وبيئتها بلا تزوير ولا نقص ولا تحريف!      ويمكن أن نلاحظ أن المؤمن يمكنه أن يجتاز ابتلاءات شديدة بنجاح باهر بإيمانه الجيد ولكنه يمكن أن يصاب إصابات بليغة في جسمه أو في نفسيته من جراء شدة الابتلاء.   ومن الفهم الخاطئ أن نفهم أن الأضرار المادية أو النفسية التي يمكن أن تحصل في الابتلاءات هي علامة ضعف الإيمان وبقَدْره.   إن المبتلى هو في مجاهدة ، ولتلك المجاهدة أضرارها المادية والنفسية، التي تتراوح من البسيط الى الكبير، والتي قد تبلغ الموت والاستشهاد تماماً كما هو الشأن بالنسبة للمجاهد. وبعد الابتلاء، بعض تلك الإصابات والأضرار قابل للعلاج والشفاء، النسبي أو الكامل، وبعضها غير قابل.   ابتلاء إخوة يوسف عليهم السلام وتقويم سيرتهم:      وكان ابتلاء إخوة يوسف بأخيهم يوسف عليه السلام، بما كان له عند أبيه من مقام وحظوة، بالنظر لما فضله الله به عليهم فإذا بهم يحسدونه. ومثلهم في ذلك مثل إبليس في حسده لآدم لما أكرمه الله عليه وعلى الملائكة.   وكما لبث الحسد بإبليس حتى آل به الى ما نعرفه، لبثت أحقاد إخوة يوسف الصغيرة لأخيهم تكبر في قلوبهم وتتضخم حتى حجبت عن ضمائرهم هول الجريمة وبشاعتها ونكارتها وضخامتها فارتكبوها. ويمكن أن نلاَحظ بوضوح واقعيتهم في بيئتهم الدينية ـ وهم أولاد نبي الله يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ـ عليهم صلوات الله وسلامه ـ وانطباعات هذه البيئة في تفكيرهم ومشاعرهم وتقاليدهم:   (لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ * إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ * قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ * قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ * أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ * قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ * قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ * فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ * وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ) [يوسف: 7 ـ 18].      وهؤلاء الإخوة نجدهم ـ هم هم ـ في كل مواقف القصة بعد ذلك ـ كما نجد موقف أحدهم الخاص من أول القصة الى آخرها ـ فأمام تدبير الله ليوسف في أخذ أخيه منهم بحجة أنه وجد صواع الملك في رحله ـ وهم لا يعلمون ما وراءه ـ حتى ينفجر حقدهم القديم على يوسف:   (قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) [يوسف: 77].      كذلك نجدهم ـ هم هم ـ بعد مواجهة أبيهم بالفجيعة الثانية في شيخوخته الحزينة، فما إن يروا تجدد حزنه على يوسف حتى ينفجر حقدهم القديم، دون مراعاة لشيخوخة أبيهم ونكبته الأليمة: (وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ * قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ) [يوسف: 84].      ومثلها عندما أرسل يوسف قميصه الى أبيه في النهاية ـ بعدما كشف لهم عن شخصيته ـ فلما رأوا أباهم يستنشق عبير يوسف، غاظهم هذا الاتصال الباطني الدال على عمق ما بينه وبين يوسف، فلم يملكوا أنفسهم أن يبكتوه ويؤنبوه:   (وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ * قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ) [يوسف: 94، 95]…   ولكن في الأخير، لما رأوا الحق جلياً ناصعاً تابوا (فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) [يوسف: 96 ـ 98].      ومثل هذا الحسد والكيد والعداء وقع للرسول صلى الله عليه وسلم من أهله وبني جلدته وقومه ولكنهم بعد أن ظهر الحق تابوا ، ففي خطبة الفتح قال صلى الله عليه وسلم: «يا معشر قريش ما ترون أني فاعل بكم قالوا خيراً أخ كريم وابن أخ كريم. قال فإني أقول لكم كما قال يوسف لإخوته (قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ) اذهبوا فأنتم الطلقاء». وبعد ذلك غدوا من أبطال الجهاد في الردة ثم في الفتوحات.     وهكذا نرى أنه ليس من الغريب أن يقع ما يقع بين الأهل وأبناء القوم الواحد والشعب الواحد، ثم يمكن أن يتحولوا بإذن الله وتوفيقه الى وجهة الحق وأهداف الحق. وما ينبغي أن يحول دون ذلك أعمال الماضي وملفاته وأثقاله.   (في ظلال القرآن بتصرف)   بقلم: محمد شمام    العنوان البريدي : mohacham@gawab.com الهاتف النقال : 0046736309986   (يتبع إن شاء الله)
 

في خنيس رحمة الله تثير الرعب

بقلم عامر عياد مع حلول موسم الأمطار تتجدد حالات الفزع والرعب في نفوس عدد من العائلات في مدينة خنيس من ولاية المنستير ويعود السبب إلى وقوع عشرات المنازل السكنية في أزقة منخفضة عن مستوى سطح البحر مما يعيق مياه الصرف الصحي وخصوصا مياه الأمطار من التسرب إلى خارج هذه المنازل وهو ما سبب عديد الكوارث لهذه العائلات التي أصبحت تعيش الحزن و المأساة عند نزول الغيث النافع و ما زاد في تعميق الجراح هو التصرف اللامسؤول للمجلس البلدي الذي يتلكأ دوما  في شفط مياه الأمطار متعللا تارة بنقص الإمكانيات و أخرى بضرورة دفع معلوم الشفط مسبقا و رغم « توسل » السلط الجهوية بضرورة الوقوف إلى جانب هذه العائلات إلا أن بعض الأطراف في بلدية المكان مصرة إلى اليوم على العمل بما يروق لها بعيدا عن السياسة الرسمية. وقد حاول المجلس البلدي المنتخب  لسنة 1990-1995 بتوجيه من المجلس الجهوي مساعدة هذه العائلات بربط منازلها بشبكة التطهير فتم تخصيص مائة و خمسة و ثمانون ألف دينار (185000 د)لهذا الغرض و بدا معتمد الجهة حينئذ بالاجتماع بالأهالي لتحسيسهم بضرورة معاضدة مجهود المجلس الجهوي و البلدي و انطلقت الدراسات الميدانية وتكونت خلايا عمل للإسراع بانجاز المشروع مما ادخل الاستبشار في نفوس الأهالي و اعتقدوا بعد يأس أن بالبلاد من يفكر في مشاكلهم و همومهم و يشعر بمآسيهم و يعيش ما يعيشونه و أبناءهم من معاناة..اعتقدوا أن الخوف من رحمة الله ستنتهي بانتهاء الأشغال..فرحوا و لم تسعهم الدنيا لأنهم لن يحاصروا بالمياه و سيتمتعون كبقية خلق الله بالغيث النافع ، سيفرحون برحمة الله وينعمون و أبناءهم برؤية مشهد المطر كما تصوره الروايات و الأفلام الرومانسية ..لذلك انخرطوا بايجابية غير معتادة في الانتخابات البلدية لسنة1995 بعد وعود و تعهدات بمواصلة المشروع ..كانت مشاركتهم مشاركة فعالة تعبئة وانتخابا أملهم أن يواصل المجلس الجديد ما بدأه سلفه .و مرت الأشهر و السنون و لم يحرك هذا المجلس ساكنا أمام ما يعانيه الأهالي، بل تبخر المبلغ المرصود في مشاريع استعراضية  ..ورغم الطلبات و التوسلات العديدة أبى هذا المجلس إلا أن يواصل استهتاره بمشاعر المواطنين و الأهالي راميا بعرض الحائط بتوصيات رئيس الدولة الذي أوصى دائما بالإحاطة بالعائلات المنكوبة جراء العوامل الطبيعية. وتستمر معاناة الأهالي باستمرار وجود هذا المجلس الذي امتد عمره منذ سنة 1995 و أمام هذا الوضع اضطر السكان المعنيون بتوقيع عديد العرائض و صلنا  البعض منها يطالب فيها موقعوها بضرورة تدخل السلط الجهوية و الوطنية لحل هذا الأشكال ورفع المعاناة عنهم و عن أبناءهم. هذا ونشير إلى أن استياء شعبيا عارما يجتاح المدينة جراء تقاعس المجلس البلدي عن القيام بما يمليه الواجب من حيث تكدس الأوساخ في جميع المفاصل  الرئيسية و الطرقات العامة للمدينة إضافة إلى تكريس المحسوبية و المحاباة في التعامل مع المواطنين حتى أن فضائح المجلس البلدي  و طرق تعامله مع الأهالي أصبحت محل تندر في المجالس العامة و الخاصة مما جعل صورة السلطة السياسية الجهوية باهتة و غير واضحة في تعاملها مع السلطة البلدية التي ركنت إلى الاسترخاء و عدم الاهتمام بالشؤون العامة التي أصبحت في أيدي غير أمينة و غير قادرة على تحمل أعباء المدينة.  

 

من السلع المغشوشة إلى الفواتير المبهمة   من يحمي المستهلك التونسي من التعديات

محسن المزليني ذكرت مصادر وزارة التجارة أنّ المراقبة الصحية حجزت منذ بداية شهر رمضان 27 ألفا و 712 كلغ من المواد الغذائية الفاسدة و240 لترا من الحليب والزيت غير الصالح للاستهلاك و393 علبة من الشكلاطة والياغورت و13 ألف و539 كيسا أسودا.  كما قامت فرق المراقبة بـ 9645 زيارة بكامل تونس تم على إثرها رفع 1096مخالفة منها 456 مخالفة في قطاع الخضر والغلال و143 بالنسبة للدواجن والبيض و226 في المواد الغذائية و102 في اللحوم و54 في الأسماك. غير أنّ هذه الأرقام رغم ضخامتها لا تمثل إلاّ النزر اليسير، حسب أهل الذكر، من عمليات التلاعب و التحيّل التي يتعرّض لها المواطن التونسي. تعديات تمثل مجرّد جزء ظاهر من جبل الجليد… جبل يتعاظم بفعل بركات « الانفتاح » على كل السلع سواء القادمة من شرق سور الصين العظيم وغيره من أصقاع الدنيا، إلى ممارسات التجار المحليين والمؤسسات التجارية سواء منها الحكومية أو الخاصّة. وفي جراب المواطن المغلوب على أمره حكايات وحكايات … اشتكى المواطن بشير بن مصطفى وهو من سكان أريانة مما اعتبره عملية تلاعب تعرّض لها بعد أن استجاب لعرض قدمته إحدى الشركات المزودة للأنترنت يقضي بمنح هدية للمشتركين تتمثل في هاتف نقال … غير أنّ هذه الهدية تبين له بعد تركيبها إنها لا تعمل. سارع بمراجعة المؤسسة التي أحالته  على الشركة المصنعة التي لم يسمع منها إلا ما يؤكّد أنّه خضع لعملية تلاعب « نحن لا نتحمل أي مسؤولية لأننا سلمنا شركة الأنترنت ألف جهاز « زائد » لتعويض ما يُتبيّن تلفه ». وبين الذهاب والإياب بين الشركتين انقلب شعور هذا المواطن من فرح بهذه الفرصة إلى إحساس مرّ بضعفه في مواجهة هذه الممارسات غير السليمة. وغير بعيد عن هذا، تتكرر شكايات المواطنين مع مجيء كل فاتورة استهلاك الكهرباء غير المرحّب بها. يكفي أن تقف في طابور الخلاص لتسمع العجائب: امرأة أكلت السنون الكثير من نظارتها وتركت الأيام العجاف على جسدها تضاريس هموم كثيرة زاد في عمقها مبلغ استخلاص قدّره العداد الذي لا يتسرب لحكمه شك بـ 100 دينار ونيف، وهي تولول وتؤكّد أنها لا تملك إلا غرفة واحدة بها فانوس يتيم. وفي مواجهتها عون يردّ ببرودة على غضبها « خلّص ثم اشتكي ». أما سمير فقد كان له مع هذه الفاتورة قصّة أخرى. يؤكّد أنه لا يملك من الأجهزة الكهربائية إلا الضروري فلا غسالة ولا أجهزة رفاهة مما عُرف عنها نهمها في استهلاك النور الكهربائي … يذكر سمير أنه طيلة سنة ونصف من الكراء لم يفرح بفاتورة تقل عن تسعين دينارا. وفي التفصيل ما لا يُفهم. استهلاك 479 كيلوات طيلة أربعة أشهر بثمن 134 مليما بقيمة 72.186 دينار ويُضاف إليها 4 دنانير خدمات وما لا يقل عن 14.480 دينار مجموع آداءات في تفصيلها  9.690 أداء على القيمة المُضافة (وكأننا نشارك الستاغ في أرباحها) و 4.790 دينار معلوم أبدي لإذاعة و تلفزة لا نُستشار في ما تنتج وتبث « ومن لحيته إفتل له حبلا » كما يقول مثلنا العامي. غير أنّ الأكثر غرابة في هذه الفاتورة عدم تطابقها مع التعريفة التي حددتها الشركة فمبلغ 134 مليما لا وجود له في القائمة. فلا هو 74 مليما كما هو مقرر للمستوى الاستهلاكي الأول (أقل من 51 كيلوات شهريا) ولا هو 90 مليما (للمستوى الثاني) أو حتى 131 مليما للمستوى الثالث (أقل من 300 كيلوات شهريا). فابحث عن منجم يفهم حكاية فاتورة من المفروض أن تكون مفهومة للجميع. ثم كيف يتم احتساب الكمية الجملية على قاعدة أعلى سعر أليس في ذلك تعدّ على حقوق المواطن إذ من المفروض أن يُقسّم السعر على أكثر من مستوى إحقاقا للحقوق. وفي نفس السياق يتساءل عماد عن هذه الكمية الهزيلة للمستوى الأول (أقل من 50 كيلوات شهريا) أليس فيه استبلاه وغبن للحريف، إذ يتم تجاوزها حتى لو كانت العائلة لا تملك غير فانوس وتلفاز؟ ويضيف  لقد رأت الشركة أن تغيّر عدادي القديم « الكسول عن العد » في نظرهم بعدّاد يعمل بمجرّد نيّة الفتح، فصارت الفاتورة كابوسا لا نفهم من رموزها شيئا وصارت العدادات تعمل وهي نائمة وليس لنا من حقّ التشكي إلا بإجراءات تطول وتثقل كاهل الشاكي. وغير بعيد عن هذه الممارسة غير الشفافة يمكن أن نضيف تفاصيل فاتورة الهاتف وما تحوي من عجائب الآداءات والقيمة المضافة. وآخر إبداعات الشركة آداء بعنوان « الإتاوة على الاتصالات »، وما يثيره المصطلح أولا من إيحاءات إلى جباية السلاطين ودواوين البايات و جوقة « المحلّة »، إضافة إلى ما تثيره من تساؤلات حول محلها من الإعراب وما تمثله « القيمة المضافة » سيئة الذكر من إثقال لكاهل المواطن. كما لا يقل نصيب شركة الماء الشروب من تشكيات وتساؤلات خاصّة عن اقترانها المضر بخلاص معلوم التطهير الذي بات يمثل نصف الفاتورة بمعنى أن الشركة تبيع الماء والأخرى تبيع تصريف كل الكمية ما رجع منها إلى القنوات وما ذهب أدراج الرياح، وما بين البيعين من ظلم وغبن. أما حكايات الشركات التجارية وبيع مواد غير مطابقة للمواصفات، أو عدم قبول إرجاع البضاعة التالفة أو التأخر في إمداد الحريف بما اشتراه، فقد باتت سلوكا يوميا لمعظم فضاءاتنا التجارية لم تفلح كل سياسات التأهيل في معالجتها. والأكيد في كل هذا أن المواطن يجد نفسه بلا سند أمام عقلية كاملة تبحث عن الربح بأسهل الطرق ولم تستوعب بعد أنّ ثقة الحريف هي رأسمال أي عملية اقتصادية. الاستهلاك الذكي ! وفي تصريح سابق أكّد الدكتور عبد الستار السحباني، أستاذ علم الاجتماع في الجامعة التونسية، أنّ الاستهلاك هو الذي بات يصنع الثروات في الحياة الاقتصادية المعاصرة وليس الادخار كما كان سابقا. وبالتالي فإن شفافية العملية الاستهلاكية ومصداقيتها هي أهم محرّك ومنتج للثروة. وهو ما تطلّب، حسب رأيه تكوين جمعيات تُعنى بالدفاع عن المستهلك وتمّ تجهيزها بأحدث الوسائل والمختبرات للتمكن من أداء عملها بالتوازي مع عمل المصالح العمومية. وأكّد أن فعاليتها كانت كبيرة إذ بات المستهلك يشعر أنّه ندّا لبقية الأطراف المتحكمة في العملية الاقتصادية وليس الحلقة الأضعف فيها مثلما هو الشأن الآن. وتساءل عن أداء منظمة الدفاع عن المستهلك في تونس وعن إطلالتها فقط قبل عيد الإضحى لتنصح المواطن بشراء الخراف من نقاط البيع القانونية أو عند التنبيه إلى مخاطر ارتفاع سعر المحروقات على الاقتصاد الوطني !. غير أن هذه السنة مثلت حدثا بالنسبة لأداء هذه المنظمة « غير الحكومية » التي  رأت النور سنة 1989وتمّ اعتبارها منظمة ذات مصلحة وطنية. أصدرت المنظمة العتيدة بيانا اتهمت فيه المواطن بالتكالب على تخزين السلع واعتبرته سببا في زيادة الأسعار وغلاء المعيشة، وهو ما أحدث امتعاضا واسعا من منظمة من المفترض أن تكون صوتا المستهلك وسنده في مواجهة بقية الفاعلين في الحقل الاقتصادي. غير أن هذه التساؤلات لم تثن الأطراف المسؤولة في هذه المنظمة عن البقاء في نفس الدائرة إذ اختارت لندوة أقامتها في بنزرت شعار « حس وطني واستهلاك ذكي » ودعا فيها المتدخلون إلى « تعديل السلوكيات الغذائية غير السوية وترشيد الاستهلاك » وإلى تضافر الجهود لتجذير عقلية حسن التصرف في النفقات العائلية وعبر استحداث « نوادي التربية الغذائية » إلى جانب دور وسائط الإعلام والإرشاد بكافة أشكالها.   هكذا يبدو مشهد المواطن التونسي في عملية الاستهلاك، صورة لكائن ضعيف لا حول له ولا قوّة في مواجهة من يرى فيه مجرّد كائن استهلاكي ومورد ربح. وهو مشهد مرشّح للاستمرار طالما لم يفهم المستهلك أنّه هو الحلقة الأقوى في العملية الاقتصادية وأنه هو غاية العملية الاستهلاكية ووسيلتها، وطالما أيضا لم تفهم بقية الأطراف أنّ ثقة المستهلك هو أهم ما يضمن استمرار العملية الإنتاجية وتطورها.  
(المصدر: صحيفة الموقف( محيط) عدد 466)  


عجائب وغرائب القرن….في مرصد.. الخدمات الجامعية

وأخيرا..تقاعـد سالم بن عـمر فـــرح وســرور وبهجة وتهاني لا نهاية لها..تلـك هـي الأجــواء التي باتت القاسم المشترك بين مــديــري ومــديــرات مؤسسات الخـدمـات الجامعية خاصة بإقــلـيــم الــوســـــط..ولا سبب لـذلـك غــيــر السـيـد ســالـم بـن عــمــر الـمديــر الـعـام السابق لديوان الخدمات الجامعية للوسط الذي بلغ بداية العام الثاني للتـقـاعــد (مع انـه اسـعــف بـسـنـة مـبـاشـرة بخطة ر.م.ع الديـوان) خلال الــمــوســم الجامعي المنقضي مع الإشــارة إلى ان السنة الجامعـية الأخـيرة شهـدت إقــالة وإستقالـة العديد من المديرين والمديرات بسبب ســـوء العلاقــة بينهم والـمـديــر العام ذاته.. وهذا التقاعد المحمود كان سببا وجيها..ومـفــسـرا منطـقيا لما يعيش جماعة الوسط خاصة من أجواء مفرحة ومنعـشة..ـــــــ ـــــــــ تــونـــس/كــتــب:حكيم غانمي ــــــــــ 504pho يوم 14 أكتوبر الجاري تتواصل..محاكمة مديرة الحي الجامعي الغزالي بسوسة على الرغـم من رفـض السيدة مديرة الحي الجامعي الغزالي بسوسة تسلم إستدعائها لمحكمة الناحية بالجهة وفق القانون، فإن المحكمة لـن تقدم إلا مواصلة النظر في القضية المرفوعة ضدها بصفتها وشخصها كما لو كانت حاضرة..سيما وأن الأستاذة الـعــدل المنفذ المكلفة بلغت المطـلـوبـة إســتـدعــاء الجلسة (بعد أن رفضت المدعي عليها تسلمه) وذلك على معنى الفصل 8 من مجلة الإجراءات الجزائية..وإنتظــروا تفاصيل هذه المحاكمة التي تشمل مديرة عمومية وفق القانون وبحسب عريضة الدعوى، بصفتها وشخصها حسب اصرار المدعي.. ــ مأساة بديوان الخدمات الجامعية للشمال فوضى وإزدحام شبيه بسوق اسبوعية باحدى المدن الداخلية..ذاك هو حال المقر الاجتماعي لديوان الخدمات الجامعية للشمال أيــــــن توجد ادارته العامة الشامخة وذات الطوابق العالية والتي تتوفرعلى مصاعد ممنوعة على الـــــــزوار وخاصة الطلبة الذين هم غاية ومقصد بعـث الديوان..هذه المؤسسة العمومية لم يعرف بعد مـديرها الـعـام انه عليه تنظيم الزيارات وخاصة حسن قبول الاولياء والطلبة..أما خدمتهم كما الواجب..وتوجيههم كما هو مفـترض..فحدث ولا حرج..ومن منكم لا يصدقني فلا عليه إلا زيارة هذا المرفق العام..هذا العام..وككل عام ــ ـــــــ ولنا عودة بالكلمة والصورة ـــــــ مع منتهى تحياتي حكيم غانمي الطائر الجريح..من تونس الوطن (المصدر : مدونة مكتوب الالكترونية بتاريخ 11 اكتوبر 2008)

مراجعة تونسية لابد منها

  * مرسل الكسيبي  
الجدل السياسي المحتد هذه الأيام بخصوص المشهد التونسي العام ليس مفصولا في تقديرنا عن حسابات يضعها البعض قبيل سنة من انعقاد مراسم الاستحقاق الرئاسي … فمشهد الانجازات التي حققتها تونس على أكثر من صعيد بات يؤرق بلاشك بعض أطراف الوسط المعارض.   المواطن التونسي والمراقب العربي يقف أمام صورة مكاسب تونسية عدة كادت أن تضيع مع ترهل بورقيبة , وجاء الرئيس بن علي في مشروع انقاذ سنة 1987 ليضع البلاد على سكة مشاريع تنموية كبرى لم تعرفها تونس حتى في أوج ازدهار السياسة الليبرالية الاقتصادية على عهد الوزير الأول الهادي نويرة  …   مشهد عدم انقطاع الماء والكهرباء عن مدن وقرى تونس الا في محطات نادرة تتعلق بأشغال الصيانة والكوارث , مشهد لايوجد عربيا الا في تونس وبلاد الخليج , أما بقية البلاد العربية فهي لازالت تعاني من تعطل هذه الخدمات الأساسية في أوقات الذروة  …   هناك ادارة حديثة في تونس وقطاع صحي يحفظ شعبها من تفشي العاهات والأمراض , بل هناك منشات صحية لاتقل تطورا عما نراه في مدن وحواضر الغرب , هناك صروح للتعليم والبحث العالي لاينبغي الاستخفاف بها , علاوة على شبكة مواصلات واتصالات تتطور بسرعة حثيثة , مكاسب لايمكن التبخيس من قيمتها في ثنايا غبار الصراع على السلطة…   في تونس قطاع اسكاني متقدم ومعمار رائع لاتراه حتى في عواصم أوربية , وأشهد الله على أن سعة منازل تونس وجمالها وجمال حدائقها لاترى له أثرا في أكبر البلدان الصناعية الا في ماقل وندر أو في الجزر المخصصة لرفاهية طبقة الأغنياء …   هناك وهناك وهناك …, ولايدرك قيمة الموجود في وطنه الا من يسافر ويرتطم بمصاعب الحياة في بلاد المشرق والمغرب وحتى في بلاد الغرب …   اذا لماذا كل هذا البخس لماتحقق في تونس من مكاسب وطنية ومنجزات على عهد الرئيس بن علي ؟ , ولماذا تحرص بعض الأطراف على ابراز المشهد العام بكل هذه القتامة ؟   نعم هناك في تونس جمال ونماء وتطور سريع وهناك مشهد حقوقي يحتاج الى تعاوننا جميعا بعيدا عن أساليب السمسرة بالموضوعات الوطنية في سوق مزادها خارجي …   مراجعات ومكاشفة لابد منها :   خطاب معارضة المهاجر يحتاج حتما الى ثورة داخلية حقيقة وهو ماجعلني لاأتردد لحظة في انسلاخي من حركة النهضة التونسية سنة 2005 حين أدركت بأن واقعها قد اختطف لفائدة مايسمى بالقيادة « التاريخية » في عواصم باريس ولندن … خطاب « اسلامي » أشعرني بالألم حين باتت هذه القيادات تصدر البيانات لتتحدث عن صورة أخرى لم أعرفها في حياتي عن تونس وشعبها الطيب , اذ اختلطت الخصومة السياسية بالدين وبات الكل يؤصل خطابه باسم الشرع …   ماهذا الانزلاق الخطير في التفكير الاسلامي …؟! , وهل تحول المشروع من أرضية الدعوة الى الخير الى مرحلة تنصيب المحاكم والقضاء حكما على من هو في موقع السلطة …   السلطة التي اتهمها هؤلاء بمعاداة الدين أبانت بأنها تقدم خطابا اسلاميا جميلا ورائعا على شاشة التلفاز أكثر من الحركة الاسلامية نفسها , اذ يكفي المقارنة بين دعاة قناة الزيتونة الفضائية سابقا وبين دعاة قناة تونس 7 أو اذاعة الزيتونة للقران الكريم حتى يتبين للمنصف والمراقب العادل حجم الفارق …   اذا الخير موجود في بلادنا والحماسة للاسلام والدفاع عنه وعن قيمه ليست حكرا على حركة النهضة …   من هذا المنطلق اخترت أن أكون في هذه المرحلة الهامة من تاريخ بلادنا صوتا اسلاميا معتدلا ومستقلا , واثقا في قيادة الرئيس زين العابدين بن علي وعزمه على مواصلة مسار البناء والاصلاح والتطوير في مختلف أوجه الحياة  .   نعم ان تونس على مشارف الاستحقاق الرئاسي لسنة 2009 تحتاج الى كل أبنائها , وهو ماجعلني أعيد النظر بعمق في تجربة المنفى واليات التفكير السياسي المعارض , بل انني أقول بأن التجربة ولدت لي شعورا بالمرارة في ظل تخلي معارضين بارزين عن قيمهم الوطنية النبيلة وتهافتهم على الاحتماء بالجنسيات الأجنبية من أجل فرض التغيير من عواصم غربية…   نعم هناك في تونس نجاحات حققتها السلطة في برامجها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ومن يخالف هذا الرأي فهو مجانب حتما للحقيقة , وهذا الانطباع ينقله التونسيون في حلهم وترحالهم كما استمعت له من مئات المواطنين الألمان أو الأوربيين وحتى العرب الذين زاروا تونس , اذ ينقل هؤلاء صورة مشرقة وجميلة عن أيام أو أسابيع قضوها على أرض تونس …   واذا نقدنا الحكومة في بعض الرصيد الحقوقي لتوق جامح في محاكاة تجارب في الغرب أو لرغبة ملحة في تقوية الجبهة الداخلية والوطنية حقوقيا فان ذلك لايعفينا من أن نعترف بأن رصيد تونس على الصعيد التنموي أو الصحي او التعليمي او الاعماري أو الخدماتي … هو في حجم المأمول من بلد لايتوفر على امكانات مادية ضخمة متاحة لبلدان نفطية لم تحقق ماحققته تونس في ظرف تاريخي وجيز …   اذا ليس مديحا أن نقول الحقيقة وليس ثلبا أن نطالب بسد الثغرات وتجاوز العقبات  .   ولهذا وبمناسبة الانتخابات الرئاسية لسنة 2009  أعلن عن مساندتي للرئيس بن علي في ترشحه من أجل مواصلة المشوار على طريق الاصلاح والتطوير في مختلف المجالات , تحدوني الثقة في وجاهة خياراته المعلنة وماحققه من منجزات.   ان الدمقرطة والاصلاح وتحصين الجبهة الحقوقية  يكون في اطار النضال الوطني الداخلي الرصين وبمعزل عن تشكيل اللوبيات في هذه العاصمة الأجنبية أو تلك , وهو ماندركه اليوم عبر التأمل في تجارب أشقاء لنا في المغرب الأقصى وتركيا وبلاد عربية واسلامية أخرى  , اذ أن البناء الفعلي والتشييد والاصلاح يكون من داخل الأوطان وليس خارجها .   ان من يريد معاقبة أبنائنا بتغييبهم عن اتقان لغة الضاد ومعانقة تراب الوطن ومعرفة سماحة الاسلام بدعوى  » مواصلة المشوار  » سوف لن يجلب الا الخراب للأجيال القادمة …   هذه رؤيتي , والله الله في أبنائنا الذين ولدوا خارج تونس حين يضيع ولاؤهم للوطن والدين بين شوارع وحارات المهاجر  بدعوى الاصلاح والدمقرطة …    ** كاتب واعلامي من تونس
 
(المصدر: صحيفة « الوسط التونسية » (اليكترونية – ألمانيا) بتاريخ 12 أكتوبر 2008)

وزارة التعليم العالي والبحث العلمي والتكنولوجيا تنشأ »جائزة التنكيل » والابعاد والتجويع الجامعي »؟؟؟ »

 

مراد رقية لقد نعرضت في مناسبات سابقة وفي اطار التعرض الى مظاهر الرعاية والعناية الموصولة التي تحيط بها وزارة التعليم العالي السلك التدريسي الجامعي التونسي من خلال منظومتين متميزتين قل وجودهما في العالم أجمع *المنظومة الأولى هي « منظومة انصاف » المكرّسة من خلال البطاقة البيانية في الأجر،وفي غياب نظام أساسي لأسلاك التعليم العالي التونسي حالة الفقر المادي المتحول يوما بعد يوم الى ما هو أقرب الى العوز،هذه المختزلة لعذابات هذه الشريحة المحاصرة،المضحى بها،المنتهكة حقوقها عبر تفوق فصول الطرح والخصم على فصول المداخيل مما يضطر الجامعي الى الادمان على لباس الثياب المستعملة »الفريب »   وتجديد تطالب الحصول على القروض الشخصية والاستهلاكية حفظا لماء الوجه؟؟؟ *المنظومة الثانية هي »منظومة اذلال » التي تألقت بها الوزارة من خلال قطار الاجراءات العقابية مثل النقل التعسفي الى المنافي الداخلية والحرمان من الارتقاء بحجب الخطط،و  التجميد في الرتبة،والطرد الدائم أو الظرفي من الوظيفة،والحرمان من المرتب،ومن دخول  مؤسسة الانتساب،والتعجيل بالتقاعد للنقابيبن ولمناضلي المجتمع المدني الذين لم تضايقهم وزارة الداخلية والتنمية المحلية.ولا ننسى التقليعة الجديدة وهي  اجبارية الامضاء على قوائم الحضور في كل حصة درس،وضبط عددالطلبة المقاطعين أو المتغيبين،والاستيلاء عن غير وجه حق على المقابل المادي الضعيف أصلا للساعات الاضافية بدعوى عدم الحصول على ترخيص اداري مسبق برغم أن المستحق لهذه الحصص هي الوزارة وليس المدرس؟؟؟ وطالما أن هذه المرحلة تصادفت مع العودة الجامعية المرفوقة باحتفال الجامعيين بالعيد العالمي للمدرسبن يوم5 أكتوبر من كل سنة،وبالاعلان عن أسماء الفائزين بجائزة نوبل في مختلف الاخنصاصات.وبرغم أن كلتا المناسبتين تكرمان المدرسين والمدرسين الباحثين من العلماء خاصة في البلدان التي تحترم حقوق الانسان وتكرّم العلم وأهله،فان وزارتنا العتيدة وتماشيا مع هذا الجو الاحتفالي أنشئت »جائزة التنكيل والابعاد والتجويع الجامعي » التي استفاد منها بمجرد بعثها زميلان عزيزان هما الزميل الشملي والزميل الورتتاني.فكان مقابل الجائزة في الحالة الأولى حرمان من العمل ومن المرتب لمدة أربعة أشهر وخاصة من دخول مؤسسة الانتساب « لتجريده من الصفة الجامعية »،والنقل التعسفي من نابل الى صفاقس في الحالة الثانية تنشيطا للسياحة العقابية الجامعية؟؟؟ وكان بودي لو أرسلت الجامعة العامة للتعليم العالي وفي اطار الاحتفال بأول دورة لتسليم الجائزة  سيرة ذاتية مفصلة للزميلين المكرّمين من الوزارة تعدد فيها مناقبهما التدريسية والبحثية وتعليقها عبر مختلف مؤسسات التعليم العالي والبحث العلمي في تونس والخارج عبر الدولية للتربية،وتجهيز لقاءات بين الزميلين والقاعدة الأستاذية بقع فيها التأكيد على فرادة هذه الجائزة التي من الأكيد سيكون لها أكبر الأثر على تحفيز الزملاء الجامعيين خاصة منهم صغار السن المغرر بهم من قبل مقاولي »الصنف ـ »أ » »

بالفلاقي
بعد جملة التحويرات التي اقرها رئيس الدولة على الحكومة الموقرة و استبشر عديد المراقبين و المتتبعين للشان السياسي و المتضررين من سياسة بعض الوزراء المغادرين الذين اتخذوا من الرشوة و المحسوبية منهجا و طريقا للثراء الفاحش،و لعل ابرزهم على الاطلاق المدعو الصادق القربي المتهم بالفساد و الافساد مازال الجميع ينتظر ما ستجود به قريحة الوزراء الجدد من تعديلات للاخلالات الحاصلة في وزاراتهم و لعل لوزير التربية الجديد النصيب الاكبر من المعاناة حيث الارث الثقيل الذي تركه القربي و زبانيته من سمسرة و ارتشاء و شراء ضمائر للدفاع عنه بودنا ان يكون التغيير الوزاري فعلا قطعا مع منهج الاكتاف و المعارف و مناسبة لتصحيح الاوضاع المختلة و اعادة الحقوق لاصحابها و الكف عن تجاوز السلطة ما يلاحظ بعد التغيير الوزاري ان بعض الاصوات التي كانت تطبل للوزراء السابقيين قد خفتت بل الاغرب ان البعض لم يكلف نفسه حتى الدفاع عن ولي نعمته قد يكون ذلك عائد للمثل القائل الدنيا مع الواقف و لكن اظن انه – و تو باش نبدا نتكلم بالفلاقي من الرجولية على الاقل واحد كيف بن نصيب يقول كليمة مع الصادق القربي الى نازلة فيه الناس الكل تجبدلو في تاريخو انحب نقول لبن نصيب و من لف لفه راهو عيب عليك ما ادافعش على الراجل و هو الى خدملك مرتك في التعليم و الا نسيت النعمة و رد بالك تنسي انك كنت مكلف بمهمة عندو و يعطيك في متاعك تحت الطاولة باش تشوفه الاساتذة و المعلمين و كل مرة تتهم حد بالتخونيج و الا التطرف و الا الولاء للخارج خليك راجل و قول كلمة مع ولي نعمتك اما فيما يخص الصادق القربي و الله العظيم لا نسيبوا على قد ما حرقلي قلبي و منع بنتي من انها تكمل قرايتها بسبب الحجاب هاو قالو مشا لمصر سفير انا نقولو لو كان يهزوك لافغانستان منيش مسلم في حقي و لازم باش نفضحك على الجريم الى عملتهم الكل من منع التلامذة من القراية لطرد المدرسين دون ذنب الى حد هيكة الحكاية متع المرسى و الى تسببت في طلاق مرا من راجلها تو انوريك اشنوة معناها تعتدي على شرف بنات الناس و تغصب المديرات على اشياء لا يحبها لا ربي و لا العبد و نحب في الاخير نتوجه الى ابناء خنيس باش نقوللهم راه واحد كيف القربي ما يشرفكمش و ما يشرفش تونس و هاني تو كل مريرة نقول حويجة لينا تتكشف الحقيقة كاملة تونسي يتفاعل مع حملة كشف الحقيقة    نقلا عن مدونة لا للفساد http://anti-correption.maktoobblog.com
 

مشهد من حياة الرئيس: ح 2

أرجو من القارئ الكريم أن يقرأ مقال الأخ عبد الرحمان خليفة  » مشهد من حياة الرئيس » الذي نشر في تونس نيوز بتاريخ 5 جانفي 2008 ليفهم هذا المقال الذي يعد متابعة له.  

نثريات الفرزدق الصغير (…) يجلس الرئيس وقد سرّي عنه بعض الشيء. يُطرق الباب، فيدخل مدير الديوان الرئاسي وعلى وجهه علامات الضيق والتعب. الرئيس ينظر إليه كالحا ويسأله: ما بك يا حمار.  المدير: الطبيب الفرنسي ما زال واقفا في قاعة الانتظار يا سيدي ويرفض الانصراف قبل صرف أتعابه. الرئيس: الغبي، ألخبر السوء الذي حمله إلينا؟ ثم يضيف: وكم يريد؟ يتلعثم مدير الديوان ويتلفظ بمبلغ لو صرف نصفه على بعض مناطق الظل لأخرجها من الظل. الرئيس: حاولْ أن تتخلص منه بطريقة ما، قل له أن يترك فاتورة وسنسدد له المبلغ لا حقا. المدير: إنه يرفض يا سيدي، وأنت تعلم أنه لو كان ابن البلد لتيسر الأمر، أما هذا فقد يورطنا في أزمة دبلوماسية مع السلطات الفرنسية. الرئيس: حسنا، انظر في خزينة صندوق 26 26 ، وانظر إن كان يكفي لتسديد نصف المبلغ وقل له أن يصبر حتى نتمكن من تجميع الباقي في السنة المقبلة. ولا تنس أن تثبت المبلغ بوثيقة صرف واكتب عليها: تم إنفاق المبلغ في المصلحة العامة. يهم مدير الديوان بالخروج فيتداركه صراخ الرئيس يسأله: أما زال طبيبي الخاص هنا؟ المدير: نعم يا سيدي. الرئيس: حوّلْ ملفه إلى الاستعلامات، وقل لمحمد الناصر أن يعنون المحضر في حقه بالتآمر على أمن الدولة والتفريط الشديد والخيانة العظمى، ثم ليحولوه على أنظار محكمة الجنايات، ولينظر في القضية القاضي محرز الهمامي في جلسة لا يحضرها المحامون ولا ممثلوا الإعلام الوطني أو الأجنبي لتعلقها بأمن الدولة. المدير: الاستعلامات يا سيدي ليس لديها الترخيص لإحالة المتهمين إلى المحاكم، لا بد أن يمر الأمر بمصلحة أمن الدولة أو بفرقة الإرشاد. الرئيس: لا تعنيني هذه المسائل يا أبله، تصرفوا أنتم فيها، المهم هو التكتم وتسليط أعلى الأحكام على هذا الخائن.    يخرج مدير الديوان، ويسترخي الرئيس على أريكته المفضلة التي تم فحصها من طرف خبير أمن القصر قبل أن يجلس عليها. هنيهة قصيرة، ويدخل الحارس الشخصي للرئيس. طويل عريض مظلم الوجه لا يبتسم لغير الرئيس، ولو فعل لاتهم بالتآمر على أمن البلاد. يرفع الرئيس رأسه إليه وقد أنهكه التعب، ولم تمر عليه أوقات عصيبة كهذه منذ تخلص من جماعة النهضة واطمأن إلى أنهم ما بين قتيل وسجين ومهاجر وشريد، ثم يقول له: تأخرنا الليلة؟ الحارس نعم سيدي لم آت إليك حتى اطمأننت أن كل شيء على ما يرام، وأن طريقك إلى غرفة نومك آمن، وقد تم فحصه من قبل الخبير للتوّ. الرئيس يتنحنح، ثم يقوم على نفسه فيترنح فيتداركه حارسه الوفي فيمد إليه اليد ليعينه على النهوض، ثم يسيران وحارسه يمشي طورا أمامه وطورا خلفه ثم عن يمينه فعن شماله، دون أن يترك النظر إلى الأعلى، إلا أنه لا ينظر إلى الأسفل لأن خبير أمن القصر قد كفاه عناء ذلك. يقترب الرئيس من الحجرة وعندها سدرة المنتهى التي لا يتجاوزها أحد دون إذن إلا احترق، ما عدا الحارس الليلي للرئيس وربما زوجة الرئيس أيضا. حجرة نوم الرئيس ليست كغيرها من الحجرات. ولهي أشبه ما تكون بحجرات أهل الجنة، يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها، ولها أربعة جدران أحدها من الإسمنت المسلح المسلّح، والثلاث الباقيات من الزجاج المقوّى المقوّى، وليس فوقها شيء غير سقفها المؤمن ضد السقوط بسقف آخر مؤمّن بدوره، ويتسلسل الأمر بلا استحالة خلافا لمبدأ التناقض الذي قرره الفلاسفة. لا شيء يوجد أيضا حول الحجرة إلى مسافة آمنة مدروسة سلفا من الخبراء. وبعد أن يدخل الرئيس حجرته ويغلق بابها يتقدم الحارس ويضع عليه سجلا لا يفتحه غيره حتى الصباح، ثم  يظل الوفي ينظر إلى سيده من خلف الجدار الزجاجي ولا يلتفت حتى يشير إليه الرئيس بالاتفات، ثم يظل هناك قائما عند رأسه لا ينام حتى يستيقظ الرئيس.  ظني أن الحارس يجهد هذه الليلة ليخفي تبرمه من هذه السهرة الطويلة التي ستكلفه حتما ساعات من العمل الإضافي في الصباح، ولعله يذكر دعاء أبويه عليه فلا يشتغل مثل شغله إلا « مِدْعِي والديه ». على خلاف العادة، لم يشر الرئيس إلى حارسه بالالتفات هذه الليلة، فالأمر لا يستدعي، لأن الحرم المصون غضبت وذهبت لتنام في غرفة أخرى بالقصر. ويالها من مشكلة… لم يدر الرئيس لها حلا، فجلس المسكين يفكر وعيناه تجاهدان النوم، فرققت لحاله واقترحت عليه أن يسترضيها بهدية لم تكن تتوقعها، فقبلت لتوها وعادت إليه تسابق أنفاسها. وعند دخولها أذن الرئيس لحارسه بالالتفات، والزوجة تتابع حركته ويكاد لسانها أن ينطق من نفسه، فلم تتمالك إلا أن استدار الحارس لتقول بلهجة ملؤها البشر والسرور: أحقا ستنجز وعدك لي يا حبيبي. وهل أخلفتك أبدا وعدا! أجابها الرئيس. الزوجة يا لسعادتي، أخيرا سيتحقق حلمي وأصبح حلاقة عالمية. الرئيس: أتظنين زوجك يمزح؟ غدا صباحا سأرفع طلبا عبر وزير الخارجية إلى هيئة الأمم المتحدة برغبة بلدنا في فتح محل حلاقة وتجميل خاص برؤساء الدول وممثلي البعثات الدبلوماسية. وسأتصل ببعض وكالات الإشهار وسأطلب منهم أن يعتمدوني كنموذج لترويج الخدمات التي يمكنك تقدميها، وليأخذوا صورتي فجر التغيير مثالا، ولينظروا كيف كنت أبدو فيها وقد غزا الشيب رأسي، وليقارنوها بصورتي  الآن وسيروعهم كيف صرت اليوم رغم مرور عشرين عاما. الزوجة: آه يا حبيبي. الرئيس: حياتي بعدك مستحيلة. الراوي: لا نستجيز بعد هذا مواصلة الحديث ولندع الأحبة ينامون إذ تنتظرهم مفاجأة عند الصباح. إلا أنا لا نستطيع أن نخفيكم كم حلمت الزوجة بفوز المرشح الأسنّ في انتخابات الرئاسة الجارية، ذلك أنها لا تملك شيئا تقدمه للمرشح الشاب.  
 كاتب المقال: نثريات الفرزدق الصغير  

مشهد من حياة الرئيس

 

عبد الرحمان خليفة الرئيس يجد ألما غريبا أسفل البطن تحت المثانة فيستدعي طبيبه الخاص. الطبيب بعد الفحص، يفكر مليا، ويتساءل في حيرة: كيف يبلغ الرئيس بالخبر الفاجعة، وكيف سيفسر غفل عن متابعة صحة الرئيس حتى انتهت إلى هذا الحد. ثم يقرر أن يطلب مهلة للتصريح بالحكم. الرئيس: يا أبله، متى كنا في بلدنا نعذب المتهمين ونطيل انتظارهم حتى يصرح بالحكم؟ ثم استدرك قائلا: الآن صرح بالحكم،عجل هيا. أحس الطبيب أنه في ورطة وفكر في خطة، وقرر إبلاغ الرئيس بأن الأمر لديه غير واضح، ونصحه بأن يستشير بعض الأخصائيين من أوروبا. في الحقيقة نقول أن طبيب الرئيس لم يكن جاهلا بمرض سيده، فهو أحسن طبيب في البلد، ولكنه خشي أن ينكل به لأجل بشرى السوء التي يحملها إليه، فقرر أن يضعها في رأس أحد الأوروبيين، ذلك أن حكومته ستحمي ظهره. اغتم الرئيس لهذه المقولة، وهاتف طبيبا فرنسيا، وأمره بما لم يعهد من الأدب، أن يستقل أول طائرة إلى البلد. لبى الطبيب الخبر وجاء على الفور، وبدأ يجري فحوصات غريبة على الرئيس ، ثم طلب منه أن يقوم ببعض التحاليل. استجاب الرئيس على مضض، إذ ليس من عادته أن يستجيب لشيء أبدا. وكان عليه بعد ذلك أن ينتظر النتيجة، واغتم المسكين من ذلك الانتظار غما لو سلط مثله على أشد المعارضين صبرا لأخبر عن كل أصحابه، بما فيهم من ينوي الانتساب. ولأقر أنه كان يخطط لانقلاب. أسبوع من الانتظار المرير. لم يتعود الرئيس أن ينتظر طويلا تنفيذ طلباته. يدخل الطبيب الفرنسي على الرئيس وينظر إليه في عينيه بإصرار، والرئيس يبادله النظرات متعجبا أن هناك من يجرؤ على النظر إليه في عينيه. يجلس الطبيب ويأخذ نفسا، ثم يخبر الرئيس دون أي مقدمات، بأنه مصاب بسرطان في البروستات. ذهل الرئيس، وشك على غير عادته في فهمه للفرنسية، وتمنى لو أنه واصل تعلمه الذي أنهاه مبكرا (ثالثة ثانوي)، ثم نادى المترجم. المترجم يسأل الطبيب، والطبيب يعيد عليه ما قال للرئيس؛ أحس المترجم أنه في ورطة، وفكر في خطة، وسأل الرئيس: ماذا فهمت من قول الطبيب يا سيدي؟ أجاب الرئيس: هذا المجنون يزعم أني مصاب بالسرطان. فقال المترجم على الفور: إن فهمكم الحصيف يا سيدي الرئيس لا يخطأ أبدا؛ وأضاف قائلا: يا سيدي، من كان له مثل فهمكم وحكمتكم المتعالية لا يحتاج لمعونة مثلي. نظر الرئيس إليه شزرا وقال: أتهزأ بي يا غبي، أيصاب مثلي بالسرطان؟ المترجم: ما قلت هكذا يا سيدي، أنا قلت أن فهمكم لا يخطئ أبدا. الرئيس: أخرج عني، يا أحمق، أنت مقال. خرج المترجم مسرعا وهو يسأل الله – الذي نسي ذكره إلا سبا من يوم دخل القصر- بأن لا يدركه حرس الرئيس وينكلوا به، ولم يكن قد وقع في شر أشد من هذا طوال سنوات الخدمة. الرئيس يسأل الطبيب من جديد: وما العمل الآن. الطبيب: القطع يا سيدي. الرئيس: قطع ماذا يا مجنون؟… ثم اعتذر عن كلمة مجنون خوفا من أن يتم استدعاء السفير. الطبيب: قطع البروستاتة، ولكني لا أضمن لك أن الخلايا السرطانية لا تمتد إلى أماكن أخرى، وهذا يخضع لأمر الله كما سمعت المسلمين يقولون هنا. الرئيس يقول لنفسه: عجبا للفرنسيين، صاروا يتحدثون كالإسلاميين، هذا الأبله لا يدري ما كان سيناله من جراء قوله الأخير هذا لو لم يكن فرنسيا. ثم فكر بعد ذلك: ومن لزوجتي؟، ثم أمر الطبيب بالخروج ،ودعا زوجته لجلسة عائلية، لا يحضرها الحرس (وهو أمر نادر، فحرسه يخافون عليه من أنفسهم). الرئيس: حبيبتي، طوال هذه السنوات سعيت في إسعادك وما قصرت، كانت علاقتنا زواجا وصداقة، وكنت لي قرينة وحلاقة، وقد تركت لك منذ التحول أن تحولي بياض شعري سوادا، وإلى اليوم ما بدلت تبديلا. جعلتني أبدو أكثر نضارة من شاب في العشرين، وأنا الآن فوق السبعين. الزوجة: قل سيدي: ما يشغلك. الرئيس: السرطان. الزوجة: كم تشغل نفسك بشعبك، ما عليك منهم، أأنت مسئول عمن يصيبه السرطان؟ صدقني سيجدون الحل مع السرطان كما وجدوه مع الفقر. الرئيس: لا يا زوجتي، السرطان أصابني أنا هذه المرة، وفي البروستاتة، وأخبرني الطبيب أن القطع هو الحل. الزوجة: قطع ماذا؟ الرئيس: البروستاتة. الزوجة: وأنا، ألم تفكر في مصيري؟ الرئيس: هل لديك حل؟ أنت التي قدرت على خلايا شعري فجعلتهن سودا كزنزانة السجين، أتعجزين أن تفعلي شيئا مع خلايا السرطان اللعين؟ الزوجة: لو أن السرطان أصاب شعر رأسك لنزعته ولزرعت لك شعرا غيره، ولهان الأمر، ولكني لا أحسن نزع البروستاتة وزرع غيرها. ثم أضافت في دلالها المعهود: أعلمك أيضا، إذا لم تجد حلا وقصرت في واجباتك الزوجية معي، فلا تطمع مني بأي التزام مهني بعد ذلك (تعني صبغ الشعر). الرئيس ينزعج ويأمر على الفور بدعوة كبار جلادي الأجهزة الأمنية، القانونية واللاقانونية: بوكاسا (فرقة أمن الدولة)، الجوادي (فرقة الإرشاد)، محمد الناصر (فرقة الاستعلامات)، دحروج (جلاد متجول بين الفرق). حضر الجميع في ساعة متأخرة من الليل ولم يكن يبدو عليهم التعب، فلطالما سهروا لأجل الرئيس » تتجافى جنوبهم عن المضاجع ». الرئيس يقول: أنتم الذين سحقتم أكبر قوة سياسية معارضة في البلد، ومن لم يسجن منهم فر هاربا، واليوم رئيسكم يريد منكم حلا لمشكل عويص. الجلادون معا: أي مشكل يا سيدي؟ الرئيس: السرطان. تلكأ الجلادون عن الجواب، وفكروا أن السرطان قد يكون اسما حركيا لبعض المعارضين، وظنوا خراب بيوتهم: إذ كيف يصل الأمر إلى الرئيس دون علمهم، وفكروا أنه قد يكون هناك جهاز أمني سري آخر لا يعلمون به، فسكتوا ولم يجيبوا. الرئيس: انطقوا. الجلادون: ماذا تأمرنا أن نقول يا سيدي؟ نحن تحت أمرك، أنت تكتب ونحن نوقع. الرئيس: هذه تعلمتموها من الإسلاميين ها… قولوا، ماذا أفعل مع مرض السرطان الذي أصابني في البروستات؟ تنفس الجلادون الصعداء، لأن الأمر كان على خلاف ما تصوروا. « ثم نكسوا على رؤوسهم » لأن محنتهم لم تنتهي بعد. تلكئوا قليلا، وأحسوا أنهم في ورطة، وفكروا في خطة. وقالوا: أشرعلينا يا سيدي بحكمتك المتعالية. الرئيس: كيف كنتم تفعلون مع عناصر النهضة وبقية المعارضين لتنتزعوا منهم الاعترافات؟ ربما نجد في ذلك حلا لنزع السرطان. بوكاسا: كنا نغمس رأس أحدهم في الماء حتى يتنفس الماء برئتيه، ثم نسحبه قبل أن يلفظ أنفاسه فيقول ما عنده وما ليس عنده. وختم تدخله بأداء التحية. الرئيس: غبي، ليس لدي سرطان في الرئتين يا أحمق، اغرب عني. بوكاسا يخرج فرحا مسرورا بخلاصه. الجوادي: كنا نضع العصي والهراوات في مخرج أحدهم يا سيدي فينطق فمه بما عنده وما ليس عنده. وختم تدخله بأداء التحية. الرئيس: ما هذا بحل أيضا، البروستاتة بعيدة عن المخرج، أخرج عني، أحمق من بوكاسا. الجوادي يخرج فرحا مسرورا بخلاصه. دحروج: كنا نحرق أجهزتهم التناسلية بالكحول والايستير يا سيدي، وقد نربط عضو أحدهم بخيط رفيع قوي ثم نجره فيأتي بما عنده وما ليس عنده. وختم تدخله بأداء التحية. الرئيس: ولا هذا أيضا، أنا أريد أن أقلل الضرر وهو يريد أن يفقدني كل شيء. أخرج عني، أحمق من أخويه. دحروج يخرج فرحا مسرورا بخلاصه. بقي محمد الناصر الذي حصل على جائزة الرئيس سنة 1992 لقاء جهوده ضد الإسلاميين يواجه مصيره المجهول، وقال في نفسه: إما أن أجد الحل أو أن تسحب مني الجائزة (وهو يعلم أن استحقاق الجائزة والحفاظ عليها يحتاج إلى كدح مستمر، وإن هو قصر في ذلك، نكـّس في الوظيفة، وأعيد إلى أدنى رتبة شغلها في مشوار عمله). ثم قال: يا سيدي، لقد قرأت في كتب وجدناها في بيوت أعدائنا الإسلاميين كلاما يقول « آخر الدواء الكي »، وقد كنا، وإلى اليوم لازلنا، إذا تصلب أحدهم تحت العصا، نطبق عليه هذا القول فنطفأ السجائر على جهازه التناسلي، حتى كان أحدهم يأتينا بـ »أخيه وأمه وأبيه وصاحبته وبنيه » « وفصيلته التي تؤويه ». ثم أضاف: أنا أرى أن دواء السرطان هو الحرق الموضعي المركز في المنطقة، دون استثناء الخلايا المتعاطفة، حتى لا يستفحل الأمر في بقية الأماكن، ثم نخضع بقية الخلايا المحيطة إلى المراقبة الأمنية، وكل خلية نشك في توجهاتها مجرد شك نحرقها دون تردد، ولا ننتظر حتى نتأكد من براءتها. لقد فعلنا مثل هذا يا سيدي، وقد أجدى مع الإسلاميين. وختم كلامه بأداء التحية. الرئيس: أحسنت يا محمد الناصر، إن فيك شيئا من حكمتي، حقا، إن هذا لهو الحل. عد إلى بيتك الآن.. خرج محمد الناصر وهو يشكر العهد الجديد الذي مكنه من اقتحام بيوت الإسلاميين ليلا واحتجاز كتبهم وقراءتها…وقال في نفسه: سأواصل قراءة ما عندي من محجوز، وسأراجع كل المحاضر، فربما أجد فيها شيئا آخر أتقرب به إلى الرئيس وأنال به جائزة أخرى… الراوي: هل شفي الرئيس يا ترى ؟؟؟؟؟؟  

محفل القدس قصيدة بقلم: أبوجعفرلعويني
12/10/2008
محفل القدس بدوحة العزّ اكتمال* بموكب النّصر جامع الإسلام نظرت إلى وجوه القوم بحثا***عن الأخزوري أو وجه النّظام فلم أظفر وقد  جالت عيوني***ولكن بحمد الله شيخ ذو احترام أطلّ بالشّاشة وجه ذو وقار***راشد والرشد فيه برّا بلا ملام يمثّل تونس في  نصر قدس***بدوحة الخير مع  الملإ  الكرام شمخت عزّا  و طبت  نفسا * كيف لا والقيروان فانوس الظّلام زيتونة ميمونة للعرب تنتمي* بتونس الخضراء  تثقيف العظام لا خير في شعب إذا ما شذّ عمدا**عن الجماعة في نيل المرام بدين الله  يسمو إلى المعالي *** ثمّ  يحيا  حياة عزّ بلا انهزام  

تحالف «حماس» مع الأردن ضد فكرة الوطن البديل

  توفيق المديني تتزايد التقاريرالسياسية  الواردة من الأردن ، التي باتت تتحدث عن إغراء الإسلاميين للنظام في الأردن بإقامة تحالف استراتيجي مع حركة «حماس» من أجل مواجهة فكرة الوطن البديل ، في ظل استعصاء  إنشاء دولة فلسطينية و طرح الخيار الأردني البديل  . و ما يؤكد هذا التوجه نحو التحالف هو حالة الحوار القائمة منذ فترة  بين حركة المقاومة الإسلامية «حماس» بقيادة عضو مكتبها السياسي محمد نزال ، و الفريق محمد الذهبي مدير المخابرات العامة الأردنية. لاشك أن هناك أسبابا كثيرة تدعو الأردن و جماعة الإخوان المسلمين و حركة «حماس» إلى مثل هذا التلاقي الموضوعي ، ومنها: أولا:إن الوقائع الاستيطانية الإسرائيليةعلى الأرض بلغت حداًيجعل قيام «دولة فلسطينية  قابلة للحياة» حسب التعبير الذي أطلقته الدبلوماسية الأميركية منذ سنوات مهمة مستحيلة.فالإستيطان بات يشكل عقبة بنيوية لإسرائيل في أية تسوية . ثانيًا:إن الخريطة السياسية  القائمة في إسرائيل ، و التي تؤكد معظم المعطيات (استطلاعات الرأي )و المؤشرات، على استمراريتها و تعمقها في المستقبل المنظور، تتناقض  كلياً مع فكرة إقامة دولة فلسطينية مستقلة أو حتى شبه مستقلة. فاليمين الإسرائيلي بشقيه المتدين والعلماني، يشغل في اللحظة الراهنة مايزيد عن 70 في المئة من مقاعد الكنيست ، وهو ما يجسد وزنه الفعلي في المجتمع الإسرائيلي الذي يزداد تطرفاً و عدوانيةً. ثالثاً:إن إسرائيل سوف تربط موافقتها على نشوء دولة فلسطينية  بالتزام فلسطيني موثق بإنهاء الصراع،بما يقتضى الإعتراف لإسرائيل بحقوق ـ سوف تعينها في المفاوضات ـ وبشكل مطلق في فلسطين التاريخية، وبما ينهى أي مطالب سابقة أو لاحقة للفلسطينيين تجاه إسرائيل، مثل تطبيق القرار رقم 181 الخاص بتقسيم فلسطين (1947)، والقرار 194 لعام 1948 الخاص بعودة اللاجئين أو العودة لخطوط الهدنة لعام 1949. ومع ذلك، فإن بقاء الوضع في الضفة الغربية وغزة على صيغة الحكم الذاتي لا يمكن أن يستمر طويلاً، فالحكم الذاتي كخيار نهائي مرفوض فلسطينياً، أما الدولة الفلسطينية المستقلة فلا يزال القادة الإسرائيليون مقتنعين وبإصرارأن إقامتها الفعلية يجب أن تكون من خلال الوطن البديل في الأردن.وينتاب الحكم الأردني في الوقت الحاضر خوف  حقيقي  من احتمال حل المشكلة الفلسطينية على حساب الأردن، وهي مخاوف كانت تبددت أوتقلصت إلى حد كبير خلال السنوات القليلة الماضية. فهناك تطوران أساسيان حركا مجددا هذه المخاوف الاردنية. التطور الأول إصرار الحكومة الإسرائيلية على إقامة «إسرائيل الموسعة» من خلال ضم التكتلات الإستيطانية الثلاثة الكبرى في الضفة الغربية إليها، وإكمال بناء الجدار الأمني، والإحتفاظ بالسيطرة على غورالأردن. التطورالثاني إصرار «حماس» الآن على رفض أي صيغة عربية أودولية للإستجابة للمطالب الأميركية و الإسرائيلية .واذا ما ظلت «حماس» متمسكة بموقفها هذا فسوف ترى الحكومة الإسرائيلية في ذلك مبررات إضافية لتنفيذ مخططها التوسعي. ومن وجهة النظر الأردنية، إذا لم تنطلق عملية تفاوض جدية فلسطينية إسرائيلية بإشراف دولي ملائم وعملت الحكومةالإسرائيلية  على تنفيذ مخططها التوسعي بقرارات أحادية الجانب، فلن تقوم دولة فلسطينية حقيقية متكاملة في الضفة الغربية وغزة بل سيكون هناك «غيتوفلسطيني»، و«كيان فلسطيني مبعثر» وسيجد الفلسطينيون أنفسهم أمام أحد خيارين: إما الخضوع، ولفترة طويلة غير محددة للهيمنة الإسرائيلية المباشرة وغير المباشرة عليهم، وإما الهجرة إلى الأردن، مما قد يمهد لقيام دولة فلسطينية بديلة هناك، إذا ما اعتمد الإسرائيليون هذا الخيار لتسهيل ضم أراضي واسعة من الضفة الغربية إلى الدولة اليهودية، وإذا ما تساهلت الدول الكبرى مع هذا المخطط الإسرائيلي. في تقرير صادر عن صحيفة الشرق القطرية بتاريخ 26 سبنمبر 2008، جاء فيه أن  أن وكالة « قدس برس» المملوكة من قبل «حماس» نشرت  مؤخرا تقريرا نسب للرئيس الفلسطيني محمود عباس عرضه على العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني مشروعا يقضي بتوطين اللاجئين الفلسطينيين في الأردن مقابل مبلغ عشرين مليار دولار تدفع له من قبل الولايات المتحدة والإتحاد الأوروبي وعدد آخر من الدول من بينها دول نفطية عربية على مدى عشر سنوات. ويتبنى موقع جماعة الإخوان المسلمين في الأردن هذه الرواية، كما أن موقع «حماس» المسمى المركز الفلسطيني للإعلام دأب مؤخرا على نشر بيانات وتصريحات حركة اليسار الإجتماعي المعروفة بتحيزها الإقليمي ضد الوجود الفلسطيني في الأردن، وذلك بهدف تأكيد جدية موقف الحركة في توفير شبكة أمان فلسطينية لوجود وبقاء الكيان الأردني، الذي تستشعر الحكومة الأردنية مخاطر تتهدده. ويقول موقع جماعة الإخوان المسلمين الأردنيين صراحة «إن حركة حماس تعتبر الضمانة الوحيدة في هذا الوقت للوقوف إلى جانب الأردن في معارضته لفكرة الوطن البديل والتي تستهدف الأردن لتوطين اللاجئين فيه». وتشير دراسة نشرها موقع جماعة الإخوان المسلمين، وأعدها جواد الحمد مدير عام مركز دراسات الشرق الأوسط، وهو مركز قريب من حركة «حماس» والإخوان المسلمين في الأردن، وكان عضوا مبكرا في حركة المقاومة الإسلامية، إلى أنه «استراتيجيا شكلت الحركة الإسلامية في الأردن عاملا أساسيا من عوامل الاستقرار السياسي في المملكة الأردنية الهاشمية، وقد تضافر هذا العامل دوماً مع مصلحة الحكم في منعطفات وأزمات عدة مرت بها المملكة، كما شكلت صمام الأمن الاجتماعي للمملكة، سواء على صعيد رعايتها الاجتماعية للفقراء والمحتاجين، وإشرافها على مؤسسات صحية تكمل جهود الحكومة القاصرة عن تلبية كل الاحتياجات، أو على صعيد التحصين الفكري والتربوي، الذي تقوم به في المدارس والمساجد في مختلف أنحاء المملكة».   (المصدر: صحيفة المستقبل ( يومية – لبنان) بتاريخ 11 أكتوبر 2008 )  
 

ليفني لن تصنع سلاماً

رشيد خشانة (*)   فضل الفلسطينيون تسيبي ليفني على وزير الدفاع السابق شاؤول موفاز، لأن ما يهم الأخير هو أمن إسرائيل فقط، وهو إلى ذلك بطل المجازر التي استهدفت تجمعات الفلسطينيين خلال اجتياح الضفة الغربية على أيام الانتفاضة الثانية. لكن رئيسة الوزراء الجديدة (في حال نجاحها في تشكيل الحكومة) أسيرة نظام برلماني يفرض اللجوء إلى حكومات ائتلافية يمكن أن تشمل حتى «الليكود» أو تحرص على إرضائه على الأقل. وهذا ما يجعل وزراء يحملون رؤى متباعدة عن مستقبل العلاقات مع الفلسطينيين وسوريا ولبنان ويجلسون جنبا إلى جنب حول مائدة مجلس الوزراء. وبغض الطرف عما إن كان هذا التجاذب هو من باب توزيع الأدوار مثلما يرى البعض أم خلافا حقيقيا في شأن التسوية، فإن رئيس الوزراء في إسرائيل لا يستطيع اتخاذ قرارات مصيرية ويُمضي الوقت في مفاوضات عقيمة مع السلطة الفلسطينية. هذا معناه أن السلام يُقسم الأحزاب الإسرائيلية والحرب توحدها. لكن هل يمكن للفلسطينيين أن يعودوا إلى جلسات تفاوض لا تنتهي مع ليفني كي يكتشفوا أنها غير قادرة على اتخاذ قرارات فينتظروا رئيس الوزراء المقبل عله يكون رجل سلام؟ إسرائيل ترفض منذ أيام الشهيد ياسر عرفات الاعتراف بمنظمة التحرير كشريك لها في المفاوضات لأنها تمثل كافة أبناء الشعب الفلسطيني بمن فيهم المنفيون في الشتات. ويمكن القول: إن إسرائيل قطعت شوطا كبيرا في تجفيف ينابيع المنظمة لإفراغها من مضمونها وشطب دورها من المعادلة نهائيا وتحويلها إلى نصب تذكاري. من هذه الزاوية كانت جميع اللقاءات التي جرت في الماضي وتلك التي تجري حاليا اجتماعات خاوية لم تؤد إلى إعطاء دفعة للمسيرة السلمية، لا بل عملت على إعاقتها وإزالة جميع العناصر التي يمكن أن تقود إلى حل عادل، خاصة في ظل عمليات الإرهاب التي تنفذها الدولة الإسرائيلية بمباركة الإدارة الأميركية. أكثر من ذلك، نلاحظ أن إسرائيل تستهين برموز «السلطة الفلسطينية» لأنها سلطة محلية أشبه ما تكون ببلدية كبرى مجردة من الصلاحيات طبقاً لاتفاقات أوسلو، ولذلك لا نستغرب عندما نرى أنها تعتقل وزراء «السلطة» أو تحتجز مواكبهم. وخلف قاعات المفاوضات الوثيرة، ينشط المستوطنون متسلحين بالجرافات ومحميين بمدرعات الجيش للاستيلاء على مزيد من الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك القدس الشرقية، لاستكمال تهويد فلسطين التاريخية وتكريس أمر واقع جديد. لن يقبل الفلسطينيون في ظل هذا الانتظار الأبدي للسلام أن تستمر مشاركة السلطة في أكذوبة المفاوضات لإيهام العالم بأن السلام آت. حتى في أوساط الرئيس محمود عباس ارتفعت أصوات دعت لحل السلطة كي يعود الوضع إلى الإدارة العسكرية، وتحمّل إسرائيل مسؤولياتها بوصفها قوة احتلال طبقا لمُقتضيات القانون الدولي وقرارات مجلس الأمن. لكن هذا المأزق ليس مأزق إسرائيل الماضية في كسر عزلتها الدولية من الصين إلى أميركا اللاتينية، وإنما هو مأزق العرب الذين عجزوا عن تقديم الدعم اللازم للفلسطينيين كي يُسمع صوتهم ويُؤخذ برأيهم في المفاوضات. فمبادرة السلام العربية وُضعت في الدفاتر وضُمت إلى أرشيف الجامعة العربية السميك. لم يُشكل لها فريق عمل، وحتى لو وُجد لكان مصيره شبيها بلجنة متابعة الأزمة التي كادت الجامعة في الثمانينات تُضطر لتشكيل لجنة خاصة… لمتابعتها. وفيما تمر إسرائيل بحالة من الفوضى والاضطراب بسبب الفضائح المالية والأخلاقية التي تلطخ سمعة سياسييها، يعجز العرب وخاصة الفلسطينيون عن اقتناص الفرصة لإجبارها على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة، بسبب انشغالهم بالصراعات الداخلية. ولذلك يتكرر السؤال: إلى متى هذا الخصام بين الفصائل الفلسطينية الذي لم يعد سرا أن إسرائيل هي التي تُغذيه؟ (*) كاتب تونسي  (المصدر: صحيفة ‘العرب’ (يومية – قطر) الصادرة يوم 11 أكتوبر 2008)  

«أوباما» في قلب إعصارٍ خريفيّ ثانٍ

احميدة النيفر (*)  لم يتردد البرنامج النقدي المُتلفَز: «الدُمى» الذي يُتابَع بنجاح منذ سنوات على إحدى القنوات الفرنسية الخاصة، في ترجيح نجاح الجمهوري «ماكين» في الانتخابات الرئاسية شهر نوفمبر القادم. يعلل البرنامج، في سخرية مُرّة، احتمال فشل «أوباما» ونجاح منافسه بعنصر أساسي: حداثة خطاب «أوباما» وعمقه إزاء شعبية «ماكين» وسذاجة رؤيته. «ماكين» يبدو أقرب إلى النجاح لأنه لا يفتأ يذكّر بأمجاده وبسالته في تحمّل أهوال الحرب، مدّعيا معرفةً جيدة بأحوال العالَم وكفاءةً عالية في حسم ملفات السياسة الخارجية. هو بذلك يداعب من جهة مخيالا أميركيا شديد التعلق بالأبطال والبطولات، ويواصل من جهة أخرى تركيز مفهومٍ للحكم، بُطولي هو الآخر، مفهومٍ يُقدَّم فيه الرئيس الجديد على أنّه المُخَلِّص وأنّه مع أعوانه ومساعديه قادرون بجدارة على تصفية التركة الكارثية للرئيس المُتخلّي. أما المنافس الديمقراطي ففشله -حسب هذه القراءة- شبه مؤكد لأنه يعتمد خطابا سياسيا مركّبا يتطلب درجة من الوعي وحصافة في الرأي يعسر توفرهما لدى ناخبين تكالبت عليهم مشاكل البطالة وتراجع القدرة الشرائية وفقدان الثقة في المؤسسة المالية. «أوباما» يبدو كالقادم على غير أهله، فهو -رغم خصاله الشخصية– يتجنّب النزعة القيادية التي تجعل الرئيس الجديد منقذا للأمة من محنتها الخانقة، ليتبنّى عوضا عن ذلك عنصرا جديدا على عالم السياسة الأميركية هو قدرة التحديث الثقافي. من تابع مسيرة المرشح الديمقراطي وجملة من خطبه في حملته هذا العام، خاصة خطاب مدينة «فيلادلفيا» في شهر مارس المنقضي، أدرك تفرّده مقارنةً بمن سبقه من مرشحين مختلفي الأعراق والمذاهب. كيف تكلّم «أوباما» في «فيلادلفيا»؟ في مدينة التاريخ والثقافة، اختار المرشح الديمقراطي عنوانا واعدا لخطابه هو: «من أجل اتحاد أَكْمَل للأمة»، تناول فيه قضيتين شائكتين هما الدين والأعراق. تكلم في مدينة «أُخُوَّة المحبة» عن التعددية الإثنية والدينية برؤية جديدة تضامنية، دقيقةٍ في عبارتها، واضحة في حُجِّيتِها بما أحرج منافسيه السياسيين وعددا من الإعلاميين وعموم التقليديين الذين يتجنبون مناقشة علاقة السياسة بهذين الموضوعين. حين تناول أوباما القضيتين المحظورتين اللتين لا يتطرّق إليهما الساسة إلاّ همسا أو في دوائر مغلقة وبعقلية توظّيفية تخدم الأهداف الحزبية والمصالح الشخصية، فإنّه عبّر عن تصوّر آخر لطبيعة الحكم يقوم على رؤية ثقافية-سياسية حداثية. ينطلق أوباما في هذه المعالجة من إقرار مُتَعمَّد بأنه «أسود» رغم أنّه في الواقع أسمر هجين. وفد أبوه، المسلم الإفريقي من كينيا، على الولايات المتحدة للدراسة حيث تزوج من أميركية بيضاء من ولاية كنساس، مع ذلك فإن الابن المُوَلَّد الأميركي اختار أن يصنّف نفسه على أنّه أسود. لم يتنكّر أوباما لتراث أمه، كما لم ينس أن أباه إفريقي وافد وليس منحدرا من الرقيق السود الذين جيء بهم عبيدا للعمل في خدمة السادة البيض. ما أراده أوباما حين ربط مصيره الشخصي والسياسي بالأقلية السوداء في الولايات المتحدة هو تجسيد مشروع يتجاوز النزعة الانقسامية التي تصرّ عليها مختلف المجموعات العرقية. لقد اختار أن يتموقع ضمن طائفة لها تاريخ ونضال ورموز لكن في سياق مغاير لما سادها لفترات طويلة محوّلا الشعور بالضآلة إلى عنصر قوة يواجه به الواقع الانقسامي الديني والإثني الذي لا تجني ثماره إلاّ طائفة واحدة متحكِّمة. هو رهان على مفهوم المواطنة الحديث العامل على ترسيخ نسيج مجتمعي مركّب رافض للمنطق الأَقَلوي، منطق الأقليات (السوداء واللاتينية الأميركية والآسيوية) التي تنعزل كل واحدة منها ضمن حدودها الإثنية والطائفية فلا تتجاوزها. ما جعل أوباما يرفض -خاصة في خطاب فيلادلفيا- أن يعتبر نفسه ثُنائي العِرْق هو تجنب موقع هَشّ لا يمكّن من النضال لتخطّي حاجز العنصرية بعد أربعة عقود من اغتيال القس «مارتن لوثر كنغ». جِدّة هذا الاختيار هو الإقرار بواقع المجتمع المدني بطوائفه وروابطه الثقافية والدينية والإثنية، لكن مع العمل على تحرر الطبقة السياسية من تمثّل النزعة الانقسامية القائمة في الواقع. المطلوب إذن هو تخلّص النخب الحاكمة من استغلال ذلك الواقع ورفض التماهي معه لتتمكّن من تجسيد مشروع الدولة- الأمة. بهذا المفهوم تتعالى الدولة بمؤسساتها عن أي ارتهان للتعددية الطائفية والإثنية والمذهبية دون أن يؤدي ذلك إلى إدانة تلك الروابط أو السعي إلى محوها، مما يجعلها دولةَ جميع مواطنيها بتعدد أعراقهم ومعتقداتهم. أوباما على هذا، يقدّم مشروعا ثقافيا سياسيا بامتياز، إنه في اضطلاعه بزنجيته يقرّ منطق المجتمع التعدّدي ذي الأعراق والأديان المختلفة لكنّه يرفض اعتماد المنطق ذاته في عمل الدولة وسير مؤسساتها. غاية هذا الرفض هو التمسّك بروابط البُنى المجتمعية-الثقافية لأن في تَذَرُّرِها تمكينا للمُمسكين بمقاليد الدولة من احتكار السلطة والثروة دون خشية قيام أي وازع مجتمعي. في عبارة موجزة، معالجة أوباما تجعل الثقافة والأعراق والأديان عناصرَ قوّة وإبداع ضمن دينامية النسيج المجتمعي وتِرياقاً يقي الدولة من التعسف في استعمال السلطة والسقوط في مهاوي الاستبداد. هكذا تكلّم أوباما. ظلّ في حملته الانتخابية يدين سياسة إدارة الجمهوريين دون الدخول في سجال تفصيلي يفضح اختياراتها الكارثية. كان همّه الرئيس، وخطاب فيلادلفيا أفضل تعبير عن ذلك، التأكيد على حاجة بلاده إلى سياسة جديدة إيلافية مبنية على مفاهيم مشتركة تحقق تضافر الأميركيين أيّا كانت انتماءاتهم العرقية والدينية. بهذا التعديل الجذري في التعامل مع عالم السياسة أراد أوباما أن يواجه التحديات الرئيسة المحدقة بالولايات المتحدة، وهذا ما جعل طموحه غير متناسب مع التقاليد السياسية المعمول بها ومع مصاعب الأوضاع الاقتصادية والمالية. اليوم، مع كارثة شهر سبتمبر الحالي التي أطلق عليها أحد خبراء المال الأوروبيين اسم «11 سبتمبر المالي» يتعقّد الوضع بصورة مُربكة قبل أسابيع من الانتخابات. انهيار مؤسسات مالية عتيدة بعد أزمة الرهن العقاري إيذان بطرح أسئلة خطيرة عن كامل النظام الرأسمالي في صيغته الأميركية خاصة وفتح لباب ركود اقتصادي يزيد من استفحال البطالة مهددا أقطار العالم كله نتيجة عولمة مالية واقتصادية. السؤال المطروح اليوم هو: هل ستكون هذه الظروف المالية والاقتصادية القاسية، فضلا عن السياسية المتردية، عامل ترجيح لكفة المرشح الديمقراطي؟ ما يراه عدد من الخبراء هو أن إعصار هذا الخريف سيكون لصالح أوباما لعدة اعتبارات، أولها أن المنافس الجمهوري كان قد أعلن أنه لا يملك دراية بالمسائل المالية الاقتصادية. لذلك اكتفى بوضع خطوط باهتة لبرنامج لا يستجيب لطبيعة المصاعب الاقتصادية الاجتماعية والسياسية الدولية إضافة إلى البيئية وما تفرضه من تحديات ضخمة على الإدارة القادمة للولايات المتحدة. هذا ما يجعل توقعات هؤلاء الخبراء أقرب إلى الصحة. لكن ما ينبغي أن يضاف هو أن الطبيعة البنيوية والداخلية لإعصار سبتمبر المالي تختلف عن إعصار سبتمبر 2001 بما يجعل فترة ولاية أوباما مرحلة انتقالية بالضرورة، يعسر معها إجراء تغييرات نوعية في التوجه الاستراتيجي العام. لن يكون من الممكن في أربع سنوات الانتقال من حالة دولة مثقلة بالديون تثير النزاعات أكثر مما تقدّم الحلول إلى دولة تنكَبّ على عللها الداخلية في المجال السياسي والتربوي فضلا عن الاجتماعي المالي. لذلك فإذا أتيح لباراك أوباما أن يصبح الرئيس الـ44 للولايات المتحدة مطلع السنة القادمة فسيدرك مُرغَما أن السياسة هي فن الممكن. هذا الاحتمال يبدو لنا شبه مؤكّد، فمن تابع خطابا آخر لأوباما ألقاه في يونيو الماضي بواشنطن أمام المؤتمر السنوي للجنة الشؤون العامة الأميركية-الإسرائيلية «إيباك» -أقوى لوبي صهيوني في الولايات المتحدة– يكتشف رجلا آخر ومنطقا لا صلة له بمن تكلّم في فيلادلفيا. إنّه التعبير الجليّ عمّا تقتضيه الرغبة في الحكم من قبول للتنازلات وجمع بين المتناقضات وتَنكّرٍ لأهم الرهانات. لا غرابة إذن إن تبيّن أن المرحلة الرئاسية القادمة ستدفع بأوباما -إن فاز- إلى تأجيل تحديث الدولة وإلى تأخير ضبط تعامل أفضل مع عولمة مالية واقتصادية وبيئية ربما إلى فترة رئاسية ثانية، هذا إن نجت بلاده من إعصار سبتمبريّ أسود ثالث. (*) كاتب تونسي  (المصدر: صحيفة ‘العرب’ (يومية – قطر) الصادرة يوم 8 أكتوبر 2008)  

السباق الانتخابي الأميركي والأزمة

طارق الكحلاوي (*)  لا يزال يفصلنا أقل من شهر على الموعد الانتخابي الرئاسي الأميركي. ربما يبدو للبعض أنه لم يبق الكثير من الوقت، لكن مثلما كرر كارل روف (Karl Rove)، كبير مستشاري الرئيس بوش سابقا والذي كان وراء تكتيكات فوزه لمرتين متتاليتين في معركة الرئاسة، فإنه يمكن أن «يحدث الكثير» في بضعة أسابيع (ذكر روف ذلك في موقعه الإلكتروني الأسبوع الماضي ثم في صحيفة «وول ستريت جورنال» 9 أكتوبر. فرغم الفضائح المحيطة به، استرجع روف حضوره الإعلامي في سياق اشتداد التنافس بين ماكين وأوباما). غير أنه بدون شك هناك قلق «جمهوري» متصاعد في الأسابيع الأخيرة بناء على استطلاعات الرأي التي تنشر بكثافة الآن. فهذا موسم الاستطلاعات بامتياز. وبرغم كل الشكوك التي يمكن أن تحيط بطريقة إنجازها، إلا أن تقارب نتائجها وتاريخ التناسق بينها وبين النتائج الفعلية للانتخابات يجعلها تساعد على القيام بتخمينات جدية حول مسار الانتخابات الراهنة (من بين أهم المواقع التي تقدم عرضا شاملا ووقتيا لاستطلاعات الرأي:FiveThirtyEight.com  وPollingReport.com ). القلق «الجمهوري» المتزايد ليس ناتجا من التفاوت بين المرشحين على مستوى استطلاعات الرأي «الوطنية»، أي التي تقدم نسبا تغطي كل الولايات الأميركية، إذ حافظ أوباما على تفوق طفيف على ماكين منذ أواخر الربيع الماضي، غير أنه يبقى تفوقا إشكاليا بما أنه لم يتجاوز كثيرا الأربعة في المئة التي تمثل نسبة الخطأ المعتادة لاستطلاعات الرأي. لكن النسب العامة «الوطنية» أيضا لا يمكن أن تمثل المؤشر الرئيس على مسار السباق الانتخابي الأميركي. ففي إطار التشكل التاريخي للبنية الفيدرالية للدولة، لا تحسم الانتخابات الأميركية وفقا لنسب عامة أو «التصويت الشعبي» (popular vote) بل حسب نظام معقد لـ «الأصوات الانتخابية» (electoral votes) التي يحصدها كل فائز في كل ولاية على حدة («الأصوات الانتخابية» تختلف حسب عدد سكان الولايات نسبة إلى مساحتها. فمثلا، من يفوز في ولاية كاليفورنيا يحصل على 55 صوتا انتخابيا مقابل 3 أصوات لولاية فيرمونت). عندما يحصل أي مرشح على «الرقم السحري» المتمثل في 270 «صوتا انتخابيا» (كحد أدنى من بين 538 صوتا إجمالا) فإنه يضمن بشكل آلي تفوقه في النتيجة النهائية. الخريطة الانتخابية الأميركية تعرف إلى حد كبير استقرارا وثوابت تاريخية، إذ هناك «ولايات زرقاء» (blue states) أو «ديمقراطية»، كما أنه هناك «ولايات حمراء» (red states) أو «جمهورية». يتعلق هذا الوضع بالتاريخ الثقافي وتاريخ الذهنيات الذي يصعب أن يشهد تغييرات جوهرية من دون مرور وقت طويل. فمهما كانت الظروف، من المستحيل (تقريبا) أن نتوقع توجه أصوات ولاية نيويورك للمرشح «الجمهوري»، كما لا يمكن أن نتوقع توجه أصوات ولاية تكساس إلى مرشح «ديمقراطي». غير أن هذه الثوابت التاريخية لا تعني حدودا واضحة بين المجالات «الديمقراطية» والأخرى «الجمهورية». وهكذا هناك الولايات المتموقعة على تخوم الطرفين وتحظى عادة بتنافس قوي (toss up states) مثل ولايتي ميتشيغان وبنسلفانيا. وحتى شهر أغسطس الماضي فإن الأخيرتين كانتا تعرفان إما تقدما لصالح ماكين أو تنافسا شديدا بين المرشحين الرئاسيين. المعضلة الأساسية التي كان يعاني منها أوباما، ولا يزال في بعض المواقع العمالية للبيض والريفية أيضا، هي لون بشرته، وهو الأمر الذي أصبح منطوقا في بعض الأوساط كلما تقدمنا أكثر نحو الانتخابات. غير أنه مع منتصف شهر سبتمبر وتكاثف الأخبار الاقتصادية السيئة، بدأ الميزان يميل بسرعة نحو أوباما في هاتين الولايتين. ومع بداية شهر أكتوبر، قرر فريق حملة ماكين إغلاق مقار حملته في ميتشيغان (يتفوق أوباما حسب استطلاعات نهاية هذا الأسبوع بـ 16 نقطة في هذه الولاية)، في حين يتفوق المرشح «الديمقراطي» على ماكين في بنسلفانيا حسب آخر استطلاعات الرأي بفارق 14 نقطة. لكن مع بداية الأسبوع الأخير أصبح الوضع أكثر سوءا، إذ بدأت الخريطة «الجمهورية» بالانكماش حتى في أماكن لم يكن من الممكن توقع انكماشها بأي حال قبل أسابيع قليلة فقط. وتتالت المفاجآت بشكل مدوٍّ عندما أصبحت «ولايات حمراء» (تاريخيا)، مثل ولايتي فرجينيا ونورث كارولينا، ليست محل تنافس قوي فحسب بل أصبحت محل تفوق كبير لمصلحة أوباما (حسب استطلاعات آخر هذا الأسبوع يتفوق أوباما في فرجينيا بـ 8 نقاط وفي نورث كارولينا بـ 5 نقاط). وفي هذا السياق كانت العصبية التي أبداها ماكين في السجال الرئاسي الثلاثاء الماضي وما ترافق معها من أخطاء امتدادا للأجواء العصبية التي تمر بها حملته. ومن ثم ساهم السجال نفسه في تعميق الجراح «الجمهورية». وهكذا تتفق مختلف الاستطلاعات الأخيرة أن أوباما سيربح الانتخابات (يحصل على «الرقم السحري» 270 صوتا) إذا تمت الانتخابات الآن، وذلك حتى إذا فاز ماكين بولايات ما زالت تشهد تنافسا شديدا بين الطرفين. طبعا مثلما قال روف، هناك الكثير من الأحداث التي يمكن أن تحصل، غير أن من المؤشرات الأساسية التي تحيل على الصعوبات التي تعيشها حملة ماكين استنزاف مصادره المالية الانتخابية في «ولايات حمراء» كان من المفترض أنها محسومة لمصلحته. ومن المفارقات أن التفوق المالي لحملة أوباما يستفيد من أجواء الذعر التي تخلقها الأزمة المالية العامة. أصبح من البيّن أن النقاش حول مصير الانتخابات الأميركية مرتبط بشكل حاسم بتطورات الأزمة الراهنة، كلما تفاقمت الأزمة كلما تزايدت فرص أوباما لحسم الرئاسة لصالحه. وفي هذا السياق، وحتى أستبق تطورات الأسبوع القادم، يجب أن أؤكد على أننا ندخل مرحلة جديدة يبدو فيها في أقل الأحوال النقاش حول تأميم جزئي أو حتى شامل للنظام المصرفي الأميركي أمرا منتظرا. لم تحقق الطروحات «النيوكينزية» كما دافع عنها اقتصاديون مؤثرون مثل جوزيف ستيغليتز وبول كروغمان في الأسابيع التي سبقت خطة «الإنقاذ المالي» تأثيرا على فلسفتها العامة. لكن، -في ظل استمرار تدهور الأسواق المالية أميركيا ودوليا، ومع تبني الحكومة البريطانية خطة تأميم جزئية ولكن ضخمة، وكذلك مع الرجوع القوي للحديث عن «النموذج الشمالي» (the Nordic model)، في إشارة للطريقة التي عالجت بها دول الشمال الاسكندنافي أزمتها في التسعينيات، كتجربة ناجحة كان خلالها التأميم البنكي مرحلة انتقالية لاسترجاع الأسواق المالية أنفاسها- مع كل ذلك لم يعد من الممكن تجاهل البدائل «النيوكينزية» التي أضحى على رأسها بديل التأميم. مع كل الذعر والاستهجان الذي يمكن أن تجلبه إلى الذهنية النيوليبرالية التي سادت طويلا الولايات المتحدة، فإن كلمة التأميم، وليس مجرد التنظيم والمراقبة، ستكون الكلمة المفتاح في نقاشات الأسابيع القادمة. وهكذا كلما تباطأت الإدارة «الجمهورية» الحالية في إبراز التزام جدي لحل الأزمة، بما في ذلك طرح بديل التأميم، فإن فرص تفاقم الأزمة في ازدياد، ومعها فرص نجاح أوباما. كارل روف محق تماما: إذا لم «يحدث الكثير»، فإن المؤشرات «الديمقراطية» لاستطلاعات الرأي الراهنة لن تتغير. (*) أستاذ «تاريخ الشرق الأوسط» بجامعة روتغرز (المصدر: صحيفة ‘العرب’ (يومية – قطر) الصادرة يوم 12 أكتوبر 2008)  

الخلاف مع الشيعة واستمرار المعارك الوهمية

صلاح الدين الجورشي (*)  انتهيت هذه الأيام من مطالعة كتاب سلس القراءة، غزير المعلومات، لكن محتواه أثار في نفسي الكثير من المخاوف والتساؤلات. عنوان الكتاب «صحوة الشيعة» مرفقا بعنوان فرعي «الصراعات داخل الإسلام وكيف سترسم مستقبل الشرق الأوسط». مؤلفه باحث أميركي من أصل إيراني هو الدكتور «ولي نصر»، أستاذ سياسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا في دائرة الدراسات العليا التابعة للأكاديمية البحرية الأميركية، وقد ترجمه بنجاح وبأسلوب سلس «سامي الكعكي». ومن بين الذين امتدحوا الكتاب الأكاديمي الأميركي المعروف بنزاهته وعلمه «جون أسبوزيتو» أستاذ مادتي الديانة والشؤون الدولية بجامعة جورج تاون، وصاحب كتاب «الحرب غير المقدسة: الإرهاب باسم الإسلام». أراد مؤلف كتاب «صحوة الشيعة» أن يؤكد فكرتين رئيستين خلال 280 صفحة. تقول الأولى إن الشيعة الذين خضعوا لاضطهاد الأغلبية السنية لا يشكلون خطرا على الولايات المتحدة الأميركية مقارنة بالسلفيين السنة الذين أنتجوا ولا يزالون جماعات العنف في كل مكان. أما المصادرة الثانية فهي تتمثل في اعتقاد الكاتب أن مستقبل الشرق الأوسط بمفهومه الأميركي الموسع، والذي يشمل باكستان ودول المغرب العربي، سيحدده مآل الصراع السني-الشيعي. يمكن القول إن هذه قراءة مغلوطة للواقع العربي والإسلامي الراهن، وتندرج ضمن محاولات تغيير أولويات ونضالات النخب والشعوب في هذه المنطقة الحساسة من العالم. لكن نظرة متفحصة لما يجري هنا وهناك، من شأنها أن تدفعنا إلى التريث قليلا قبل القفز على الواقع الراهن. فالصراع الدائر في العراق منذ سنوات، رغم صبغته السياسية، فإن طابعه الطائفي لم يعد خافيا على أحد. والخلاف مع حزب الله في لبنان حول دوره وأسلحته، يحاول البعض داخل لبنان وخارجها أن يحوله إلى صراع مفتوح بين الشيعة والسنة. وجاءت أخيرا تصريحات فضيلة الشيخ يوسف القرضاوي التي تضمنت قدحا في عقائد الشيعة، مما دفع بعدد من مراجع الشيعة، بمن في ذلك المعتدلون منهم، إلى الرد، كما علقت وكالة الأنباء الإيرانية على ذلك بأسلوب لم يكن مناسبا على الإطلاق، لم تراع فيه مكانة الرجل العلمية أو زعامته في أوساط السنة. وبعد ذلك توالت الردود من هنا وهناك، وركبت الموجة الجماعات السلفية التي تعتبر هذه المعركة من مجالاتها المفضلة، إذ سبق لها أن استعملت وسائل مختلفة، بما في ذلك التحريض والقتل، على استهداف الشيعة عقائديا وسياسيا وجسديا. هذه التطورات المختلفة تكشف إلى حد كبير أن ما افترضه مؤلف كتاب «صحوة الشيعة» ليس بعيدا عما يعتمل في النفوس وتخفيه تضاريس الواقع. فالمنطقة تبدو وكأنها تتدحرج تدريجيا نحو صراع طائفي مكبوت وموروث، قابل للتصدير والرواج على نطاق واسع. وهو أمر إن تواصل وتطور نحو الأسوأ ستكون له نتائج خطيرة على أكثر من صعيد: – تهديد أمن واستقرار بلدان عربية كثيرة تقوم مجتمعاتها على التنوع المذهبي، وفي مقدمتها دول الخليج، إلى جانب العراق ولبنان وسوريا. ولا شك في أن أنظمة الحكم في معظم هذه الدول لن تقبل أن يتفاقم هذا التراشق السني-الشيعي، نظرا لانعكاساته المباشرة على السلم الأهلي والأمن القومي. – تعميق الفجوة بين معظم الأنظمة العربية وقطاع واسع من الجمهور العربي من جهة، وبين إيران من جهة أخرى. وهذه مسألة يفترض أن يأخذها الساسة الإيرانيون بعين الاعتبار نظرا لتداعياتها السلبية على مصالحهم الحيوية في المنطقة. لكن الأهم من ذلك هو التورط بوعي أو بغير وعي في المساعدة على عزل إيران، وتمهيد الأجواء لتبرير ضربة عسكرية محتملة تستعد لها إدارة الرئيس جورج بوش بتحريض علني من إسرائيل. ورغم ضرورة الإقرار بوجود خلافات استراتيجية بين إيران وجزء حيوي من محيطها العربي الذي لا يخفي تخوفاته من الدور الإقليمي المتزايد لطهران، لكن هذا الأمر يجب ألا يوقع أصحابه في مطبات خطيرة، فتنقلب الأولويات عندهم، ويخلطون بين التناقض الرئيس والتناقضات الفرعية، أو يتوهمون بأن العدو الأساسي قد يكون أقرب وأقل خطورة ممن يختلفون معه داخل دوائر الأمة. – الانحدار بالفكر الإسلامي إلى مستوى متدن يعود به إلى مراحل سابقة تمتد جذورها إلى أجواء الفتنة الكبرى، وما توالى بعدها من أحداث وصراعات حول السلطة والعقائد. بمعنى آخر، سيؤدي الجدل العقيم حول المسائل التاريخية الخلافية بين السنة والشيعة إلى الانتكاسة بالفكر الإسلامي الذي بدل أن يتجه نحو إعادة النظر في أولياته، ويرفع سقف الاجتهاد إلى أقصى درجاته، وينطلق نحو مراجعات عميقة للثقافة السياسية والاجتماعية والعقدية السائدة في ضوء قضايا وتحديات الواقع المعاصر، سيبقيه هذا الصراع المذهبي والطائفي سجين مقولات استهلكت عبر القرون، وفقدت الكثير من أهميتها أو صلتها بهموم المسلم في مطلع الألفية الثالثة. إذ رغم أن الانتقال من مذهب إلى آخر يعتبر حقا مضمونا من حقوق الفرد المسلم، ما دام الإسلام هو الجامع لكل المذاهب والفرق، إلى جانب كونها ظاهرة ثقافية مرشحة لمزيد البروز خلال المرحلة القادمة بحكم عوامل عديدة، إلا أن المتأمل في مضامين الجدل الدائر في بلدان عديدة بين المجموعات الشيعية الصغيرة والناشئة وبين محيطها المحلي الرافض لها باعتبارها كائنا يبدو غريبا ومرفوضا، خاصة في بعض المجتمعات التي اطمأنت تاريخيا على انسجامها المذهبي مثل دول المغرب العربي، يلاحظ بأنه جدل منفصل عن تحديات الواقع، لا تربطه بمصالح الشعوب والأمة أي صلة، إلى جانب كونه غارقا في الجزئيات التاريخية والدينية التي من شأنها أن تعمق التشرذم ولا تجعل من الخلاف عامل قوة وإثراء. الخلاصة أن المسلمين، للأسف، لم يكتسبوا حتى الآن القدرة والآليات لإدارة خلافاتهم وتنوعهم داخل دائرة الإسلام الذي أعلمهم منذ البداية بأنهم سيختلفون بالضرورة. كما أنهم، بما في ذلك علماؤهم وحركاتهم السياسية، لا يزالون يتمتعون بقدرات عجيبة على خوض حروب وهمية، تجعلهم يتحركون خارج دائرة الفعل الحقيقية، فيبقون نتيجة ذلك يدورون في حلقات مفرغة ضمن الوقت الضائع. (*) كاتب تونسي  (المصدر: صحيفة ‘العرب’ (يومية – قطر) الصادرة يوم 5 أكتوبر 2008)  


معركة القرضاوي والشيعة .. أصل الداء بدل أعراضه ـ أبو يعرب المرزوقي

 
أبو يعرب المرزوقي * 
 
 بعد الحملة الأخيرة التي تعرض إليها الشيخ القرضاوي بدأ الكثير يفهم طبيعة الحرب الخفية التي تديرها الفنيات الباطنية للحوزات والأحزاب الشيعية في كل أقطار الأمة الأسلامية. وقد حاولت في رسالة وجهتها إلى السيد حسن نصر الله تنبيهه إلى أن خطابه المتلفت إلى الماضي تذكيرا بالعداوات التاريخية بين السنة والشيعة يجعل كل كلامه على المقاومة مجرد شعار لتمرير المشروع الحقيقي الذي يرمز إليه كلامهم على مصر: ادخلوها بسلام أعني أعيدوا غزوها ومعها كل المغرب العربي كما فعل الفاطميون جمعا بين شعارات آل البيت وشعارات المقاومة. والمعلوم أن عبارة آل البيت في القرآن الكريم لم ترد إلا مرتين واحدة على آل بيت إبراهيم والثانية على نساء الرسول. وكل ما عدا ذلك من أوهام الباطنية. ورغم أن الداء مستفحل فإن العلاج لا يزال مقصورا على الأعراض الجانبية تاركا حصان طروادة باسم الخوف على المقاومة والتصدي حصرا إياهما في ما يحقر من المقاومة الفعلية حتى صارت المقاومة التي هزمت أمريكا في العراق تتهم بالنزعة التكفيرية والطائفية والمقاومة التي تناوش إسرائيل في جنوب لبنان كلما احتاجت إيران إلى ذلك في إستراتيجيتها التفاوضية توصف بالثورية وغير الطائفية في حين أن خطاب رئيسها في كل مناسبة دينية مداره الأساسي التذكير بالعداوات الماضية ونكء الجراج بين السنة والشيعة. ولما كنت منذ أمد بعيد أرى العكس تماما ولم انتظر ما حدث مؤخرا الشيخ القرضاوي فقد راسلت السيد نصر الله عن طريق القدس برسالة مفتوحة. ثم كتبت النص التالي بعد سماعي لخطاب المفاجأة الكبرى التي أعلن عنها حسن نصر الله ومحاولته تزييف التاريخ النضالي العربي كله لحصره في دور حزبه. وهو نص أبين فيه الخطر المحدق بالأمة الإسلامية عامة وبقلبها أعني الأمة العربية خاصة أعني بصريح العبارة الحلف الخفي بين الحرب الباطنية على قيام الأمة الروحي المستقل (إيران والطائفية) والحرب الظاهرية على قيامها المادي المستقل(إسرائيل والعنصرية). الكأس فاضت مهما حاول المرء الابتعاد عن السياسة ليفرغ إلى هموم الفكر في بعائد الأمور تأتي الأحداث لترغمه على الكلام فيها من منطلق آثار القرائب في البعائد وأهمها الحيلولة دون الأمة وتواصل العمل النهضوي بما تؤدي إليه عنتريات الزعماء المغررين بشعوبهم من نكبات تغرق الأمة في ما لا مخرج منه. فخطاب السيد حسن نصر الله الذي تكلم فيه على المفاجأة الكبرى التي ستقضي على إسرائيل ذكرني بعنتريات ما قبل 67 وما آل إليه أمر تلك العنتريات من توطيد الوجود الإسرائيلي باسم القضاء عليه. ذلك أن هذا الخطاب لم يعد صاحبه مقصورا همه على أخذ لبنان رهينة لسياسات إيران بل كل الوطن العربي: فالتهديد بالمفاجأة الكبرى يعني استعمال سلاح للدمار الشامل أو على أدنى تقدير البلوغ بالمقاومة إلى حد توريط الدول العربية في حرب لن تتوقف من دون نصر ساحق للحلف الغربي الذي لن يسمح بهزيمة إسرائيل التي تعني نهايتها. لست أشك في أن استعمال هذه الإستراتيجية التي تجعل الوطن العربي كله وليس لبنان وحده رهينة لطموحات إيران ليس هو ما يراه الشعب العادي الذي يقتصر مدى رؤيته على ما تصبه في آذانه دعاية الفضائيات الشيعية التي تفسد الأديان والعقول. لكني لم أكن أتصور زعيما يزعمون أنه لا يكذب يزعم أن نصره الأخير هو الذي أنقد المنطقة من التفتيت وليست المقاومة العراقية (التي هي تكفيرية في أدبياته=إرهابية عند حلفائه الحقيقيين أي الأمريكان) والفلسطينية (التي هي جبة عثمان في دعايته وليست قضية الأمة)! لا غرابة عندئذ أن يلجأ مثل هؤلاء الزعماء في ديماغوجيتهم إلى الاستراتيجيات التي تؤسس سلطانهم على تعمية البصائر روحيا فتفسد الدين وتعميتها عقليا فتفسد السياسة: العداء الأسود لرموز التاريخ الإسلامي الوسيط والحالي وتمريره بالعنترية الكاذبة ضد عدو يثبتون عليه اهتمام العرب لمنعهم من إدراك أمرين اخطر على وجودهم المديد من كل الأخطار العرضية: الحلف الخفي بين هذا العدو وأصحاب العنتريات الذين يسعون إلى غزو حماسة الشباب واللعب على وهم محاربة هذا العدو وهم يساعدونه بتهديم أسس القيام نفسه: أعني حصانة الأمة الروحية التي هي السنة. والبدائل الممكنة لتحقيق شروط الغلبة على العدو حصرا للعمل في ما يقترحونه هم من توجهات تحقق أهداف إيران لا أهداف العرب لكأن العرب بات خيارهم الوحيد هو التبعية لإيران أو لإسرائيل وليس لهم الحق في أن يكون لهم خيارهم الخاص. ذلك أنهم يعلمون طبعا أن الشعب لن يسألهم-بعد أن صار جل نخبه أجراء في صحفهم وفضائياتهم أو سجناء في معازلهم ومحمياتهم- لما لا يتكلم العدو على ما عنده من مفاجآت لست أشك أبدا في أن حسن نصر لا يجهلها ولا يجهل أن خردة الجيش الإيراني أمامها لا تساوي استراتيجيا نبال الهنود الحمر فضلا عن كونها في حال الحرب لن تدمر إلا الوطن العربي لا إسرائيل فضلا عن أمريكا: وكم أعجب للاستراتيجيين المزعومين في تخريفهم اليومي في الفضائيات على خوف أمريكا وإسرائيل من رد إيران وهم إذا كانوا لا يعلمون سخف مثل هذا الكلام ينبغي أن يعتبروا جاهلين بموازين القوة الفعلية ! فالحرب عندما تقع بين الدول ليست من جنس المناوشات بين الجيوش والمقاومات الشعبية. ليس لها حد تقف عنده لأن المهم فيها هو لمن تكون الكلمة الأخيرة: ولا يمكن أن تكون الكلمة الأخيرة لمن يملك بعض النبال البدائية حتى لو تركه عدوه يتعنتر لكونه جنديا في إستراتيجية همها جعل المسلمين يهدمون بعضهم البعض. لكن حسن نصر الله يتجاهل هذه الحقائق لأن الدمار الشامل لن يوجه إليه ولا إلى حليفه بل إلى آخر دولة ما تزال قادرة على البقاء عربية في القسم الآسيوي من الوطن العربي إذا جروها إلى الحرب لتكون مثل العراق ساحة تلهية للوحش الأمريكي إلى أن تحقق إيران ما تتصوره حصونها الحامية للنظام الآيل إلى الزوال حتما بمقتضى المنطق الإيراني الداخلي فضلا عن المنطق العالمي: المستهدف هو سورية حتى تصل إيران إلى الأبيض المتوسط مرورا بالعراق فسورية فلبنان. وحتى أبين أن فهمي هذا ليس فيه من التجني على الرجل أدنى ذرة سآخذ المسألتين الرئيسيتين اللتين يبني عليهما كل خدعه. إحداهما سلبية وهي نفي تهمة الطائفية. والثانية إيجابية وهي اتهام من يعارضه بكونه عميلا لأمريكا. وسأبدأ بالثانية لكونها هي الأداة الرئيسية لإسكات كل من يتفوه بنقد أو ينبه إلى خطر الأولى التي يتبرأ منها. المسألة الأولى: أيهما أي أكثر خدمة للمشروع الأمريكي إستراتيجية الصدام الإيرانية المزعومة أم إستراتيجية السلم التي اختارها العرب ؟ المسألة الثانية: هل الطائفية تهمة للحزب والشيعة وإيران أم هي حقيقة فعلية تفسر كل الأحداث الجارية وإن كانت أجلى صوره مقصورة على العراق ؟ المسألة الأولى أيهما أي أكثر خدمة للمشروع الأمريكي إستراتيجية الصدام الإيرانية المزعومة أم إستراتيجية السلم التي اختارها العرب ؟ سأسلم تياسرا بأنه يحق لحزب هامشي في الإستراتيجية السياسية العربية أن يسعى لفرض بدائل في الخيارات الإستراتيجية التي أجمعت عليها الدول العربية في أغلب قممها أعني السلم خيارا استراتيجيا. وسأحاول بيان أن هذا السعي ليس مقنعا عقلا حتى لو قبلنا به خلقا. فالعرب قد اكتشفوا بعد آخر حرب كان لهم فيها النصر النفسي على العدو أن سر قوة إسرائيل ليس القوة العسكرية التي لا يجهلها أحد لأنها تتضمن كل القوة الغربية المستعدة للتدخل في حال أي خطر حقيقي قد يهدد الوجود بل هو بالذات وهم هذا الخطر الذي تلعب عليه إسرائيل لكي تبقى على هذا الالتزام الغربي ذي الوجهين: منع العرب من الفراغ للبناء والنهضة حتى لا يتحقق ما يخافون منه أعني ما توهمه إسرائيل أنه موجود بالفعل وهم يعلمون أنه موجود بالقوة. وتقوية إسرائيل ومدها بالضمانة الإستراتيجية بصورة تجعلها دائما أقوى من كل العرب مجتمعين لعلمهم بأن المنع مهما كان قويا لن يغير سنن التاريخ: فالوطن العربي بما له لا يمكن منعه من النهوض رغم أن تعطيله ممكن. وإذن فخيار العرب الاستراتيجي ليس هو رفضا للحرب أو خوفا منها بحيث يتعنتر عليهم موظفي البسدران بدليل أن الذي رجح هذا الخيار وخونه أصحاب الخيار الثاني في خدمة غباء الحركات الإسلامية السنية ذات الطوية البريئة والمخطط الإيراني بعيد الغور لم يقدم عليه إلا بعد أن ألغى الحاجز النفسي الذي كان يجعل إسرائيل منتصرة قبل أن تحارب والعرب منهزمين قبل أن يحاربوا. بعد ذلك أقدم على نزع سلاح إسرائيل الأقوى: حجة الشعب المضطهد الذي يحيط به برابرة يرقصون ليلا نهارا كالهنود الحمر لسلخ جلدة رأسه. و هذه الحجة هي التي تجعل حزب الله ومن يجعلهم بدعايته المزيفة يتصورون الأمور على منواله بحسن ظن أو غباء الحليف الوحيد لمحافظة إسرائيل على أقوى أسلحتها. كان الهدف الأساسي من إستراتيجية السلم العربية تحقيق عكس الهدفين الإسرائليين. وقد تحقق الكثير منهما رغم ما حصل من الحوائل التي كانت بدايتها بالذات مناورات الثورة الإيرانية والحرب العراقية الإيرانية التي هي العلة الأولى والأخيرة للحرب العراقية الكويتية فضلا عن غباوات صدام وابن لادن: 1-الأول عكس قضية الشعب المضطهد بحيث يصبح الفلسلطينون في موقع اليهود في الضمير الغربي وهو ما بدأ يحصل قبل الحادي عشر من سبتمبر. 2-والثاني هو الفراغ للعمل النهضوي الحقيقي أعني إصلاح شروط القوة الفعلية: أي الاقتصاد والتعليم والوعي السياسي والاجتماعي للمواطن العربي. ذلك أن مجرد إرجاع إسرائيل إلى حجهما المتقدم على 67 يعد أكبر هزيمة لإسرائيل فضلا عن كونه علامة على تخلص العرب من العنتريات التي الجوفاء أوصلت إلى نكبة 67 فضلا عن بعث الشعب الفلسطيني. هذه الإنجازات كافية لتحقيق هدف الإستراتيجية العربية فتصبح إسرائيل مجرد قاعدة استعمارية يمكن للاستعمار أن يتركها تسقط كما ترك جنوب إفريقيا والمستعمرات التي سلمتها بريطانيا للصين وكما سيكون مصير تايوان. ينبغي أن يصبح العرب بعكس ما يريد أمثال نصر الله في حال لا تكون فيها إسرائيل مشكل من حجمهم التاريخي (كما فعلت الصين في مسألة تايوان) بل المشكل هو موقعهم في عالم الأقطاب الخمسة أي أمريكا والأقطاب الأربعة المحيطة بالوطن العربي خاصة والعالم الإسلامي عامة. لكن ذلك لو تحقق لن يسمح لإيران بتحقيق حلمها. وتلك هي وظيفة الأحزاب التي من جنس حزب الله: جعل الوطن العربي كله جنوب لبنان كما فعلوا بالعراق ويسعون إلى فعله بسوريا حتى يحمي النظام الإيراني أولا ويحقق ما يتصوره معيدا إليه دور الشاه في عالم الأقطاب الخمسة المقبلة: الصين والهند شرقا وأوروبا وروسيا غربا وفي القلب الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران وتركيا بعد إلغاء الوطن العربي قلبا موحدا للعالم الإسلامي الذي يكون قد نهض بقيم الصحوة الحديثة. التهديد الإيراني لإسرائيل والذي لا أحد له ذرة من عقل يحمله محمل الجد هدفه الرئيس هو تقوية إسرائيل لتعطيل المارد العربي الذي يعلم الجميع أنه سيكون في منتصف القرن من حجم الهند الحالية عددا وعدة فضلا عما يملك من الثروات البشرية والمادية ليس لإيران ولا لإسرائيل ولا لأي قوة إقليمية قابلية للمقارنة معها: وإذن فالمطلوب هو تعطيل هذا المارد ومن ثم أداء خدمة لم تكن إسرائيل تحلم بها. فإذا ساعدت إيران على تحطيم الخطر الأكبر فلا بأس من مهادنتها لأنها مهما فعلت لن تكون قادرة على تمثيل خطر على أحد: لا بأس من تحمل ثرثرة نجاد وعنترياته وانتصارات نصر الله المزعومة التي ألغت كل النضال العربي منذ قرن فصارت هي الوحيدة الممثلة لتاريخنا المعاصر الذي تكتبه دعاية الحزب والصحافيين المأجورين. فما عند إيران من ثروات مادية وبشرية مهما فعلت لن يجعلها في وضعية أفضل من وضعية كوريا الشمالية حتى لو فرضناها حصلت على السلاح النووي الذي لن يمثل خطرا إلا على شعبها لأن العدو سيفجره حيث هو. فدخلها القومي الخام لا يكاد يمثل شيئا يذكر. والنظام متفكك لامحالة لعلتين: فلا هو مؤات للعصر محليا إذ لن يقبل الشعب الإيراني العيش الدائم تحت الملالي ولا هو قادر على تحقيق التحديث الشارط للقوة والإبقاء على سلطان الحوزات سلطانها الذي يخدر الشعوب ليبقيه في القرون الوسطى سعيا إلى الانتقام لمجد فارس بقلب قيم الإسلام الذي يتهم العرب بتهديمه بها قبل قلبها. إذا كان زعماء الشيعة-ولن أتكلم عن الشعب المسكين الذي يكفي أن ترى كيف يخدروه في المآتم وفي الاستعراضات الفاشية -يؤمنون فعلا بأن أمريكا وإسرائيل عدو: 1- فليفسروا لنا مدلول حلفهم معهما ليس في غزو العراق فحسب بل في حكمه وإخراجه من التاريخ العربي وفي حلفهم معهما في أفغانستان بنفس الطريقة التي تحالفوا بها مع الصليبيين ومع المغول وحتى في حلفهم معها ضد باكستان التي مكنتهم من الأسرار النووية. 2-وليفسروا لنا أسباب التركيز المرضي على الماضي في الكلام على كل ما يعتز به المسلمون بمنطق لا تجده حتى عند غلاة المسيحية الصهيونية. 3-وأخيرا فليفسروا لنا سكوت العدو على ثرثراتهم وتهديداتهم التي لو كانت حقا جدية وليست جزءا من خطة لغزو القلوب والعقول البريئة للشعوب العربية التي يريدون إقناعها بأنهم يحاربون باسمها أعدى أعدائها في حين أنهم يفرشون لهم الورود لتهديم أركان الأمة بدءا بالعراق وتثنية بسورية وربما ختما بالخليج كله بعد الفراغ من مصر لا قدر الله. كيف يمكن لعاقل أن يصدق محاولات قتل الذاكرة بصورة تجعل ما يزعمونه نصرا استراتيجيا وإلهيا وهزيمة لإسرائيل في المناوشات التي دارت في مساحة لا تساوي عشر ولاية من ولايات تونس فضلا عن الجزائر بأقل من واحد في المائة من عدد الجنود المشاركين في القتال وأقل من واحد في الألف من القتلى وأقل من واحد في المائة من مدة القتال انتصارا ينسي حرب التحرير التونسية والجزائرية وحرب رمضان وخاصة المقاومة العراقية الحقيقية التي جعلت جيش أمريكا يحثو على الركب والمقاومة الحقيقية الفلسطينية التي حطت جيش إسرائيل إلى مجرد فرق شرطة مدن أمام الانتفاضة الباسلة؟ الخدعة الكبرى ما كان ذلك كله لينطلي على أي إنسان له ذرة من عقل مهما كان غفلا لو لم تكن النخب الإعلامية والمزعومة فكرية صانعة الرأي العام قد اشتراها الملالي أو حماها محميوهم في محمية الضاحية بعد أن نضبت خزائن الأحزاب القومية وتاهت بوصلة الأحزاب الدينية السنية. فهل معنى رفض العرب للخيار الإيراني أنهم اختاروا الخيار الأمريكي؟ تلك هي أكبر خدعة وإيهام يحاول أصحاب الدعاية الثوروية إقناع الناس به. والغريب أن من يقدمونهم على أنهم محللون إستراتيجيون في التلفزات يؤيدونهم في هذه الأوهام. وينسى الناس أن أمريكا لا تحارب إيران ولا حزب الله بل هي تحارب السنة في العالم كله من جزر مورو ومندناو إلى صحارى المغرب الأقصى. فما يخيفها ليس دراويش المآتم الدائمة بل هو عودة المارد الإسلامي بزعامة عربية إذ ليس بالصدفة أن كان قادة المقاومات في العالم كله من السنة بل ومن العرب على التحديد وما يساعدها في حربها عليه هو صاعق الطائفية: إيران التي تعيث فسادا-وهي أشياء رأيتها بأم عيني في جنوب شرقي آسيا وأراها في المغرب العربي-في العالم الإسلامي من إندونيسيا إلى المغرب بسياسة تبشير لا تقل بشاعة من سياسة التبشير الكاثوليكي مع تزييف للتاريخ الإسلامي جعل ابن العلقمي يصبح في مسلسلات بعض التلفزات بطلا إسلاميا وأمريكا هي أيضا تسهم في الإيهام لأنه جزء من خطتها وفي خدمة إستراتيجيتها ذات المدى البعيد. فهي تحارب إيران بالكلام وتتفاوض معها على اقتسام السلطة في العراق والخليج. وهي كان يمكن أن تستغني عن إيران لو لم تكن تعرف أن تخويف الخليج بها هو الضمانة الوحيدة ليكون بقاؤها مطلوبا من حكام العرب الذين جعلوا أقطار الوطن محميات أمريكية بسبب الخوف من التهديد الإيراني في الظاهر ومن الصحوة في الباطن. وإسرائيل أيضا هي المستفيدة الثانية: فالكلام العنتري لحزب الله وإيران يمكن حكام الولايات المتحدة من مغالطة الرأي العام الأمريكي لتحصل إسرائيل على 30 مليار مساعدة ضد خطر وهمي يمكن أن يستغله الطرفان لغايتهما لا غير. لكن الجميع يعلم أن الحرب لو قامت حقا لكان بوسع إسرائيل وحدها ودون حاجة إلى معونة أحد أن تقضي على كل مدن إيران دون أن تمس منها شعرة فيما لو حاولت إيران أن تضرب مدن إسرائيل مباشرة أو بتوسط حزب الله لأن من لا يقدر على الضربة الثانية حتى لو تصورناه قادرا على ضربة أولى لا يتكلم في عصر سلاح الدمار الشامل: وهو ما يخفيه دجالو التعليق التلفزي على الشعوب العربية لتمرير دعاية حزب الله وأكاذيب العنتريات الإيرانية. والجميع يعلم أن أمريكا ليست بحاجة إلى استعمال السلاح لهزيمة إيران: فلو رأت في ما تعمله إيران خطرا حقيقيا على مصالحها لأجبرتها بمجرد « ألتيماتوم » (تحذير صارم) على نزع سلاحها بذاتها لتجنب الهزيمة الساحقة التي تعيدها إلى ما قبل التاريخ من دون حاجة إلى أن ترسل جندي واحد إلى إيران. ولما كان ذلك لم يحصل فمعناه أن أمريكا تجد مصلحة في سياسة إيران العنترية. وهذا أيضا ما يخفيه محللونا الإستراتيجيون الذين أترك للقارئ أحد الخيارين التاليين لوصفهم: فإما أنهم ليسوا محللين استراتيجيين بل دجالون أو أنهم ممن بيعت ضمائرهم فأسهموا في تمرير المغالطات الإيرانية. ولما كان الإيرانيون ليسوا بالغباء الذي يجعلهم يجهلون ذلك فإن تجاهلهم له يعني أنهم مدركون لسر اللعبة التي نصف هنا وهو ما يعني التفاهم الضمني بين الصفين على حدود اللعبة لبلع الوطن العربي: لأمريكا الغزو المادي المؤقت ثم المغادرة ولإيران الغزو الروحي الذي سيبقى أبد الدهر. ولولا صحة ما نقول أي إمكان ما وصفنا إذا جد الجد فاقتنع الأمريكيون أن بلدا ما يهدد المصالح الإستراتيجية تهديدا فعليا لما رأينا الصين وأوروبا وروسيا والهند كلها رغم كونها لا وجه للمقارنة بين قوتها وقوة إيران تهادن أمريكا ولا تخرج عن طوعها عندما تكشر ولو بمجرد التلميح: فهم جميعا لا ينسون ما حصل لليابان والألمان بل وحتى للاتحاد السوفياتي. وعلى كل فقد تخدع عنتريات حسن نصر الله الشعوب العربية لكنها لا تخدع الأعداء. ولما كان ذلك كذلك وكان نصر الله لا يجهل أنه كذلك فالمقصود من الإقدام على هذا السلوك هو مخادعة الشعوب لا الأعداء حتى ولو أدى ذلك لا قدر الله إلى توريط الأمة في ما ورط فيه لبنان بدءا بسورية وختما بمصر والسعودية فلا يبقى للوطن العربي أي عمود فقري يبقيه واقفا. ذلك أن الأعداء يوم يشعرون فعلا بأنهم يمكن أن يمثل حزب الله تهديدا بالحجم الذي يريد أن يصوره للشعوب فأنهم سيمحون الجنوب كله من الوجود ويكون هو الذي أعطاهم مبرر ذلك لأنهم عندئذ لن يعنيهم المحافظة على من يصورهم نصر الله بصورة الخونة وحلفاء أمريكا وإسرائيل في الداخل اللبناني في حين أنهم هم الذين يحمونه بالشرعية الواهنة للدولة اللبنانية ومن ثم فهم الأعداء الفعليون لإسرائيل لأنهم يريدون تحرير لبنان من دور الدارقة التي تختفي وراءها مناورات إيران ومن جعله واجهة النهضة العربية التي تقضي على هدفي إسرائيل المشار إليهما في تعليل الخيار الاستراتيجي العربي. ولذلك فإني أرى من حق العرب أن يقلبوا الآية فيتحرروا مما يراد تكبيلهم به ويلغوا من يريد إلغاءهم بالتحالف مع من يريد هو أن يحالفه على حسابهم فيحالفوه على حسابه بشرط أن يكون من منطلق خطة إيجابية وليس مجرد رد فعل: والبادئ أظلم. ثم إن العرب أولى بالحلف إذا حققوا شرطه أعني نقله من مجرد حماية الأنظمة كما هي الحال الآن إلى العقد الندي بين المقاومة العربية لتحقيق شروط النهوض والمقاومة الأمريكية لما يتهددها من العماليق القادمين: فأمريكا أيضا يتهددها خطر القوى العظمى الصاعدة ولها حاجة إلى حلفاء. فالتحالف حتى في العلاقات الشخصية بين الأفراد يكون دائما مع العدو الأقل خطرا والأكثر حاجة إليك من العدو الأكثر خطرا. ولما كانت إيران تسعى إلى إخراج العرب من المعادلة الدولية ذات المدى القريب بالطائفية وذات المدى البعيد بالغزو الديني فإن سعي العرب إلى إخراجها منها بالمعنيين يصبح مشروعا: وهي التي بدأت وبدايتها مفيدة لأنها حركت العامل الذي يمكن أن يكون محور التوحيد الحقيقي لكل العرب أعني الإسلام السني الذي هو في الحقيقة الإصلاح المحمدي إذا فهم على حقيقته فهما يلغي حتى المعركة الزائفة بين العلمانية والأصلانية. والمعلوم أن أمريكا لا تنافس العرب إلا على ما يقبل المساومة والتفاوض ومن ثم فالتفاهم معها ممكن: المصالح المادية. أما إيران فهي تنافسنا على ما لا يقبل المساومة أعني قيادة الإسلام العالمي اعني القوة الروحية الوحيدة المتبقية في القرن الحادي والعشرين بعد تدجين الغرب لكل القوى الروحية الأخرى وهو ما بدأ ينتبه إليه الشيخ القرضاوي حفظه الله: وتلك أمور ليست خاضعة للتفاوض إذ هي عين الوجود المستقل للأمة. ينبغي للعرب أن يعتبروا أخطر عليهم من أمريكا وحتى إسرائيل كل من يحاول تقديم بدائل تلغي دورهم في سياسة المنطقة وخاصة من يحاول أن يفتك منه سر قوتهم أعني قيادة الإسلام: لا معنى لوجود العرب التاريخي من دون الرسالة الإسلامية إذ هم بها دخلوا التاريخ الكوني وبه يعودون إليه. ولعلم الجميع بذلك تدور الحرب العالمية الرابعة حول القرآن حتى وإن كانت النخبة العربية التي هي أكثر نخب العالم حمقا قد تخلت عن أهم أدوات القوة الرمزية لظنها أن التحديث يعني التخلي عن أصل الحصانة لكأنهم لا يحاربهم من عاد إلى ثقافة ماتت منذ آلاف السنين ليبني دولة في عقر دارهم !. لكن الحلف مع أمريكا ينبغي أن يكون حلفا بحق بين شعبين وألا يبقى حماية للأنظمة كالحال الآن: ولن يتحقق ذلك إلا إذا تقاسم المقاومة والأنظمة الأدوار في إدارة المعركة الإستراتيجية مع أمريكا. فالمقاومة ينبغي أن تواصل إذاقة أمريكا الأمرين لتأتي إلى الحلف بين الأنداد والأنظمة ينبغي أن تواصل مهادنة أمريكا لتجنب الحسم بحرب مناجزة شاملة. وذلك هو شرط حرب المطاولة كما حددها ابن خلدون: والحمد لله فذلك ما هو حاصل الآن حتى وإن لم يكن بتخطيط قصدي. ولما كانت المنطقة عربية بالأساس وكان كل المحيطين بالعرب الساعين إلى أن يكونوا بديلا منهم حتى لو اجتمعوا دون العرب عددا وعدة وقابلية للتوافق مع منطق العصر-وخاصة مذ أن نأت تركيا بنفسها عن مثل هذا السلوك-فإن القيادة ينبغي أن تكون لهم لعلتين: الإسلام والعروبة. وعندئذ ينبغي أن تعود دولة إيران إلى حجمها الطبيعي: الخيار بين أن تكون ممثلة لأحد شعوب الأمة ممثلا لثراء الوحدة الروحية للحضارة العربية الإسلامية أو أن تعلن صراحة عن كونها مجرد غطاء إيديولوجي للصفوية. فإذا أضفنا إلى ذلك ضآلة حجمها المادي لأن الثروة الإيرانية لا تقبل المقارنة مع الثروة العربية بات حجم إيران كما يعلمه كل من لا ينطلي عليه عنتريات نجاد دويلة متوسطة الحجم لا تستطيع أداء أي دور في السياسة الدولية المحددة لأفق البشرية المقبلة. وبذلك يعود الدور إلى أهله أعني العرب ويمكن أن يكونوا قلب المعادلة الإسلامية التي هي السهم الحاملة للرسالة: وذلك هو المعيار الحقيقي للقوة بعد الإنسان. فمصر وحدها فضلا عن بقية العرب-وخاصة ثالوث المغرب العربي أي تونس والجزائر والمغرب الذي يعدل بمجموعه مصر ويتفوق عليها بمستوى التكوين العصري وخاصة في العلوم الصحيحة وتطبيقاتها- فيها من الكفاءات ما يفوق إيران رغم عنتريات نجاد وصداها عند حسن نصر الله. المسألة الثانية هل الطائفية تهمة للحزب والشيعة وإيران أم هي حقيقة فعلية تفسر كل الأحداث الجارية وإن كانت أجلى صوره مقصورة على العراق ؟ ونأتي الآن إلى المسألة الثانية التي هي جوهر القضية كلها. فهل الطائفية سلاح يستعمله العدو الخارجي وتهمة توجه إلى حزب الله وإيران فحسب أم إن البنية الفكرية نفسها والممارسة الفعلية عندهما جوهرهما طائفي بصرف النظر عن التوظيف الأمريكي للطائفية والتهمة المزعومة ؟ قبل الجواب عن هذين السؤالين أريد أن أنبه إلى أمر ذي بال. فالإفراط المآتمي في التربية الشيعية والغلو في الكلام عن الدين فضلا عن الأسلوب الممجوج والركيك وثقل الظل للدعاة والمتعالمين منهم في تفاهات وتشقيقات لغوية خلال محاضراتهم في الفضائيات من أكبر الأخطار على الدين-ومثله عند السنة التي ابتليت بالتقليد السخيف للمناحات التي نجد نظيرها عند الدعاة المودرن من جنس عمر خالد لأن ذلك سرعان ما يتبين أنه في الحقيقة في خدمة المشروع الأمريكي-لأنها ستنفر منه فئات الشعب كلها وخاصة المتعلمين منها فلا يبق الدين إلا بشرطين أحلاهما مر: إما بالانحصار في القلة الأمية عندما تتحضر الشعوب الإسلامية فيكون الإسلام من علامات التخلف وليس من علامات التحضر. أو بالحرص على إبقاء الشعوب في الأمية للإبقاء على سلطان الدجالين بالدين فيصبح الدين تخديريا كما يريده الأعداء وليس تحريريا كما أراده القرآن الكريم. ليس من شك في أن أي عدو يستغل قدم أخيل في عدوه. فهذا أمر مفروغ منه ولا حاجة للتبجح بالتنبيه إليه: لسنا بحاجة إلى تفاقه نصر الله لكي نعلم أن الغرب لم يستعمر العالم من دون سياسة فرق تسد. لا يمكن أن ننتظر من إسرائيل أو من الولايات المتحدة غير ذلك حتى وإن كنا كمسلمين ننأى بأنفسنا عن الوسائل القذرة أو على الأقل نشمئز منها فلا تكون عندنا إلا من جنس المحظورات التي تبيحها الضرورات. ولكن السؤال هو: هل يوجد معنى آخر للتشيع غير الطائفية فتكون الطائفية مجرد تهمة من الأعداء ويكون حزب الله ليس طائفيا بذاته بل مقاوم يتصدى لتفتيت المنطقة بل ومنتسب إلى حركة التصدي القومي العربي للمشروع الاستعماري الذي بدأ منذ ثلاثة قرون حتى وإن اقتصر نصر الله على القرن الأخير ؟ إنه ناصر ثان ! هكذا يزعم الذين ولوا الأدبار من القوميين العائشين في حماية المحميات الإيرانية ! لم أكن أتصور زعيما يزعمونه لا ينطق عن الهوى يذهب به الغرور إلى ظننا سذجا فيحاول إقناعنا بأن أعمال حزبه ليست طائفية بل تندرج ضمن تصدي العرب منذ بداية القرن الماضي للمشروع الاستعماري الساعي إلى تفتيت المنطقة العربية لكأن وجود الحزب نفسه ليس هو أهم جزء من هذا التفتيت. ذلك أن هذا الحزب ليس هو إلا أحد عناصر الجناح الشرقي من نفس المشروع الاستعماري المتمم لجناحه الغربي. فهو الثمرة الأولى ولتها الثمرة الثانية التي هي تفتيت العراق ثمرة سعي الشاهين الأب والإبن لبلع الخليج والهلال والتي يواصلها الملالي بدهاء أكبر وثمن ذلك مساعدة إسرائيل لتحقيق إسرائيل الكبرى حتى يتم تقاسم النفوذ على المنطقة العربية والعودة إلى التجربة المماثلة التي حصلت مرة قبل الميلاد: تهديم العراق وإعادة اليهود إلى فلسطين. ولعل أكبر الأدلة على طائفية هذا الحزب دلالة اسمه. ف »حزب الله » القرآنية تقال على كل المؤمنين الذين يجاهدون في سبيل الله ولا تقال على حزب إحدى فرقهم حتى لو سلمنا جدلا بسلامة عقيدتها. لذلك فهي تسميه تصبح بحصرها دلالة هذه الصفة في بعض المؤمنين دون كلهم من صفة الفرقة الناجية: أي إن المسلمين الآخرين ليسوا من حزب الله بمعناها القرآني. وهذا بالذات معنى الطائفية لمن يدرك دلالة الأسماء فضلا عن كوننا قد سامحنا في التحليل لما قلنا إن دلالتها القرآنية تعني الجماعة المؤمنة وكأن الكلام مقصور على الجماعة المسلمة. فهي في القرآن أعم من ذلك بكثير إذ هي تعني كل جماعة مؤمنة في كل تاريخ الإنسانية الروحي على منوال ما تضمنه القصص القرآني. لذلك فالمفهوم قد انحط مرتين: انحط عندما حصر في المسلمين ثم انحط لما انحصر في بعضهم حتى لو صح أن هذا البعض سليم المنطق. ولأقل عرضا-رغم أني لست من رأي « الإخوان المسلمون » ومن ثم في غنى عن الدفاع عنهم-إن اسم « الإخوان المسلمون » في هذه الحالة ليس هو كما قد يظن من جنس اسم حزب الله لما يبدو فيه مثله من حصر. فهو ليس اسم طائفي لأن الفرق شاسع بين التسميتين. ذلك أن الاسم هنا يعم كل المسلمين دون استثناء فضلا عن كونه ليس اسم حزب بل اسم حركة تدعو إلى الأخوة بحلاف الأحزاب التي تدعو إلى التنافس والصراع بمقتضى طبعها. والعيب الوحيد في الاسم أنه حصر الأخوة في بعدها الديني ولم يرق إلى الأخوة الإنسانية التي هي جوهر الدعوة القرآنية. لكن أصحاب الاسم لعلهم كانوا يقولون بالمرحلية: إعادة المسلمين إلى الأخوة حتى يكونوا مثالا مما يدعون إليه من أخوة بشرية هي جوهر الدعوة القرآنية. الخاتمة ولأختم بهذا السؤال الذي يحيرني لأنه في نفس الوقت العائق الأساسي للتحرر من الطائفية وتحقيق الصلح بين السنة والشيعة وهو في نفس الوقت عقب أخيل في المذهب الشيعي كله: كيف يمكن أن يكون لزعماء التشيع منطق صحيح- تركا لمسألة صحة العقيدة إلى الفقهاء-إذا كانوا يبنون كل مذهبهم على النفي والسلب بما في ذلك سلب أساس المذهب ذاته أعني مبدأ الوصية المعصومة للمعصومين؟ فالمعلوم أن أساس التشيع هو مبدأ الوصية المعصومة للمعصومين مبدؤها الذي يعتبره أهل السن والجمع من المسلمين بدعة تنافي كل نصوص القرآن الكريم: فهل تكون الوصية ذات معنى إذا الموصي غير معصوم وعديم العقل أم ينبغي أن يكون ذا عصمة وذا عقل مساو على الأقل لعقل الحكماء؟ لكن كل ما يقال في هذا المذهب عن الرسول الأكرم ينفي عنه التمتع بملكة العقل حتى بمفهومه العامي فضلا عن الحكمة والعصمة. فإذا كان أي إنسان عادي متوسط الذكاء والحكمة فضلا عن النبي لا يعلم أن صحابته هم على الصفات التي يصورهم عليها أصحاب هذا المذهب الصفات التي أستحي من ذكرها ولا يعلم أن زوجاته لسن فاضلات ولم يتفطن إلى أن كل رجالات الأمة الذين بنوا مجدها التاريخي باستثناء واحد يمكن أن يتصرفوا من بعده كالأوغاد في عرف دعاية هذا المذهب فكيف يكون عاقلا فضلا عن أن يكون نبيا معصوما وكيف يكون فاهما لأمور السياسة فيقرب منه مثل هذه الحثالة التي أنشأت أكبر إمبراطورية رغم حنق اللطامين؟ كيف لا يفهمون أنه لو صح ما يصفون به سلوك محمد صلى الله عليه وسلم لسقطت الوصية فيسقط معها مذهبهم ؟ هل يوجد من لا يفهم أن وصية رجل بالصفات التي يصفون بها كل أفعاله تصبح عديمة المعنى؟ أليس أصحاب المذهب فاقدين لأدنى قدر من المنطق إذ هم مثل جحا يقطعون الغصن الذي يجلسون عليه: لا يستطيع الشيعي أن يزعم التشيع ما لم ينف أساسه فيعود إلى التسنن إلا إذا قرر أن يخلط بين حب آل رسول الله وحب آل كسرى أنو شروان! لذلك فإنه لا يمكن لأصحاب المذهب أن يستمدوا سلطانهم إلا من ممارسات تعمم الغباوة على الشعوب حتى يقبلوا بمثل هذه الخرافات التي تقتل الدين وعندما يجدون ما يشبه الكلام الثوري والعنتري يحولون الشعب إلى تنظيم فاشي فيقتلون مع الدين السياسة. ولن يخرج من هاتين الجريمتين في حق الشعوب العربية الإسلامية في الغاية إلا دكتاتورية الغوغاء بزعامة الديماغوجيا الجهلاء. وإذا واصلت النخب العربية بيع ضمائرها للملالي فإن النكبة القادمة لن تكون توطيد أركان إسرائيل في ما دون الضفة فحسب بل إسرائيل الكبرى التي تتقاسم العراق وسورية مع إيران فيسيطران على الخليج والهلال ويحققان ما يزعم حسن نصر الله أن حزبه ينضوي في حركة التصدي له. ومرة أخرى لا كلام لي في صحة العقيدة إذ إني لست فقيها. مفكر تونسي
 
المصدر: جريدة « المصريون » (يومية – مصر) الصادرة يوم 10 أكتوبر 2008)

 

 

\Home – Accueil الرئيسي

 

أعداد أخرى مُتاحة

Langue / لغة

Sélectionnez la langue dans laquelle vous souhaitez lire les articles du site.

حدد اللغة التي تريد قراءة المنشورات بها على موقع الويب.